اخر الاخبار:
اخبار المديرية العامة للدراسة السريانية - الأربعاء, 24 نيسان/أبريل 2024 18:10
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
"انتحارات القربان المرعبة" تعود إلى ذي قار - الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 11:16
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• زرافة دمشق - رواية - صفحة2

 

القسم الثاني

لم يكن المليار دولار مبلغًا صغيرًا، كان مبلغًا تطير له العقول، لهذا كان كل واحد من الأفراد الخمسة لفريق المهمة ما فوق المستحيلة مصدقًا وغير مصدق. لم يكن الخطر يساوي شيئًا في مفهومهم، كان فعلاً عاديًا كشرب القهوة، كغسل الأسنان، كتنظيف المسدس. بعد كل ما كانته تجربة الواحد والآخر، كان الخطر عاديًا، وفي بعض الأحيان كان يخرج عن عاديته، ويغدو جميلاً، وحملتهم العسكرية التي سيقومون بها من أجل تقسيم مائة طن من الذهب ما بينهم كانت شيئًا من هذا، من الخطر الجميل. الجميل جدًا. الجميل جدًا جدًا. أما الأحلام التي يثيرها مثل هذا خطر، فهي لا تعد ولا تحصى، لهذا كان خطرًا جميلاً جدًا جدًا، بل وأكثر، كان خطرًا ساحرًا، رائعًا، عابرًا للقارات، مذهلاً، مدوخًا، ممسخًا، عند نهايته مليار دولار لكل واحد، أليسها الأماني كلها، وقد تحققت؟

منذ صغره، وفرانك لانج يريد أن يكونَ قمرٌ صناعيٌ له، قمرٌ صناعيٌ برمته، وليس أي قمر، قمرٌ صناعيٌ ليقف على أسرار كوكبنا. كل ما توصل إليه العلم لم يكن كافيًا برأيه، وهو لهذا غدا رجل تحر خاص. كان يريد أن يعرف أسرار الكون، ولأنه لم يكن باستطاعته ذلك، لافتقاره إلى الوسائل، ذهب ليعرف أسرار الإنسان. الآن مع المليار دولار كل شيء ممكن، القمر الصناعي في جيبه. كان فرانك لانج يردد: غابات الأمازون ليست رئة الأرض، فيضحك منه من يسمعه لأن كافة علماء النبات أجمعوا على أن بفضل غابات الأمازون ينتشر الأكسجين من أقصى الأرض إلى أقصاها. كان فرانك لانج يقول أشجار الأمازون التي تقذف الأكسجين في الليل تستعيده في النهار لتقذف ثاني أكسيد الكربون، غابات الأمازون لحد الأرض. وعلى العكس، كان يرى في الصحراء الرئة التي تتنفس منها الأرض، ومرة أخرى يضحك منه من يسمعه لأن الرمل لا شيء آخر غير الموت، إلى أن تم بفضل الأقمار الصناعية تأكيد ما يقوله فرانك لانج، الرمل الذي كانه قاع البحار قبل أن تجف ما هو سوى عَلَقِهَا وقد تحجر، وعَلَقُ البحر هو الحياة، ومن يقول حياة يقول أكسجين، ومن عواصف الرمل يتوزع الأكسجين في كل أنحاء الأرض. سيشتري فرانك لانج إذن قمرًا صناعيًا، ويبني مختبرًا في قلب جزيرة العرب، رئة الكون، ويقضي فيه كل حياته.

أما أبولين دوفيل، فقد كانت أكثر اجتماعية من فرانك لانج. الأرض، الأكسجين، ثاني أكسيد الكربون، رئة الأرض، أنف الأرض، أذن الأرض، كل هذا لم يكن يهمها. كانت أكثر إنسانية أبولين دوفيل، كانت لا تنام الليل أحيانًا، وهي تفكر في شرط المرأة عبر العالم، في المومس التي لم تتجاوز السابعة من العمر في بلدان جنوب شرق آسيا، وفي الأخرى "المتحضرة" التي تقضي الليل على الرصيف نصف عارية في برد باريس القارس. كانت أبولين دوفيل عندما تمضي ببعضهن تنادي عليهن، وتذهب بهن عندها، وتتركهن ينمن، وفي الصباح تملأ جيوبهن بالمال. لهذا مع المليار دولار أول شيء فكرت أبولين دوفيل فيه هو أن تبني مَضْيَفَات لهن كتلك التي يقيمها رجال الدين للحجاج والمسافرين، وأن تعيد دمجهن شيئًا فشيئًا في مجتمع يهيمن عليه قوادو رأس المال هذا صحيح، ولكن هذا خير لهن من أن يقضين العمر على الرصيف كفراشات الليل.

ومن جهتها، كانت غادة عجيلي تريد أن تشتري صرحًا علميًا كالسوربون أو أكسفورد، وأن تجعله مجانًا لبنات بلدها، للمحجبات من بنات بلدها، فبالعلم ينزعن الحجاب، لأن التمرد في وضعهن شيء مستبعد. هي، استطاعت التمرد، واختارت من المهن أخطرها، كي تثبت جدارتها. أما التمرد في بلد كل شيء مقموع فيه... ستشتري جامعة هارفارد لو استطاعت، وستفتح أبوابها لشمس الحرية.

لكن للكولونيل عابدين أمنية ليست كغيرها، أمنية من سابع المستحيلات تحقيقها دون المليار دولار. قبل أن يصبح ملحقًا عسكريًا لتركيا في سفارتهم الباريسية كان يحتل المنصب نفسه في وزارة الدفاع الفرنسية، هو وزملاء آخرون له كالملحق العسكري الإسرائيلي والملحق العسكري الجزائري، وكانوا كلهم يتنافسون في الحصول على معلومات تمكن بلادهم من إنشاء مفاعل نووي يغطي طاقتهم الكهربائية (والعسكرية). الملحق العسكري الإسرائيلي نجح ليس في الحصول على المعلومات التي يريدها فقط، ولكن أيضًا على تزويدهم بالمهندسين وبالخبراء وبكله. وصل التنافس في حدته إلى أقصى ما يكون بين الجزائري والتركي إلى حد سرقة كيلوغرام من اليورانيوم يحتفظ به الكولونيل عابدين في مكان لا يعرفه أحد سواه، وكما يقال اشترى الرسن قبل البعير. مع المليار دولار سيشتري البعير، وسيقيم مفاعله النووي، مفاعل خاص به، سيقيمه في قبرص بالسر.

وبالنسبة للجنرال وحيد القرن، الجنرال وحيد القرن المحب لبطنه، ومن هنا جاء لقبه، لأنه كالكركدن ضخم. تزوج، وطلق سبع أو ثماني مرات، فكلما عاف أطباق واحدة رماها، وجاء بغيرها. هو، مع المليار دولار، سينشئ سلسلة من المطاعم في كل عواصم العالم: الأطباق الخمسة. سيسميه مطعم الأطباق الخمسة. سوري، فرنسي، إيطالي، إسباني، ويالله معلش أمريكي. ليكون التنويع في الأكل، وليكون التبديل في الإقامة، فهو رحالة الجنرال وحيد القرن. الأكل لديه شيء هام، والإقامة شيء أهم، للصحة. الطبق الشهي، والوجه الشهي. عندما فر من الجندية، لم يكن ذلك لأنه ضد النظام، ولكن لأنه في الجيش لم يعد يأكل جيدًا. ثورة وما ثورة لم يكن هذا ليقلقه، الأكل، كان الأكل كل حياته، كانت المحلبية بالجوز أو الإيمة بالفستق الحلبي أغلى على قلبه من كل الوطن، من كل الكون.

* * *

كانت الشمس قوية في مخيم هطاي التركي للناجين السوريين، وكانت من القوة بحيث بدا كل شيء أبيض، الخيمات والناس والأرض والسماء. كان كل شيء يبدو أبيض، حتى الأسود تحت الشمس كان يبدو أبيض. وكانت الحرارة شديدة، لكن الأفراد الخمسة لفريق المهمة ما فوق المستحيلة كانوا، وهم في ثيابهم العسكرية، يتصرفون بكل تلقائية. لم تفارق الابتسامة الساحرة شفتي أبولين دوفيل، ولا شفتي غادة عجيلي، ولم ينفخ الجنرال وحيد القرن، ولا الكولونيل عابدين، أما فرانك لانج، رئيس الحملة العسكرية، فقد كان سعيدًا بقدر ما يسع إنسانًا أن يكون سعيدًا.

- كابتن دوفيل، كابتن عجيلي، توجه فرانك لانج بالكلام إلى أجمل عسكريتين في الكون، أنتما وسائل الاتصال، ستغطيان كل صغيرة وكبيرة تتعلق بتحركاتنا من الحدود التركية حتى دمشق. أقمار الحلف الأطلسي الصناعية كلها تحت تصرفكما، أليس كذلك كولونيل عابدين؟ سأل فرانك لانج الملحق العسكري التركي.

- مائة بالمائة، أكد الكولونيل عابدين، لقد استنفرت قيادة الحلف الأطلسي كل أجهزة الاتصال في سماء كل المنطقة.

- حسنًا، قال فرانك لانج، هذا ما وددت إسماعه للضابطتين كي تطمئنا.

- فلتطمئن أنت قائد لانج، قالت الكابتن عجيلي، ما لدينا من أدوات إلكترونية يفوق الخيال، وهذه في الأساس هي مهنتنا أنا والكابتن دوفيل.

- سنشعركم أيها السادة بكل ما يدور على خط سيركم في لحظة وقوعه، قالت الكابتن دوفيل، حتى الطيور إذا ما تحركت، حتى الدويبات.

- حسنًا، قال فرانك لانج، وهو يستدير نحو الجنرال وحيد القرن: جنرال كم واحد من جنودك سيشاركون في حملتنا؟

- كلهم، قمندان لانج، قال الجنرال وحيد القرن بزهو.

- الثلاثمائة؟

- الثلاثمائة. إضافة إلى بعض المتطوعين.

- كله بكله كم؟

- حوالي الأربعمائة.

- سيعيقنا هذا العدد الكبير عن التحرك بسرعة كما يجدر بنا التحرك، تدخل الكولونيل عابدين.

- لن تكون الإعاقة كبيرة ولدينا من المركبات أجودها وما يكفي، رد الجنرال وحيد القرن. المصفحات الخفيفة من ناحية والشاحنات الصغيرة السهلة القيادة من ناحية أخرى.

- حسنًا، قال فرانك لانج، لن تكون حربنا كلاسيكية من نوع جيش يواجه جيشًا، ستكون حربنا حرب عصابات، ووسيلتنا الأولى في مثل هذا النوع من الحروب هي الأسلحة الخفيفة من كل نوع كلاشينكوف وبازوكا وقاذفات صواريخ أرض-أرض وأرض-جو وذاتية التوجه.

- قاذفات ضد الدبابات لدينا الأحدث والأدق في الجيش التركي، قال الكولونيل عابدين.

- وضد الطائرات المروحية؟ سأل القائد لانج.

- كذلك، أكد الكولونيل عابدين.

- سيكون التنسيق كاملاً بيننا نحن الثلاثة، قال فرانك لانج، الجنرال للاجتياح، فهو يعرف الأرض السورية أكثر من أي شخص كان، والكولونيل لتفجير صراصيرهم، وأنا للاختراق، وكل هذا بتوجيه أجمل كابتنين في الكون.

ضحكت أبولين دوفيل، وكذلك غادة عجيلي. كانت لهما ضحكة واحدة ترن كرنين الذهب، وكان قادة الحملة العسكرية من الثقة والاطمئنان، وكأنهم صاروا في دمشق، وتوزعوا المائة طن من الذهب ما بينهم.

- والأكل؟ سأل الجنرال وحيد القرن بلهفة، من سيتكلف بالأكل؟

- أنت من سيتكلف بالأكل جنرالي، هتف فرانك لانج.

- سيكون لدينا من الأكل ما يطعم ألفًا، رمى الكولونيل عابدين.

- لا يأكل أي شيء سيدي، قالت الكابتن عجيلي.

- سيكون له من الكافيار ما يكفيه، عاد الكولونيل عابدين إلى القول.

- ما يكفيه هو وحده؟ سألت الكابتن دوفيل.

- ما يكفينا، صحح الكولونيل عابدين نفسه. كافيار وشمبانيا وأفخاذ بط كالتي يحبها الجنرال وحيد القرن.

- آه! ما أجملها من حرب، صاح الجنرال السوري.

- وسيكون "المليار" الذي لكل واحد منا حافزنا حتى النصر النهائي، هتف رجل التحري الخاص تحت ضحكات وتصفيق باقي القادة.

* * *

غادر المقاتلون مخيم هطاي التركي بأسلحتهم وشاحناتهم ومصفحاتهم، وخرج كل الناجين من جهنم لوداعهم. كانوا يطبلون، ويزمرون، ويغنون، وكأنهم في عرس، وكانت ابتساماتهم في الشمس بهجة للعيون. كان الصغار يركضون بين الأقدام، ويتعلقون على دعائم المركبات وأبوابها، بينما الكبار يدعون لهم بالانتصار وتحقيق الآمال والانتقام، خاصة الانتقام، ممن شردهم. وكانت النساء تزغرد، وترشق الذاهبين إلى القتال بالأرز. رافق الجميع الركب مسافة بعيدة في الأراضي السورية، والطيور الخضراء ذات المناقير الصفراء تحلق فوقهم، ثم ترك الجميع الركب يوغل في أعماق الطريق الذاهبة إلى مدينة الباب كمحطة ضرورية قبل التوجه إلى حلب. كان الجنرال وحيد القرن داخل سيارة جيب في المقدمة، وهو يملأ قبضته باللوز والبندق والفستق الحلبي، ويلقيها في جوفه، وبواسطة سماعة على أذنه وميكروفون قرب فمه يتكلم مع الكابتن دوفيل والكابتن عجيلي اللتين تحتلان عربة الاتصالات، إستافيت رونو بيضاء ألقيت عليها شبكة زيتونية. ومن أمام شاشتين كبيرتين فيهما إشارات لا تتوقف عن الدوران باتجاه عقرب الساعة وعشرات الأجهزة الإلكترونية كانت الأولى تقول:

- التشويش على أجهزتهم الإلكترونية بدأ، وسيستمر إلى أقصى أجل جنرالي.

- إلى أقصى أجل، ماذا تعنين كابتن دوفيل؟

- كل شيء يتوقف على مدى تحييد الأقمار الصناعية الروسية والصينية جنرالي.

- هؤلاء حتى ولو كانوا خنازير سيطيب لي أن آكل لحمهم بكل شهية.

- أقمار الحلف الأطلسي قادرة على تحييدهم سيدي، تدخلت الكابتن عجيلي. من أنقرة يقولون لنا كل شيء تمام سيدي.

- أنت ست الستات كابتن عجيلي.

وجاء صوت فرانك لانج من سيارة الجيب التي يحتلها:

- وبيادق الجيش كابتن عجيلي؟

- الرادارات لم تكشف حتى الآن عن أي تواجد لبيادق الجيش، أجابت غادة عجيلي.

- سنعلمكم بأي تواجد في الحال قمندان لانج، قالت أبولين دوفيل.

- قبل أن نجد أنفسنا على مرمى مدافعهم، تدخل الكولونيل عابدين من سيارة الجيب التي يحتلها.

- بالطبع قبل وليس بعد كولونيل عابدين، قالت الكابتن دوفيل، وهي تضحك مع الكابتن عجيلي.

- لو كانت لدي قنبلة ذرية لرميتها عليهم وانتهينا بثانيتين، همهم الكولونيل عابدين.

- قلت قنبلة ذرية؟ تهكم الجنرال السوري، وفمه مليء بالفستق الحلبي. أنت لست جادًا كولونيل عابدين! ونحن، هل فكرت فينا نحن؟ كيف سيكون مصيرنا؟

- القنبلة الذرية التي أحكي عنها، قنبلتي، رد الكولونيل التركي، قنبلة لا تتجاوز قطر الدائرة الذي أحدده لها.

انفجرت المرأتان ضاحكتين.

- إنها قنبلة الأحلام كولونيل عابدين، رمى فرانك لانج.

- بالضبط، قنبلة الأحلام، أكد الكولونيل عابدين بكل الجد الذي يستطيع عليه في ظرف كظرفهم.

- الآن لا قنابل ذرية كهذه نملكها كولونيل، قال رجل التحري الخاص، وعليك أن تكون جاهزًا لأي احتمال.

- هذا ما أفعل، قمندان لانج.

- نحن بانتظار أول إشارة منكما، كابتن عجيلي وكابتن دوفيل، قال الجنرال وحيد القرن، وراح يعب الماء من فوهة القنينة عبًا. لننهي على كل أولاد الشرموطة!

- اعتمد علينا جنرال، قالت المرأتان بصوت واحد، اعتمدوا علينا كلكم.

- نحن نعتمد عليكما كلنا، همهم فرانك لانج.

* * *

قبل أن يصلوا إلى مدينة الباب الصغيرة، طالعتهم أعمدة من الدخان، فتوقف الركب، وخرجت الكابتن دوفيل من الإستافيت.

- لم تقل شيئًا عن هذا أقمارك الصناعية، بادرها فرانك لانج بالقول.

- لم تقل شيئًا، همهمت أبولين دوفيل.

- لقد أحرقوا الباب، نبر الجنرال وحيد القرن.

- كل هذا التدمير جديد، قالت ضابطة المخابرات الخارجية، ولكنه ليس جديدًا جدًا، لهذا لا أثر له على الشاشات الإلكترونية.

جاءت غادة عجيلي، وجاء الكولونيل عابدين، وهذا يقول:

- سأذهب مع عدد من الرجال لأرى.

- أين ذهب السكان؟ سألت الكابتن دوفيل.

- سأرافقك لنرى، قال فرانك لانج، فراقبونا.

- سنتقدم أقرب ما يكون لئلا يقيمون طوقًا حولكم، قال الجنرال السوري.

أشار القمندان لانج إلى عشرة من المقاتلين الذين انتشروا هنا وهناك من ورائه ووراء الكولونيل عابدين، وراحوا بحذر يخترقون شوارع الباب. كانت البنايات مهدمة، ولم يكن هناك واحد من السكان. صاروا في الساحة العامة، ولم يكن هناك واحد من الإنس أو الجان. وهم على مقربة من المسجد، هربت بعض القطط، فدفع فرانك لانج باب المسجد ليجد نفسه أمام عشرات من النساء المحجبات والأطفال، والرعب يملأ عيونهم.

- لسنا منهم، بادرهم فرانك لانج بالقول، نحن نجيء للدفاع عنكم.

- أين ذهب رجالكم؟ سأل الكولونيل عابدين.

- هناك، قالت شابة محجبة، وهي تمسح دمعها.

- هناك أين؟ سأل رجل التحري الخاص.

أشارت الشابة المحجبة إلى شابتين محجبتين أخريين، فنهضت ثلاثتهن، وذهبن بفوج المقاتلين إلى فناء المسجد الخارجي حيث الجثث بالعشرات والجرذان تسعى ما بينها.

- يا إلهي! ابتهل الكولونيل عابدين.

- خراء كل هذا، همهم فرانك لانج.

- خراء أسود، همهم الكولونيل عابدين، ولماذا لم ينهوا على الجميع أولئك الشطار كي تكون الجريمة كاملة؟

- كانوا على وشك الإنهاء على الجميع، قالت إحدى الشابات المحجبات، لكن رئيسهم تلقى أمرًا بالانسحاب العاجل.

وفي تلك اللحظة، هطل عليهم وابل من الطلقات، مما اضطرهم للعودة إلى داخل المسجد، ثم ما لبثت القذائف أن راحت تتساقط من كل جانب.

- راداراتهم تعرف أننا كنا في الطريق إلى هنا، قال فرانك لانج، وهو يصرف بأسنانه، فأين التشويش؟

- سأتصل بأنقرة حال توقف كل هذا، قال الكولونيل التركي غاضبًا.

انطلقت صواريخ اللواء وحيد القرن من كل مكان، ووضعت حدًا لهجوم بيادق الجيش. أخرس فرانك لانج ومن هم معه الباقي من الجيوب، ثم سكتت الطلقات تمامًا. تقدمت مجموعة من الشبان، وهي تحمل أسلحة خفيفة. أخذ المدافعون عن المدينة يعانقون "المحررين" واحدًا واحدًا، بينما نساء المسجد يخرجن مع أطفالهم، وهن يبكين. مسحت الشابات المحجبات الثلاث دموعهن، وابتسمن.

- لم يعد هناك أحد من هؤلاء المجرمين في النواحي؟ سأل فرانك لانج.

- لم يعد، قال أحد الشبان.

- لقد انسحبوا إلى حلب، قال ثان.

- لديكم الكثير من الشغل، قال الكولونيل عابدين، وهو يشير إلى فناء المسجد حيث الجثث تتراكم بانتظار دفنها، وأعطاهم ظهره لاحقًا بفرانك لانج، وباقي المقاتلين.

- ليس كلنا، صاح الشاب الأول.

- سنأتي معكم، قال الشاب الثاني.

- بل ستبقون للدفاع عن مدينتكم فيما لو عادوا إليها، قال فرانك لانج دون أن يلتفت.

- لن يعودوا إليها، قال شاب ثالث. دمروا الباب لكنهم تلقوا ضربة ساخنة.

بعد بعض التردد، أشار فرانك لانج إليهم بالمجيء، فجاءوا، وهم يبتسمون، والفرح يأخذ مكان الحزن على وجوههم.

- ونحن أيضًا سنأتي، قالت إحدى الشابات المحجبات الثلاث.

التفت فرانك لانج، وأمام أجمل ابتسامات في الوجود رضخ، وهو يتبادل والكولونيل عابدين نظرة مزهوة.

* * *

رفضت الشابات الثلاث العمل الإلكتروني الذي اقترحه عليهن قمندان الفرقة، ففاجأن غادة عجيلي، وعبرت أبولين دوفيل عن اتفاقها معهن. كن يردن القتال كباقي الرجال، لكنهن لم يخلعن أحجبتهن، فتركهن فرانك لانج يفعلن ما طاب لهن. فكرت الكابتن عجيلي في جامعة أكسفورد التي ستشتريها، وقالت لنفسها ها هي ذي أولى الطالبات. خلال ذلك، أكدت أنقرة وكذلك الحلف الأطلسي أن التشويش كامل وأن الأقمار الصناعية لم تخطئ، وكل ما في الأمر تم إنذار بيادق الجيش في الباب عن طريق أحد الوشاة، فلاح ربما أو مندس في مخيم هطاي. ومن حيث التوقيت، وقعت المجزرة مع وصولهم، فلم تتمكن الشاشات الإلكترونية من الوقوف عليها في الوقت المناسب، مما يوجب الحذر، وعدم الاعتماد على التكنولوجيا كليًا.

- بل يجب الاعتماد على التكنولوجيا كليًا، نبر الجنرال وحيد القرن، وهو يلتهم شرائح اللحم. وإلا ما الفائدة؟

- سنعمل كل ما بوسعنا سيدي، همهمت الكابتن عجيلي.

- نحن الآن نقترب من غابة ميتة، همهمت الكابتن دوفيل.

- الغابة الميتة شغلي أنا، تدخل القمندان لانج.

- إنها ميتة قمنداني، رمى الكولونيل عابدين.

- لا شيء ميت كولونيلي، رد فرانك لانج. كل ما هو ميت ليس ميتًا. كوكبنا في تجدد مستمر.

توقف الركب عندما طالعته الأشجار الجافة، أشجار من الصنوبر، لم تكن الحرائق السبب، ولكن دخان الحرائق، فاختنقت الأشجار. بحث فرانك لانج حول الغابة، فوجد، هناك ليس بعيدًا، مخيمًا للبدو جرى إحراقه.

- هذا أيضًا من صنع أولاد الشرموطة، همهم الجنرال وحيد القرن، وهو لا يتوقف عن التهام شرائح اللحم.

- سنحرقها كلها عن بكرة أبيها، قال فرانك لانج.

- لا بد لأنك جننت، احتج الجنرال السوري.

- بل لأنني أبدًا لم أجن، قال قمندان الفرقة قبل أن يوضح: إحراقها يسمح بتخصيب الأرض في عامين بدلاً من عشرين عامًا. الأقمار الصناعية أثبتت ذلك، في كل أرجاء الأرض النار الملتهمة للغابات بعد ضربة برق تجعل الأشجار تترك في الرماد بذرها.

وتوجه بكلامه إلى الكولونيل عابدين:

- كولونيل عابدين، أين قاذفات لهبك؟

- هل أنت متأكد مما تقول فرانك لانج؟ سأل الكولونيل التركي مترددًا.

- ثق بلانج وأحضر قاذفات اللهب، طلبت أبولين دوفيل.

وبإشارة من إصبعه، كانت عشر قاذفات لهب تحيط بالغابة، وبعد بضع دقائق، تم حرقها، وتابع الركب طريقه.

قبل أن يصلوا حلب من الشمال، أعلمتهم الشاشات الإلكترونية أن المعركة حامية الوطيس بين بيادق الجيش والمتمردين ليس ببعيد عن أسوارها. وعلى عكس مدينة الباب الصغيرة، كانت حلب مدينة كبيرة، لكن قوتهم الصغيرة كانت سريعة الحركة، فطوقت بيادق الجيش المطوقين للمتمردين، ومارست ضغطًا كبيرًا عليهم. رأت الكابتن عجيلي كيف مزقت الشابات الثلاثة أحجبتهن من تحت الركبة كي يساعدهن ذلك على الحركة، وكيف مع الهجوم سقط الشال عن رؤوسهن، دون أن يبالين به. كان شعرهن كلهن أسود طويلاً، وهن من الجمال يفقن جمال العميلة المزدوجة. بكت الكابتن عجيلي من الفرح، فمسحت أبولين دوفيل لها دمعها، وشدتها بحنان إلى صدرها.

جاء فوج من المتمردين من الرقة قرب الفرات شرقي حلب، وفوج ثان من حارم قرب إنطاكية غربي حلب، وشددوا الخناق على بيادق الجيش، حتى اضطروهم إلى الهرب أو الاستسلام. دخل فرانك لانج وفرقته حلب المحررة بين هياكل الدبابات النظامية المحترقة، وجاء الناس من كافة الشوارع لاستقبالهم، وهم يهتفون للثورة، ويرفعون الشعارات: لن نركع إلا لله! الله معنا! الله أكبر! اقترب الجنرال وحيد القرن، وهو يتناول عن الأرض قطعة خشب متفحمة، وشطب من الشعار الأول "إلا الله" تحت نظرات البعض المستنكرة، وأبقى "لن نركع"، ومن الشعار الثاني "الله"، وبدلاً منه كتب "الجنرال وحيد القرن". غدا الشعار "الجنرال وحيد القرن معنا"، وهو يشير إلى نفسه، فانفجر الكل ضاحكًا. لكنه أبقى على الشعار الثالث، مضطرًا، لما وجد نفسه محمولاً على الأكتاف، والكل يصرخ: الله أكبر! الله أكبر!

كانت من بين الصارخين ثلاث فتيات يرتدين الجينز، ويطلقن شعرهن على أكتافهن، فالتقين بالشابات المحجبات سابقًا، وذهبن كلهن إلى شاحنة الاتصالات، فرحبت بهن أبولين دوفيل وغادة عجيلي.

- أنا اسمي سلوى، قالت إحدى الفتيات.

- أنا اسمي لمى، قالت الثانية.

- أنا اسمي ريما، قالت الثالثة.

- نحن بنات سيئات، عادت الأولى إلى القول.

- بنات وسخات كما يقال عنا، همهمت الثانية.

- بنات تستحق الموت، بكت الثالثة.

أخذتهن أبولين دوفيل بين ذراعيها، وهي تبكي، وكل الموجودات يبكين.

- الثورة ولدتكن من جديد، همهمت الشابات الثلاث اللواتي كن محجبات.

بقيت ثلاث بؤر فساد في حلب طلب السكان من فرانك لانج القضاء عليها، فذهب بنفسه على رأس مجموعة من رجاله إلى دار الضرائب، وأرسل الكولونيل عابدين إلى السجن، ورجا الجنرال وحيد القرن التوقف قليلاً عن أكل المحلبية بالفستق الحلبي أطيب ما تصنعه الحلبيات، والذهاب إلى المسجد. في دار الضرائب، وجد القمندان لانج المدير يحتجز موظفيه، وهو يهدد بإطلاق النار عليهم، إذا ما لم يتركوه يغادر البلاد ليخلص من مطالبة الدولة للأموال التي لطشها. وفي السجن، وجد الملحق العسكري التركي ضابط السجن يقتل النزلاء السياسيين، دون أن يطالب بشيء، فقط لأن دمشق طلبت منه ذلك، وهو سيقتلهم كلهم عن بَكرة أبيهم، ثم سيطلق رصاصة في حلقه. وفي المسجد، وجد الجنرال السوري الإمام يقفل باب الجامع على المصلين، لأنهم سيموتون، إذن فليصلوا، ولينقذوا أرواحهم.

كان الخطر يهدد جميع الذين في دار الضرائب، وفي السجن، وفي المسجد، وفي اللحظة ذاتها، أشعرت أبولين دوفيل القادة الثلاثة باقتراب ثلاث طائرات مروحية، فأخذوا حذرهم ومن هم معهم، وما لبثت الجهنميات الثلاث أن بدأت تقصف، وتفجرت البؤر الثلاث بفضلها، ولكن ما فعله المقاتلون بها كان خاتمة المطاف لها. قذفوها بالصواريخ دون أن يخطئوها، وتم بالفعل تحرير حلب.

احتفل أهل حلب بمحرريهم الذين قضوا ليلتهم معهم، نصبوا موائد الأكل في الدمار، ولم تكن المقابر الجماعية غير بعيد عنهم، كانوا يريدون أن يحتفلوا بالحرية على هواهم، أحياءً وأمواتًا.

لمتابعة قراءة الرواية اذهب الى الصفحة الثالثة / انقر التالي ادناه

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.