اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• زرافة دمشق - رواية - صفحة3

 

القسم الثالث

الطريق إلى حماة لم تكن سهلة، كانت مليئة بالأخطار، لكن الجنرال وحيد القرن لم يكن يأبه بذلك، كان يأكل الكافيار، ويشرب الشمبانيا، وهو يقتل مع القاتلين رهطًا من الذئاب، ثم رهطًا من الضباع، ثم رهطًا من الثعالب. اختفت كل هذه الضواري من شاشات الأجهزة الإلكترونية، وظهرت عند باب كل قرية يمضون بها مجموعة من الرجال الملتحين تسوق مجموعة أخرى من الرجال الملتحين متهمة إياها بالخيانة، ومجموعة من الرجال الملتحين تسوق مجموعة أخرى من الرجال غير الملتحين متهمة إياها بالإلحاد، ومجموعة من الرجال غير الملتحين تسوق مجموعة أخرى من الرجال الملتحين متهمة إياها بالجهالة، ومجموعة من الرجال غير الملتحين تسوق مجموعة أخرى من الرجال غير الملتحين متهمة إياها بالعمالة. كان فرانك لانج يتردد في تصفيتهم، لكن الجنرال وحيد القرن، كان يأمر بقتلهم في الحال. اعترضت بعض النساء طريقهم، ودفعت إلى الموت أزواجهن، كما جاءهم من جبال النصيرية العديد من الظمأى، فأسقاهم الجنرال مما يشربه من شمبانيا، وأطعمهم مما يأكله من كافيار. أشار الكولونيل عابدين إلى ثلاث مجموعات متصارعة إحداهما مسيحية والثانية علوية والثالثة سنية، بعد أن تعبوا وجاعوا، وهو يلقي عليهم بالطعام، نسوا لماذا هم يتصارعون، وجاءوا ليأكلوا، والملحق العسكري التركي يهمهم: الجوع لا دين له.

بعد قليل من التراشق بين المقاتلين وبيادق الجيش، جاء البيادق ليستسلموا، وحصل العناق بين الطرفين، تآخى الجميع، ودخلوا حماة معًا، حماة التي هدموها حيًا حيًا وعمارة عمارة وبيتًا بيتًا. كان بعض الشبيحة هنا وهناك، لكنهم صعقوهم صعقًا، وكلما توغلوا في حماة كلما علت أصوات النحيب. رأت أبولين دوفيل أطفالاً ذهبوا ليشتروا الخبز، وظلوا في أماكنهم مكربنين، وسمعت غادة عجيلي غناء لعصافير ماتت، وبقي الغناء من بعدها. أخذت الشابات الست المرافقات لهما ينادين: يا عادل، ويا محمد، ويا جريس، ويا سعد الله، ويا إدوارد... ولا أحد يجيب. لم يكن تحرير حماة يثير الفرح في النفوس كتحرير حلب، فوقف الجنرال وحيد القرن في سيارة الجيب بطوله، وراح يشرب نخب الموت في حماة. جذبه السائق من ذراعه، وأجلسه، فلطمه الجنرال، وأمره بتركه يبكي حماة على طريقته. عاد يقف بطوله في سيارة الجيب ، ويصرخ: حبيبتي حماة! أفرغ قنينة الشمبانيا على جسدها، وانفجر باكيًا.

* * *

سار الركب، وقد تضاعف عدده، حتى بحيرة حمص، وهناك أقاموا معسكرهم. ذهبت الشابات ليسبحن بملابسهن، فضحك عليهن الشبان. كانت بعض المحجبات الجديدات يسبحن هن أيضًا بأحجبتهن، فتبين من تحتها مفاتنهن. كن يضحكن ضحك الأطفال، فلا قانون كان هناك، ولا إله. كن سبب الغاية، وكن الضرورة الحتمية. انتهى الشر، وانتهى الخير. كان لا معنى للتقوى، وكان لا معنى للمعصية. أطلت أبولين دوفيل برأسها من الإستافيت، وابتسمت لجمال الطبيعة. كانت الطبيعة أنثوية أكثر من أي وقت آخر.

- غادة، تعالي، وانظري، نادت الكابتن دوفيل.

جاءت غادة، ونظرت، وهي تمسك يد الشقراء الفرنسية، وتبتسم.

- هذه جنتنا، همهمت الكابتن عجيلي.

جذبتها إلى الداخل، وقبلتها من ثغرها قبلة طويلة، لم تفق منها لا الواحدة ولا الأخرى إلا على نحنحة فرانك لانج.

- تعال لانج، هتفت أبولين دوفيل، وهي تجذبه من يده.

- جئت من أجل شيء آخر، قال رجل التحري الخاص.

- تعال فرانك، هتفت غادة عجيلي، وهي تجذبه من يده.

- أردت أن أطمئن إذا ما كان التشويش لم يزل ساريًا، هنا على شاطئ بحيرة حمص لا حرب هناك، الحرب انتهت على شاطئ بحيرة حمص.

كانتا قد جذبتاه إلى داخل المركبة، وأغلقتا بابها بالمفتاح. عريتاه، وتعرتا، وثلاثتهما يقهقه، ثم اختلطت أجسادهما مدة نصف ساعة من زمن الطغاة والعتاة، مدة كافية لملء العالم بالذهب والأحلام.

* * *

لم يكن الأمر سهلاً مع حمص كما كان مع حماة، كان على المقاتلين أن يحرروا حمص شارعًا شارعًا ودوارًا دوارًا وحيًا حيًا. سقط الكثير منهم في معركة حمص، لكنهم قضوا على كل بيادق الجيش. جرح الجنرال وحيد القرن في كتفه، والكولونيل عابدين في ساقه، واضطرت كابتن دوفيل وكابتن عجيلي إلى حمل السلاح والقتال إلى جانب الرجال. ماتت عاهرات حلب الثلاث شهيدات، وكما فعلت المحجبات الثلاث الأولى، قطعت المحجبات الأخريات أحجبتهن حتى ما تحت الركبة أو ما فوقها، ونفلن شعرهن، وخضن القتال خفيفات، خضن القتال كأرياش النعام.

- ما زلنا بعيدين عن دمشق، يا أولاد الشرموطة، كان يصرخ الجنرال وحيد القرن، وسائقه يضمد له كتفه.

- خذ، اشرب هذا يا جنرالي، قال السائق، وهو يفتح له قنينة شمبانيا، هذا يساعد على تخفيف الألم قليلاً.

- وهل تعتقد أنني أخشى الألم، رمى الجنرال السوري، وهو يعب الشمبانيا من فوهة القنينة عبًا. آه ما أحلى طعم الحرب!

- طعم الحرب أم طعم الشمبانيا؟ ناكده السائق.

- طعم الحرب أيها الغبي، صاح الجنرال وحيد القرن، فلو لم يكن للحرب طعم الشمبانيا لاخترعته.

- هنيئًا مريئًا يا جنرالي، تمتم السائق.

- وأنت لماذا لا تشرب؟

- خوفًا من غضب الله.

- اشرب واترك غضب الله عليّ.

تردد السائق بعض الشيء، ثم اختطف القنينة، وشرب على قهقهات الجنرال.

- ماذا قلت؟

- آه ما أحلى طعم الخطيئة!

وانفجر كلاهما ضاحكًا. قبّل الجنرال السائق من خده، وأمر:

- هيا بنا، لننه هذه الحرب القذرة!

- تحت أمرك يا جنرالي.

وانطلق السائق بالسيارة الجيب إلى قلب حمص، فلحق به فرانك لانج والكولونيل عابدين والكابتن دوفيل والكابتن عجيلي، وانقضت كل الفرقة على الأعداء. ومن الخطوط الورائية للقتال، كان فلاحون ينبثقون بعرباتهم ودوابهم، وهم يهيمون على وجوههم، بعد أن مضى الشبيحة بقراهم. وكان تحرير حمص، واستقبال أهل حمص لهم كالأبطال.

* * *

قال فرانك لانج للكولونيل عابدين:

- جرحك بسيط كولونيلي، ولكني أنصحك بالاستراحة، وأن تهتم بنفسك من هنا حتى دخولنا دمشق كي تكون قويًا بقدر "المليار".

- يكفي أن تذكرني بالمليار كي أغدو أقوى رجل في العالم حتى ولو كان لي من الجراح ما يغطي كل جسدي، هتف الكولونيل عابدين.

- أعرف أنك شجاع بطبعك.

- أنا شجاع بطبعي؟ إنك لمخطئ والله، وربما لهذا أردت امتلاك قوة ذرية تعوضني القليل من هذا الشعور بالنقص.

كانت الشمس حامية جدًا في حمص، وكان فرانك لانج يتأمل أشعتها على يده، ولا يسمع له:

- يبدو لي أنك مشغول عني بأمر آخر، قال الملحق العسكري التركي.

- هل تعرف أن للشمس قوة ملايين القنابل الذرية؟ همهم رجل التحري الخاص دون أن يتركه يجيب. تنفجر فوق، بم، بم، ولكن الأرض تعرف جيدًا كيف تدافع عن نفسها. أتدري كيف؟ ولم يتركه يجيب، اكتشفت الأقمار الصناعية أن الأرض تدافع عن نفسها بغلافها الممغنط.

- للأرض مقدرة عجيبة.

- مقدرة عجيبة لوجودها العجيب، وهؤلاء الجراذين الذين يريدون أن يقرضوا سوريا إلى الأبد ولا يعرفون أن لسوريا كالأرض مقدرة عجيبة لوجودها العجيب.

- هذه الليلة سأرتاح في حمص، وأنا أستنشق رائحة الموت.

- رائحة الحياة، فلا رائحة للموت، كنا نظن أن للموت رائحة، وعلى الأرض لا موت هناك، على الأرض الموت حياة.

وهم ينامون ملء جفنيهم، إذا بأبولين دوفيل وغادة عجيلي تصرخان في آذانهم:

- يحاولون استعادة حمص! يحاولون استعادة حمص!

وإذا بالطائرات الحربية تنقض عليهم، وتقذفهم بالصواريخ، فيموتون بالعشرات. جاءت فرقة من بيادق الجيش من تدمر وأخرى من اللاذقية، مما اضطرهم إلى الانسحاب، والعودة إلى حماة، وهم يلهثون، وينقلون جرحاهم.

* * *

في حماة، استقبلهم نوع آخر من المنتفضين، لم يكونوا من الإسلاميين، ولم يكونوا من الليبراليين، كانوا يسمون أنفسهم "مقاتلو الظل". هذا لا يعني أنهم لم يكونوا متدينين، كانوا لا يعرفون إذا ما كانوا علمانيين أم غيره. لم يكونوا الشيوعيين من مداهني النظام، ولا من أصحاب الملل. أرادوا أن يحبوا سوريا على طريقتهم، فإذا بهم ضد الجميع، ضد البعثيين أول من هم ضده، وبعد ذلك ضد الجميع. لهذا كانوا يعملون في الخفاء، في الظل، وحدهم، ولم يكونوا يعملون مع أحد. الآن وبيادق الجيش يحاولون استعادة حماة، خرجوا من الظل، وبانوا كالأقمار هنا وهناك.

- لن نعطيهم الفرصة على استعادة حماة، قال أحد مقاتلي الظل لفرانك لانج.

- بيادقهم يصلون من خناصر شمال شرقي حماة، شرح القمندان لانج، ومن سلمية جنوب شرقي حماة، ومن مصياف غربي حماة، وخاصة من حمص جنوبي حماة، وبأعداد هائلة.

- حماة محاصرة من كل جانب هذا صحيح لكننا لن نسمح لهم بإعادة احتلالها، قال ثان من مقاتلي الظل.

- سنتركهم يجيئون، قال ثالث من مقاتلي الظل، وسننقض عليهم من الخلف.

- حرب العصابات هذه هي، همهم فرانك لانج، لكن عددنا تناقص كثيرًا، عددنا لا يسمح لنا بالقتال على جبهتين هي في حقيقتها جبهة واحدة، أعني من أمامهم ومن ورائهم.

- هناك شنشار قمندان لانج، قال الجنرال وحيد القرن، وهو يقضم تفاحة حمراء، وصدد والنبك.

- ثلاث مدن جنوب حمص لا حماة، همهم الكولونيل عابدين.

- لهذا من أجل ردهم عن حماة يجب تحرير حمص، قال مقاتل الظل الأول.

أطلت أبولين دوفيل برأسها من الإستافيت، وقالت:

- المتمردون في شنشار وصدد والنبك يسيرون نحو حمص.

أطلت غادة عجيلي برأسها من الإستافيت، وقالت:

- بيادق الجيش يفرغون حمص ويسيرون نحو حماة.

- علينا أن نصدهم عن حماة في الوقت الذي يعيد فيه الثوار تحرير حمص، قال فرانك لانج.

- عندئذ سنرميهم بين فكي الكماشة أولاد الشرموطة، نبر الجنرال وحيد القرن، وهو يقذف تفاحته الحمراء قبل أن ينهي عليها.

وبالفعل هذا ما حصل، فكانت هزيمة بيادق الجيش في حماة بعد قتال دام طوال الليل، واستعادة حمص مع الفجر والمؤذن يؤذن للصلاة، وكان اللقاء الأسطوري بين المقاتلين من الناحيتين.

* * *

في بهيبة، كان السكان يحتفلون بعرس شاب وشابة عندما وصلت طلائع الركب إلى مشارفها، تحت شمس زرقاء. أصر أهل العروسين على مشاركة المقاتلين إياهم في فرحهم، ولما كانوا لم يزالوا تعبين، وجدها فرانك لانج فرصة ليرتاحوا. اغتسلوا، وحلقوا، وبدلوا ثيابهم. بعضهم نام حتى المساء، وبعضهم تكاسل تحت شجرة، ودخن سيجارة. أكل الجنرال وحيد القرن قطعة لحم من كبش كان يشوى قبل كل الآخرين، وشرب طاسًا كبيرة من اللبن الرايب، ثم عرج بعد ذلك على صدر الكنافة، فملأ جاطًا كبيرًا نسفه في دقيقة. تألقت أبولين دوفيل في ثوب فلكلوري أحمر، وكذلك غادة عجيلي في ثوب فولكلوري أصفر. أحاطتا بالعروس، فكانت للناظر عرائس ثلاث، ولهذا كان المشهد فريدًا. رقصوا، وغنوا حتى تعبوا. زفوا العروسين، وذهبوا بهما إلى حجرة منعزلة على كف الحقل، تركوهما لسعادة ليلة الدخلة، وعادوا يرقصون، ويغنون حتى أغفوا، وناموا. في الصباح، ذهبوا ليتفقدوا العروسين، فوجدوهما في ثياب العرس ذبيحين.

* * *

في دوما قرب دمشق، حرق رجال الشبيحة والمخابرات حقول القمح، واقتحموا البرّاكات. نقلوا جرار الزيت إلى شاحناتهم، وكل حيوان أليف، وخلعوا عن سواعد النساء أساور الذهب والفضة. رموا الرجال في السجون، وانفردوا بالشابات الصغيرات والشبان الصغار للتحقيق معهم، وفي الواقع للتحرش بهم. اغتصبوا بعضهم، وهؤلاء يصرخون. تسلل المنشقون عن الجيش، وراحوا يقوسون المجرمين واحدًا واحدًا، ويطلقون سراح الأطفال في الوقت الذي وصل فيه الركب، فكان اتفاق المقاتلين والمنشقين على السير إلى دمشق من الشمال معًا. ومن الجنوب، سيتقدم مقاتلو درعا وإزرع والكسوة، وبالتالي سيكون تحرير المدينة بعد أن يطبقوا بفكيهم على بيادق الحرس الرئاسي.

قالت أبولين دوفيل، عبر السماعة التي في آذان فرانك لانج والجنرال وحيد القرن والكولونيل عابدين، إن انفجارًا هائلاً وقع في بناية الأمن الوطني. أبلغ رجل التحري الخاص رئيس المنشقين النبأ، فضحك، وقال، وهو يتمنى ألا يكذب على نفسه:

- لقد بدأ العد العكسي لسقوط النظام.

قالت غادة عجيلي في آذان محدثيها:

- هناك ضحايا لكننا لا نعرف كم عددهم.

- ولا من هم، أضافت الشقراء الفرنسية.

- سيكون دخولنا إلى دمشق هذه الليلة، أكد رئيس المنشقين. رفاقنا يقاتلون في بعض الأحياء، وهم بانتظارنا، وبانتظارنا أيضًا المهام كثيرة.

- نحن لن تكون لنا سوى مهمة واحدة، قال الجنرال السوري، وهو يشرب عصير التفاح الشامي من قنينة.

- مهمتنا نحن هي احتلال القصر الرئاسي في حي المهاجرين، قال فرانك لانج.

- نعم، هذه هي مهمتنا التي تكلفنا بها، أضاف الكولونيل عابدين.

- مهمتنا الوحيدة، همهم الجنرال وحيد القرن.

- لا بد من التنسيق بيننا، قال رئيس المنشقين، أنتم أكثر من يعلم، ماكينة الحرب جهنمية، وقبل احتلال القصر الرئاسي يجب احتلال كل دمشق.

- يجب احتلال كل دمشق؟ سأل قمندان فرقة الذهب.

- يجب احتلال كل دمشق، أكد رئيس المنشقين، وبشتى الطرق... من شتى الطرق.

- نحن لا نعرف سوى طريق واحدة إلى دمشق، همهم فرانك لانج.

- طريق واحدة مباشرة، همهم الجنرال وحيد القرن، وهو يقذف قنينة العصير فارغة.

- طريق واحدة مباشرة، همهم الكولونيل عابدين، لكنها وعرة أصعب من أية طريق أخرى في العالم.

- كل الطرق تؤدي إلى دمشق، هتف رئيس المنشقين.

القسم الرابع

منذ تركهم لدوما باتجاه حي المهاجرين، لم يتوقفوا عن القتال لحظة واحدة. كانت ردود فعل بيادق الجيش ردود فعل المهسترين الفاقدين لعقولهم، فكان استعمال كل أنواع الأسلحة بما فيها الطائرات المروحية والدبابات. وفي أحد شوارع حي الثغرة، كان رجل في الأربعين يقبل فتى في الخامسة عشرة من ثغره، وقع عليهما رجال المخابرات، وراحوا يطاردونهما، نصفهم يطارد اللوطي، واللوطي يرتعد من الخوف، ونصفهم يطارد الفتى، والفتى يرقّصهم دون أن يقدروا على الإمساك به. اختبأ لوطي الأربعين خلف باب إحدى العمارات، وهو يلهث لهاث السمك الميت الحي، وعندما ظن أنه أفلت منهم، خرج، وإذا بهم يجيئون في أعقابه. وصل البناية التي يسكن فيها، فاخترقها إلى الطابق الرابع. نادى المصعد، لكنه أخذ الدرج، وهم أخذوا المصعد، وفي اللحظة التي أراد فيها إغلاق بابه عليه، غادروا المصعد، ودفعوه إلى الداخل، ثم إلى الشرفة، وقذفوه منها. وبينما هم ينظرون من فوق إلى الجثة الهامدة على الأرض، ضربت الشرفة قذيفة فجرتها، وفجرتهم معها.

- هذا هو الشغل، هتف الجنرال وحيد القرن، وهو يلتهم قرن إيمة بالفستق الحلبي.

- الطريق لم تزل بعيدة إلى القصر الرئاسي، قال فرانك لانج.

- أعرف، يجب القضاء على كل أولاد الشرموطة، قال الجنرال، وهو يلقي بباقي قرن الإيمة في جوفه.

- هل تريد آخر جنرالي؟ سأل السائق، وهو يفتح ثلاجة صغيرة في سيارة الجيب.

- دعني أرسل صاروخين آخرين أو ثلاثة إلى تلك العمارة كي تنهار كلها، وتعيق تقدم الدبابات، أجاب الجنرال وحيد القرن.

وأمر رجاله:

- أريدها أن تلحس غبار نعلي.

انطلقت الصواريخ، والسائق يقدم للجنرال قرن الإيمة بالفستق الحلبي.

- أنت أهل لكل هذا جنرالي، همهم السائق، بالصحة والعافية.

- الحمد لله أن كل العمارات خالية من أهلها، قال الكولونيل عابدين.

- انتبهوا جميعًا، قال صوت أبولين دوفيل في آذانهم، المروحيات تقترب.

- لسنا على الأسطح، رد فرانك لانج، فلن نهتم.

- لكن بضعة صواريخ أرض-جو من الجميل أن تقيم فوق الرؤوس حفلة من الأسهم النارية، علقت غادة عجيلي.

- خسارة أنني وغادة في جوف الإستافيت لا نحتفل معكم، قالت الكابتن دوفيل، وهي تضحك، والكابتن عجيلي تضحك معها.

وإذا بطائرات مروحية ثلاث تنبثق فوقهم، وترشقهم، وبدورهم يرشقونها، ويسقطون إحداها على الصرخات الجزلة للفرقة.

بدنا نعبي الزنزانات

وبدنا نملّي المعتقلات

وبدنا نفضّي الروسيات

كرمال الأمة الأسدية

نحنا جنودك يا بشار

على صباطك نحنا غبار

لعيونك منهدّ الدار

انت الديموقراطية

مطرح ما بتمشي وبتدوس

نحنا منركعلك منبوس

رح ندعسلك كل مدسوس

متل وحوش البرية

- بنتي سيأكلونك، رجت الأم ابنتها.

- ماما دعيهم يأكلونني، ردت البنت على أمها.

- بنتي فكري فيّ.

- ماما فكرت فيكِ.

- بنتي أنا أمك فكري فيّ.

- ماما قلت لك فكرت فيكِ، فكرت فيكِ.

- بنتي فكري فيّ أكتر شوي.

- ماما فكرت فيكِ أكتر من شوي، التفكير كثيرًا مضيعة.

- بنتي من يبقى لي من بعدك؟

- ماما يبقى لك الله من بعدي.

- بنتي لن يبقى لي الله من بعدك.

- ماما لا تكفري أرجوك.

- بنتي لن يقبل الله أن تتركيني وحدي.

- ماما سأعود إليك، إن شاء الله سأعود إليك.

- بنتي يا ويلي يا شحاري!

- ماما لا تبكي أرجوك!

- بنتي... بنتي... ضاعت بنتي...

- انتبه! قال فرانك لانج لأحد المقاتلين، تلك الفتاة ترفع منديلاً أبيض.

جاءت الشابة تجري لتلتحق بالمقاتلين.

- هل تريدين إيمة بالفستق الحلبي؟ سأل الجنرال وحيد القرن الفتاة، وهو يمد لها قرنه، والبوظة تسيل من كل ناحية.

- لا، أشكرك، ردت الشابة، وهي ترسم على شفتيها ابتسامة ساحرة.

لحوس القرن، ثم رماه، ودعسه، وهو يشتم بينما السائق يخفي ضحكه بأصابعه.

نحنا أسودك لا تهتم

بدنا نعبي الساحة دم

الشغلة أبدًا مو بالكم

نحنا عنا النوعية

بلا حرية بلا بطيخ

مؤامرة جاية من المريخ

ما عنا هندوس وسيخ

ولا عنا زردشتية

يا بو الجبين العالي

بفديك بروحي ومالي

ومشان عيونك يا غالي

أنا بدبح أهلي بشبرية

ركضت أم مع أطفالها تحت مطر القذائف، وهي هلعة، لا تعلم أين تذهب. وجاءت أم أخرى بصغيرها في عربة، تركض هي الأخرى هاربة، فأوقفها اثنان ضخما الجسد يعلقان على زنارهما شتى أنواع السكاكين والعصي والأسلحة الخفيفة.

- أنا بعرضك، ابتهلت الأم للأول.

- قولي بطولك، وانفجر المجرم ضاحكًا، وصاحبه يطبطب على ردفيها.

- أنا بعرضك، ابتهلت الأم للثاني، خليني أمشي. ابني صغير، حرام عليكم.

أخذ الشبيحي يرفع تنورتها، والأم تحاول منعه، بينما رفع الثاني الصغير من عنقه، ثم من ساقه.

قال الله... حرية وبس

رح نفرمهم متل الخس

كلن كم مليون مندس

ما بيشكلوا الأغلبية

بدونك نحنا منتبهدل

تطلع عكتافي وتتدندل

أعلامك ضرب المندل

كشف المجموعة السلفية

إرهابية مالون حل

مشانك درعا رح نحتل

لا منكلّ و لا منملّ

لتصير إبادة جماعية

ترك الشبيحي المرأة، وأمسك الصغير من ساقه الثانية، والصغير يصرخ باكيًا بأعلى صوته.

- صوت هذا الصرصار مزعج، ألا تعتقد ذلك؟ قال الشبيحي الأول.

- مزعج إلى حد الموت، قال الشبيحي الثاني.

عادت الأم تبتهل، وهي تذرف مر الدمع، لكنهما فسخاه، فسقطت المرأة مغشيًا عليها. قذفاها بجثة الصغير، وذهبا بكل هدوء واطمئنان.

اسمك بالعالي مرفوع

وصوتك للسما مسموع

لو شعبك مات من الجوع

رح ننتخبك أبدية

ما عنا رأي ورأيين

عنا نورك يعمي العين

انت كبيرنا يا زين

انت ملك البشرية

ما إلنا بعدك اتنين

انت والرب ربين

انت العين وكحل العين

انت الرسالة النبوية

اقترب المقاتلون من الأم ورضيعها المفسوخ، فأخذ الجنرال وحيد القرن يجمجم: أولاد الشرموطة! أولاد الشرموطة!

- خراء كل هذا، قال فرانك لانج.

- خراء أسود، همهم الملحق العسكري التركي.

حملوا الأم ورضيعها القتيل إلى الخلف، وواصلوا تقدمهم.

وقف الشاب طويلاً أمام فترينة فيها فستان أبيض، وهو يحمل مطرقة ضخمة، وفجأة حطم بالمطرقة الضخمة الزجاج، وتناول الفستان الأبيض. ابتسم لسرقته، كان سعيدًا، أكثر الناس سعادة، وفجأة اخترقته سلسلة من الطلقات، ولطخ بدمه الفستان الأبيض.

- خراء أسود، عاد الكولونيل عابدين إلى القول.

- لم أره، قال أحد المقاتلين.

- لم تره، وهو هناك بوضوح الشمس، راح الكولونيل عابدين ينبر.

- لا يوجد شمس كولونيلي، همهم المقاتل. سماء دمشق غائمة.

- الصورة، ألا تفهم الصورة؟ ردد الكولونيل التركي وكله غضب.

- صحيح، سماء دمشق غائمة، همهم فرانك لانج.

- ألا يوجد شيء يؤكل؟ سأل الجنرال وحيد القرن.

- إيمة بالفستق الحلبي جنرالي، أجاب السائق.

- إيمة بالخراء الحلبي تريد القول، نبر الجنرال السوري,

- وعلى أي حال ثلاجة الجيب توقفت جنرالي، عاد السائق إلى القول.

- ألم أقل لك إيمة بالخراء الحلبي؟

- سأشوي لك زرافة حال وصولنا القصر الرئاسي جنرالي، قال السائق.

- أنا لا أحب لحم الزرافات، جمجم الجنرال وحيد القرن.

- سماء دمشق غائمة، عاد فرانك لانج يهمهم.

منعتهم الطريق التي قسمتها قذائف الدبابات –كما ظنوا في البداية- إلى اثنتين من التقدم إلى حي العجمي، كانوا لم يزالوا بعيدين عن حي المهاجرين، ومن المستحيل ترك مركباتهم، أضف إلى ذلك أنهم كانوا بحاجة ماسة إلى المصفحات. وهم في أقصى حيرتهم، سمعوا صوت جرافة، ورأوا يدًا تلوح لهم. كان أحد العمال الذي أوضح أنهم هم الذين فتحوا الطريق لأجل شبكة جديدة للتلفونات الأرضية، وأخذ يردم الحفرة، مما جعلهم يواصلون طريقهم.

والقصف بدأ يتزايد، ذهب أحدهم إلى النافذة ليرى إذا ما كانوا على مقربة. جاءت زوجته، وقالت إنها لم تر أحدًا من النافذة، فأكد العكس، وهم يصعدون للقبض عليه. سخرت به، وقالت إنهم لا يقلقون به، وهو آخر من يهمهم، لكنه عاد يؤكد العكس. راح يذرع حجرته منتظرهم جيئة وذهابًا، وظل يذرع حجرته جيئة وذهابًا حتى تعب، فجلس، ومدد ساقيه، وراح ينظر إلى الباب. وبالفعل اندفع الباب، وظهروا، فابتسم لهم، وهو يرفع يديه ليقيدوه، ويسوقوه إلى التحقيق، فالتعذيب، فالمعتقل، لكنهم بعد أن فتشوا في كل مكان، تركوه، وذهبوا.

لمتابعة قراءة الرواية اذهب الى الصفحة الرابعة / انقر التالي ادناه

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.