اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• الصلاة السادسة

د. أفنان القاسم

الأعمال الكاملة

الأعمال الروائية (33)

د. أفنان القاسم

الصلاة السادسة

LA SIXIEME PRIERE

رواية

إلى ذكرى محمد البوعزيزي

القسم الأول

في قلب باريس، كان شارع سان دُني يتعرح تعرج النهر إلى ما لا نهاية، وكان الليل في شارع الهوى شيئًا آخر، كان الليل معطف باريس الطويل الثقيل في الشتاء، وشلحتها القصيرة الشفافة في الصيف. نظر فرانك لانج إلى بنات الليل من نافذة سيارته الفيراري الحمراء، وهن يقفن على الرصيف كالحور العين تحت أضواء المصابيح الخافتة، والموسيقى تصدح من كاسيته، "الوردة الصغيرة" لسيدني بيشيت كانت الموسيقى، والعالم كله راح يتمايل. لم يكن رجل التحري الخاص يرى جيدًا الوجوه الشاحبة الملوثة بالظلام، فأغصان الأشجار تجعل من الأضواء المتسللة بينها لطخات سوداء. ولم يكن يبحث عمن يقضي ليلته معها، لأنه لم يكن يرى في ذلك الحل الدائم لرغباته الجنسية، وهو من طبيعته دومًا ما كان ضد العاجل، الاضطراري، الإجباري، الاغتصابي، ضد التاريخ القسري كان يقول عندما يريد أن يبرر ذلك حضاريًا. كان فرانك لانج في شارع الهوى للمهمة التي كلفته إياها لبنى بن عثمان، رئيسة جمعية بنات الليل في تونس، فالنظام الجديد اتخذ في أمرهن قرارًا ثوريًا، كما يقول، وذلك بإرسالهن إلى باريس من أجل ضخ العملة الصعبة في خزائن الدولة بعد الكساد الذي تعانيه السياحة.

فجأة، سمع رجل التحري الخاص صراخًا لبنتين من بنات الهوى التحمتا في عراك يبدو أنه لن ينتهي إلا بظفر إحداهن، وإحداهن تقول للأخرى:

- فرنسا للفرنسيات!

- فرنسا لكل الداعرات، قالت الثانية.

- هل ضاقت بكن شوارع تونس إلى هذه الدرجة لتجئن إلى شوارعنا؟

- الزبائن هنا كثيرون، فما ذنبنا إذا كانوا يختارون الأجمل؟

- أجمل من قفاي هل يوجد؟

- قفاي، أجابت بنت الهوى التونسية قبل أن تنفجر ضاحكة.

ناداها فرانك لانج، وقال لها اصعدي، وبنت الهوى الفرنسية تمطرها بوابل من الشتائم. رفعت بنت الهوى التونسية لها إصبعها الأوسط، وطرقت باب الفيراري بعد أن صعدت.

- جميلة باريس في الليل، ألقى رجل التحري الخاص، وهو يوطئ الموسيقى، ويعجل في السير.

- هل تريد الصدق؟ نبرت بنت الليل، في باريس أو في تونس أو في الجحيم الليل واحد لنا، خراء!

- لا شك في ذلك، همهم فرانك لانج.

انفجرت بنت الهوى باكية، فأوقف رجل التحري الخاص سيارته، وطلب إليها:

- لا تبكي رجاء.

توقفت الفتاة التونسية عن البكاء دفعة واحدة، وأوضحت:

- لنا نحن البنات السيئات مشاعر طيبة كغيرنا يلعن دين، أليس هذا ما تقوله لنفسك؟

- هل لك ولد في تونس؟

- لي أب شيخ، وأنا من أجله أفعل كل هذا الخراء.

- الغربة وكل هذا الخراء، كل هذا أمر لا يحتمل.

- لو كان بيدي لما كنت هنا.

- أعرف.

- النظام الثوري هو قوادنا، هل تعرف هذا؟

- النظامان، الثوري واللاثوري.

- الفرنسيون أيضًا؟

- تجارة بنات الهوى شيء معروف، زميلاتك الصربيات يمكنهن أن يقلن لك عنها ألف مرة أحسن مني، ولكن فيما يخص التونسيات الأمور معقدة جدًا، وهي تتم على أعلى المستويات. لهذا السبب...

- لهذا السبب ماذا؟

- لهذا السبب طلبت منك الصعود.

فتحت بنت الليل التونسية باب الفيراري، وأرادت الذهاب، لكن فرانك لانج أمسكها من ذراعها:

- انتظري، إلى أين أنت ذاهبة؟

- إذا لم أجد زبونًا أنت تعرف المصير الذي ينتظرني.

وفي الحال، أخرج رجل التحري الخاص من جيبه حزمة من الأوراق النقدية، وأعطاها إياها.

- أين تأخذين زبائنك عادة؟ سأل فرانك لانج.

- ليس بعيدًا من هنا، أجابت بنت الهوى، وهي تدس النقود في حقيبتها البلاستيكية الصغيرة، وتعيد غلق باب الفيراري. شارع ريفولي.

- سنذهب إلى شارع ريفولي، هتف رجل التحري الخاص، وهو ينطلق بجوهرته الحمراء.

* * *

في الطابق الأخير من عمارة تبدو عمارة شركات ودوائر خالية من الجن والإنس، كبست بنت الهوى على جرس أحد الأبواب، ففتح لها ملتح ما أن عرفها حتى تركها تدخل وفرانك لانج معها. في الداخل، كان معظم الحراس من الملتحين، وكان بعض رجال السي آي إيه بقبعاتهم يختلطون بهم. في الممر الطويل، كانت الحركة لا تنقطع، وبنات الهوى في ثيابهن الداخلية الخفيفة يدخلن إلى الغرف مع زبائنهن، ويخرجن منها. كانت قهقهات بعضهن ترن فجأة دون أن يبالي بها أحد، وكان بعض الزبائن من الإثارة بحيث لم يستطع الانتظار، فأخذ يضم، ويلثم، وبنات الليل يتركنه يفعل، وهن يضحكن، ويغنجن، قبل أن يسحبنه إلى غرفة، ويغلقن من ورائهن الباب. في القاعة الكبرى التي في صدر الممر، لم يكن المشهد عاديًا، كان مشهدًا من ألف ليلة وليلة، فالمساند والأفرشة والوسائد والسجاجيد كانت الديكور لطقوس العربدة، وكلها تغرق في بحار الأضواء الملونة. لم يعرف فرانك لانج الكثير ممن كان هناك، لكن أهم من عرف وزير الداخلية، وهو في جلسة "عائلية" بين تسع أو عشر تونسيات بجمال عشتارت، ففكر فرانك لانج في الحب، وفي البحر، وفي الموت. اقترب أكثر ما يكون من الرجل القوي، وحياه، فلم يرد هذا عليه التحية. أشار إلى حراسه الخاصين ليراقبوه، بينما أخذ فرانك لانج مكانًا هناك ليس ببعيد، وراح يعانق بنت هوى شارع سان دُني بعين مفتوحة وأخرى مغلقة. بعد قليل، إذا بفيض من الأنوار في وسط القاعة، وعلى إيقاع الأغنية الشهيرة "جاري يا حمودة"، بدأت خمس راقصات يهززن أردافهن، فوصل التهتك أقصاه.

انسحب رجل التحري الخاص، وصعد الدرج الداخلي المجاور لباب القاعة الكبرى، فمرت به عشر نساء محجبات يقودهن ملتح، لم يعرف أبولين دوفيل بينهن للخمار الذي تضعه على وجهها، بينما عرفته ضابطة الدي جي إس إي، ودارت برأسها متابعة إياه، فرأت كيف ألقى حراس وزير الداخلية الخاصون القبض عليه، ودفعوه خلف أحد الأبواب.

- الحمولة الجديدة وصلت سيدي، قال الملتحي لمدير الماخور الذي، ويا للمفاجأة، لم يكن ملتحيًا، بعد أن دخل عليه تاركًا النساء المحجبات في الخارج.

- أدخلهن، أمر المدير التونسي لبيت الهوى، وهو مشغول بِعَدّ عشرات آلاف اليوروهات.

أشار الملتحي إليهن بالدخول، وهو يكشر قرفًا، فيضاعف ذلك من دمامته. تركهن المدير ينتظرن، وهو يواصل عَدّ العشرات الآلاف من اليوروهات إلى أن انتهى. وضعها في صندوق جداري، وأقفله، ثم جاء ليعاين الحمولة. وبيد عصبية، رفع النقاب عن وجه هذه وصدر تلك أو بطن هذه وفخذ تلك، ومزق الحجاب عن كتف هذه وخصر تلك أو ردف هذه وساق تلك. جاء دور أبولين دوفيل، فعراها على التقريب بهمجية، وغرز مخالبه في لحمها أكثر من مرة. عندما انتهى منهن، أمرهن بالذهاب مع الملتحي، لكنه احتجز الشقراء الساحرة.

- أنتِ، ابقي هنا، أمر مدير الماخور.

وبعد أن وجد نفسه وحده معها:

- لماذا أنت هنا؟

- لماذا أنا هنا؟ لأنني كغيري، أجابت أبولين دوفيل.

- أنت لست تونسية، قال مدير الماخور، وهو يدور حولها.

- لا.

- إذن كيف؟

- هذه هي المهنة التي لي.

- هل أنت قحبة في تونس؟ سأل مدير الماخور، وهو يلتصق بها من ورائها ومن جنبها ومن وأمامها.

- إنها مهنتي، همهمت ضابطة المخابرات الخارجية، ولدي كافة الأوراق التي تثبت ذلك.

انقض عليها، وهو يرمي إلى تقبيلها، لكنها دفعته بكل قواها، وكادت تسقطه أرضًا، والآخر يتلفظ بفاحش السباب. حاول من جديد، فأسقطته هذه المرة على الأرض، وطقت عنقه. سحبته لتخفيه من وراء أريكة، وبسرعة، فتحت جوارير مكتبه بحثًا عن وثائق تريدها إلى أن وجدتها، كانت قائمة بأسماء الشخصيات الرسمية التي تشارك في سوق الدعارة التونسية مع قيمة ما تتقاضاه من عمولات، وكان هناك مسدس حملته، ومن الباب الذي فتحته ألقت نظرة حذرة، ووقعت على أحدهم، وهو يتقدم باتجاهها.

* * *

دخل اثنان من رجال السي آي إيه على فرانك لانج، وحراس وزير الداخلية الخاصون يسومونه خسفًا، وبإشارة من رأسيهما تركوه، وغادروا المكان.

- فرانك لانج، لماذا لا ترتاح أبدًا؟ بدأ رجل السي آي إيه الأول بإطلاق "النار"، نار المشاحنة.

- لأن لدي الحق في المضاجعة أنا أيضًا، همهم رجل التحري الخاص، وهو يحاول استعادة أنفاسه.

- لأن لديك الحق في مضاجعة أمك بالأحرى، قال رجل السي آي إيه الثاني.

- اسمعا، يا صاحبيّ، تلعثم فرانك لانج، اتركاني أذهب، ولن أزعج أحدًا بعد اليوم.

- نتركك تذهب؟ قال رجل السي آي إيه الأول، وهو يضرب جبهة رجل التحري الخاص بحافة المكتب، ويفتحها على صراخ هذا الأخير.

- أنت محترق، فرانك لانج، قال رجل السي آي إيه الثاني، وهو يضربه بكل قواه في بطنه على صراخ هذا الأخير دومًا.

- بماذا أقسم لكما؟ جمجم فرانك لانج بصوت يسمع بالكاد، وهو ينحني على نفسه مستسلمًا.

- بقفا أمك المزعجة، قال أحد القاضيين المعذبين.

انفجر المحكوم عليه بالبكاء، ورجل السي آي إيه الأول يقول له:

- الدين للثورة والثورة للجميع! ألا تريد أن تفهم هذا، يا كلب الخراء؟ القحبات كأمك هن من الذهب الخالص، فاترك النظام الجديد يصوغهن على هواه، هكذا ينظف تونس من قذارة البشرية، ويدغدغ الإسلاميون خُصى ناخبيهم. أموال الدعارة لن تحل كل المشاكل، حتى الشيطان الملهم لكل هذه اللحى كلحية أمك لن يأتي بحل، أما صبر التونسيين، وأملهم بحل هناك في سماء من خراء كامل، فهذا شيء آخر، سيكون من وراء معجزة الثورة الاقتصادية في هذا البلد الثقب التي لن تكون أبدًا.

- اطلبا مني كل ما تريدان، عاد فرانك لانج إلى الجمجمة بصوت يسمع بالكاد.

- أنت محترق، فرانك لانج، كما قلت لك، قال رجل السي آي إيه الثاني، وهو يهم بضربه بكل قواه في ظهره، إلا أنه توقف على صوت أبولين دوفيل التي دخلت، وهي تشهر المسدس.

- جميل كل هذا، أيتها القبعتان! صفرت ضابطة المخابرات الخارجية.

- كابتن دوفيل، همهم فرانك لانج، وهو يجر نفسه ليقف قربها.

- أتمنى ألا أكون قد تأخرت كثيرًا، همهمت أبولين دوفيل، وهي تلمس بإصبع متوترة الدم السائل على جبهة رجل التحري الخاص.

- كان عليّ أن أساوم دون أمل كبير، قال فرانك لانج.

- حقًا، دون أمل كبير لانج، همهمت الشقراء الفرنسية بحزن.

- دون أمل كبير خير ألف مرة من دون أمل، همهم رجل التحري الخاص.

- أفضّل هذا، قالت أبولين دوفيل باسمة، وهل تتألم كثيرًا، يا حبيبي؟

- ماذا؟ أعيدي! طلب فرانك لانج متفاجئًا.

- سألتك فرانك إذا كنت تتألم كثيرًا، أجابت أبولين دوفيل بلهجة ناعمة.

- و...

- يا حبيبي.

- أبولين، يا حبيبتي، يا معبودتي، قولي لي متى سنتزوج؟

- يلعن دين، رشقت الشقراء الساحرة بلهجة قاسية، هل هذا وقته؟ لا بد أني أعمل مع معقد! سنتزوج الآن، يا قفاي، أنت سعيد؟ الآن! تعال، وامتطني لنخلص! ثم: وهذا الخراء، هل نسيت هذا الخراء؟ ماذا سنفعل بهذا الخراء؟ سألت، وهي تشير إلى رجلي السي آي إيه.

- اسمعي، مدموزيل... تدخل رجل السي آي إيه الأول.

- اسمع أنت، يا كلب الخراء، قاطعته ضابطة المخابرات الخارجية. تونس لن تكون لكم أبدًا، كالمغرب، كليبيا، كمصر، كسوريا، ككل العالم العربي، لأن حلفاءكم الإخوان المسلمين سيمرون مرور الكرام، وهذه المنطقة من العالم ستتطور، من حقها أن تتطور، ستتطور، وتتحرر بالفعل، وتفلت من التخلف، تفلت من مخالبكم. ثم إلى فرانك لانج: اربطهما لانج، وكممهما.

- ولكن كيف؟ احتار رجل التحري الخاص.

- يلعن دين، سبت ضابطة الدي جي إس إي، تدبر أمرك، وبسرعة، مزق ما أرتديه من حجاب، إنه ممزق على كل حال، يلعن دين، قلت بسرعة.

بعد أن كممهما فرانك لانج، وربطهما، أمرتهما أبولين دوفيل بالدخول في خزانة، وأغلقتها عليهما بالمفتاح.

- ما هذا سوى أحد الأحداث التي تحققت، همهم فرانك لانج.

- أنت تسمي هذا حدثًا؟ تهكمت أبولين دوفيل.

- الأحداث التي لا شأن لها كالتي لها شأن لا تصنع التاريخ كما يقال عن خطأ لأنها هي التاريخ، في زمن انحطاط أم غيره، ينوجد بها، وتنوجد به، أوضح رجل التحري الخاص.

- هذا لأن التاريخ هو تاريخ أرداف المومسات؟ تهكمت ضابطة المخابرات الخارجية من جديد.

- تقصدين من أرداف المومسات.

- لأن أرداف المومسات الآن فضاء للمعارك التي خاضتها البشرية.

- عندما تتحول المعارك التي خاضتها البشرية إلى مواخير تباع فيها أرداف التونسيات أقول لك نعم.

- وأردافنا نحن أين تضعها؟

- في متحف الشمع.

- متحف الشمع؟ لماذا؟

- لئلا تسيل بين الأصابع المحرقة للبيت الأبيض.

- ألهذه الدرجة يحب البيت الأبيض أردافنا؟

- البيت الأبيض يحب كل الأرداف حتى أرداف السعادين، ما يهم لديه حريته، حريته كمصدّر للكابوس الإسلامي مقابل الحلم الأمريكي، وعلى ظهر الاثنين يجني الثروات الطائلة التي تساعده على البقاء بعد أن أسرف كل ما عنده من أموال، فأفلست بنوكه، وانتهى عهد البذخ الإمبراطوري.

- هل هي بداية النظام البديل إذن تحت ثوب ماريلين مونرو المتطاير؟

- لو كان ابن خلدون مكاني لقال لك نعم. لكن هذه البداية ربما تطول تبعًا للوقت الذي سيأخذه احتضار النظام الحالي، لو كان ابن خلدون لم يزل حيًا لقال لك حتى النظام القادم يبقى دومًا ابن زمنه، منه يأتي، من داخله، وليس من خارجه، لو كان ابن خلدون هنا لقال لك كل شيء.

- فليقل لي ابن خلدون كيف أخرج من هذه الغرفة أفضل بكثير من أي شيء آخر.

- بكل بساطة، من الباب.

- وإذا كان أحد هناك؟

- افتحي الباب أولاً.

فتحت أبولين دوفيل الباب دون أن يكون أحد في هذا الطابق الداخلي، فخف كلاهما إلى المصعد الداخلي، ومنه إلى شارع ريفولي.

القسم الثاني

لم يكن فرانك لانج وأبولين دوفيل متفقين، تونس لن تقف على قدميها، قال رجل التحري الخاص، ستقف تونس على قدميها، قالت ضابطة الدي جي إس إي. أن نستثمر هناك، أضافت الشقراء الفرنسية، وأن نبني المصانع. ضحك فرانك لانج، وراح يردد: يوتوبيا! يوتوبيا! لما تعاني فرنسا من ركود الأعمال ما تعاني، ولا تجد كيف تخرج من أزماتها، كيف سنستثمر هناك، ونبني المصانع؟ لم يكن دافع ذلك التشاؤم، كان دافع ذلك الحس التاريخي. التاريخ عجوز، ونحن نعيش في آخر مراحله: الشيخوخة. إذا مات متنا كلنا، فالتاريخ أوحد، ولن يولد تاريخ جديد، فمن أين يولد؟ التاريخ بركان، ونحن في جوفه، وهو في أقصى فورانه، وهو في أقصى نَوَمَانه، ومن يقول بتغيير النظام العالمي ليتغير كل شيء لهو مخطئ، لأن التاريخ نفخ كل الأنظمة على شتى أنواعها من ضلعه، والنظام العالمي هذا هو آخر نظام، النظام الأخير. أما ما يقال عن الثوريين الجدد كالقدامى، فكله كلام منمق، لأن الإناء بما فيه ينضح. كل هؤلاء عينات زمنهم، لربما كانت عينات تختلف شكلاً، ولكنها تتشابه فعلاً، وهذه هي تونس بالثلاثي الذي يحكمها اليوم كأحسن مثال.

وعلى العكس، كان فرانك لانج وأبولين دوفيل متفقين عندما يتعلق الأمر بالقيم العليا للإنسان، هذه القيم التي لا تشيخ، والتي بها يمكن تجاوز أقسى الشروط، والذهاب مع التاريخ إلى نهايته بشكل أقل تراجيدية. بنات هوى تونس اللواتي يبعن مفاتنهن في باريس ليملأن خزائن الدولة بالعملة الصعبة بعد كساد السياحة فكرة ثورية من ناحية، ومن ناحية فكرة مهينة ومشوِّهة ومستلِبة. إذن صفقة القِوادة هذه يجب إيقافها، ولإيقافها يجب الذهاب إلى تونس. لن تتوقف العملية بفضح بعض الأسماء، لأن عملية كهذه في البؤس التونسي هي بالفعل ثورية، وهي بالفعل تاريخية، ستتكلم وسائل الإعلام، وستكون ضجة، لكن لن يلبث أن يهدأ كل شيء. يجب الذهاب إلى تونس، والبحث مع الحكم الجديد عن وسائل أخرى تتحايل على التاريخ بقدر ما يستطيع الخيال إنتاجه، فالتاريخ لا يمكن خداعه بسهولة. عندما يكون العجز كاملاً، وتنعدم الوسائل، يبقى الخيال من أجل البحث عن مخرج غير مهين وغير مشوِّه وغير مستلِب.

*

كان من المنتظر أن تكون لبنى بن عثمان، رئيسة جمعية بنات الهوى، باستقبال أبولين دوفيل وفرانك لانج في مطار قرطاج، فتقدم من أبولين دوفيل وفرانك لانج شاب ذو لحية شقراء ناعمة، وقال لهما إنه قادم من طرفها.

- هل وقع لها شيء؟ سألت ضابطة المخابرات الخارجية.

- لم يقع لها شيء، أجاب الشاب، إنها متوعكة.

- كانت على الهاتف مساء أمس لا تشكو من شيء، قال رجل التحري الخاص، وهو يلمس اللصقة الصغيرة التي على جبهته.

- في تونس اليوم لا تسأل كيف كنت مساء أمس، قال الشاب.

- إلى هذه الدرجة؟ تهكمت أبولين دوفيل.

- إلى هذه الدرجة، ابتسم الشاب، قبل أن يشير إليهما باللحاق به.

سار الشاب ذو اللحية الشقراء الناعمة بسرعة، وهما يسحبان حقيبتيهما، ويغذان السير من ورائه دون أية صعوبة، فالمطار فارغ تقريبًا، وليس هناك الكثير من المغادرين كالقادمين. خارج المطار، فتح الشاب صندوق سيارة مرسيدس سوداء، وضعا فيها حقيبتيهما، وهو يقول لهما:

- ستنزلان في فندق ابن خلدون.

- لو كان ابن خلدون هنا! قالت أبولين دوفيل لفرانك لانج، والشاب يبتسم دون أن يفهم شيئًا.

- إنه قريب من كل شيء، أوضح الشاب.

- وهل سنذهب لنرى لبنى بن عثمان؟ سأل رجل التحري الخاص.

- هي من ستأتي لتراكما، قال الشاب، وهو يشير إليهما بالركوب.

- متى؟ سألت ضابطة المخابرات الخارجية.

- لا أعرف، أجاب الشاب، وهو يركب، ثم بعد أن ركبا، وهو يسوق: لا تقلقا من أجلها، ارتاحا من عناء السفر، وكل شيء سيكون كما تريدان.

وسيارة المرسيدس السوداء تشق بهما شوارع تونس، كانا ينظران من حولهما، ويريان أن كل شيء كما يعرفانه في زمن العهد القديم. كانت الشمس القوية نفسها، والبنايات البيضاء، والعابرون الذين يبدو عليهم التفكير في شيء لا يعرفه أحد غيرهم. كان يطبع وجوههم كل غموض الغربة على الرغم من وجودهم في بلدهم، وكان يثقل هاماتهم كل عناء الوقت على الرغم من بطء عقارب الساعة. وسيارة المرسيدس السوداء تصعد بهم شارع الحبيب بورقيبة، لفت انتباههما أن أرصفة المقاهي خالية من الرواد، لكنهما لم يلاحظا أي فرق في المعاملة بين محجبة وسافرة. كانت كل امرأة تمضي في سبيلها، وكل رجل يمضي في سبيله.

- أرصفة المقاهي لماذا خالية؟ سأل فرانك لانج الشاب.

- لأن الناس اليوم يفضلون الذهاب إلى المساجد، أجاب الشاب، وهو يبتسم.

- والكحول؟ عاد فرانك لانج يسأل.

- ماذا الكحول؟ طلب الشاب.

- هل هو ممنوع؟

- لا.

قال رجل التحري الخاص وضابطة المخابرات الخارجية لنفسيهما، أرصفة المقاهي خالية من الرواد ليس لأنهم اليوم يفضلون الذهاب إلى المساجد. كانت رائحة من الكبت تفوح في الأجواء كرائحة الياسمين الذي تباع باقاته إلى جانب كل أنواع الزهور في الرصيف الأوسط للشارع الشهير.

أول ما ترك الشاب أبولين دوفيل وفرانك لانج في فندق ابن خلدون، أخذا تاكسي إلى جمعية بنات الليل. لم يريا مسئول الاستقبال، وهو يتلفن ليخبر عن خروجهما، لكنهما وجدا باب فيلا الجمعية مغلقًا، وكذلك نوافذها. أعطيا للسائق أجرته، وتركاه يذهب. سيدخلان على طريقتهما، وسيحاولان فك كل هذه الألغاز، أليست هذه هي مهنتهما؟ دارا حول الفيلا، وبحجر كسرا زجاج نافذة، وأمكنهما بعد ذلك الدخول. في الصالون كانت عدة لوحات معلقة لأشهر المساجد في العالم، وعلى جدار الدرج الصاعد إلى الطابق الأول علقت صورة كبيرة لزعيم الإسلاميين، ماجد الغنوجي. في غرفة بالوجه المقابل دخلا، كان مكتب لبنى بن عثمان. عرفا أنه مكتبها من صورتها، وهي محجبة. بحثا عما يساعدهما على فك اللغز الذي صارته دون أية فائدة، لم تكن هناك وثائق ولا صور ولا فواتير، لم تكن هناك ظلال ولا آثار ولا لطخات.

وهما ينزلان الدرج، إذا بهما وجهًا لوجه مع امرأة تبتسم لهما، وهذه تقول لهما:

- اطمئنا، أنا لست منهم، كنت هناك عندما جاء التاكسي بكما، فتبعتكما عن كثب.

سلمت عليهما بحرارة:

- أنا رئيسة جمعية المعلمات، واسمي نزيهة، نزيهة الشابي، الشابي كالشاعر.

ابتسمت أبولين دوفيل كما لو كانت تبتسم لإحدى آلهات الفينيقيين، كانت نزيهة الشابي تتألق، خداها الحمراوان لخجل سري، وعيناها الواسعتان المضيئتان بكل أسرار العبادة، ولون بشرتها الأبيض الأحمق، الأحمق لأنه لم يكن بياضًا لكل فتيات الكون.

- ما الذي تريدين قوله لنا، مدموزيل شابي؟ طلب فرانك لانج بلهجة جافة.

قطعت نزيهة الشابي ابتسامتها، وتوجهت بالكلام إلى أبولين دوفيل:

- لبنى بن عثمان في أيدي الوحدة الخاصة.

- لم تزل هناك وحدة خاصة بعد بن علي؟ سألت الفرنسية الشقراء، وهي تداوم على الابتسام للإلهة الفينيقية.

- تجدونها الآن في أقبية وزارة الداخلية، كشفت رئيسة جمعية المعلمات.

- لماذا؟ عاد فرانك لانج يطلب بلهجته الجافة، قولي لنا لماذا، مدموزيل شابي.

- باختصار لأنها رفضت تعهير المعلمات، قالت نزيهة شابي لاهثة، وقبل ذلك تعهير الموظفات، وتعهير العاطلات عن العمل، وتعهير نساء المنازل، النساء عامة، تعهيرهن، وبدلاً من ذلك استنفرت الجمعيات والنقابات على الحكم، فكان القرار بمعاقبتها أقسى عقاب.

انهارت رئيسة جمعية المعلمات، وانفجرت تبكي، فأخذتها أبولين دوفيل بين ذراعيها، وهدأتها.

- لا تبكي، يا حبيبتي، همست لها.

فجأة، توقفت نزيهة الشابي عن البكاء، وقالت:

- يجب إنقاذ الابنة الحق للثورة.

- سنذهب إلى وزارة الداخلية، لانج، قالت أبولين دوفيل لرجل التحري الخاص.

- وماذا سنقول لهم؟ تهكم فرانك لانج. لبنى بن عثمان زائرة تنزل في مضيفكم، ونحن نريد أن نراها؟

- بالضبط، هذا ما سنقوله لهم. هم يعرفون من أنت، من أنا، ولسوف يستجيبون، وإلا جعلنا من الحادث حدثًا عالميًا، أليسها الأحداث التي تصنع التاريخ، ويصنعها؟ أم أنك نسيت؟ ولا تنس أنك تنزل في فندق ابن خلدون على حسابهم، يعني أنهم يعترفون بك، ويقدرونك حق قدرك، ويحسبون ألف حساب كيلا يثيروا غضبك.

- سأوصلكما بسيارتي، قالت نزيهة الشابي، وهي تتألق من جديد متجهة نحو الباب.

- لكنه موصد، يا حبيبتي، أوقفتها الفرنسية الشقراء.

- لقد نسيت تمامًا.

- بعدك، يا حبيبتي.

جعلتها تخرج من النافذة أولاً، ثم خرجت هي، ففرانك لانج.

*

ما أن غادر فرانك لانج وأبولين دوفيل ونزيهة الشابي المكان في السيارة الفورد الزرقاء حتى وصلت سيارتان مرسيدس سوداوان فيهما عدد من أفراد البوليس السري، كانوا كلهم من أصحاب اللحى. حطموا باب فيلا جمعية بنات الهوى، ودخلوا كالمجانين. رأى رئيسهم زجاج النافذة المحطم، وفهم كل شيء. أخذ يصرخ في مأموريه، ويضرب، وهم يتدافعون إلى حيث كانت سيارتا المرسيدس السوداوان. امتطوهما، وذهبوا بسرعة البرق.

قالت رئيسة جمعية المعلمات، وهي من وراء مقودها:

- لم يتغير شيء في وزارة الداخلية، وحدتها الخاصة، هي والبوليس السري ظلتا رب تونس. ما تغير في العهد الجديد خوف الناس الذي غدا أقل من السابق، أو لم يعد له وجود. لهذا هم لا يكمشون أحدًا بمخالبهم إلا بعد أن يحسبوا للأمر ألف حساب، وحالة لبنى بن عثمان خير مثال.

- ولماذا أرصفة المقاهي فارغة؟ سأل فرانك لانج.

- لأن الناس اليوم يفضلون الذهاب إلى المساجد، رمت نزيهة، وهي تبتسم. ثم نفت: لا، ليس صحيحًا.

- ربما لأنهم يثرثرون كثيرًا، وهذا ما لا يحبه البوليس السري، علقت أبولين دوفيل.

- المقاهي دومًا ما كانت أفضل مكان للثرثرة، أوضحت نزيهة الشابي، ولكن ليس هذا هو السبب. السبب هو البحر.

- ماذا؟! صاح الفرنسيان بصوت واحد.

- يشاع أن شواطئ تونس ستعرض للبيع من أجل إحياء السياحة، أجابت رئيسة جمعية المعلمات، وكل التوانسة يقومون ويقعدون على الرمال بعد أن توزعوها فيما بينهم... نحن لسنا بعيدين الآن عن وزارة الداخلية.

- فكرة جهنمية لانج، تهكمت ضابطة المخابرات الخارجية، لو كان ابن خلدون هنا لقال لك كل شيء.

- أكثر ما يشغلني الآن مصير رئيسة جمعية بنات الهوى، همهم ضابط التحري الخاص.

- هنا، قالت نزيهة الشابي، سأقف هنا، من الأفضل ألا يعرفوا أنني أحضرتكما. اقطعا الرصيف، وعلى بعد مائة متر وزارة الداخلية، ستعرفانها بسهولة من بنايتها الرمادية على عكس كل بنايات تونس البيضاء.

نزلا من السيارة، وهي تضيف:

- بالطبع سأنتظركما.

وتألقت ابتسامًا، وللمرة الأولى لاحظت أبولين دوفيل أن غمازتين وسط خديها التفاحيين نقرهما عصفور مغرم، وأن لون شعرها مزيج من الخروب والحناء.

*

بعد أن قدما نفسيهما إلى رئيس الوحدة الخاصة، ولماذا كانا هناك، قال لهما الكولونيل الذي بقي جالسًا من وراء مكتبه، تحت صورة لبن علي، إن لبنى بن عثمان، غادرت وزارة الداخلية إلى الجولاج.

- ماذا؟! صاح الفرنسيان بصوت واحد.

- إنه معتقل حمام الشط، أوضح الضابط، قبل الثورة هكذا سماه الناس، الجولاج، وبعد الثورة بقي اسمه على حاله.

- هل أنت واثق مما تقول كولونيل؟ سأل فرانك لانج بلهجة خشنة.

- كيف لا أكون واثقًا، وأنا من أرسلها هناك، نبر الضابط.

- ولكني لا أثق بما تقول كولونيل، قذفت أبولين دوفيل في وجهه.

- انتهى عهد الكذب كابتن دوفيل، قذف الضابط بدوره في وجهها، تعالا معي إذا كنتما لا تصدقانني.

نهض من وراء مكتبه ببطنه الضخمة، وتعمد المرور من وراء الشقراء الساحرة، والاحتكاك بها. قهقه تحت نظرات ضابطة المخابرات الخارجية السوداء من الغضب، وأشار إلى زوج التحري بأن يتبعه.

في الطابق التحت-الأرضي، فتح الحراس الباب الحديدي الضخم أول ما رأوا رئيسهم.

- ليس لدينا الكثير من الموقوفين كالماضي، همهم الكولونيل، وعليكما أن تتأكدا بنفسيكما من ذلك. بعد الثورة، لم يعد لدينا ما نخفيه على أحد.

وهم يمرون بقفص، قفز فجأة كلب شرس، وأخذ ينبح مبديًا أنيابه. أعطاه الكولونيل حبة سكر، وداعبه من عنقه، "لطيف أنت! لطيف أنت!"، ردد الكولونيل إلى أن هدأ تمامًا. في الزنزانة المجاورة، رأى فرانك لانج وأبولين دوفيل شابًا معضوضًا، وهو يغرق في دمه.

- سنرسله إلى الإسعاف، أوضح الكولونيل، فلا تقلقا من أجله.

في الوجه المقابل كانت امرأة على الأرض تلهث، وهي تفتح، وتقفل فخذيها الدمويين، وتردد:

- لقد اغتصبوني كلهم، أبناء القحبة، كلهم، لقد اغتصبوني كلهم!

- لا تستمعا إليها، قال رئيس الوحدة الخاصة.

- وهذه أيضًا يجب إرسالها إلى طبيب، قالت أبولين دوفيل.

في إحدى الزنازين، كانت ثلاث حمائم ذبيحة، وفي زنازين أخرى، كان شبان مضمدون، ولكن كانت نظراتهم ميتة.

- نحن نُعنى بنزلائنا كما تريان، همهم الكولونيل.

- أليس كذلك كولونيل الخراء؟ قذفت أبولين دوفيل.

- شكرًا على الإطراء كابتن دوفيل! رد رئيس الوحدة الخاصة.

- ولماذا أرسلتها إلى الجولاج، لبنى بن عثمان، كولونيل الخراء؟ ثَنَّى فرانك لانج.

- لأن كولونيل الخراء هذا رحيم القلب، أجاب الضابط، أنا مع العنيدين لا أستطيع شيئًا أما هم...

- لنخرج من هنا لانج، طلبت ضابطة الدي جي إس إي، وهي تسارع إلى مغادرة زنازين التعذيب.

لحق بها رجل التحري الخاص دون أن يفوه بكلمة، فالكولونيل الذي داعب الكلب الهائج إلى أن هدأه. في الممر، صاح من ورائهما:

- مع السلامة.

فاستدارت أبولين دوفيل، وانقضت عليه كاللبؤة، مسددة قبضتها إلى كرشه الضخمة. وهو ينحني على نفسه من الألم، ضربه فرانك لانج بحذائه، وأسقطه أرضًا. زحف الكولونيل بصعوبة حتى مكتبه، وفي الهاتف، قال لاهثَا:

- إنهما في الطريق إلى حمام الشط.

*

وهم في الطريق إلى حمام الشط، شرحت رئيسة جمعية المعلمات لأبولين دوفيل وفرانك لانج أن جولاج حمام الشط هو المقر السابق لمنظمة التحرير الفلسطينية حيث كانت مكاتب عرفات وسجونه التي يرمي فيها معارضيه، وبعدما ضربه الإسرائيليون، جعل بن علي منه معتقله الرهيب. لم تكن سيبيريا الفضاء لقتل الوقت والإنسان، فكان على المعتقلين أن يملأوا الأكياس بالرمل في الصباح، ويفرغوها في المساء. كانوا على موعد كل يوم مع العدم، إلى أن ينفقوا الروح.

- ولماذا لم تحطمه الثورة كما حطمت ثورتنا معتقل الباستيل؟ سألت ضابطة المخابرات الخارجية، وهي ترتعش من الغضب.

- الثورة لم تحطم سوى عربة محمد البوعزيزي، أجابت نزيهة الشابي بلهجة مُرة.

- أنا أسمع ضحكات المعتقلين، ولا أسمع ضحكة لبنى بن عثمان، همهم فرانك لانج.

- هل تعتقد أنهم قتلوها لانج؟ همهمت أبولين دوفيل مكربة.

- يعذبونهم، فيضحكون، عاد رجل التحري الخاص إلى الهمهمة.

- لقد قتلوها، لقد قتلوها، رددت نزيهة الشابي مضيعة.

- قل لانج، هل تعتقد أنهم قتلوها؟ عادت ضابطة الدي جي إس إي إلى الهمهمة.

- أنا أسمع أنغام البالالايكا، همس فرنك لانج.

- لقد قتلوها، لقد قتلوها، لقد قتلوها، صرخت التونسية، ووجهها القمري يدخل في طور المحاق.

- أنغام البالالايكا، عاد فرانك لانج إلى الهمس.

- آه، يا إلهي! ابتهلت أبولين دوفيل.

صمت ثلاثتهم طوال الطريق إلى حمام الشط، كانت الطريق طويلة، لكنهم صمتوا، وهم يحدقون في اللاشيء، ويصغون إلى صوت البحر القادم من كل الجهات. لم يكن بحر تونس يبين للعين، لكنه كان هناك، على مقربة من جهة ما، وكانوا يسمعون صوته. كان الصوت يشبه غناء حور قرطاج، كان عذباً، لم يكن حزينًا، كان ينقل كل مرح الأمواج منذ عرائس الفينيقيين إلى شهداء سيدي بوزيد.

أول ما رأوا، وهم على مقربة من المعتقل الرهيب، الأسلاك الشائكة التي تحيط به، أسلاك غريبة الشكل، عندما تراها تحس بانغرازها في جسدك، لا شيء سوى أن تراها، مجرد أن تراها، وهي بارزة كأصابع القدر، قادرة، هيابة، قوية، مهلكة، مدمرة. أشارت نزيهة الشابي إلى ناحية لم يزل الردم فيها منذ الغارة الإسرائيلية، وقالت:

- لقد حولوا هذه الناحية إلى مقبرة للجماجم.

- هنا يضاجع الشيطان المعتقلات، همهم فرانك لانج.

- هنا تقع المعتقلات في حب الشيطان، همهمت أبولين دوفيل.

- كم من مرة حلمت في مضاجعة الشيطان، همهمت رئيسة جمعية المعلمات، وأوقفت سيارتها.

في الداخل، كان المعتقلون يملأون الأكياس بالرمل، ويرمون الفرنسيين بنظرة مرتابة. تعثرا بجثة امرأة ملقاة دون أن يبالي بها أحد، كانت عارية الفخذين، ومن مهبلها يسيل مائعًا أحمر لم يكن دمًا. ابتسم الحارس المرافق لهما، وأوضح:

- جعلناها تأكل الهريسة من فرجها لشد ما كانت تحبها.

فجأة، تسلق قضبان زنزانة جماعية عشرات النزلاء المعدمين الذين هم أشبه بنزلاء أوشفتز. مدوا أيديهم ليمسكوا بالشقراء الفرنسية، وهم يبتسمون ابتسامة الموت. تأوهت أبولين دوفيل من شدة الألم، وكذلك فعل فرانك لانج، ثم وجدا نفسيهما وجهًا لوجه مع ضابط الجولاج.

- باسم ستالين أرحب بكما، هتف الضابط، وهو يضرب بكعبه الأرض.

- يبدو أن كل شيء على أحسن ما يرام في جولاجك، قذف فرانك لانج في وجه الجلاد.

- كل شيء، كل شيء، ردد الضابط الدموي، وهو يضرب بكعبه الأرض.

- كل شيء، همهمت أبولين دوفيل غائبة بعض الشيء.

- أنتما هنا في زيارة رسمية؟ سأل مدير المعتقل، وهو يضرب بكعبه الأرض.

- نحن هنا في زيارة خاصة، خاصة جدًا، أجاب رجل التحري الخاص، لنتعلم آخر مستجدات القمع في القرون الوسطى.

- أهلاً ومرحبًا بكما، هتف ضابط المعتقل، وهو لا يتوقف عن ضرب الأرض بكعبه.

- خذنا في الحال لنرى لبنى بن عثمان، رئيسة جمعية بنات الهوى، نبرت ضابطة الدي جي إس إي.

- أنا لا أستطيع تلبية طلبك كابتن دوفيل مع الأسف، نبر الرجل الدموي دون أن يضرب هذه المرة بكعبه الأرض.

- هل ابتلعها الشيطان؟

- حتى الشيطان لم يقدر على ابتلاعها.

- لماذا؟

- لأنها هي الشيطان.

- إلى هذه الدرجة؟

- إلى هذه الدرجة، أكد مدير الجولاج، وعندما فطن إلى أنه لم يضرب بكعبه الأرض، فعل ذلك عدة مرات.

- كف عن هذا، خراء! نبر فرانك لانج.

- سأكف عن هذا، هتف الرجل الدموي، وهو يضرب بكعبه الأرض.

- ما الذي فعلته في لبنى بن عثمان؟ نبرت أبولين دوفيل.

- كل شيء، أجاب ضابط المعتقل، وهو يمسك نفسه عن ضرب الأرض بكعبه.

- كل شيء كيف؟ عادت ضابطة المخابرات الخارجية تنبر.

- كل شيء، الاغتصاب، الحرق، الكهرباء، الماء، اقتلاع الأظافر، اقتلاع الرموش، اقتلاع المسام، نعم حتى المسام، عدّدَ الرجل الدموي، وهو يمسك نفسه عن ضرب الأرض بكعبه مضيفَا: كهذه الثورية أنا في حياتي لم أر! ثم وهو لا يمسك نفسه.

- الهيكل العظمي في الخارج هو هيكلها إذن، جمجم رجل التحري الخاص.

- يؤسفني أن أقول لك لا، ليس هيكلها، وضرب الضابط الجلاد بكعبه الأرض.

- أينها، صاحت أبولين دوفيل، وهي تقبض عليه من خناقه، وتهزه هزًا عنيفًا.

- في مستشفى الأمراض العقلية، أجاب، والجبان يرتعد من الخوف.

أراد أن يضرب بكعبه الأرض، لكن أبولين دوفيل منعته بقدمها، وأوقعته على الأرض. سدد فرانك لانج كعبه إلى دماغ الجلاد، وخرج بسرعة مع ضابطة الدي جي إس إي. وهما يخرجان من البوابة، رأيا ثلاثة من أصحاب اللحى، وهم يجذبون نزيهة الشابي من سيارتها الفورد الزرقاء ليضعوها في سيارتهم المرسيدس السوداء، وينطلقون بها دون أن يتوقفوا على صيحات التحريين. امتطيا سيارة المختطفة، وذهبا في مطاردة لم تنته إلا بعد أن حطم فرانك لانج دعامة المرسيدس الخلفية، وفي طريق طويلة رملية كادت تلقي بهم في البحر. ها هو بحر تونس في الأخير، فكر الفرنسيان. أوقف رجال البوليس السري سيارتهم بشكل مباغت، وذهبوا على أقدامهم هاربين. خرجت نزيهة من السيارة المرسيدس السوداء، وهي تبكي، وألقت بنفسها بين ذراعي الشقراء الساحرة.

للمتابعة اذهب الى الصفحة الثانية / انقر التالي ادناه

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.