اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• مدينة الشيطان / رواية - 3

القسم الثالث

تناول فرانك لانج وأبولين دوفيل طعام العشاء في مطعم فندق الملك داوود الذي ينزلان فيه، كانت المقبلات خضروات متنوعة اسمها "جورج الثاني"، والطبق الرئيسي اسمه "الإرغون"، بالدجاج والبطاطا، والتحلاية قطعة من تورتة اسمها "الملكة نازلي". وهما في المصعد، شكت ضابطة الدي جي إس إي من ألمها.

- ألم قدميك، همهم رجل التحري الخاص مضطربًا.

- ألم قدميّ وساقيّ وفخذيّ، والآن خاصرتيّ، وكتفيّ، وكلي.

- سأحضر لك طبيبًا.

- لا تحضر، سآخذ حبة دوليبران.

- لن تنفع.

- لا تقلق.

خرجا من المصعد، واتجها إلى حجرتيهما المتجاورتين.

- إذا أردت دلكتك، قال فرانك لانج.

- سآخذ حبة دوليبران، وسأنام، أنا تعبة.

- أنا تعب مثلك لكني لن أنام وأنا أفكر فيك.

- هذا لطف منك فرانك.

- تصبحين على خير.

- تصبح على خير فرانك.

عند منتصف الليل، وفرانك لانج في بيجامته يتابع الأخبار على فرانس24، إذا بطرقات قوية على بابه. فتحه بسرعة، وكل أبولين دوفيل في قميص النوم تسقط بين ذراعيه.

- أبولين، يلعن دين.

حملها، ومددها على السرير.

- آلو! ابعثوا من وراء طبيب للحجرة 69، أمر في الهاتف، وأقفل.

- لماذا فرانك؟ همهمت أبولين دوفيل.

- مستحيل أن أتركك هكذا، نبر فرانك لانج.

- أنا لا أريد فرانك، همهمت الشقراء الساحرة.

جلس إلى جانبها، وجس جبينها.

- لا حرارة عندك، همس رجل التحري الخاص.

- أرأيت؟

- سيقول لنا الطبيب لماذا كل هذا، وسيعطيك علاجًا.

- لم تنفع حبة الدوليبران.

- سيعطيك علاجًا ينفع.

- ماذا لو مت فرانك؟

- اسكتي، يلعن دين.

- سأسكت، يلعن دين، أعادت، وهي تحاول الابتسام. أنا أعرف لماذا، عادت ضابطة المخابرات الخارجية إلى القول.

- تعرفين لماذا؟

- أنا أعرف لماذا.

- لماذا؟

- لأن كل هذا اللعنة.

- اللعنة!

- شيء أشبه بلعنة الفراعنة.

- أنت تهذين، يا حبيبتي.

- أنا لا أهذي، قلتَ لا حرارة عندي.

- الهذيان ممكن دون حرارة.

- أنا لا أهذي فرانك. كل هذا كان مكتوبًا.

- كان مكتوبًا أين.

- هل نسيت لماذا نحن هنا؟

- لم أنس.

- كل هذا كان من اللازم أن يقع. مدينة الشيطان، المخطوط المفقود الذي نعيد كتابته، كل هذا من اللازم أن يقع.

- وما علاقتك أنت بكل هذا؟

- علاقتي اللعنة. ملعون كل من أمسكه، ملعون كل من فتحه، ملعون كل من قرأه.

- آه، يا إلهي!

- أنت خائف عليّ فرانك؟

- أنا خائف عليك.

- لا تخف عليّ أرجوك.

- طيب.

- لا تخف عليّ.

وصلتهما دقات خفيفة على الباب، فهب رجل التحري الخاص ليفتحه: كان الطبيب.

- من هنا، همهم فرانك لانج.

- ما بها؟ سأل الطبيب أول ما رأى أبولين دوفيل في السرير.

- تشكو من آلام في كل جسدها. بدأ الألم في قدميها ثم راح يصعد إلى ساقيها ففخذيها فخاصرتيها فكتفيها فكلها، ومنذ قليل سقطت بين ذراعيّ.

- هذا الساندروم اسمه ساندروم القدس، همهم الطبيب بعد أن فحصها.

- ماذا؟ صاح فرانك لانج حائرًا.

- لا خطر هناك من هذه الأعراض. هل هذه هي المرة الأولى التي تزور فيها القدس؟

- أعتقد ذلك.

- فلتطمئن. ساندروم القدس. سأكتب لها بعض المسكنات، وخلال يومين أو ثلاثة، ستذهب عنها كل آلامها.

كتب على طاولة قصيرة بعض الأدوية، وقام، وهو يقول:

- سيحاسبني الفندق.

خرج، وهو يغلق الباب من ورائه.

*

في صباح اليوم التالي، كانت أبولين دوفيل تنتظر مع فرانك لانج في الصالون التاريخي للفندق وصول سامي. كانت ضابطة المخابرات الخارجية تبدو في صحة جيدة.

- هذا سحري، الدواء، همهمت أبولين دوفيل.

- لا توقفيه، همهم فرانك لانج.

- لن أوقفه.

- وبعد ثلاثة أيام سيكون كل شيء على ما يرام.

طلع عليهما سامي بقامته المديدة، وابتسامته الوضاحة، وقال لهما:

- التاكسي بانتظارنا.

- لنذهب، قال التحريان معًا.

وهما في التاكسي، كانا ينظران إلى التنافر بين العابرين: الحريدي والإسلامي والفلاحي والمدني والأوروبي والأفريقي والعسكري والبوليسي والأشقر والأسمر والأحمر والأصفر والطويل والقصير والنحيف والسمين والدميم والجميل، كان شيء شيطاني في كل هذا. وعلى مسافة غير بعيدة، كان المقدس ينظر إلى حيث ينظران دون مبالاة جعلتهما يفكران في إرادة ربانية تتواطأ مع إرادة بشرية. كان البشري وفوق البشري صورتين لإرادة واحدة، وكل هؤلاء كانوا حجارة شطرنج لا أكثر. لاح لهما من بعيد سور الملك سليمان، كان السور عاليًا بعلو السماء، ومرة أخرى كان البشري وفوق البشري صورتين لإرادة واحدة. وعندما اقترب التاكسي بهما من حائط المبكى، ورأيا المؤمنين الذين يتعبدون في ظله، فكرا في الحي اللاتيني، وعلى التحديد في قناطر الحي اللاتيني، وفي العبّارات التي تعبر نهر السين، ومرة أخرى وأخرى كان البشري وفوق البشري صورتين لإرادة واحدة.

- لا يمكنني الابتعاد أكثر، همهم السائق.

دفع سامي للسائق، وقال للفرنسيين، وهو يدفعهما من أمامه:

- سنجتاز باب المغاربة، ومن وراء المسجد الأقصى سنأخذ زقاقًا إلى بيتنا. يقع بيتنا في الحوش الرابط بين الحي الإسلامي وحارة النصارى وحارة الأرمن وحارة اليهود. ليس بعيدًا.

بقي ثلاثتهم صامتين، كانت الحفريات للبحث عن الهيكل تثقب الفضاء، فانتهى المقدس، وغاب ما فوق البشري. لم يبق إلا ما هو بشري، وكم كان الأمر كلبيًا. كانت رائحة خبيثة لا علاقة لها بالطهر في شيء تفوح من كل ناحية، وكان يصل الأذن عواء حاد يجرح كالشفرة.

- كل هذا العواء فرانك، شكت أبولين دوفيل.

- أي عواء؟ استغرب سامي.

- تحملي، يا حبيبتي، همهم فرانك لانج.

اخترقا الحوش، حوش قديم، عمره ألف عام ربما أو يزيد.

- ستي، صاح سامي من الباب.

- أنا هنا، أجاب صوت هرم.

- لقد وصلنا.

- هنا في وسط الدار.

ما أن اجتاز فرانك لانج وأبولين دوفيل المدخل حتى وجدا نفسيهما أمام امرأة عجوز سمراء على خدها شامة كبيرة تمامًا كيوسف آدم، والد سِلِسْتا.

- تعالي هنا، يا حبيبتي، على الدوشك جنبي، طلبت الجدة من أبولين دوفيل. ما أحلاك! وأنت الطويل كابن بنتي سامي، اجلس أمامي. ثم لسامي: اعمل قهوة للضيوف على كيفك.

- حاضر، قال سامي قبل أن يختفي في عتمة البيت.

- أمه سلمى، بعد ما سمعت كل الحكاية من فمي، بدأت الجدة الكلام، حملت أغراضها، وراحت إلى اللد عند زوجها. حلفت ألا تتعرف عليّ الجاحدة.

- في المعتقل؟ سأل فرانك لانج.

- يا ليت في المعتقل، رمت العجوز، وهي تضحك، لن تجد مكانًا، ولا غرفة، كفندق الثلاث نجوم. زوجها حالفه الحظ، أما هي.

- زوجها من كتائب الأقصى، سألت أبولين دوفيل.

- لا كتائب الأقصى ولا بطيخ، زوجها مجنون، أهبل عدم المؤاخذة. كنا كلنا مبسوطين، ماذا استفاد؟ ماذا استفدنا كلنا؟ سامي مجنون كأبيه، أنا خايفة عليه. وصاحت، القهوة، يا سامي. ثم لهما: من أين تريدانني أن أبدأ؟ عائلة كنعان، عائلتنا، أسرارها كثيرة حتى الشيطان لا يعرفها. ها هي قهوة سامي، هل تشمين، يا حبيبتي، رائحتها؟

- أشم، قالت ضابطة الدي جي إس إي، وهي تسحب نفسًا طويلاً، وتبتسم.

- قهوة عالريحة كما يهواها قلبك ستي، همهم سامي، وهي يسكب القهوة من بكرج نحاسي في ثلاثة فناجين صغيرة على صينية.

- شكرًا سامي، تمتم فرانك لانج، وهو ينقل فنجانه.

- شكرًا سامي، تمتمت أبولين دوفيل، وهي تنقل فنجانها.

- شكرًا حبيبي، قالت الجدة، وسامي يضع فنجانها أمامها. رح أنت الآن، واتركني مع الضيفين. لن أزعجك معي من جديد، لديك ما هو أهم أو ما هو أسوأ. رح، يا حبيبي.

- طيب، قال سامي. ثم: مع السلامة، هتف سامي قبل أن يغادر البيت.

- لم تزل هنا، يا بنت بنتي؟ صاحت الجدة بعد قليل. سامي راح. تحيا الحرية! هتفت، وهي تُخرج من تحت المسند علبة سجائر وعلبة كبريت تخبئهما. لو رآني أشرب السجائر لذبحني. ليس هناك في الوجود ألذ من شرب سيجارة أمريكية مع فنجان قهوة تركية. خذي، يا حبيبتي، اشربي. وأنت، يا حبيبي، خذ، اشرب. وبعد عدة أنفاس: هل رأيتماهم، مجانين حائط المبكى؟ من ناحية ألوهيم، ناحية حائط المبكى، ومن ناحية الله، ناحية فناء الأقصى. وكلهم اللهم، اللهم، اللهم، وكله كلام، ومش صح. الإيمان الصح في القلب، وليس على رؤوس الأشهاد. اللهم، اللهم، اللهم. يلعن السماء، يلعن الله، يا رب اغفر لي، خلونا نكفر، اللهم، اللهم، اللهم، يا رب ابعد الشيطان. في كل ليلة منذ تركني يعقوب إلى اليوم، والشيطان يأتيني في الليل، ويُدخل قرنه فيّ. هذا اللحم الميت يتفتح كالورد، وطوال الليل يأخذني بين ذراعيه. طوال الليل أنا والشيطان في أحضان بعضنا، نُقبل بعضنا بحب ليس بعده حب، من الثغر، ومن الثدي، ومن البطن، ومن تحت البطن، ومن الفخذين، ومن الساقين، ومن القدمين، ومن أصابع القدمين، نقبل بعضنا بشيطانية، ونعض بعضنا بوحشية، فتخرج كل الوحوش من جسدينا، الأسود تزأر والذئاب تعوي والوطاويط تصرخ، كل الوحوش، بكل الشبق، وكل الشوق، وكل المتعة، تصرخ، حتى آخر الليل تصرخ. وعند آخر الليل، يصيبنا التعب، فيلقي الشيطان بجسده على جسدي، وننام كأسعد مخلوقين على وجه الأرض. وبعد عدة لحظات من الصمت، تهمهم مضيعة: أحدهم يطرق على الباب، هل تسمعين؟ اصغي جيدًا. ربما كان يعقوب. تسيل من عينها دمعة، فتمسحها بطرف ثوبها، وتهمهم مضيعة من جديد: أنا سلوى كنعان ويعقوب آدم وقاسم كنعان أخي كبرنا مع بعض في هذا الحوش، لم يكن هذا كل الحوش، كان الحوش أكبر بكثير. قبل أن يهاجر أبراهام، الجد الأكبر، وأسرته من فرنسا عام 1917، كان كل الحوش لنا. باع جدي قسم حارة اليهود لأبراهام، وبعد عام من وصوله، ماتت زوجته تاركة له بنتين صغيرتين وابنًا عمره عام ربتهم خادمة روسية، كما كانت تروي جدتي، فهم روس الأصل، اسم عائلتهم الروسي آداموف، والفرنسي صار آدم، ليتناسب مع الجو الجديد، هذا الابن ذو العام الواحد هو إسحق الذي تزوج من رقية، يهودية فلسطينية، وخلف منها يعقوب عام 1940. وبأصابع مرتجفة تُخرج من صدرها مفتاحًا مربوطًا بخيط حول عنقها، وتفتح صندوقًا قربها، وصندوقًا في الصندوق، وتقول، وهي تقدم لأبولين دوفيل حزمة من الأوراق المصفرة: كل الحكاية هنا، خذي، اقرأي لنا بصوت عال.

*

- إضراب عام، يا رفيق! كان أبراهام آداموف يصرخ في شوارع موسكو، وهو يوزع منشورات الاشتراكيين-الثوريين الذين كان واحدًا منهم. اضراب عام، يا رفيق! وهو يضرب ببوطه ركام الثلج، فقد حل الشتاء باكرًا في أكتوبر ذلك العام، عام 1905. وكان يضرب بيده اليسرى ذات القفاز يده اليمنى القابضة على المنشورات. إضراب عام، يا رفيق! وأنفاسه كالضباب تثور من فمه وأنفه. إضراب عام، يا رفيق!

لم يكن يعلم أنهم قد أرسلوا الكوزاك لقمعهم، كان يحلم بمجتمع أكثر عدالة، وكانت كل أحلامه تجسدها الاشتراكية.

- إضراب عام، يا رفيق!

وبينما كان يقترب من أسوار الكرملين، سمع طلقات الرصاص، ودوت الصرخات. أخذ يميز عدو الخيول، ورأى في الشوارع الفرعية كيف يهرب المتظاهرون خوفًا على حياتهم.

- يسقط القيصر! صرخ أحدهم، قبل أن يهوي الكوزاكي بسيفه على عنقه.

رمى أبراهام آداموف المنشورات التي كان يحملها، وراح يركض بأقصى قواه، والخيّال الكوزاكي يعدو في أعقابه، ولولا جذب بعض الرفاق له إلى داخل عمارة أغلقوا بابها مع مرور السياف لسقط أبراهام آداموف صريعًا. تم القضاء على الثورة، وعلى كل أحلام أبراهام آداموف وآماله. كانت فرنسا محط آماله الجديدة وأحلامه، وعند أول مناسبة، حمل زوجته وخادمتها، وغادر موسكو إلى باريس. كان حمله خفيفًا، لم يكن أولاد له. قالوا له إن زوجته عاقر، وأول شيء فعله، وهو في باريس، عرض زوجته على طبيب قيل له إنه ماهر. بعد فحوصات، أكد الطبيب أن زوجة أبراهام آدام، هكذا غدا اسمه الفرنسي، أن زوجته عاقر. قطع من رأسه حلمًا آخر من أحلامه، وعزم على إنشاء مصنع للعطور والمساحيق. منذ صغره، وهو يحلم بذلك. كانت باريس مدينة النور، ولكن قبل ذلك أو بعد ذلك، إن الأمر لا يهم، كانت باريس مدينة العطور.

- سأضع كل ما لدي من نقود في المشروع، قال أبراهام آدم لزوجته.

- وإذا لم ينجح المشروع، أوجست الزوجة خيفة من المجهول.

- ولماذا لا ينجح؟

- في باريس ألف مصنع للعطر.

- في باريس ألف مصنع للعطر، لكن ولا أي مصنع للعطر يصنع العطر كعطري.

جعلها تشم عيناته، فأعجبتها.

- والمساحيق؟

جعلها تجرب عيناته، فعبدتها.

- وما اسم عطرك؟

- آدم للرجال، وحواء للنساء.

- فكرة لا بأس بها.

- والمساحيق؟

- لم أفكر بعد في الأمر.

- زينة الدنيا.

- فكرة لا بأس بها.

لكن المشروع فشل فشلاً ذريعًا، للاسامية التي كانت سائدة، وللمنافسة الشديدة. في السنوات التالية، عمل أستاذًا للروسية، وخلال الحرب العالمية الأولى عمل مراسلاً حربيًا لبعض الصحف الروسية. وعلى عكس كل التوقعات، أنجبت له زوجته بنتًا ثم بنتًا ثم ولدًا. كانت ثورة أكتوبر 1917 قد نجحت، وكان وعد بلفور قد تبلفر.

- على من سيقع اختيارك؟ روسيا أم فلسطين؟ سألته زوجته.

- لروسيا الرفاق كثيرون، ولفلسطين الرفاق قليلون أو هم معدومون، أجاب أبراهام آدم، وأنا أحلامي كثيرة عن الحرية والعدالة والهوية.

- إذن هي فلسطين.

- ستكون فلسطين لي مركز الثقافة والأخلاق.

وصل أبراهام آداموف عام 1917 إلى القدس مع زوجته وبنتيه وصغيره إسحق ذي العام من عمره وخادمته، وبعد عام من إقامته ماتت أم أولاده لمرض أصابها قيل إنه ساندروم القدس، فربتهم الخادمة التي كانت بمثابة الزوجة له. عندما كبرت البنتان، تزوجتا، وسافرتا إلى أمريكا مع زوجيهما.

*

- سلوى، كل هذا التوت لك، قال يعقوب ذو السنين السبع.

- هل اشتريته لي؟ سألت الصغيرة سلوى ذات السنين الخمس.

- قطفته لك.

- من أين.

- من شجرة التوت.

- أحب التوت، همهمت سلوى، وهي تحمل السلة.

- كلي.

- زي السكر.

- وأنا؟ سأل قاسم ذو السنين السبع، وهو يخرج من الدار.

- وأنت، كل، قال يعقوب.

- زي السكر، همهم قاسم. دخل قاسم الدار، وما لبث أن عاد، وهو يحمل طابة من الشرايط صنعها. يعقوب، تعال نلعب.

- وأنا؟ سألت سلوى.

- أنت كلي التوت، أجاب أخوها.

- أكلت.

- كلي كمان، قال يعقوب.

- أكلت.

- أنت صغيرة على الطابة، قال قاسم، وهو يلعب في الحوش.

- أنا كبيرة.

- العبي، سلوى، قال يعقوب، وهو يرمي لها الطابة.

- سنلعب وحدنا، قال قاسم، وهو يخلّص أخته الطابة. يعقوب تعال نلعب.

- أين؟

- في حارة المغاربة.

خلال هذا الحوار، وقع انفجار في فندق الملك داوود، من بين الجرحى كان كنعان الجد، جد سلوى وقاسم. كان يمضي من هناك. لما علم أبراهام، جد يعقوب، بالأمر، ذهب إلى المستشفى يجري.

- تأخرت اليوم عن لعب النرد معك، همهم كنعان، وهو يرسم على شفتيه ابتسامة موجعة.

- أنا أغفر لك، لكن حذار، كن على موعدنا غدًا، همهم أبراهام، وهو يرسم على شفتيه ابتسامة محزنة.

- إنهم أصحابك، عاد كنعان يهمهم، وهو يرسم على شفتيه الابتسامة الموجعة دومًا.

- ليسوا أصحابي، عاد أبراهام يهمهم، وهو يرسم على شفتيه الابتسامة المحزنة دومًا.

- أصحاب من إذن؟

- أصحاب الشيطان.

- شيطاننا أم شيطانهم؟

- شيطانهم.

- الوداع، يا صديقي أبراهام.

- لا، انتظر، سارع أبراهام إلى القول، وعيناه مغرورقتان بالدموع، لكن كنعان لم ينتظر. بعد عدة أشهر حصلت مجزرة دير ياسين، فأصيب أبراهام بسكتة قلبية، ومات. كان على موعد مع صديقه كنعان، وهو لم يخلف موعدًا في حياته أبدًا.

بعد عدة سنوات، تسع سنوات أو عشر، قدم يعقوب باقة من الورد الأحمر لسلوى.

- سلوى، كل هذا الورد الأحمر لك.

- هل اشتريته لي، سألت اليافعة سلوى.

- قطفته لك.

- من أين؟

- من حارة المغاربة.

- أحب الورد الأحمر، همهمت سلوى، وهي تحمل الباقة.

- شمي.

- زي "السوار دو باري".

- عندما أكبر سأصنع منه عطرًا لك.

- يعقوب، أنت لا تحبني؟

- أحبك.

- وأنا؟ سأل الغيور قاسم، وهو يخرج من الدار.

- أحبك.

- كم؟

- أحبك.

- أكثر من سلوى؟

- شوي.

أخذ قاسم يسب، ويشتم، ويصرخ:

- لا تحبني، لا تحبني.

خلال ذلك، كان يدور هذا الحديث بين إسحق، والد يعقوب، وكنعان الأب، والد قاسم وسلوى، كان إسحق من بدأ:

- الظروف تسوء يومًا عن يوم، كل المبادئ الجميلة والقيم العليا التي علمني إياها أبي تُداس كل يوم، أين المجتمع الوثني؟ أين الانفتاح على الدين، فقط الانفتاح على الدين؟ أين البناء الاشتراكي؟ أين المساواة في الحقوق؟

- أنت لن تهرب من كل هذا، إسحق، استنتج كنعان الأب.

- سأبيع الدار، وسأذهب إلى البلد الذي أحمل جنسيته، فرنسا.

- أنت لن تترك كل شيء لهم.

- لم أعد أحتمل، المتطرفون من ناحية، والمستقوون من ناحية.

- أنت لن تستلم.

- إذا بقيت صرت مثلهم.

- إسحق، ابق، وصر مثلهم، ولكن ابق، فالأصدقاء قليلون هذه الأيام.

عامان أو ثلاثة قبل 67، فاجأ قاسم يعقوب وسلوى، وهما يقبلان بعضهما في الحوش، فجن جنونه.

- تفعل هذا مع أختي! صاح قاسم، وهو يمسك بخناق يعقوب، مع أختي!

- اتركه، قاسم، صاحت سلوى.

- أحبها، قاسم، صاح يعقوب.

- لتعهرها في تل أبيب؟ عاد قاسم إلى الصياح.

- اتركه، اتركه.

- سنتزوج.

- أختي تتزوج من يهودي!

- اتركه، اتركه، اتركه.

- ماذا تريد؟

- أختي تتزوج من يهودي!

- اتركه، اتركه، اتركه، اتركه...

- اتركني.

- لن أتركك.

- اتركه، اتركه، اتركه، اتركه، اتركه...

- قلت لك اتركني، ودفعه، فسقط على الأرض، وأخذ ينشج.

- قاسم، حبيبي، هبت سلوى لتضم أخاها، وهي تبكي، قاسم.

- قاسم، لا تبك، طلب يعقوب، وهو يرفعه.

رمى قاسم بنفسه بين ذراعي يعقوب، وهو يبكي أشد بكاء، ويشده أشد ما يقدر عليه، وبينما شلال الدمع يتفجر من عينيه، راح قاسم يقبل يعقوب من وجنتيه تحت عيني سلوى الدهشتين، وفجأة سقط بشفتيه على ثغره، وقبله بعنف لم يستطع يعقوب الإفلات منه. أدمى قاسم شفتي يعقوب قبل أن يذهب راكضًا، ويترك الحوش. في تلك الليلة، لم يعد قاسم إلى البيت، وقضى الجميع معظم الليل في البحث عنه في القدس الغربية. نهضوا في الصباح متأخرين، وعندما مضوا بشجرة التوت، رأوا، وهم يفركون عيونهم، قاسم الذي شنق نفسه معلقًا على أحد أغصانها. ماتت أم قاسم بعد هذا الحادث بشهرين، ثم تبعتها أم يعقوب.

في اليوم السابع من حرب الستة أيام، حضر إسحق بين يدي كنعان الأب، وهو في ثيابه العسكرية، والبندقية بيده.

- صرتُ مثلهم كما أردت، همهم إسحق.

- قلتُ صر مثلهم ولم أقل صر جنديًا، همهم كنعان الأب.

- وهل يتركون لك مجالاً؟

- لماذا أنت هنا؟ للاحتفال بالانتصار أم بالهزيمة؟

- وهم يزحفون من القدس الغربية إلى شارع صلاح الدين، ويطلقون الصيحات المنتشية، كان عليّ أن أعود إلى شَرطي.

- كنتَ ضائعًا إلى هذه الدرجة؟

- كان أبي الميت إلى جانبي يؤنبني ويقول لي إسحق ماذا فعلت؟ ضحكت، وقلت ما كنت ستفعله أنت لو بقيت حيًا. انتهرني أبي، لا تضحك، قال لي. لقد خسرت حياتك. تحديته، لم أخسر حياتي قلت له. تركته، وجئت.

- وبعد ذلك؟

- خذ، وطلب، وهو يقدم البندقية من كنعان الأب، دعني أربح حياتي.

- إنه لمجنون، يابا، انبثق صوت سلوى من وراء الباب، لا تسمع له.

- اذهبي أنت إلى الشيطان واتركينا وحدنا، انتهرها أبوها.

- لن تقتله، يابا، جلجلت سلوى بصوتها، وهي تقف بين الرجلين، فدقها أبوها في كتفها، وأمرها بالخروج.

وجدت سلوى يعقوب في قلب الحوش يبكي، فابتهلت:

- امنع أبي من أن يقتل أباك.

لكن يعقوب لم يتحرك، وواصل البكاء، وهو يخبئ وجهه بين يديه.

- قم وحل دون الجريمة.

ويعقوب لا يتحرك، ويواصل البكاء.

- قم، يا يعقوب، وانقذ أباك.

قام يعقوب، وغادر الحوش راكضًا. في تلك اللحظة، انفجرت طلقة فجرت الدمع من عيني الفتاة التي جمدت على مرأى أبيها، وهو يحمل إسحق على ظهره. على بعد عدة أمتار من الحوش، أوقفه الجنود، وبعد تحقيق سريع معه، أردوه قتيلاً.

- للمتابعة اذهب الى الصفحة الرابعة / انقر التالي ادناه

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.