اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• وصول غودو/ رواية للدكتور أفنان القاسم

الأعمال الكاملة

الأعمال الروائية (25)

د. أفنان القاسم

وصول غودو

L’ARRIVEE DE GODOT

رواية

إلى ذكرى صموئيل بيكيت

القسم الأول

في محطة الشمال، لم يكن هناك مكان لقدم واحدة كالعادة، القطارات تصل أو تقلع، والركاب ينزلون أو يصعدون، وهم دائمًا بمنتهى العجل، وهم دائمًا يسحبون حقائبهم أو يحملونها، وهم دائمًا لا ينظرون إلى بعضهم، ويبحثون عمن ينتظرهم. كنت الوحيد من بينهم الذي ينظر إلى الجميع، دون حقيبة أحملها أو أسحبها، ودون أن يكون أحد بانتظاري. ابتسمت على مرأى امرأة في حوزتها عدد من الحقائب والأشياء الأخرى، ولا تعرف كيف تتدبر أمرها في نقلها. بدا عليها كمن تنتظر عونًا يسقط عليها من السماء، لكني لم أقدم لها أقل عون، لا أنا، ولا عازف الغيتار الجالس هناك، ولا أحد من الواصلين، وواصلت التبسم، وأنا أنظر إليها. ابتسمت المرأة على وضعها، لا مجال للتراجع، قالت لنفسها دون أن تدري كيف. تركتها من ورائي، وهي حائرة في أمرها، ووجدتني أسير إلى جانب أم تحمل بين ذراعيها طفلة لم تتجاوز العامين شبه غائبة عن الوعي، بسبب عدم تحملها السفر في القطار. فجأة، أخذت الأم تهرول صوب مقهى من مقاهي المحطة لأجل قطعة سكر تعيد إلى الصغيرة حيويتها. على الرغم من قلق المرأة على ابنتها داومت على الابتسام، فلنقل، والحال هذه، داومت على الابتسام بصفاقة، خاصة وأن في جيبي قطعة سكر مغلفة بورقها لم أذبها في قهوتي التي احتسيتها في مطعم القطار، أخرجتها دون أن تنقطع ابتسامتي، لكن رجلاً وامرأةً شديدي التجهم شدا انتباهي، وجعلاني أسير من ورائهما. كان كل منهما يسحب حقيبتين، ومن وقت إلى آخر يلقي على رفيقه نظرة قرأت فيها آياتٍ مدنسةً من الأسى والعذاب، نظرة عاجزة تزيد منها رقة القسمات الغالبة على محياهما عجزًا. تجاوزتهما، وأدرت رأسي إليهما، وأنا أبتسم. وإذا بالمرأة تفلت حقيبتيها من يديها، وتأخذ بعناق الرجل عناقًا ملتهبًا، وهي تنفجر باكية، بينما الرجل يحاول تدارك البكاء، دون أن يفوه بكلمة. كان الناس ينظرون إليهما، دون أن تبدو عليهم أمارات الاستغراب أو مشاعر التأثر، كانوا ينظرون إلى الرجل والمرأة، وإلى بعضهم البعض، كانوا فقط ينظرون، كان بعضهم ينظر، وهو يتابع طريقه، وبعضهم كما لو كان ينظر إلى مشهد لا يستحق النظر إليه، أو كانوا لا ينظرون بتاتًا كشابين، أسود وأبيض، كانا يجلسان بين يدي ملوك الشطرنج هناك غير بعيد. بعد ذلك، سحبت المرأة حقيبتيها بيأس لا يصدق، وعادت من حيث جاءت، باتجاه القطار، بينما مجموعة صاخبة من الشبان والشابات الحاملة على ظهرها أو الساحبة بيدها حقائبها تعترض الرجل، وتمنعه من اللحاق بالمرأة، والرجل كل تعاسات الدنيا تزحف من وجهه لتغطي كل كيانه. جرفته مجموعة الشبان والشابات في الاتجاه المضاد، وهو، بعد أن التفت بحثًا عن المرأة عدة مرات، ومد يده في الاتجاه الذي ذهبت منه عدة مرات، استسلم للموج، وترك نفسه طوع إرادة أخرى. لم يكن هذا حال الكل من القادمين، كانت الراهبة التي تتقدم، وهي حبلى، شيئًا آخر، شيئًا من إرادة نفسها، الإرادة عندما تغدو القدرة على كل شيء، حتى على أقصى الأشياء، وفي وضع الراهبة أغربها، أجنّها، أكثرها لامعقولية، تحقيق ما لا يتحقق، ما لا يخطر ببال، ليس للتحدي أو الوِساطة في شئون البغاء، ولكن لأني أريد هذا، يكفي أن أريد هذا، وأن أتجاوز الذات، ليس بدافع أية بطولة، ولا لأني أرمي إلى تحدي نظام الأشياء، بل لأني أريد هذا، وبكل بساطة، لا حاجة بي إلى إفهام الآخرين، لأني أريد هذا، وليس عليّ أن أقدم أي تبرير.

وعلى العكس، كانت إحدى نجيمات السينما تبحث عن تبرير لكل شيء، تسريحتها، ماكياجها، مشيتها، فستانها، زنارها، حذاؤها، حقيبتها، كل شيء، كل شيء، للناس، للكاميرا، للمجد، للوهم، كان الوهم جميلاً، كان الوهم أجمل منها، ومن موهبتها، لهذا كانت تبحث عن تبرير لكل شيء، ولم تكن تنجح في كل شيء، الأضواء عالمها، ولم تكن الأضواء لتهتم بها، ربما اليوم، الأضواء لا تهتم بها، أما غدًا، الأضواء ستهتم بها. احتارت، وهي ترى من بعيد مجموعة من الصحفيين والمصورين تنقض عليها، فظنت أن اليومَ غدٌ، ونسيت فشلها الذريع في دورها الأخير، في الفيلم الذي أصرت على عدم تذكر اسمه، والمنتج الذي أصرت على عدم النوم معه، والأستوديو الذي أصرت على عدم وضع القدم فيه، الكاميرات أخذت فلاشاتها تعميها، كاميرات، وفلاشات، وصحفيون، وصحفيات، وقنوات، وأيضًا كاميرات، وأيضًا فلاشات، وأيضًا صحفيون، وصحفيات وقنوات، ولم تكتشف إلا بعد أن وجدت نفسها وحيدة على الرصيف أن كل هذا لم يكن لها، كل هذا كان لثلاثة كلاب تشي تسو، تحيط برقابها قلادات الماس، بينما يسحبها ثلاثة حراس سود بكامل أناقتهم.

تعال هناك، يا حبيبي. لم أعرف إذا ما كان هذا الصبي السمين، السمين جدًا، السمين جدًا جدًا، المرافق لأمه، من القادمين أم المغادرين. تعال هناك. هناك. أجلسته أمه على مقعد، ولفت صدره بمنديل. فتحت الحقيبة، كانت ملأى بالساندويتشات. خذ، كُلْ، يا حبيبي، قالت الأم. أنا جائع، يا ماما، قال الصبي. كُلْ، كُلُّ هذا لك، يا حبيبي، قالت الأم. لماذا نجوع، يا ماما؟ سأل الصبي. لنأكل، يا حبيبي، أجابت الأم. لنأكل، يا ماما؟ لنأكل. لنأكل حتى نشبع، يا ماما؟ حتى نشبع. لنأكل كل هذا، يا ماما؟ لنأكل كل هذا، يا حبيبي. لنأكل كل كل هذا، يا ماما؟ لنأكل كل كل هذا، يا حبيبي. لنأكل كل كل كل هذا، يا ماما؟ لنأكل كل كل كل هذا، يا حبيبي. لنأكل كل كل كل كل هذا، يا ماما؟ لنأكل كل كل كل كل هذا، يا حبيبي. لنأكل كل كل كل كل كل هذا، يا ماما؟ لنأكل كل كل كل كل كل هذا، كل هذا، لنأكل كل هذا، كُلْ، يا حبيبي، كُلْ، كُلْ، كُلْ، كُلْ، كُلْ، كُلْ، كُلْ...

حقًا لم يكن أحد بانتظاري، بينما كان المنتظرون لغيري كثيرين. صديق أو قريب أو وكيل لأحد الفنادق أو... كانوا يتعانقون بحرارة، الرجل والمرأة أو المرأة والمرأة أو الرجل والرجل، ولم يكن يبدو عليهم أنهم افترقوا. كانوا يتعاونون على نقل حقائبهم بشكل أقرب إلى المرح، ويشيرون بفرح إلى درج المترو أو إلى باب الخروج. وللمرة الثانية، على رصيف آخر، كانت الراهبة الحبلى تتقدم من بعيد، واثقة، حارقة، ساحقة، كانت تتقدم، وهي لا تنظر إلى أحد، على عكسي، عندما اكتشفتُ راهبة أخرى بين المنتظرين، حبلى هي أيضًا، تلوح بيدها، وهي تنط، وتتقرقر من الضحك، وهي تنط، وتقول "هيه!" كي تراها القادمة، ورأتها القادمة، لكنها ظلت تتقدم واثقة، حارقة، ساحقة، كانت تسير برزانة دير أرمنيّ، وجمال كنيسة غوطية. رفع وكيل أحد الفنادق لوحته المكتوب عليها اسم النزيل المجهول في وجهي، وهو يبتسم كالأبله سائلاً إذا ما كنت هذا النزيل، وأمام ابتسامتي الساخرة المرسومة على ثغري تركني إلى قادمٍ ثانٍ ثم إلى قادمٍ ثالثٍ، وهكذا دواليك، دون أن يتوقف عن الابتسام كالأبله، بلاهة؟ بل لنقل علة ذاتية، بينما كان وكلاء آخرون يكتفون برفع اللوحة في وجوه القادمين ليأتي بعضهم معرفًا بنفسه دون أقل تعقيد. وقفت أراقب وكيل الفندق ذاك، وقد غلبت على صوته نعومة الخاضع لمهنته ولمبولته وللعالم، ينادي، وينادي، وينادي، وهو لا يتوقف عن الابتسام كالأبله إلى أن وجد نفسه وحيدًا بعد مغادرة كل القادمين. أخذ يلوح بلوحته كطفل، ورأيته، وهو يخلل بأصابعه شعره، فيكبر قليلاً، ويبدو ودودًا على الرغم من بلاهته. عندما لاحظ أنني أنظر إليه جاءني، وعاد بابتسامته البلهاء يسألني إذا ما كنت السيد المنتظر، فكانت ابتسامتي الساخرة المرسومة على ثغري جوابي دومًا. حياني، وهو يدمدم خالص شكره، وابتسامته البلهاء تسيل من فمه إلى ذقنه، فصدره، فبطنه، فالكون، وخف ذاهبًا، وهو يلقي نظرة مترددة أخيرة على الرصيف الفارغ. هكذا كان الرصيف: فارغًا. منذ قليل كان مفعمًا بالحياة، والآن غدا فارغًا. الرصيف الخالي. في لحظة من اللحظات، كل شيء يخلو مما هو فيه، ويبدو للعين فارغًا كحبة برتقال لا شيء فيها. الفراغ من جهة ، ومن الجهة الأخرى الامتلاء، الإطلال على الآخر بالأذى، مما جعلني أفطن إلى شخص كان هناك ببذلته السوداء المخططة الأنيقة وقبعته السوداء اللماعة الحريرية. كان هناك بانتظار شخص آخر لم يصل، ربما ألغى رحلته، أو أنه فوت قطاره، أو أنه تعمد عدم أخذه. رأيت الرجل يقف دون حراك، وهو ينظر باتجاه الرصيف الفارغ نظرة ثابتة، راسخة، غائرة، سحيقة، أبدية، سرمدية، لا نهائية، ما ورائية، كان ينظر إلى أشياء لا نراها، وكان لا يتحرك، ينظر، وينظر، ولا يتحرك. كان ينظر إلى ما وراء الرصيف، والرصيف يمتد إلى ما لا نهاية، يذهب إلى كل المدن، كل الأوطان، يقطع كل الصحاري، كل البحار، يدور حول العالم، والرجل يداوم على النظر دون حراك.

في محطة الشمال، لم يكن هناك مجال للكلام كالعادة، لعدم توقف مكبر الصوت عن إعلان وصول هذا القطار أو ذاك، مغادرة هذا القطار أو ذاك، تأخر أو إلغاء هذا القطار أو ذاك، بالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، على الرغم من اللوحة العملاقة بأزرارها المضيئة التي لا تتوقف عن التحرك صعودًا وهبوطاً حسب حركة السير. في الواقع لم تكن للمسافر حاجة إلى كل هذا الصخب، إضافة إلى ذلك نبرة المضيفة التي تعتذر بحدة إذا ما تأخر قطار عن الوصول أو تهلل بحدة إذا ما وصل قطار في الوقت المحدد، كان صوتها محتدًا دومًا إلى درجة تُثقب فيها الأذن، لهذا لا أحد يحادث أحدًا، وإلا عليك أن تصيح، وأولئك الذين يتصايحون فيما بينهم تظنهم يتهامسون بالمقارنة مع الصخب غير المنقطع لمكبر الصوت. والحال تلك، لم أميز إذا ما كان الفتى والفتاة الجالسان حول طاولة أحد الأكشاك المقامة في وسط المحطة إلى جانب طبيب أسنان وكاتب مع أكداس كتبه وحوض لسمك القرش يتوادعان أم ينتظران أخذ القطار القادم، كانا يقتربان برأسيهما من فوق فنجان قهوة وزجاجة كوكاكولا، ويشدان يديهما بيديهما، وأحدهما ينظر في عيني الآخر. نظرت إلى شفتي كل منهما، كانا لا يتوقفان عن الكلام، دون أن أسمع شيئًا مما يقولان، كانا لا يتوقفان عن الكلام، ومعًا في آن واحد سال الدمع من عينيهما، وراحا يمسحان جبهتيهما بجبهتيهما، ويهزان رأسيهما هز اللامصدق لما سيقع، فقلت لا بد أن أحدهما سيسافر تاركًا الآخر، وهما لهذا السبب يبكيان غير قادرين على احتمال الفراق. فجأة، نهضا، وابتعد أحدهما عن الآخر سائرًا في الطريق المضاد إلى باب من أبواب المحطة. لم أبتسم هذه المرة، لأن الأمر محير بالفعل: عاشقان ينفصل أحدهما عن الآخر في محطة للقطارات دون أن يأخذا أيًا منها! كان موعد كهذا أشبه بالموعد مع المجهول، فأي قطار سنأخذ إلى الحياة، لنواصل حياتنا، ومع من؟ جاءت فتاتان كل واحدة من الناحية التي ذهب منها العاشقان، وتعانقتا بحرارة، وهما تقبلان بعضهما من الثغر، ومضى أحد لاعبي الرُّغبي من أمامي، وهو يجري بكرته كالسهم. لم يكن يصطدم بأحد على الرغم من اكتظاظ المحطة بالناس، كانت محطة الشمال تمتلئ بالمسافرين القادمين بقدر المغادرين، وكأن لا أحد فيها يذهب أو يجيء، محطة معلقة بين عقارب الوقت وخطوط السكة الحديدية، محلقة ككوكب. وكان لاعب الرُّغبي يجري بكرته من طرف إلى طرف كما لو كان يجري في ملعب دون أن يصطدم بأحد، وأنا أتابعه بعينيّ إلى أن يحتجب عن ناظري، ثم لا يلبث أن ينبثق من بين الحقائب والأجساد، إلى أن يحتجب عن ناظري من جديد. لم يكن يلهث، لم يكن يبدو عليه التعب، كان يلعب. كان كل واحد من الركاب يلعب على طريقته، ويتسلى، كانوا يتلهون بالنظر إلى ساعات المحطة، ساعات كثيرة، ساعات لا تعد ولا تحصى، ساعات، ساعات، ساعات بلا حساب، ساعات لقضم الوقت، لابتلاعه، لتعبيد الفضاء، كانوا يتلهون بالنظر إلى الساعات دون أن يلتفتوا من حولهم. كان انتظار إقلاع القطار بمثابة لعبة مع الوقت، فتبقى أعينهم ثابتة على أمر الإقلاع أو أمر الوصول في الحالة المضادة. جاء رجال المطافئ يركضون، دون أن يدرك أحد السبب، كانوا يحملون نقالة ذهبوا بها من طرف المحطة إلى طرفها الآخر. لم يسقط أحد تحت عجلات ناقلة الحقائب، كان المسافرون يفكرون، وما لبث المسافرون أن هبوا إلى امتطاء أحد القطارات في اللحظة التي سُمح لهم فيها بذلك، ولم يعودوا يبالون بما يفعله رجال المطافئ. وصلني الصفير المؤذن بالرحيل، ورأيت شيخًا عجوزًا مع حقيبته هناك على مقربة من العربة الأخيرة دون أن يصعد فيها، ترك القطار يغادر دونه، وبقي على الرصيف ساكنًا سكون الخائف من السفر مع الموت، ناظرًا إلى القطار، وهو يبتعد.

سمعت أحدهم ينادي من ورائي، فظننت أنه يناديني. عندما التفت، لم يكن المُقعد ينظر إليّ، لم يكن يراني، لم أكن أنا المقصود. كان ينادي "جان"، وينظر بعينيه المذعورتين إلى الناحية التي يبدو أن جان ذهب منها. كان ينادي "جان"، ويقول "جان أين ذهبت؟"، على ركبتيه حقيبة كرتون مستطيلة، وينادي "جان". لم يكن أحد يأبه بالمُقعد، "جان" كان ينادي، وهو يمد رأسه بين المسافرين بحثًا عن جان في الناحية التي ذهب منها. "جان"... وهناك من أمام شباك بيع التذاكر كان اثنان يتبادلان الكلام بأدب جم لأن أحدهما قطاره على وشك الرحيل، وهو يريد أن يسبقه لشراء تذكرته. كان عليه أن يطلب الإذن من المنتظرين الباقين ليمضي أمامهم، وفي اللحظة التي شاء هذا لذاك أن يسبقه إلى شباك التذاكر، فتح شباك آخر، فشكر ذاك هذا. تفهم الكل ذريعة الرجل، وتركوه ليكون أول المشترين لتذكرته. لم يكن ذنبهم لأنه تأخر عن الحضور من أجل قطاره، لكن روحهم المتحضرة فرضت عليهم هذا التصرف اللائق. وعلى مقربة ليست بعيدة، كان شاب أحمر الشعر، يحادث ماكينة تبديل النقود قائلاً إنها لم تعطه مقابل ما ابتلعته. نعت الماكينة بالسارقة، وتوجه إلى شرطيين كانا يمضيان من هناك، فظن الشرطيان أن في الأمر نكتة راحا يضحكان عليها، والشاب يقف حائرًا لا يدري ما يفعل خاصة وأن قطاره على وشك الرحيل. اقترب أحد المتسولين الشرفاء من الشاب، وسأله عما هو فيه، عندما عرف مشكلة الشاب مع الماكينة، ابتسم، ورافقه إليها، كان يعرف سرها، ضربها بطريقة جعلتها تصرف النقود لصاحبها، ومقابل ذلك أعطاه الشاب ورقة نقدية تعادل تسول نهار كامل في محطة الشمال.

"جان أين ذهبت؟"

دفع المُقْعَدَ أَحَدُهُم بهدوء، وهو يسأل أي القطارات قطاره. ولكنك لست جان، قال المُقعد بشيء من الحيرة. لست جان، أجاب الرجل، أما إذا تريد أن تفوت قطارك، فهذا أمرك. شكرًا لك، تمتم المُقعد، وهو لا ينفك عن البحث بعينيه عن جان. رفعت رأسي مع عدد من الرؤوس إلى إعلان عملاق عليه فتاة يطير شعرها وفستانها، كان الإعلان لبنك يشجع على الاستثمار، فلم أفهم علاقة الفتاة بذلك، ربما لإثارة الانتباه. كانت الفتاة مثيرة بالفعل، ليست جميلة فقط بل ومثيرة، جميلة بالفعل، مثيرة بالفعل، تثير الانتباه والغلمة. ومع ذلك، كانت بعض الرؤوس لا ترتفع صوبها، بل صوب لوحة القطارات، وأحيانًا صوبها وصوب لوحة القطارات، كان الإعلان على مستوى واحد مع لوحة القطارات. رأيت مجموعة من الفتيات تنتظر تحت لوحة القطارات دون أن تبالي لا بالفتاة ولا بالقطارات. إنجليزيات. وجوههن ملأى بالنمش، لكنهن جميلات. ليس بجمال فتاة الإعلان هذا صحيح، لكنهن يبقين جميلات. شيء عذري خائن يفلت من وجوههن. كن ينتظرن. ينتظرن القطار القادم. ينتظرنه وهن واثقات من أخذه. كن يبتسمن لبعضهن من وقت إلى آخر. لم يكنّ ينظرن إلى المارة. كنّ ينتظرن. كان يبدو عليهن الاطمئنان من أخذ القطار والوصول إلى لندن في الوقت المحدد. مررت من أمامهن، ولم يلتفتن إليّ. لم أذكّرهن بأحد. كنت بالنسبة لهن امرأ لا شأن له.

كيف لم يلفت انتباهي ذلك الهرم المقلوب على رأسه والذي لم يتم بناؤه بعد؟ ذهبت لأنظر، فرأيت رجلاً في الأربعين من عمره يعمل على بناء الهرم، ووسطه الأعلى عارٍ، كان يعمل بجد، ولم ألاحظ العقرب السوداء التي تحيط أقدامها المشعرة بصدره. كان يعمل بجد، يرفع بعضلاته المفتولة الحجارة الضخمة، ويعمل بجد، يصفر أحيانًا، ويعمل بجد، يتأمل من وقت إلى آخر جدران هرمه، ثم يعود، ويعمل بجد. كان يبدو عليه الجد، وكان يعمل بجد، وكأنه بجده يريد أن يقاوم سرطان رئته. رأيته، وهو يحك صدره، وكأن سرطانه يخرج رأسه من صدره ليحكه له، يحك صدره بتلذذ، ويتأمل جدران هرمه، ويبدو في عينيه بريق الأمل. ربما أنجزته الليلة، قال الرجل دون أن يلتفت إليّ. إنه قبري. قبرك؟ قلت باستغراب. إنه قبري، أعاد الرجل بصوت حيادي، كان جادًا. تلك الأشياء، هل تراها؟ تابع الرجل، ودومًا دون أن ينظر إليّ، طعام وشراب وقليل من الذكريات، صور ابنتي وزوجتي ورسائلي ومخدتي التي نمت عليها طوال أربعين عامًا، سآخذها معي تمامًا كما كان يفعل الفراعنة. لكني لا أعرف متى، قبري على وشك الإنجاز، وأنا لا أشعر بأي ألم. حمل حجرًا ضخمًا، وذهب به إلى الناحية الأخرى.

هل يعقل أن يموت المرء في اللحظة التي ينجز فيها بناء قبره؟ سمعت شابًا أسود البشرة يسأل مراقبًا عن رصيف أحد القطارات، فأشار الموظف إلى أحد الأرصفة، وقبل أن يذهب الشاب، قال له إنه ليس متأكدًا. وقف الشاب بانتظار الإعلان عن قطاره، وهو يرفع رأسه من فترة إلى أخرى صوب الساعة. كان قطاره سيقوم بعد عشر دقائق، بعد خمس دقائق، بعد دقيقة، بعد ثلاثين ثانية، وها هي الساعة تتجاوز موعد قيام القطار، بثلاثين ثانية، بدقيقة، بخمس دقائق، بعشر دقائق، ولم يتم الإعلان عن إقلاع القطار. وقف الشاب الأسود كالضائع، كمن فوت أعظم فرصة في حياته، ولم يفكر في الذهاب إلى مكتب الاستعلامات. كان على ثقة، وبشكل غامض، بقدوم قطاره الذي سيستقله بين لحظة وأخرى. لم أشأ التدخل، فقطاره يكون قد غادر على أية حال. لم يكن ينتظر مني التدخل، إذن لم أتدخل، حتى ولو طلب مني التدخل، فلن أفعل، لأني لست هنا لأتدخل، وإذا كان الخطأ خطأه، فليتحمل وحده تبعة خطئه.

تفاجأت بإحدى الفتيات السوداوات، وهي تسحب الشاب الأسود من ذراعه بعد أن طرحت عليه عدة أسئلة بخصوص قطاره، وتعدو به إلى الرصيف الصحيح. من حظك أن القطار قد تأخر عن الرحيل، قالت الفتاة السوداء. شكرها الشاب الأسود، والدمع يكاد ينبجس من عينيه. عادت الفتاة السوداء، وهي تبتسم لي، فابتسمت لها. قبلتني من خدي، فقلت إنها تخطئ الشخص، لأني غريب عن كل شيء هنا، عن كل من هم في البلد، وما أنا هنا سوى بالصدفة. ازداد تعلق الفتاة السوداء بي، وقالت إنها غريبة عن كل شيء هنا، أو بالأحرى كانت غريبة، ثم ما لبثت أن اعتادت على كل شيء بعد أن عرفت كل شيء. سألتني إذا كنت على استعداد لأعرف كل شيء عن محطة الشمال كما عرفت، فترددت، لأني كنت هناك لا لأعرف بل لأتعرف، ولكن يبدو أن كل الآتين والذاهبين لا يهمهم أن أتعرف عليهم. ودون أن تنتظر مني جوابًا، سحبتني الفتاة السوداء من يدي كما تسحب حقيبتها، وذهبت بي على آخر رصيف هناك حيث كانت أربع حقائب متروكة إلى منفذ جانبي من وراء كل القطارات بدا منعزلاً. كان هناك مركز للشرطة، وبعض المكاتب المغلقة، ولم تكن قدم واحدة. كانت الفتاة السوداء لا تنظر إليّ، تسحبني، وأنا أتبع من ورائها إلى أن دخلنا منطقة كلها خطوط سكة حديدية، وهنا وهناك قطارات قديمة محطمة أو مهجورة، قالت الفتاة السوداء عنها مقبرة القطارات. ونحن في وسطها، حررتني الفتاة السوداء من قبضتها، وابتسمت لي، فلم أبتسم لها، بل بقيت عابسًا، فماذا أنا فاعل في مقبرة للقطارات؟ ستعرف كل شيء بعد قليل، قالت الفتاة السوداء. لم تبتسم هذه المرة، وبدا على وجهها القلق. لم يكن الخوف، كان القلق. لم أقرأ الخوف بين سطور وجهها، بل القلق.

أخذت تصلنا ضربات سوط، وصرخات، مزيج من لعنات وقهقهات، وما لبث شخص مربوط بحبل من عنقه أن قفز من إحدى العربات المحطمة، وهو يحمل أربع حقائب، تبعه آخر في ثياب القرصان، على عينه عُصابة، وهو يواصل ضرب الأول بالسوط، يجذبه بالحبل، ويلعنه، وهذا يقهقه، وهو في منتهى السعادة، ويواصل حمل الحقائب الأربع. سأل القرصان إذا كانا قد وصلا الميناء، فأخبرته الفتاة السوداء بشيء من عدم الرضى بالوضع الراهن أن هذه محطة الشمال، وأن لا ميناء هنا. عاد يجذب حامل الحقائب بالحبل، ويضربه بالسوط، متهمًا إياه بخداعه، وحامل الحقائب لا يحاول الرد، بل يكتفي بالقهقهة، وهو في منتهى السعادة. قال القرصان إن خادمه بطبيعته كاذب ومخادع، فالإنسانية كاذبة ومخادعة، وهو لا يفعل سوى أن يضلله لئلا يركب البحر، البحر عدوه اللدود، لأنه يصاب بالدوار، بسبب الدوار جاء به إلى محطة الشمال ليسافر في البر، لكن جزيرته لا طريقٌ بريٌّ يوصل إليها. عاد القرصان يضرب خادمه، وخادمه يكتفي بالقهقهة، ويبدو أنه لا يطلب من سيده سوى المزيد من الضرب، المزيد من الإهانة. سألني إن كنت أعرف أقرب طريق إلى البحر، فقلت لا أعرف. أقرب طريق إلى البحر الركوب بالقطار حتى المانش أو الذهاب إلى مارسيليا، قالت الفتاة السوداء منشغلة البال، لكن الذهاب إلى مارسيليا من محطة ليون وليس من محطة الشمال، أقرب طريق إلى البحر تبعد حوالي ألف كيلومتر من محطة ليون. ثارت ثائرة القرصان، ومن جديد أخذ يضرب خادمه بالسوط، يجذبه بالحبل، ويلعنه، لأنه لم يخدعه بالطريق إلى البحر فقط ولكن أيضًا بالمحطة التي سيركب فيها القطار إلى البحر، فالبحر لديه ليس المانش بل مارسيليا. قال إن لديه شعورًا بأننا نخدعه نحن أيضًا كخادمه، وإنه يسمع صوت البحر. أرهف السمع، ورفع عن عينه السليمة العُصابة فاحصًا مقبرة القطارات من كل ناحية، فلم يقع إلا على جثث القطارات المحطمة أو المهجورة وبعض الطيور الغريبة الشكل، والتي أخذت تنعق، فتسبب الانزعاج للفتاة السوداء. هذه الطيور ليست النوارس، قال القرصان للفتاة السوداء، وهذه بالفعل محطة الشمال، والبحر ليس قريبًا. وعاد يجذب بالحبل خادمه، ويضربه بالسوط، وخادمه يقهقه، ولا يلقي بالحقائب الأربع، بل يتشبث بها، يتشبث بها، يتشبث بها إلى ما لا نهاية.

لمتابعة الرواية اذهب الى الصفحة الثانية / انقر التالي ادناه

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.