اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• مدينة الشيطان / رواية

د. أفنان القاسم

الأعمال الكاملة

الأعمال الروائية (34)

د. أفنان القاسم

رواية

مدينة الشيطان

ٍLA CITE DE SATAN

إلى ذكرى حارة المغاربة

القسم الأول

تقدم فرانك لانج بسيارته الفيراري الحمراء ببطء وراء صف طويل من أغلى السيارات في العالم، كان في شارع القصر الواقع في ضاحية أعظم أثرياء باريس، نُيْي-سير-سين، ذوي الصيت الأكثر ذيوعًا. لم يكن الموكب لجنازة، كانت كل تلك البدلات السوداء والفساتين الداكنة، لرفع تعازيها إلى يوسف آدم، صاحب مصانع العطور والمساحيق، بوالده يعقوب آدم، رئيس بلدية القدس، الذي تم مصرعه على أيدي إرهابيين عرب، حسب البلاغ الرسمي. نظر رجل التحري الخاص إلى الفيلات الباذخة على جانبي الشارع، وفكر في الجميلات اللواتي فيها. كيف يحببن أن يكون العناق معهن؟ لا بد أنهن في الفراش إلهات الحب، أفروديت وفينوس وعشتار ما كن إلا ليكن. ابتسم للبدلات الرسمية التي توجه السير بوجوه عابسة، واستجاب لإشارة من إحداها بالصعود على الرصيف، والوقوف بين شجرتين. كان باب الفيلا مفتوحًا على مصراعيه، والبدلات التشريفاتية توجه المعزين إلى الحديقة تحت قبة أغسطس الزرقاء، فيتتابعون واحدًا تلو الآخر إلى حيث كان يوسف آدم وزوجته باستقبالهم. كانوا يتمتمون عباراتهم الجاهزة، وهم يسلمون بحرارة، وينظرون إلى الخال الكبير على خد الملياردير الأسمر الوجه، ثم يذهبون ليأخذوا مكانًا حول الطاولات المعدة لتناول طعام الغداء. عندما جاء دور حاخام باريس، علا صوته احتجاجًا:

- إحراق الموتى فعل يتنافى وديانتنا، الله يبغض فعلاً دميمًا كهذا، وأنا ما جئت لتقديم آيات التعازي إلا لأن والدكم كان صديقًا حميمًا.

- لقد كانت رغبة والدي، سيدي الحاخام.

- لأن والدك اليوم وثني لا يؤمن بالله.

- لأن لوالدي أسبابًا أخرى.

- أو لم يفكر والدك في أوشفتز قبل أن تكون رغبته؟ التوراة من ناحية، وأوشفتز من ناحية.

- سنتحدث في الأمر، سيدي الحاخام.

- لن نتحدث في أي أمر، نبر رجل الدين غاضبًا قبل أن يعطيه ظهره.

قدم كاردينال باريس لرب العطور والمساحيق أحر تعازيه، وكذلك فعل إمام باريس. جاء دور الوفد الإسرائيلي، فهمهم رئيسه ما لم يسمعه فرانك لانج، لكنه التقط كلمتي "رئيس الوزراء". سلم فرانك لانج على يوسف آدم دون أن يفوه بكلمة واحدة، أشار بيد كسولة إلى ناحية من النواحي، بمعنى أنه سيكون هناك. ابتسمت له مدام آدم، ثم همست في أذنه، والقلق يغزو محياها:

- لن أنتظر أن ينتهي كل هذا فرانك!

وافقها بهزة من رأسه، وذهب، ليكون دور الوفد الفلسطيني، "وفخامة الرئيس... وفخامة الرئيس..."، فالوفد الفرنسي، وهكذا حتى آخر معز.

بحث فرانك لانج عن أبولين دوفيل بين المعزين دون أن يجدها، تساءل أين يمكنها أن تكون ضابطة الدي جي إس إيه، فمصرع رئيس بلدية القدس ليس شيئًا بسيطًا، مصرعه شأن من شئون الدولة قبل أن يكون ذلك لأنه يحمل الجنسيتين، أو لأن ابنه دعامة من دعائم الاقتصاد الفرنسي. وقف يوسف آدم على منصة، بعد أن أجلس زوجته قربه، ومن ورائه رماد أبيه في قمقم مسطح رُفع بين باقات الورود، وشريط أحمر كُتب عليه بحروف مذهبة: رماد يعقوب آدم من أجل الحرية.

- نحن اليوم نودع والدي، يعقوب آدم، قال رب العطور والمساحيق في ميكروفون، نودعه إلى الأبد، ولا أثر يتركه من بعده على الأرض، فالأرض للأحياء كما كان يردد دومًا، وللموتى أرض الذكرى. لهذا عمل طوال حياته من أجل أن تكون ذكراه خالدة في نفوسنا، وأراد أن نذرّ رماده من على ربى جبل الزيتون لا أن يدفن فيه كما تدفن الجثث، ومع مر الأيام تُنسى، لينتشر الرماد في سماء القدس، ويكون لسكانها، كل سكانها، حافزًا على التآخي في الاختلاف، شعاره الذي ناضل من أجله طوال حياته.

لمح فرانك لانج أبولين دوفيل في أقصى الحديقة، وهي في فستانها الأحمر، فابتسم لأنها كانت عروس الموت. أراد اللحاق بها، فنظر إلى يوسف آدم، وإلى مدام آدم، وعندما عاد ينظر إلى أقصى الحديقة، لم يجد ضابطة الدي جي إس إي.

- أضف إلى ذلك، واصل يوسف آدم، كان الوالد يرمي من نثر رماده إلى الاعتداء على العزلة تحت كل مدلولاتها النفسية والسياسية والتاريخية، فالفضاء الرحب كان عالمه، ضد الجدران كان، ضد الغيتوهات، ضد المستوطنات، ضد الوعود التي تدلل الواحد على حساب الآخر، مع كافة الحقوق لكل الأطراف...

لم يسمع فرانك لانج لباقي الخطاب على الرغم مما يثيره من اهتمام، ذهب إلى أقصى الحديقة، ومن باب خلفي، اخترق الفيلا، فكان الخدم في المطبخ قيامًا قعودًا، وأشهى الطعام يُسكب في أرقّ الصحون.

خلال ذلك، كان ثلاثة من رجال السي آي إيه يفتشون في مكتب يوسف آدم عن شيء لا يجدونه. فتحوا جوارير المكتب، درفات الخزانات، أبواب الصناديق. لمسوا فوق البوفيه قنينتي عطر للعرض كبيرتين، كُتب على الأولى "آدم" وعلى الثانية "حواء"، ومن ورائهما علبة مساحيق مذهبة، كُتب عليها "زينة الدنيا". أعياهم الأمر، فراح رئيسهم يدفع قبعته بسبابته، ويحك رأسه حائرًا. عادوا إلى الجوارير، فالخزانات، فالصناديق، ولمسوا فوق البوفيه قنينتي العطر وعلبة المساحيق. وهم في أقصى انشغالهم، خرج عليهم صوت أبولين دوفيل، وهي ترفع بيدها مخطوطًا ضخمًا:

- هل هذا ما تبحثون عنه؟

اقتربت منهم ليقرأوا العنوان "مدينة الشيطان"، وتحت أعينهم فتحته، ليروا أن لا شيء فيه بين الصفحة الأولى والأخيرة من غلافه.

- هناك من سبقكم، يا أصحاب! ألقت ضابطة المخابرات الخارجية.

- ومن سبقكم أنتم أيضًا، همهم رئيس الثلاثي المخابراتي الأمريكي.

- هذا واضح.

- شكوكنا واحدة على ما أعتقد.

- شكوكنا أكيدة.

- اتركوهم وشأنهم.

- كالعادة.

- نعم، كالعادة.

- وما يجري ما فوق العادة؟

- ثورة وكلام فارغ؟ يجب أن يقف كل شيء.

- لسنا من وراء الثورة والكلام الفارغ.

- اتركوا الإسرائيليين وشأنهم، وإذا لم تتركوهم، فلن نترككم.

- لأنه يسعدكم ألا تتبدل الأمور.

- نعم، يسعدنا، ويدغدغنا من خُصانا. على الأقل في الوضع الراهن، وحتى أجل غير مسمى. يدغدغنا من خُصانا، مصلحتنا العليا أن يدغدغنا من خُصانا.

فتح الباب، فإذا به وجهًا لوجه مع فرانك لانج، تبادلا نظرة غير ودية، وذهب رجل السي آي إيه، يتبعه مرؤوساه، وهم يتركون الباب من ورائهم مفتوحًا.

- ماذا، كابتن دوفيل؟ سأل رجل التحري الخاص، وهو يرى ضابطة المخابرات الخارجية في أشد لحظاتها ترددًا.

- يلعن دين، يلعن دين، يلعن دين! همهمت أبولين دوفيل.

- هل ضاجعوك؟ ألقى فرانك لانج.

- في كل الأوضاع.

- ولم يسعدك ذلك؟

- يسعدهم ألا تتبدل الأمور.

- أين؟

- برأيك أين؟

- ولماذا ليس أنا؟

- ليس أنت ماذا؟

- أن أضاجعك في كل الأوضاع.

- تعال لانج، وجذبته بعنف، ماذا تنتظر يلعن دين؟ لماذا تتراجع؟ أطلبه منك، وتتراجع. هل ترى أي رجل أنت؟ لماذا لا تفعل شيئًا لما أعرضه عليك؟ أيها الجبان! ودفعته بعيدًا عنها.

- أبولين، اهدأي، همهم فرانك لانج.

- لن أهدأ إلا بعد أن أعيد كتابة صفحات هذا الكتاب، نبرت، وهي تفتح المخطوط على دفتيه الفارغتين. هلا أعنتني، فرانك؟ همست، وقد نعمت لهجتها.

- وبعد ذلك؟

- سنتزوج بعد ذلك.

- أنت تسخرين بي ككل مرة.

- هذه المرة أنا لا أسخر بك.

- بجد؟

- بجد.

اقتربت منه، وطبعت قبلة على خده.

- تقبلينني كأخ.

هجمت عليه، وقبلته بعنف من فمه.

- وهكذا؟

أداخته، فقال متلعثمًا:

- قبلة كهذه لم أذق طوال حياتي.

دخل يوسف آدم، وقال أول ما قال:

- اعذراني، كان الباب مفتوحًا، فسمعت كل شيء.

- سنذهب، أنا وفرانك لانج، إلى القدس ليس بحثًا عما كتب والدكم لدى الموساد، قالت أبولين دوفيل، فالكل يعرف ما هو الموساد، وهو لن يكشف عن فحوى أوراق يريدها له وحده، ولكننا سنكتب القصة من النهاية.

- النهاية ليست مصرع والدي، همهم رب العطور والمساحيق. لكم كان مصرع والدي سهلاً! النهاية سِلِسْتا، ولدي الوحيد. يعرف هذا جيدًا فرانك.

دخلت مدام آدم، وهي تبتهل، وتشد فرانك لانج من ذراعه:

- ابني سِلِسْتا فرانك، انقذه مما هو فيه، ابعده عما يفعل، أعده إليّ، أنا لا أريد أن أفقده، فرانك، ابني الوحيد، وحملت يد فرانك، وقبلتها توسلاً ورجاءً.

- عفوك مدام آدم، رجا رجل التحري الخاص، وهو يسحب يده.

- عد إليّ بولدي، فرانك، عادت مدام آدم إلى التوسل والرجاء.

- عد إلينا بولدنا، فرانك، توسل يوسف آدم.

*

في صباح اليوم التالي الباكر من وصولهما إلى القدس، وفينوس لم تصعد بعد، صعد فرانك لانج وأبولين دوفيل حتى قمة جبل الزيتون، وأبولين دوفيل تشكو من ألم في قدميها، وتقول:

- لم أشكُ من ألم في قدميّ يومًا.

- علينا أن نَذُرَّ الرماد وقرن الشمس يَذُرُّ ذُرورًا، قال فرانك لانج.

- هل بسبب هذا أشكو من ألم في قدميّ؟

- أنا من يحمل القمقم.

- لماذا أشكو من ألم في قدميّ؟

- انتظري قليلاً.

- آه، يا إلهي!

- ستبزغ الشمس.

- لم أشعر بمثل هذا الألم في قدميّ.

- الأنسام، بدأت الأنسام تهب، والشمس تبزغ.

- الألم في قدميّ.

- قرص الشمس.

- الألم، آه!

- الريح.

- يا إلهي!

- الشمس.

- يا إلهي! يا إلهي!

فتح فرانك لانج القمقم، وراح يذر رماد يعقوب آدم، والريح تصفر، وتحمل الرماد تحت سماء حمراء برتقالية أشبه بسماء الجحيم. يا إلهي! يا إلهي! تجمع الرماد، وتشكل على صورة رئيس البلدية، وهو يبتسم. تركهما، وذهب ليحلّق قرب نوافذ القدس المفتوحة. كان هناك من يطرده، ويغلق النافذة من ورائه، وكان هناك من يتركه يجول في البيت، ويغادر وحده. قرعت أجراس الكنائس، وهو يمضي بها، ونهض الشبان الذين ينامون في المنطقة التي حرروها من القدس القديمة، والريح تكاد تدك خيامهم. نظر سِلِسْتا آدم إلى وجه جده القادم على مراكب الضوء، وابتسم، فابتسم الجد، ونزل ليعانقه، وسِلِسْتا آدم يفتح ذراعيه إلى أقصاهما، والريح تهب به، فيكاد يطير معها. اختلط الشكل الرمادي به، وقبل أن يغادر المكان، مسح بيده على رأس كل من كان هناك، وكان هناك الشاب العربي سامي كنعان، فمسح بيده على رأسه، وطبع قبلة على خده.

*

- أرجو أن يكون الألم قد غادر قدميكِ، قال فرانك لانج، وهو يفتح باب فيلا رئيس البلدية الواقعة في القدس الغربية بمفتاح أعطاه إياه ابنه يوسف آدم.

- أنا لا أشعر بأي ألم، همهمت أبولين دوفيل باسمة.

- إذن كيف؟

- هذا من معجزات القدس ربما.

- أن تبرأي هكذا بين ليلة وضحاها؟

- أن أشعر بالألم.

- هذه المدينة بقدر ما هي مقدسة بقدر ما هي مدنسة.

- افتح الباب الداخلي، طلبت ضابطة الدي جي إس إي بعد أن قطعا الممر تحت عريشة من أغصان الكرمة مليئة بقطوف العنب الأسود.

- نحن في شهر أغسطس، همهم رجل التحري الخاص مشيرًا إلى القطوف، ولحرارة هذا البلد التي لا تطاق، العنب ناه.

- سنأكل منه فيما بعد، قالت أبولين دوفيل معجلة إياه على فتح الباب الداخلي.

فتح الباب الداخلي للفيلا، ودفعه، فإذا بأحدهم هناك، هرب أول ما رآهما يدخلان. أراد فرانك لانج اللحاق به، فأوقفته الفرنسية الشقراء.

- لا داعي لترهق نفسك، قالت له، فلسوف يعودون.

- لماذا يصر الموساد على مثل هذه الضراوة؟ سأل رجل التحري الخاص.

- سنرى لماذا؟

وقفا في الصالون أمام صورة كبيرة ليعقوب آدم معلقة على الجدار، فأشارت أبولين دوفيل إليها، وقالت:

- هذا الأشقر ذو العينين الخضراوين ككل روسي قح ابنه رب العطور والمساحيق لا يشبهه، حملت صورة مؤطرة ليوسف آدم موضوعة فوق البوفيه بين قنينتي عطر للعرض كبيرتين، كُتب على الأولى "آدم" وعلى الثانية "حواء"، ومن ورائهما علبة مساحيق مذهبة، كُتب عليها "زينة الدنيا"، وأضافت: انظر إلى هذا الأسمر ذي الخال الكبير على وجنته.

- أنا لا أفقه شيئًا في علم الجينيالوجيا، اكتفى فرانك لانج بالقول.

- هل تكون الأم؟

- ربما.

التفتت تبحث عن صورة للأم، فلم تجد.

- ألا تعتقد أن في الأمر ما هو غريب حقًا؟ طلبت أبولين دوفيل مشوشة.

- ماذا؟ همهم فرانك لانج، وهو يبحث عن شيء لا يعرف ما هو.

- لا توجد صورة واحدة لزوجة الفقيد، والدة يوسف آدم، همهمت ضابطة الدي جي إس إي.

- حقًا ما تقولين؟ سأل رجل التحري الخاص مهتمًا.

- انظر بنفسك.

نظر فرانك لانج هنا وهناك، كانت معظم الصور ليعقوب آدم، وولده يوسف آدم، وحفيده فِلِسْتا آدم، وبعضها ليعقوب آدم مع عائلته، وهو شاب، أو مع عائلة ولده. حمل رجل التحري الخاص صورة رئيس البلدية السوداء البيضاء مع عائلته، وهو شاب، فاستنتج أن هذا أبوه، وتلك أختاه، والمرأة الروسية السمينة لم تكن أمه، كان لها بالأحرى شكل المربية.

- لا صورة للزوجة ولا صورة للأم، همهم فرانك لانج، وهو يعيد الإطار إلى مكانه.

- تلك ليست الأم برأيك؟

- ليست الأم.

- وكيف عرفت؟

- المريلة، عاد رجل التحري الخاص يرفع الصورة ليريها لضابطة المخابرات الخارجية قبل أن يعيدها للمرة الثانية إلى مكانها.

- كل هذا يزيد من الأمر تعقيدًا.

- سِلِسْتا.

- سِلِسْتا ماذا؟

- من الممكن أن يعلم.

- ولكن أين هو سِلِسْتا؟

- يقود ثورته في القدس القديمة.

- لنذهب إلى القدس القديمة إذن.

- لنذهب.

توقفا على منظر بركة زرقاء لمحاها من وراء ستارة النافذة، رفعا الستارة، وابتسما لبعضهما. وهما يسيران تحت العريشة، قال فرانك لانج مشيرًا إلى قطوف العنب:

- لم نأكل.

- سنعود.

- لا أستطيع.

قفز رجل التحري الخاص، وقطف قُطفًا سالت حباته بين أصابعه للقوة التي بذلها، وعلى شكله الملخبط، انفجرت ضابطة الدي جي إس إي ضاحكة.

*

كلما تقدم فرانك لانج وأبولين دوفيل من ساحة صهيون في القدس القديمة كلما ازدادت علامات التوتر على وجوه العابرين، لم يكونوا كثيرين في الأزقة، والدكاكين لم تكن كلها مفتوحة، ونوافذ الديار كانت كلها مغلقة. تبادل الفرنسيان نظرة قلقة، وقرآ "درب الآلام"، ففكرا في المسيح. سمعا أصوات الناس الذين يكيلون له الشتائم، وضربات السياط، ووصلتهما آهات رجل يتدحرج على الدرج المجاور، فسارعا إليه. أرادا رفعه، لكنه نهض دفعة واحدة، والدم يسيل من أنفه، وصرخ:

- إنهم يطلقون النار!

ثم ولى هاربًا.

- إنهم يطلقون النار كيف، ونحن لم نسمع طلقة واحدة؟ همهمت أبولين دوفيل.

- وكيف يطلقون النار من أعلى الدرج؟ همهم فرانك لانج.

- في درب الآلام الصعود لا ينتهي، عادت أبولين دوفيل تهمهم.

وإذا بباب ينفتح فوق، ورجل مسلح يخرج منه، وهو يلف رأسه بكوفية، ويطلق النار إطلاقًا عشوائيًا، مما اضطر رجل التحري الخاص وضابطة الدي جي إس إي إلى دفع الباب المجاور، والاختفاء من ورائه. وصلهما صراخ بالعربية، فخرجا ليريا. كان أحد العابرين، وكان يصرخ لجرح في كتفه. سارع التحريان إليه، والعابرون اليهود ينظرون، ولا يفعلون شيئًا.

- عجلوا في طلب الإسعاف يلعن دين، صاحت بهم أبولين دوفيل، ولا أحد يتحرك.

طلب فرانك لانج الإسعاف من هاتفه المحمول، بينما خرجت امرأة شبه عارية من الباب الفوقي، تضع على صدرها صليبًا، وجاءت تقول لأبولين دوفيل وفرانك لانج:

- احملاه فوق.

- فوق أين يلعن دين؟ نبرت ضابطة المخابرات الخارجية، الرجل ينفق دمه.

- فوق، فوق، رددت المرأة.

- احمل معي لانج، طلبت الشقراء الفرنسية.

- والإسعاف الذي طلبته؟ احتار رجل التحري الخاص.

- فوق، فوق، عادت المرأة تقول، فلن يأتي أحد. وراحت تهمهم: من هنا مضى المسيح!

- فوق، فوق، يلعن دين، عادت أبولين دوفيل تنبر.

عجل فرانك لانج إلى حمل العربي الجريح مع زميلته، وصعدا الدرج به إلى الشقة فوق، والمرأة لا تتوقف عن الهمهمة:

- كل هذا بسببي، كل هذا بسببي، كل هذا بسببي...

أول ما دخل فرانك لانج وأبولين دوفيل بالجريح، استقبلته سبع أو ثماني من بنات الهوى، وإحداهن تولول، وتقول "أي شيطان وقعنا في يده!" مددنه على أريكة، وفحصن جرحه.

- الحمد لله أن الرصاصة لم تخترق كتفه، قالت إحداهن.

تنفس التحريان الصُّعداء، وبينما راحت اثنتان من العاهرات ينظفن الجرح، ويضمدنه، أحاطت الأخريات بالفرنسيين، وأخذن يرمينهما بعبارات الإعجاب: ما أجملهما! الشقراء تشبه ستنا مريم. بل سارة، تشبه أجمل الجميلات سارة. تشبه عائشة، حبيبة الرسول عائشة. الطويل يشبه موشيه، ذلك الوغد! حبيبي موشيه. يشبه مارلون براندو. جورج كلوني. براد بيت. يشبه موشيه أقول، حبيبي موشيه، ذلك الوغد!

- لنذهب إذن فرانك، همهمت أبولين دوفيل.

- لن تذهبا قبل أن تشربا شيئًا، قالت بنت الهوى التي جاءت بهما.

- لا بد لنا من الذهاب، همهم فرانك لانج.

- أنتما سائحان؟ سألت إحداهن.

- يا لك من ساذجة، قالت ثانية، سائحان كيف وكل هذا الخراء!

- إذن صحافيان، قالت ثالثة.

- ساحة صهيون من هنا؟ سأل فرانك لانج.

- تريد القول ساحة الحرية، قالت رابعة.

- ساحة الحرية، قالت خامسة.

- ساحة الخراء، عادت الثانية إلى القول، نعم، من هنا.

- نحن نترككما إذن، قالت ضابطة الدي جي إس إي باسمة.

- ها هي الليمونادة، قالت إحداهن، وهي تحضرها.

ابتسم التحريان لبعضهما، وتناول كل منهما كأسًا، وبنات الهوى يقلن إنهما لم يقولا لهن من أين هما.

- من فرنسا، أجاب الفرنسيان معًا.

- تكلما بالفرنسية، تدخلت إحداهن بلغة موليير، أنا يهودية مغربية، وأتقن الفرنسية.

وضعا كأسا الليمونادة بعد أن رشفا منهما رشفتين، وقالا:

- لا بد لنا من الذهاب.

- اعتنين به، طلبت أبولين دوفيل، وهي تشير إلى الرجل الجريح.

- عودا وقتما تشاءان، قالت إحداهن، وهي تنظر في عيني رجل التحري الخاص، وتداعبه من خده.

وهما عند آخر درجة تحت، استدارا، ورفعا يديهما تحية لبنات الهوى اللواتي يقفن فوق، وهن يشرن، ويغنجن.

- ساحة الحرية من هنا؟ سأل فرانك لانج أحد العابرين المسرعين.

- من هنا، ولكن حذار، ألقى العابر دون أن يتوقف.

وشيئًا فشيئًا، أخذت تصلهما أصوات المنتفضين، وبدت لهما ظهور مئات الجنود، وعشرات المدرعات التي تسد فوهات الأزقة المؤدية إلى الساحة. لم يكن من السهل الاجتياز إلى الطرف الآخر لما فجأة تساقطت من الأسطح قوارير الزرع على رؤوس الجنود، مما اضطرهم إلى الابتعاد، وفتح ثغرة تمكن فرانك لانج وأبولين دوفيل من النفاذ منها. وجدا نفسيهما في قلب الخراء، كما قالت فتاة الهوى تلك، فكل شيء يقوم ولا يقعد، والغضب كان سيد المكان. سألا عن سِلِسْتا إذا كان أحدهم يعرفه، وكان الكل يعرفه. رشقهم الجنود بالقنابل المسيلة للدموع، فحملها المنتفضون، وبدورهم، رشقوا الجنود بها. أخذ التحريان يسعلان، وكل منهما يضع منديلاً على أنفه. وبسرعة، قادهما أحدهم إلى خيمة زرقاء. أدخلهما، وهو يقول لِسِلِسْتا المنعطف على خريطة للقدس القديمة هو وثلاثة من الشبان:

- هذان يبحثان عنك.

رفع سِلِسْتا رأسه، وحالما وقع على أبولين دوفيل وفرانك لانج نبر:

- إنه أبي، وجوابي لا.

- وخاصة أمك، قالت أبولين دوفيل.

- لا أريد أن أفهم شيئًا، عاد سِلِسْتا ينبر.

- هل يمكننا أن نتكلم وحدنا؟ طلب فرانك لانج.

- ليس لدي ما أخفيه، أجاب سِلِسْتا. هذا ابن عمتي سامي، وهذا دافيد، وهذا عيسى. ليس لدي ما أخفيه عنهم. ثم للشاب الذي رافقهما: اذهب أنت، فذهب.

- ابن عمتك؟ همهم رجل التحري الخاص.

- سامي ابن عمتي، أكد ابن رب العطور والمساحيق، ألم يخبركما أبي؟ لكن أبي لا يريد أن يعلم.

- ربما لا يعلم، فقط لا يعلم، بكل بساطة، همهمت ضابطة الدي جي إس إيه.

أهملهما سِلِسْتا، وعاد، هو وأصحابه، إلى الخريطة.

- يجب توسيع المنطقة الحرة، قال سِلِسْتا، أنتم في القدس الشرقية تستطيعون أن تفعلوا ما نفعل هنا، عيسى، هكذا نرمي الجيش بين فكي كماشة الثورة.

- أخشى من شيوخ المساجد أن يقفوا عائقًا في وجهنا، همهم عيسى قبل أن يضيف: وقساوسة الكنائس.

- هنا واجهنا المتزمتين منا بالصمود، همهم دافيد، وهو يجذب لحيته القصيرة جذبات متتالية.

- بالصمود وبالإقناع، تدخل سامي، وليس المتزمتين فقط، المتزمتون وغير المتزمتين، عرب الداخل الذين أنا منهم أولهم.

- حكاية راشيل كانت المحرك لكل هذا، عاد سِلِسْتا إلى القول، فلا تنسوا.

- حكاية راشيل؟ تدخلت أبولين دوفيل.

- وسامي؟ حكاية سامي؟ ثنّى فرانك لانج.

- هل من الغريب إلى هذه الدرجة أن يكون لك ابن عمة أو ابن عم عربيًا أو غير عربي؟ نبر سِلِسْتا.

- في إسرائيل... همهم رجل التحري الخاص.

- في إسرائيل الخراء غيره، قهقه سِلِسْتا.

- ربما بدا لك الأمر غريبًا، همهمت ضابطة الدي جي إس إي، نعم، في إسرائيل الخراء غيره.

أخذ سِلِسْتا يضرب بقبضته على خريطة القدس مجلجلاً بصوته حتى مزقها:

- أريد أن أخرج من جلدي، أريد أن أُخرج الناس من جلودهم، أريد أن أولد من جديد، أنا وكل الناس أن نولد من جديد، ليكون خراؤنا كسائر البشر.

اخترق الشاب الذي رافق الفرنسيين الخيمة كالسهم، وقال:

- الجيش يطلق رصاصات مطاطية، وهناك العديد من المصابين.

نهض الشبان الأربعة دفعة واحدة، وسارعوا إلى مغادرة الخيمة، ومن ورائهم فرانك لانج وأبولين دوفيل. انخرط الشبان الأربعة في الدفاع عن ساحة الحرية، وساهموا في نقل المصابين إلى طبيب كان هناك تساعده ثلاث فتيات. تلفن سِلِسْتا إلى أصدقاء يتمترسون على الأسطح، وبعد قليل، تساقط على رؤوس الجنود مطر من الحجارة، مما اضطرهم إلى الانسحاب تحت الصيحات المدوية لشبان الثورة.

*

- ما نريده ليس إصلاح النظام من أجل بعض المطالب الشعبية، أوضح سِلِسْتا، وهو يقود فرانك لانج وأبولين دوفيل إلى إحدى حدائق القدس الغربية، حركتنا في البداية كانت ساذجة، ما نريده تبديل النظام، نعم، تبديل النظام بكل بساطة. كان حلم جدي، لهذا قتلوه.

- والإرهابيون العرب؟ ألقى فرانك لانج.

- نكتة بائخة لم يضحك لها أحد، ضحك سِلِسْتا.

- هل ما زلنا بعيدين؟ سألت أبولين دوفيل.

- لا تقولي لي إنه ألم قدميك، عجل رجل التحري الخاص إلى القول.

- لقد عاد الألم إلى قدميّ، أكدت ضابطة المخابرات الخارجية.

- القدس مدينة رطبة حتى في الصيف رطوبتها لا تطاق، قال سِلِسْتا.

- لموقعها، قال فرانك لانج.

- لعمرها، قال سِلِسْتا.

- لهذا الألم فيها أشبه بألم الروماتزم مرض العجائز، قالت أبولين دوفيل.

- القدس شيخة وكل ما فيها شيخ مثلها حتى الشباب من سكانها هم شيوخ مثلها، ألقى سِلِسْتا، والتحريان ينظران إلى وجهه، ويريان أن لشاب التاسعة العشرة من العمر وجه من له من العمر التاسعة والعشرين. هنا، همهم الشاب، في هذه الحديقة الصغيرة، لن نذهب أبعد.

طلب سِلِسْتا من مرافقيْه الجلوس على مقعد، وبقي واقفًا أمامهما. نظر حوله، فرأى امرأة تتنزه مع كلبها، وما لبثت المرأة أن غادرت مع كلبها الحديقة. كان متسول ينام على مقعد، ورجل تبدو عليه أمارات الجنون يكلم نفسه غير بعيد عنه.

- كانت الفكرة لأمي، أن أترك باريس إلى القدس قرب جدي، فأكبر على تعاليمنا. تعاليمنا الدينية، وكل باقي تعاليمنا. اليوم تريدني أن أعود إلى حضنها، لأن كل هذا الخراء ليس من تعاليمنا، ولأنها شعرت فجأة ببعدي عنها، فقالت لنفسها إنها أُم قبل كل شيء، وهي بشكل من الأشكال قصرت من هذه الناحية فيما يخصني، وليست وحدها، أبي أيضًا يشاركها في الشعور بالذنب نفسه، لهذا أنتما هنا.

قصف عرقًا يزعجه من الشجرة الواقف تحتها، وأضاف:

- ...

للمتابعة اذهب الى الصفحة الثانية / انقر التالي ادناه

القسم الثاني

في كل صباح، كان باص المدرسة الحكومية التي كنت أدرس فيها يمر ليأخذني من فيلا جدي، كنت في العاشرة من عمري، وكانت رغبة جدي ألا أدرس في مدرسة خاصة، كان يريدني أن أتعلم كباقي العاديين من الناس، وخاصة ألا يكون تعليمي موجهًا دينيًا، كان جدي يريدني أن أكون مثله علمانيًا. وكلما كنت أصعد في الباص، كان صديقي شلومو يحجز لي مكانًا إلى جانبه.

- إلى جانبي، إلى جانبي، كان شلومو يقول لي أول ما يراني أصعد في الباص.

فأتجه إليه، وأنا أنتفض من شدة شعوري بالسعادة للقياه. كان شلومو صديقي الحميم، أعز صديق حميم عرفته إلى اليوم. كنا أول ما نلتقي نبدأ باللعب بأيدينا، وبالضحك، لست أدري عن أي شيء كنا نضحك، لكننا كنا نضحك عن كل شيء، ولأي شيء، دون سبب معين. كنا نضحك، ونلعب بأيدينا. وكنا نُعدي كل من في الباص من تلاميذ، فيأخذون بالضحك مثلنا، وباللعب بأيديهم. وعندما كان الباص يقف ليأخذ عمر، لما كان عمر يصعد في الباص، كنا نتوقف عن الضحك، واللعب بأيدينا، وننظر إليه، كنا ننظر إلى العربي الوحيد الذي بيننا. لم يكن قذر اللباس عمر، ولم يكن بشعًا، ربما كان أنظفنا وأجملنا، لكننا كنا نتوقف عن اللعب بأيدينا، وعن الضحك، وننظر إليه. كان يجلس وحيدًا، ولم يكن ينظر إلى أحد، بينما كنا كلنا ننظر إليه. وبعد عدة دقائق، كنا ننساه، ونعود إلى الضحك، واللعب بأيدينا. كان الباص يقف من جديد ليأخذ حنان، لم نكن نعرف أن حنان عربية، فلم نكن نوليها اهتمامًا. كانت حنان تخف إلى الجلوس إلى جانب راشيل، وتأخذ الاثنتان بالضحك، وباللعب بأيديهما. وبين وقت وآخر، كانت حنان تنادي هذا أو ذاك، وتناكد هذا أو ذاك، وعندما يأتي دور عمر، كانت تبهدله: وجهك، شكلك، أصلك، فصلك، وتعمل حركات كالمهرج لتضحكنا عليه.

- عمر ابتعد، كانت حنان تقول له في الساحة.

- عمر اجلس وحدك، كانت حنان تقول له، ونحن في الصف.

- عمر لا تجب عندما يسألك المعلم، كانت تهمس في ظهره، ونحن في منتصف الدرس.

كانت حنان تعبر عما يجول في خاطرنا كلنا، لهذا لم نشكّ يومًا في كونها عربية.

- حنان، هل حفظت فصل المزامير الأخير عن ظهر قلب، كان المعلم يسألها.

- حفظت، كانت حنان تجيب.

- انشدي، كان المعلم يطلب، فتقف، وتنشد. حسنًا، اجلسي، فتجلس. وأنت، عمر، هل حفظت فصل المزامير الأخير عن ظهر قلب؟

- حف... كان عمر يقول، لكن حنان تضربه بقدمها، فيتمتم: لم أحفظ.

- افتح يدك، كان المعلم يأمره، فيفتح يده، ويضربه بعصاه بأقصى قوة على ضحكنا. هؤلاء هم أبناء عمنا، ينبر المعلم، ونحن نضحك من جديد. ثم يذهب في شرح مستفيض عن العربي واليهودي، وكلما قارن بين الاثنين المحاسن للثاني والمساوئ للأول كنا نطلق صيحات السخرية، وكان بعضنا لا يتردد عن رشق عمر بممحاة أو بمسطرة أو بورقة وحتى عن ضربه على رقبته والمعلم يدير ظهره.

لم يكن الأمر ليقف معنا عند هذا الحد، نحن التلاميذ الصغار، كان درس التاريخ الذي أكثر ما كنا نحبه يكفي لنحقد على عمر الذي لا ذنب له في شيء: تغلبنا على ثعالب الصحراء، ألحقنا بهم شر الهزيمة، بلنا على جثثهم، هربوا، وهم الكثيرون، من أمامنا، ونحن القليلون، أرضنا التي أعطانا إياها الرب، فكان علينا واجب طردهم، أرضنا، بحرنا، شجرنا، برتقالنا، زيتوننا، عوسجنا، صبارنا، فسوة كلبنا، بولنا، خرانا، وعمر الجميل الذي لا ذنب له، عمر النظيف، عمر الذكي، يسمع، ولا يفوه بكلمة واحدة. وعندما كنا نضحك على العرب، وحنان أولنا، كان عمر لا يضحك، فنرميه بممحاة، أو بمسطرة أو بورقة أو نضربه على رقبته، وهذه المرة، والمعلم يرانا، وهو يضحك معنا، ولا يفعل شيئًا.

في أحد الأيام، ونحن في الساحة، قال لي شلومو:

- تعال لنضحك على عمر.

ناديت حنان، وناديت راشيل، وقلت لهما:

- يريد شلومو أن نضحك على عمر.

- أنا لا أريد أن أضحك على عمر، قالت راشيل.

- لماذا لا تريدين أن تضحكي على عمر؟ سألتها.

- لأني لا أريد أن أضحك على عمر، عادت راشيل إلى القول، وذهبت. نادتها حنان:

- راشيل، تعالي نضحك على عمر.

- أنا لا أريد أن أضحك على عمر قلت لكم، صاحت راشيل، وذهبت تلعب مع البنات في طرف الساحة.

ذهبنا ثلاثتنا لنضحك على عمر، كان يلعب بالطابة وحده، فانتزعناها منه، ونحن نضحك عليه. حاول استعادة الطابة، فرميناها لغيرنا، وغيرنا لغيرنا، ونحن نضحك عليه، فانفجر عمر باكيًا، ونحن نداوم على الضحك عليه. أخرج من جيبه شفرة، وقطع عرق رسغه، ونحن نضحك عليه. جاءت راشيل، وراحت تصرخ، ونحن نضحك عليه. مات عمر بين ذراعيها، ونحن نضحك عليه.

بعد هذا الحادث، أخرجني جدي من المدرسة الحكومية، ولم يتركني أذهب إلى أية مدرسة أخرى. كان يريد أن يحميني، عاتبني:

- أنا جدك الذي يناضل من أجل التآخي في الاختلاف تعمل هذا!

لم أكن أفهم ما يعنيه، "التآخي في الاختلاف" ما هو، كنت صغيرًا. أو "التوحد في الاختلاف"، أو "التخري في الاختلاف". كان التلفزبون يتكلم كل يوم عن ترحيل العرب، وجدي المسكين يحكي عن التآخي في الاختلاف، والتوحد في الاختلاف، والتخري في الاختلاف، وما لست أدري ماذا في الاختلاف. جاءني بالأساتذة إلى البيت، وكلهم، كلهم على الإطلاق كانوا يعاملونني كأمير، كملك، كإله، لأنني من عائلة آدم، أغنى أغنياء إسرائيل والعالم، ولأني شيء خاص، يهودي. شيء خاص لأني يهودي. ومع ذلك، لم أكن أحب كل اليهود، لم أكن أحب أساتذتي، كنت أحب شلومو وراشيل وحنان، أما الباقين، فلم أكن أحبهم. كنت أحب جدي، فقط لأنه جدي، وعلى العكس، لم أكن أحب أحدًا من العرب بسبب عمر، نعم، بسبب عمر، لأنه انتحر، وجعلني أكره كل العرب. كان انتحاره بمثابة تحد لي، ولأن جدي عاقبني بإخراجي من المدرسة الحكومية، وأرهقني بكل هذا الموكب من الأساتذة الذين كانوا يعاملونني كأمير، كملك، كإله. كنت أنا من يصيح عليهم، وكنت أنا من يقرر أية واجبات عليّ القيام بها، وكنت أنا من ينهي الدرس ومن يبدأه. هكذا كنت أتصرف معهم جميعًا ما عدا واحد، معلم الرياضة، هذا لأني كنت مجنونًا بالرياضة، وكان معلم الرياضة يسحرني بطوله، بعرضه، بحركاته، بكل جسده، كنت أتمنى أن أصبح مثله لما أكبر، معلمًا للرياضة.

في أحد الأيام، ونحن نلعب في البركة، ضمني بين ذراعيه، وقبلني. هكذا دون مقدمات. سحبني إلى قعر البركة، وهو يقبلني. ولما كدت أختنق، طفا بي لآخذ نفسين أو ثلاثة، وعاد يسحبني إلى قعر البركة. نزع سروالي القصير، وفعل فيّ. تكرر الأمر في الأيام التالية، فوقعت في غرامه. كان يتمدد على حافة البركة، ويتركني أصعد كالحشرة على صدره، وأنا ألمس عضلاته، وأنا أتعلق بعضلاته. كم كنت سعيدًا. كانت عضلات شمشون، وكم كنت توراتيًا. كنت أكثر تدينًا من أكبر حريدي. عضلات شمشون. كنت ألثمها أحيانًا، وكان الأمر يديخه، ويديخني. كنت ألثمه من كل جسده، وبدوره كان يلثمني من كل جسدي. غدوت كبيرًا. بسرعة غدوت كبيرًا. وتفوقت في امتحاناتي على كل تلاميذ إسرائيل. صار لي من العمر خمسة عشر عامًا.

كان عيد ميلاد راشيل، وكان شلومو هناك، وحنان، وآخرون لم أكن أعرفهم، بعضهم من المدرسة التلمودية، وبعضهم من المدرسة العلمانية. كانت حنان تضحك على ضفائرهم الطويلة، تمسكها، وتلولبها، وتنفجر ضاحكة. ومن جديد، تمسكها، وتلولبها، وتنفجر ضاحكة.

- ما الذي يضحكك؟ كانت راشيل تسألها.

- لا شيء، كانت حنان تجيب.

- إذن لماذا تفعلين هذا؟

- لأني أحب ذلك.

- وهل تحبين الرقص؟ كان الشاب الحريدي يسألها.

- الرقص؟ أحب الرقص.

- الحانوكا.

- اليوم عيد ميلاد راشيل وليس عيد الحانوكا.

- هام... هام... هام... قال الشاب الحريدي، وهو يخبط بقدمه الأرض، ويدفع وسطه الأعلى.

- هام... هام... هام... قالت حنان، وهي ترقص مقلدة إياه، فأخذها الشاب بين ذراعيه، وراح يرقص بها: هام... هام... هام... نعم هكذا، وكلاهما: هام... هام... هام... قام كل الموجودين، وراحوا يرقصون: هام... هام... هام... فتحوا النافذة، وأخذوا ينادون: الموت للعرب... هام... هام... هام...

- لا، لا، صاحت راشيل بهم، أنا لست موافقة، وأغلقت النافذة.

عدت أفتح النافذة، وأنا أضحك كما لو كنت أضحك على عمر، وصحت:

- اليهودي ذو روح والعربي ابن شرموطة!

ومن ورائي كانوا كلهم يرقصون كما يرقصون أيام الحانوكا، ويلهثون: هام... هام... هام...

- قلت لا، صاحت راشيل، وهي تجذبني من كتفي، وتغلق النافذة. وأنا على كل حال سأطفئ شموعي.

- هام... هام... هام... قلت، وأنا آخذ راشيل بين ذراعيّ.

- اتركني، سِلِسْتا، رجت راشيل، أنا لا رغبة لي في الرقص. أبعدتني عنها، وأعطتني ظهرها.

- راشيل، رجوتها.

- قلت لا.

فتحتُ النافذة للمرة الثانية كي أعاندها، وصحت:

- الموت للعرب!

إذا براشيل تضربني على ظهري بقوة، وتدفعني، ولولا أنني تشبثت بحافة النافذة لوقعت، وكان مصيري الهلاك. جمد كل من كان هناك على مرآي، فتوقفوا عن الرقص، وغادروا المكان زعلين. كانت راشيل تصرخ من ورائنا معتذرة، وترجونا الرجوع، لكننا لم نرجع. سمعنا بكاءها، فلم نهتم. خيل لي أني سمعتها تقول "أحبك، يا سِلِسْتا"، فاستدرت، لكن أصحابي دفعوني من أمامهم، وراحوا يركضون كالشياطين في الشارع، وهم يصرخون:

- تعال لو كنت رجلاً واضرب العرب!

وتلك الأصداء:

- الموت للعرب... الموت للعرب...

صاحت حنان من زقاق:

- هناك من العرب من أراد اغتصابي.

فهرعنا جميعًا نبحث عن المعتدين في ظننا، ووقعنا على عابر. انقضضنا عليه، ونحن نضربه كما لم نضرب أحدًا، وبقبضاتنا، وبأقدامنا، وبقبضاتنا، وبأقدامنا، وبقبضاتنا، وبأقدامنا، وبقبضاتنا، وبأقدامنا، وبقبضاتنا، وبأقدامنا، وبقبضاتنا، وبأقدامنا، وبقبضاتنا، وبأقدامنا، وبقبضاتنا... فجأة تركناه يعوم في دمه، وهربنا. كان بعضهم يرانا، ولا يفعل شيئًا، وعندما علت صفارات سيارات الشرطة خَبَّأَنَا الناس في ديارهم.

- لماذا؟ صاح بي جدي، فلم أجب. من أين لك هذه الروح الشيطانية؟

انفجرت باكيًا.

- هذا حسن، البكاء من الندم، هذا حسن، همهم جدي.

لم أكن أبكي لندم، بكيت لأن راشيل قالت لي أحبك، ولم أستطع الرد عليها. لم يحتجّ أحد عما فعلنا. لم يرفع أحد إصبعه في وجوهنا. نقل التلفزيون بعض الهمهمات في الكنيست، وبعض الهمسات في الحكومة، المتأخرة. دومًا المتأخرة. كان علينا أن نقتلهم في "الأراضي"، إذن ما فعلناه لم يكن ذا أهمية.

- ستذهب إلى باريس، إلى مدينة النور، قال لي جدي. أنت متقدم في دروسك. ستعد للبكالوريا كمرشح حر.

وذلك ما حصل، لكني لم أنجح من المرة الأولى، وبعد مضي عامين، عدت بدبلومي إلى مدينة الشيطان، ولي من العمر سبعة عشر عامًا.

*

- تعال، طلبت أبولين دوفيل من سِلِسْتا، اجلس ما بيننا.

- نعم، تعال، طلب فرانك لانج، وهو يترك لسِلِسْتا مكانًا بينما تمد ضابطة المخابرات الخارجية له يدها.

تردد سِلِسْتا قليلاً، ثم جر نفسه، وجلس ما بينهما.

- يا ولدي، همهمت أبولين دوفيل.

فانفجر سِلِسْتا باكيًا. تركته يبكي على كتفها، وحمل فرانك لانج له منديلاً.

- امسح دموعك، رجاه رجل التحري الخاص.

بعد عدة لحظات، توقف سِلِسْتا عن البكاء. أخذ المنديل، ومسح دموعه. وهو يعيده لفرانك لانج، ضحك، فضحك التحريان.

- هل تريدان أن تسمعا باقي الحكاية؟ سأل الشاب المعذب الضمير.

- نريد، ولكن... قال فرانك لانج.

- وضعه لا يسمح بذلك فرانك، قالت أبولين دوفيل.

- وضعي لا يسمح بذلك، همهم سِلِسْتا.

جاء الرجل الذي يكلم نفسه، وسألهم:

- لماذا تأخر القطار الذاهب إلى أوشفتز؟

ركّز ثلاثتهم النظر على الرجل دون أن يفوهوا بكلمة واحدة، فتابع:

- طلبوا مني أن أستعد للذهاب إلى أوشفتز، وأن أنتظر القطار، وها أنا أنتظر منذ الصباح دون أن يأتي. سأغضب غضب يعقوب على أبنائه إذا ما بدلوا رأيهم.

تركهم وسار خطوتين، ثم التفت، وهمهم:

- لقد أخبرتهم هناك بمجيئي، وتجدونهم الآن قلقين عليّ.

سار هذه المرة مبتعدًا، وغادر الحديقة.

انحنت أبولين دوفيل، ولمست قدميها بأصابع مرتعشة، وهي تقول:

- عاد الألم إلى قدميّ فرانك.

- لا تفكري فيه، يا حبيبتي، همهم فرانك لانج.

- لا أستطيع فرانك.

- أرجوك، يا حبيبتي.

- سأحاول فرانك.

- حاولي، يا حبيبتي.

- سأحاول، لكني لا أعدك بشيء فرانك.

- كلما جاءت أمي إلى القدس تشعر بالألم في قدميها، همهم سِلِسْتا,

- إذن لست أنا فقط فرانك.

- لست أنت فقط، يا حبيبتي.

- لطيف منك أن تدعوني هكذا فرانك.

- آه، لو كنت أشعر بالألم بدلك، يا حبيبتي.

نهض المتسول فجأة، وراح يصرخ: اقتلوهم! اطردوهم! ثم تقدم منهم، وهمهم:

- كل أبناء الجن! وطلب: قطعة صغيرة لابن الجن هذا. لكنه أعطاهم ظهره، وفرانك لانج يبحث في جيبه، وغادر الحديقة.

وضع سِلِسْتا وجهه بين كفيه، وذهب لبعض الوقت غائبًا، ثم رفع رأسه، وهمهم:

- في الجامعة العبرية كنا ندرس علم النفس أنا وراشيل وحنان وشلومو، لماذا علم النفس؟ كنا نقول لأن مجتمعنا مريض يجدر بنا معالجته. ليس شفقة منا عليه، وإنما لأنه مريض، لأن أفراده في الليل لا ينامون، لأنهم يشعرون بالألم، فيهم الأرق ينمو والألم، لأنهم لا يعيشون كباقي البشر، ليس لأن هذا قدرهم، كما تقول الأسطورة، ولكن لأنهم لا يعيشون كباقي البشر، لأنهم لا يحبون كباقي الناس ولا يكرهون كباقي الناس. حنان وشلومو أرادا الزواج قبل التخرج، وأنا وراشيل قلنا سننتظر حتى التخرج. في أحد الأيام، ونحن في الممر، أنا وراشيل، جاء شاب طويل عادة ما ألتقيه دون أن أكلمه أو يكلمني، يشبهني، أشقر مثلي، ومثل جدي، وعيناه خضراوان، ومن العمر له ما لي، وسألني إذا ما كانت لنا أم واحدة. ضحكت، وقلت إنني لا أعتقد، وإن أمي لم تلد أحدًا غيري. رأينا حنان وشلومو يركضان، وما أن وصلا قربنا دقا الشاب في صدره، وقالا له بعداء:

- ابعد من هنا، يا عمر!

شتمهما الشاب، وذهب مسرعًا.

- عمر! ما هذا الهراء؟ صاحت راشيل.

- إنه عربي، أوضحت حنان.

- لم أكن أشك لحظة واحدة، همهمتُ.

- وماذا في ذلك برب السماء؟ عادت راشيل إلى الصياح.

- يتكلم العبرية بطلاقة، قلت، وفوق ذلك يشبهني.

- أنت مثلهم، نبرت راشيل، كلكم تثيرون اشمئزازي.

وذهبت.

- راشيل!

ولم تلتفت.

ذهبنا ثلاثتنا إلى المقهى الواقع على الرصيف المقابل للجامعة، وأخذنا نشرب البيرة كمن لم يشرب أحد، الكأس تلو الكأس، لست أدري لألم لا نشعر به في ضمائرنا أم في أقدامنا. كنا نشرب، ونحن نفكر في سارة تارة، الجميلة سارة، زوجة أبراهام، ونحلم بامتطائها، نحلم بامتطائها نحن الثلاثة، ونحن نفكر في نبوخذ نصر تارة، القوي نبوخذ نصر، بطل سبينا، ونحلم بفتح أفخاذنا له نحن الثلاثة. كنا لا نعلم عن هويتنا شيئًا، ولا عن الطريقة التي نثبت فيها ذلك. في تلك اللحظة الخطيرة من لحظات عمر الإنسان، اللحظة التراجيدية، اللحظة الملخّصة لعبث الوجود، للعبث بكل بساطة، دخل المقهى الشاب الذي يشبهني. كان قد شرب هو الآخر الكثير من الكؤوس، وكان يبحث عنا كما فهمنا:

- ها أنا أجدكم أيها المختارون، وأنا ما جئت إلا لأبول عليكم.

فتح بنطاله، وأخرج عضوه، وراح يبول علينا، فأثار فعله كل من كان في المقهى ضده. هجم الزبائن عليه بقبضاتهم وأقدامهم، ونحن أولهم، وكدنا نقتله لولا تدخل صاحب المقهى والنادل العربي الذي يعمل عنده. جاءت الشرطة، وألقت القبض علينا، وجاء الإسعاف، ونقل "الملنّش" إلى أقرب مستشفى.

*

نهض سِلِسْتا بعد صمت لم يطل، وقال:

- سنذهب إلى مقهى، هكذا ستمشي أبولين قليلاً.

- سأمشي قليلاً، همهمت أبولين دوفيل واقفة، هذا ما أحتاج إليه.

- هل ما زلت تتألمين؟ سأل فرانك لانج مهتمًا.

- صعد الألم إلى ساقيّ، أجابت ضابطة الدي جي إس إي.

- إذا استمر الألم، قال سِلِسْتا، عليكِ أن تعودي طبيبًا.

تأوهت أبولين دوفيل مع خطواتها الأولى، فلاح على وجه فرانك لانج القلق. فتح سِلِسْتا هاتفه المحمول، وطلب سامي:

- ما الأخبار؟ لقد تم دحر الجنود؟ كل شيء هادئ؟ أنا لن أتأخر، سأعود بعد قليل.

وأقفل. أعاد الهاتف المحمول إلى جيبه، وقال، وهو يبتسم:

- لقد تم دحر الجنود.

- وحتى متى الكر والفر؟ سأل فرانك لانج بلهجة جسيمة.

- حتى تحرير القدس منهم، أجاب سِلِسْتا بنفس اللهجة الجسيمة.

- منهم؟ همهمت أبولين دوفيل، وهي تخطو ببطء.

- منهم كلهم، قال ابن الملياردير الفرنسي، المترهلون الذين هم هنا منذ الاستقلال، والمتطرفون الذين يغطسون في الدين حتى أذنيهم. نحن اليوم لا نفكر بعضلاتنا ولا بطلاسمنا، نحن اليوم نريد التآخي في الاختلاف، كما كان يقول جدي، التآخي ما بيننا، والتآخي ما بيننا وبين الفلسطينيين. عقلية الاستقواء والاستعداء لم تعد تمشي، هذه العقلية تخنقنا، القوي هو القادر على إقامة السلام، لكننا ضعاف، وجبناء، أجبن من الأرانب نحن، مسرح عرائس أمريكا، تترك المترهلين يفعلون، لأن في هذا مصلحتها في الهيمنة علينا أولاً وبعد ذلك على كل المنطقة، مصلحتها في نهب الثروات واسترقاق الأرواح. المترهلون الذين هم حكامنا عليهم أن يذهبوا، بالقوة لو أحوج ذلك، لقد صنعونا نعاجًا منذ مولد الدولة، منذ مولد الدولة، ونحن نعاج، لكن جاء الوقت ليثور المصنوع على صانعه، هذه ليست أسطورة، إنها قوانين العلم.

كانوا على مقربة من مقهى، فقال سِلِسْتا:

- هنا، ما رأيكما؟ سنجلس في الداخل.

أول ما رآه صاحب المقهى يدخل بصحبة الفرنسيين عرفه، وجاء مرحبًا:

- صورك الجميلة في الجرائد أعرف الآن لماذا؟

- شكرًا، قال سِلِسْتا دون أن يبتسم.

- أنت وصاحباك طلباتكم على حساب البيت، قال صاحب المقهى، وهو يبتسم، بينما سِلِسْتا وأبولين دوفيل وفرانك لانج يجلسون من حول طاولة. كل هذا الخراء يستحق الاحتفال بالفعل.

- كل هذا الخراء، أعاد سِلِسْتا، وهو يبتسم هذه المرة.

- على الرغم من أنني ضد، أضاف صاحب المقهى دون أن يبتسم. سأقول لك لماذا أنا ضد، لأننا لم نكف عن التضحية، وكأن يهوه غير مقتنع بما نفعل، فكانت تضحيتنا كبيرة ليس لهل مثيل في التاريخ، كان علينا أن نبني البلد وأن ندافع عنه. أمة مثلنا لم تخلق، لهذا أنا ضد كل هذا الخراء. لكنه خراؤكم. خراؤنا كان شيئًا آخر، لكل جيل خراؤه، وهذا خراؤكم، فكلوه.

- أن تأكل خراءك أفضل من أن تأكل خراء غيرك، همهم سِلِسْتا، الكلاب فقط من تأكل خراء غيرها.

- خراءها وخراء غيرها تريد القول، همهم صاحب المقهى.

- ماذا تريدان أن تأخذا من خراء؟ سأل الإسرائيلي الفرنسيين.

- هل هناك خراء وخراء؟ تهكم فرانك لانج.

- هناك، أجاب سِلِسْتا.

- سآخذ بيرة، قال فرانك لانج، إنها أكثر الخراءات احتمالاً.

- وأنت مدموزيل؟ سأل صاحب المقهى، وهو يبتسم للوجه الساحر.

- خذي خراء مثلي، تدخل رجل التحري الخاص، ستشخين، وسيخفف هذا من ألم قدميك وساقيك.

- واحد خراء مثله، قالت أبولين دوفيل، وهي تبتسم.

- وأنت، أي خراء تريد؟ سأل صاحب المقهى سِلِسْتا، وهو يبتسم.

- واحد عصير برتقال، طلب الشاب الثوري دون أن يبتسم.

- شكرًا للجميع، همهم صاحب المقهى قبل أن يذهب.

- بعد الحادث مع الشاب الذي يشبهني، قال سِلِسْتا أول ما ابتعد صاحب المقهى، أخرجني جدي من مركز الشرطة بكفالة. كان يشعر بالعار، طوال الطريق إلى البيت، ونحن في السيارة، كان يردد: يا للعار! يا للعار! كان يسوق السيارة، ويردد دون أن ينظر إليّ: يا للعار! يا للعار! كان يشعر بالعار، كل القيم التي كانت له بفعلي ذاك أفرغتها، كل المبادئ التي كان يدافع عنها دستها، كل ما كان يبنيه هدمته. كنت أختلس النظر إلى جانب وجهه، فأراه، وقد غدا هرمًا دفعة واحدة، كان جدي كبيرًا في السن، ولم يكن هرمًا، غدا جدي هرمًا، كان يشبه الليث، وغدا يشبه الجرذ. يا للعار! يا للعار! كان يردد طوال الطريق. لم يتوقف عن ترداد: يا للعار! يا للعار! عندما وصلنا، نزلت من السيارة، وأنا أطرق بابها، وذهبت. ناداني: سِلِسْتا! عُدْ! سِلِسْتا، قلت لك عُدْ! لا تترك جدك وحده، عُدْ! سِلِسْتا! ذهبت إلى المستشفى. المستشفى الذي تكلمت عنه كل الجرائد عندما تكلمت عنا.

- أخوك في الغرفة 21، قالت لي إحدى الممرضات في الممر، وهي تغذ السير.

كنا نشبه بعضنا شبهًا كبيرًا، وكأننا توأمان. اقتربت من الباب الزجاجي بحذر، وألقيت نظرة على من هم في الداخل، فصعقني ما رأيت. رأيت امرأة في الأربعينات شديدة الشبه بجدي، بي. كانت تتصفح مجلة، وهي تجلس على مقربة...

- ها هي خراءاتكم الثلاثة موسيو وموسيو ومدموزيل، قاطع صاحب المقهى السارد، وهو يضع كأسي البيرة وكأس العصير قبل أن يفرنقع.

- عدت أدراجي، وانتظرت على مقعد منعزل إلى أن خرجت المرأة التي قلت لنفسي إنها أمه. كان "توأمي" لم يزل غائبًا عن الوعي، وكل الأجهزة من حوله تعمل. لكن الشعور بالوعي لدي كان كبيرًا، كان كبيرًا بقدر الشعور بالعار لدى جدي. الشعور بالعار، يحصل الشعور بالعار حتى في إسرائيل عندنا، كالشعور بالوعي، كالشعور بالضياع، كالشعور بالتميز، كالشعور بالتفوق، كالشعور بالخراء، الخراء، الخراء وأنت تغرق فيه حتى أذنيك، كالشعور بالضعة حتى، كل المشاعر عندنا تأخذ منحى وجوديًا، كانت حياتنا هكذا، هكذا صنعونا، منذ كنا هكذا صنعونا، الشعور بالعار أهم شعور لأنه ينبثق من أعماق الإنسان، فيكون الوعي بكوني إنسانًا، ووعيي بكوني أنسانًا يفتح عينيّ على كل الإنسانية، تنتهي عندئذ الحروب والصراعات وكل الخراءات الأخرى، ولكن لا تنتهي السلطة ولا التسلط، السلطة، المطامع، الحسابات الخسيسة، الحسابات المصرفية، الحسابات الشخصية، الدهاليز، الأنفاق، الدسائس، المكائد، التسابق مع الزمن الضائع، باختصار، إلقاء العالم في أفواه أسماك القرش. محو الأمل، احتلال الحلم، ذبح الفرح. المطاردة. الغطرسة. البغضاء. اللهاث. القلق. الأرق. السقوط. سعادة السقوط. لذة الأرق. أفيون القلق. الاستعداد الدائم للفعل. أي فعل؟ أنت لا تدري. عليك أن تكون أهبًا. التلويح بتهديد دائم. تهديد دائم إذن خطر دائم. وهم. إيهام. دم. إدمان. خنق الحياة. الحياة دون طعم. العمل دون رغبة. العمل. فقط العمل. لأني هنا عن غير حق أقطع الطريق على كل حق. أرفض. أهرب. أماطل. أعتدي. أناور. أكذب. أكذب. أكذب. الكذب على العالم. الكذب على الله. الكذب على النفس: آه! ما أزكى الحياة. آه! ما ألذ العمل. آه! ما أخرى الحب. دون طعم. دون رغبة. دون خراء غير خراء الحب. خراء التقوى. خراء الإخلاص. خراء الفداء. خراء الخراء. كل هذا لا ينهيه الشعور بالعار، ما ينهيه الخراء الذي نصنعه في ساحة الحرية، خراء له رائحة المسك، لأنه جماعي، وجذري، وشرطي، ومن جوه التاريخ، لأنه تاريخي.

جاءت الممرضة، وقالت لي:

- أخوك لن يفيق قبل ساعات.

- سأبقى طالما لم يفق.

- وإذا لم يفق طوال الليل؟

- سأبقى.

- هل أنتما توأمان.

لم أجب.

- بالنسبة لي أنتما توأمان.

لم أعلق.

- هل رأيت ما فعل به الأوغاد؟

حنيت رأسي خجلاً.

- الأوغاد! كادوا يقتلونه.

نمت على المقعد إلى جانب الصابر، وعندما فتحت عينيّ في الصباح، وجدته ينظر إليّ. أحرجني ذلك، فنهضت، وأنا أتمتم عبارات الأسف، وذهبت. عدت في اليوم التالي، فقالت لي الممرضة، وهي تنتفض من شدة السعادة:

- توأمك تناول "كورن فليكسه" هذا الصباح، ونزع له الطبيب كل البرابيج.

لمحني "توأمي"، وأنا أسترق النظر إليه من الباب المزجج، كانت أمه هناك، فأردت التراجع، لكنه أشار بيده إليّ كي أدخل. دخلت مترددًا، و"ضحيتي" تقول:

- إنه هو.

تقدمتُ، وسلمتُ عليه، وهو يبتسم. كان يكفي أن أسلم عليه، فأنزع عني ثوب الوغد. أشارت أمه إليّ بالجلوس مكانها، وبعد قليل، همهمت:

- أشكرك، ما كان من اللازم أن تقضي الليل إلى جانب سامي.

- سامي، همهمت.

- وأنت، ما اسمك؟

- سِلِسْتا.

- سِلِسْتا، همهم سامي.

- سأترككما لتتعارفا.

ابتسمت لنا، وذهبت.

*

حضر بعض الإثيوبيين، وهم يصاحبهم الضجيج، فجاء النادل، وطلب منهم:

- الهدوء لو سمحتم!

- أترى؟ قال أحدهم للآخر.

- هكذا دومًا، نحن نخريهم من أجل لا شيء، قال الثاني.

- أنتم لا تخرونني، أكد النادل، طلبت منكم الهدوء، هذا كل ما هنالك.

- لأننا نزعج أمك، وهي في مخراتها! رشق الثالث.

- أنتم لا تزعجون أمي، وهي في مخراتها، ولكن ربما تزعجون الزبائن، رد النادل، وهو يشير إلى سِلِسْتا وأبولين دوفيل وفرانك لانج.

- بل نزعج أمك، وهي في مخراتها.

- كيف أؤكد لك؟

- نزعج أمهاتكم كلكم، وهن في مخراتاتهن.

- سولومون، نادى النادل على صاحب المقهى، تعال لترى.

- ليس من الضروري، قال الإثيوبيون قبل أن يغادروا المقهى.

- يقولون إنهم يزعجون أمهاتنا كلنا، وهن في مخراتاتهن، رمى النادل مع قدوم صاحب المقهى.

- وماذا بعد؟ قال صاحب المقهى غير مهتم.

- لهذا ذهبوا.

- فليذهبوا.

أشار فرانك لانج إلى صاحب المقهى قائلاً:

- نفس الشيء.

- على حساب البيت، والله.

- لا، صاح سِلِسْتا.

- بلى، أكد سولومون، قبل أن يضيف: لتفعل شيئًا سِلِسْتا.

- أفعل شيئًا ماذا؟

- لتفعل شيئًا.

وذهب.

- سأذهب إلى التواليت، قالت أبولين دوفيل.

- هذه إشارة حسنة، قال فرانك لانج مبتسمًا.

انتظر الرجلان عودة الشقراء الساحرة دون أن يفوها بكلمة واحدة، وضع صاحب المقهى الكؤوس الثلاث على الطاولة، ورمى باتجاه سِلِسْتا قبل أن يذهب:

- لتفعل شيئًا.

- وألمك؟ سأل فرانك لانج أبولين دوفيل، وهي تقترب.

- أحسن قليلاً.

- ألم أقل لك؟ بصحتك، هتف طارقًا كأسه بكأسها بعد أن جلست.

- بعد ذلك، غدا سامي صديق قلبي، همهم سِلِسْتا مغتمًا. أحببته بقدر حبي لراشيل، فغارت راشيل منه، وبدأت تكرهه. لم تكن تعرف أننا ننام معًا، لكنها دومًا ما كانت تردد: أنا أو هو. لم تعد راشيل التي أعرف، راشيل الوادعة، الخيّرة، الهيومان. أخذت تحضر اجتماعات المتطرفين، تصفق معهم لما يصفقون، وتصرخ معهم لما يصرخون. كانت طريقتها في الضغط عليّ: أنا أو هو، كانت تقول، فقلت هو دون أن أقول. أنا أيضًا كنت أعمل الشيء نفسه كراشيل عندما أقضي كل ساعات فراغي في حجرة سامي من السكن الجامعي. كنت أريد القول هو دون أن أقول، فتشعر راشيل بخطر ما هي مقدمة عليه، وتنقذ علاقتنا. أنتِ وهو، كنت أريدها أن تعرف، وتقتنع، وتسلم بالأمر.

في أحد الأيام، طلبت من سامي المجيء معي إلى البيت، فجاء. أحب غرفتي، وفي الصالون تأمل صورنا. حمل صورة جدي شابًا، وفحصها بعين صقر. كان كمن ينظر إلى صورته. أعاد الصورة إلى مكانها دون تعليق. كان يبدو مشغول البال. ونحن نقف على حافة البركة، دفعته بثيابه فيها، وأنا أقهقه. كانت طريقتي لغسل هَمٍّ لم أكن أعرف له سببًا. لم يكن يعرف له سببًا. الأقدار ليست أقدار البشر، الأقدار أقدار الصور. آخر مستجدات علم النفس تقول كل الأوديسة أقدار أبطالها ليست أقدار البشر بل أقدار الصور. أوديب كان صورة عنه، عوليس، أخيل، هرقل، حتى الآلهة، زوس، أثينا، فينوس، أبوللو. الأقدار أقدار الصور. ونحن نتعانق في البركة، كانت صورنا هي التي تتعانق. كنت وأنا ألمس قضيبه، أشعر بكل تراجيديا شعبي منذ الخروج، وكانت تراجيديا شعبي صورة من الصور، ككل تراجيديا، كتراجيديا شعبه، فالتراجيديا واحدة. التراجيديا ليست عنصرية، التراجيديا كأقدارنا، أقدار الصور. كان جسده كل المتعة، ككل تراجيديا مرعبة، وكل الموت. وأنا أدخل في جسده، كنت أشعر بالوقت يضغط على فمي، يريد خنقي. إنه الوقت الزائل، اللاصورة، الوقت الذي لا بد منه وقت المتعة. كان علينا أن نقتل الشهوة لنخلص من زمن المتعة، زمن الاغتصاب. وأنا بين ذراعيه، كنت أشعر بأني المغتصِب، على الرغم من كل استسلامي له. كان عليّ أن أستسلم كلي له لأفهم أني المغتصِب. كلي. أن أستسلم له كلي. أن أدخل في صورتي، صورتي التي هي قدري، وأن أتركني إلى جانب صورته صورة أخرى معلقة على الجدار.

دخل جدي علينا، ورآنا كشيطانين من شياطين القدس. لم يكن جدي يفهم أقدار الصور، كان ككل البشر بشريًا. أمرنا بالخروج من البركة، والمجيء إلى مكتبه في الحال. اغتسلنا، وارتدينا ثيابًا نظيفة. لما وقعت عينا جدي على سامي، وكأن صاعقة دكته. أمرنا بالانصراف، بالابتعاد عن ناظريه. ونحن نغلق الباب من ورائنا، سمعناه يبكي، كان يبكي، ويصرخ كطفل، مما أذهلنا نحن الاثنين.

*

- آه، يا إلهي! همهمت أبولين دوفيل.

- إنه ألم قدميك وساقيك، همهم فرانك لانج.

- وفخذيّ، تلفظت الشقراء الفرنسية بصعوبة.

- نفس الشيء، قال سِلِسْتا لصاحب المقهى، وهو يمر من جانبه، بشرط ألا يكون على حساب البيت.

- اطلب كل ما في البيت على حساب البيت، رد سولومون، وهو يحتضن سِلِسْتا، ويضيف: لتفعل شيئًا.

فجأة، إذا بمجموعة من الحريديم بمعاطفها الطويلة السوداء وقبعاتها السوداء ولحاها السوداء وخصلاتها السوداء وطاليتات البعض منها من نساء ورجال، تنبثق من اللامكان، وهي تطبل وتزمر وترقص وتغني باليديش. خرج سولومون، وأخذ يصفق مع المصفقين.

- إنهم الحريديم، همهم سِلِسْتا، وهم يحتفلون بقرار وزير الإسكان.

- أي قرار؟ سأل فرانك لانج.

- إنشاء وحدات سكنية للمتدينين في مستعمرة وادي عرعرة.

عاد سولومون يدخل مقهاه، وهو يبتسم، ويقول لِسِلِسْتا:

- لتفعل شيئًا.

ما لبثت المجموعة أن ابتعدت، وحط الصمت، صمت ديني مما لا يوجد له مثيل إلا في القدس.

- وكيف كان رد فعل سلمى، اسمها سلمى أم سامي، ماذا كان رد فعلها لما عرفت؟ سألت أبولين دوفيل.

- لم تشأ أن تفهم شيئًا، أجاب سِلِسْتا، ذهبت عند زوجها في معتقل اللد، واكتفت بالبكاء على صدره.

- وراشيل؟ سأل فرانك لانج.

- أسعدها ذلك، أجاب سِلِسْتا، فلم يعد سامي منافسًا لها، رأته مذ عرفت كقريب لي لا أكثر.

- ولماذا انتحرت إذن؟ عاد فرانك لانج يسأل.

- لا تقل إذا كان الأمر يزعجك، طلبت أبولين دوفيل.

- عندما بدأت الاحتجاجات الاجتماعية، كنا كلنا هناك، أنا وسامي وشلومو ودافيد، دافيد تعرفنا عليه أثناء الاحتجاجات، وحنان وراشيل، لم تكن الحركة قد تحولت إلى انتفاضة، فرأتنا راشيل، ونحن نقبّل بعضنا خلسة، أنا وسامي. خلال محاولة تفريقنا من قبل رجال الشرطة، انعزلت في الخيمة، وفتحت قارورة الغاز. ظن الناس أنها بفعلها ذاك أرادت أن تحتج على العنف الذي مورس ضدنا، فهاجوا، وماجوا. من ناحية اطفأت راشيل روحها، ومن ناحية أشعلت نار الثورة.

- ها هي طلباتكم على حساب البيت، هتف صاحب المقهى، وهو يضع الكؤوس أمامهم، ويقول لسِلِسْتا: لتفعل شيئًا.

- للمتابعة اذهب الى الصفحة الثالثة / انقر التالي ادناه

القسم الثالث

تناول فرانك لانج وأبولين دوفيل طعام العشاء في مطعم فندق الملك داوود الذي ينزلان فيه، كانت المقبلات خضروات متنوعة اسمها "جورج الثاني"، والطبق الرئيسي اسمه "الإرغون"، بالدجاج والبطاطا، والتحلاية قطعة من تورتة اسمها "الملكة نازلي". وهما في المصعد، شكت ضابطة الدي جي إس إي من ألمها.

- ألم قدميك، همهم رجل التحري الخاص مضطربًا.

- ألم قدميّ وساقيّ وفخذيّ، والآن خاصرتيّ، وكتفيّ، وكلي.

- سأحضر لك طبيبًا.

- لا تحضر، سآخذ حبة دوليبران.

- لن تنفع.

- لا تقلق.

خرجا من المصعد، واتجها إلى حجرتيهما المتجاورتين.

- إذا أردت دلكتك، قال فرانك لانج.

- سآخذ حبة دوليبران، وسأنام، أنا تعبة.

- أنا تعب مثلك لكني لن أنام وأنا أفكر فيك.

- هذا لطف منك فرانك.

- تصبحين على خير.

- تصبح على خير فرانك.

عند منتصف الليل، وفرانك لانج في بيجامته يتابع الأخبار على فرانس24، إذا بطرقات قوية على بابه. فتحه بسرعة، وكل أبولين دوفيل في قميص النوم تسقط بين ذراعيه.

- أبولين، يلعن دين.

حملها، ومددها على السرير.

- آلو! ابعثوا من وراء طبيب للحجرة 69، أمر في الهاتف، وأقفل.

- لماذا فرانك؟ همهمت أبولين دوفيل.

- مستحيل أن أتركك هكذا، نبر فرانك لانج.

- أنا لا أريد فرانك، همهمت الشقراء الساحرة.

جلس إلى جانبها، وجس جبينها.

- لا حرارة عندك، همس رجل التحري الخاص.

- أرأيت؟

- سيقول لنا الطبيب لماذا كل هذا، وسيعطيك علاجًا.

- لم تنفع حبة الدوليبران.

- سيعطيك علاجًا ينفع.

- ماذا لو مت فرانك؟

- اسكتي، يلعن دين.

- سأسكت، يلعن دين، أعادت، وهي تحاول الابتسام. أنا أعرف لماذا، عادت ضابطة المخابرات الخارجية إلى القول.

- تعرفين لماذا؟

- أنا أعرف لماذا.

- لماذا؟

- لأن كل هذا اللعنة.

- اللعنة!

- شيء أشبه بلعنة الفراعنة.

- أنت تهذين، يا حبيبتي.

- أنا لا أهذي، قلتَ لا حرارة عندي.

- الهذيان ممكن دون حرارة.

- أنا لا أهذي فرانك. كل هذا كان مكتوبًا.

- كان مكتوبًا أين.

- هل نسيت لماذا نحن هنا؟

- لم أنس.

- كل هذا كان من اللازم أن يقع. مدينة الشيطان، المخطوط المفقود الذي نعيد كتابته، كل هذا من اللازم أن يقع.

- وما علاقتك أنت بكل هذا؟

- علاقتي اللعنة. ملعون كل من أمسكه، ملعون كل من فتحه، ملعون كل من قرأه.

- آه، يا إلهي!

- أنت خائف عليّ فرانك؟

- أنا خائف عليك.

- لا تخف عليّ أرجوك.

- طيب.

- لا تخف عليّ.

وصلتهما دقات خفيفة على الباب، فهب رجل التحري الخاص ليفتحه: كان الطبيب.

- من هنا، همهم فرانك لانج.

- ما بها؟ سأل الطبيب أول ما رأى أبولين دوفيل في السرير.

- تشكو من آلام في كل جسدها. بدأ الألم في قدميها ثم راح يصعد إلى ساقيها ففخذيها فخاصرتيها فكتفيها فكلها، ومنذ قليل سقطت بين ذراعيّ.

- هذا الساندروم اسمه ساندروم القدس، همهم الطبيب بعد أن فحصها.

- ماذا؟ صاح فرانك لانج حائرًا.

- لا خطر هناك من هذه الأعراض. هل هذه هي المرة الأولى التي تزور فيها القدس؟

- أعتقد ذلك.

- فلتطمئن. ساندروم القدس. سأكتب لها بعض المسكنات، وخلال يومين أو ثلاثة، ستذهب عنها كل آلامها.

كتب على طاولة قصيرة بعض الأدوية، وقام، وهو يقول:

- سيحاسبني الفندق.

خرج، وهو يغلق الباب من ورائه.

*

في صباح اليوم التالي، كانت أبولين دوفيل تنتظر مع فرانك لانج في الصالون التاريخي للفندق وصول سامي. كانت ضابطة المخابرات الخارجية تبدو في صحة جيدة.

- هذا سحري، الدواء، همهمت أبولين دوفيل.

- لا توقفيه، همهم فرانك لانج.

- لن أوقفه.

- وبعد ثلاثة أيام سيكون كل شيء على ما يرام.

طلع عليهما سامي بقامته المديدة، وابتسامته الوضاحة، وقال لهما:

- التاكسي بانتظارنا.

- لنذهب، قال التحريان معًا.

وهما في التاكسي، كانا ينظران إلى التنافر بين العابرين: الحريدي والإسلامي والفلاحي والمدني والأوروبي والأفريقي والعسكري والبوليسي والأشقر والأسمر والأحمر والأصفر والطويل والقصير والنحيف والسمين والدميم والجميل، كان شيء شيطاني في كل هذا. وعلى مسافة غير بعيدة، كان المقدس ينظر إلى حيث ينظران دون مبالاة جعلتهما يفكران في إرادة ربانية تتواطأ مع إرادة بشرية. كان البشري وفوق البشري صورتين لإرادة واحدة، وكل هؤلاء كانوا حجارة شطرنج لا أكثر. لاح لهما من بعيد سور الملك سليمان، كان السور عاليًا بعلو السماء، ومرة أخرى كان البشري وفوق البشري صورتين لإرادة واحدة. وعندما اقترب التاكسي بهما من حائط المبكى، ورأيا المؤمنين الذين يتعبدون في ظله، فكرا في الحي اللاتيني، وعلى التحديد في قناطر الحي اللاتيني، وفي العبّارات التي تعبر نهر السين، ومرة أخرى وأخرى كان البشري وفوق البشري صورتين لإرادة واحدة.

- لا يمكنني الابتعاد أكثر، همهم السائق.

دفع سامي للسائق، وقال للفرنسيين، وهو يدفعهما من أمامه:

- سنجتاز باب المغاربة، ومن وراء المسجد الأقصى سنأخذ زقاقًا إلى بيتنا. يقع بيتنا في الحوش الرابط بين الحي الإسلامي وحارة النصارى وحارة الأرمن وحارة اليهود. ليس بعيدًا.

بقي ثلاثتهم صامتين، كانت الحفريات للبحث عن الهيكل تثقب الفضاء، فانتهى المقدس، وغاب ما فوق البشري. لم يبق إلا ما هو بشري، وكم كان الأمر كلبيًا. كانت رائحة خبيثة لا علاقة لها بالطهر في شيء تفوح من كل ناحية، وكان يصل الأذن عواء حاد يجرح كالشفرة.

- كل هذا العواء فرانك، شكت أبولين دوفيل.

- أي عواء؟ استغرب سامي.

- تحملي، يا حبيبتي، همهم فرانك لانج.

اخترقا الحوش، حوش قديم، عمره ألف عام ربما أو يزيد.

- ستي، صاح سامي من الباب.

- أنا هنا، أجاب صوت هرم.

- لقد وصلنا.

- هنا في وسط الدار.

ما أن اجتاز فرانك لانج وأبولين دوفيل المدخل حتى وجدا نفسيهما أمام امرأة عجوز سمراء على خدها شامة كبيرة تمامًا كيوسف آدم، والد سِلِسْتا.

- تعالي هنا، يا حبيبتي، على الدوشك جنبي، طلبت الجدة من أبولين دوفيل. ما أحلاك! وأنت الطويل كابن بنتي سامي، اجلس أمامي. ثم لسامي: اعمل قهوة للضيوف على كيفك.

- حاضر، قال سامي قبل أن يختفي في عتمة البيت.

- أمه سلمى، بعد ما سمعت كل الحكاية من فمي، بدأت الجدة الكلام، حملت أغراضها، وراحت إلى اللد عند زوجها. حلفت ألا تتعرف عليّ الجاحدة.

- في المعتقل؟ سأل فرانك لانج.

- يا ليت في المعتقل، رمت العجوز، وهي تضحك، لن تجد مكانًا، ولا غرفة، كفندق الثلاث نجوم. زوجها حالفه الحظ، أما هي.

- زوجها من كتائب الأقصى، سألت أبولين دوفيل.

- لا كتائب الأقصى ولا بطيخ، زوجها مجنون، أهبل عدم المؤاخذة. كنا كلنا مبسوطين، ماذا استفاد؟ ماذا استفدنا كلنا؟ سامي مجنون كأبيه، أنا خايفة عليه. وصاحت، القهوة، يا سامي. ثم لهما: من أين تريدانني أن أبدأ؟ عائلة كنعان، عائلتنا، أسرارها كثيرة حتى الشيطان لا يعرفها. ها هي قهوة سامي، هل تشمين، يا حبيبتي، رائحتها؟

- أشم، قالت ضابطة الدي جي إس إي، وهي تسحب نفسًا طويلاً، وتبتسم.

- قهوة عالريحة كما يهواها قلبك ستي، همهم سامي، وهي يسكب القهوة من بكرج نحاسي في ثلاثة فناجين صغيرة على صينية.

- شكرًا سامي، تمتم فرانك لانج، وهو ينقل فنجانه.

- شكرًا سامي، تمتمت أبولين دوفيل، وهي تنقل فنجانها.

- شكرًا حبيبي، قالت الجدة، وسامي يضع فنجانها أمامها. رح أنت الآن، واتركني مع الضيفين. لن أزعجك معي من جديد، لديك ما هو أهم أو ما هو أسوأ. رح، يا حبيبي.

- طيب، قال سامي. ثم: مع السلامة، هتف سامي قبل أن يغادر البيت.

- لم تزل هنا، يا بنت بنتي؟ صاحت الجدة بعد قليل. سامي راح. تحيا الحرية! هتفت، وهي تُخرج من تحت المسند علبة سجائر وعلبة كبريت تخبئهما. لو رآني أشرب السجائر لذبحني. ليس هناك في الوجود ألذ من شرب سيجارة أمريكية مع فنجان قهوة تركية. خذي، يا حبيبتي، اشربي. وأنت، يا حبيبي، خذ، اشرب. وبعد عدة أنفاس: هل رأيتماهم، مجانين حائط المبكى؟ من ناحية ألوهيم، ناحية حائط المبكى، ومن ناحية الله، ناحية فناء الأقصى. وكلهم اللهم، اللهم، اللهم، وكله كلام، ومش صح. الإيمان الصح في القلب، وليس على رؤوس الأشهاد. اللهم، اللهم، اللهم. يلعن السماء، يلعن الله، يا رب اغفر لي، خلونا نكفر، اللهم، اللهم، اللهم، يا رب ابعد الشيطان. في كل ليلة منذ تركني يعقوب إلى اليوم، والشيطان يأتيني في الليل، ويُدخل قرنه فيّ. هذا اللحم الميت يتفتح كالورد، وطوال الليل يأخذني بين ذراعيه. طوال الليل أنا والشيطان في أحضان بعضنا، نُقبل بعضنا بحب ليس بعده حب، من الثغر، ومن الثدي، ومن البطن، ومن تحت البطن، ومن الفخذين، ومن الساقين، ومن القدمين، ومن أصابع القدمين، نقبل بعضنا بشيطانية، ونعض بعضنا بوحشية، فتخرج كل الوحوش من جسدينا، الأسود تزأر والذئاب تعوي والوطاويط تصرخ، كل الوحوش، بكل الشبق، وكل الشوق، وكل المتعة، تصرخ، حتى آخر الليل تصرخ. وعند آخر الليل، يصيبنا التعب، فيلقي الشيطان بجسده على جسدي، وننام كأسعد مخلوقين على وجه الأرض. وبعد عدة لحظات من الصمت، تهمهم مضيعة: أحدهم يطرق على الباب، هل تسمعين؟ اصغي جيدًا. ربما كان يعقوب. تسيل من عينها دمعة، فتمسحها بطرف ثوبها، وتهمهم مضيعة من جديد: أنا سلوى كنعان ويعقوب آدم وقاسم كنعان أخي كبرنا مع بعض في هذا الحوش، لم يكن هذا كل الحوش، كان الحوش أكبر بكثير. قبل أن يهاجر أبراهام، الجد الأكبر، وأسرته من فرنسا عام 1917، كان كل الحوش لنا. باع جدي قسم حارة اليهود لأبراهام، وبعد عام من وصوله، ماتت زوجته تاركة له بنتين صغيرتين وابنًا عمره عام ربتهم خادمة روسية، كما كانت تروي جدتي، فهم روس الأصل، اسم عائلتهم الروسي آداموف، والفرنسي صار آدم، ليتناسب مع الجو الجديد، هذا الابن ذو العام الواحد هو إسحق الذي تزوج من رقية، يهودية فلسطينية، وخلف منها يعقوب عام 1940. وبأصابع مرتجفة تُخرج من صدرها مفتاحًا مربوطًا بخيط حول عنقها، وتفتح صندوقًا قربها، وصندوقًا في الصندوق، وتقول، وهي تقدم لأبولين دوفيل حزمة من الأوراق المصفرة: كل الحكاية هنا، خذي، اقرأي لنا بصوت عال.

*

- إضراب عام، يا رفيق! كان أبراهام آداموف يصرخ في شوارع موسكو، وهو يوزع منشورات الاشتراكيين-الثوريين الذين كان واحدًا منهم. اضراب عام، يا رفيق! وهو يضرب ببوطه ركام الثلج، فقد حل الشتاء باكرًا في أكتوبر ذلك العام، عام 1905. وكان يضرب بيده اليسرى ذات القفاز يده اليمنى القابضة على المنشورات. إضراب عام، يا رفيق! وأنفاسه كالضباب تثور من فمه وأنفه. إضراب عام، يا رفيق!

لم يكن يعلم أنهم قد أرسلوا الكوزاك لقمعهم، كان يحلم بمجتمع أكثر عدالة، وكانت كل أحلامه تجسدها الاشتراكية.

- إضراب عام، يا رفيق!

وبينما كان يقترب من أسوار الكرملين، سمع طلقات الرصاص، ودوت الصرخات. أخذ يميز عدو الخيول، ورأى في الشوارع الفرعية كيف يهرب المتظاهرون خوفًا على حياتهم.

- يسقط القيصر! صرخ أحدهم، قبل أن يهوي الكوزاكي بسيفه على عنقه.

رمى أبراهام آداموف المنشورات التي كان يحملها، وراح يركض بأقصى قواه، والخيّال الكوزاكي يعدو في أعقابه، ولولا جذب بعض الرفاق له إلى داخل عمارة أغلقوا بابها مع مرور السياف لسقط أبراهام آداموف صريعًا. تم القضاء على الثورة، وعلى كل أحلام أبراهام آداموف وآماله. كانت فرنسا محط آماله الجديدة وأحلامه، وعند أول مناسبة، حمل زوجته وخادمتها، وغادر موسكو إلى باريس. كان حمله خفيفًا، لم يكن أولاد له. قالوا له إن زوجته عاقر، وأول شيء فعله، وهو في باريس، عرض زوجته على طبيب قيل له إنه ماهر. بعد فحوصات، أكد الطبيب أن زوجة أبراهام آدام، هكذا غدا اسمه الفرنسي، أن زوجته عاقر. قطع من رأسه حلمًا آخر من أحلامه، وعزم على إنشاء مصنع للعطور والمساحيق. منذ صغره، وهو يحلم بذلك. كانت باريس مدينة النور، ولكن قبل ذلك أو بعد ذلك، إن الأمر لا يهم، كانت باريس مدينة العطور.

- سأضع كل ما لدي من نقود في المشروع، قال أبراهام آدم لزوجته.

- وإذا لم ينجح المشروع، أوجست الزوجة خيفة من المجهول.

- ولماذا لا ينجح؟

- في باريس ألف مصنع للعطر.

- في باريس ألف مصنع للعطر، لكن ولا أي مصنع للعطر يصنع العطر كعطري.

جعلها تشم عيناته، فأعجبتها.

- والمساحيق؟

جعلها تجرب عيناته، فعبدتها.

- وما اسم عطرك؟

- آدم للرجال، وحواء للنساء.

- فكرة لا بأس بها.

- والمساحيق؟

- لم أفكر بعد في الأمر.

- زينة الدنيا.

- فكرة لا بأس بها.

لكن المشروع فشل فشلاً ذريعًا، للاسامية التي كانت سائدة، وللمنافسة الشديدة. في السنوات التالية، عمل أستاذًا للروسية، وخلال الحرب العالمية الأولى عمل مراسلاً حربيًا لبعض الصحف الروسية. وعلى عكس كل التوقعات، أنجبت له زوجته بنتًا ثم بنتًا ثم ولدًا. كانت ثورة أكتوبر 1917 قد نجحت، وكان وعد بلفور قد تبلفر.

- على من سيقع اختيارك؟ روسيا أم فلسطين؟ سألته زوجته.

- لروسيا الرفاق كثيرون، ولفلسطين الرفاق قليلون أو هم معدومون، أجاب أبراهام آدم، وأنا أحلامي كثيرة عن الحرية والعدالة والهوية.

- إذن هي فلسطين.

- ستكون فلسطين لي مركز الثقافة والأخلاق.

وصل أبراهام آداموف عام 1917 إلى القدس مع زوجته وبنتيه وصغيره إسحق ذي العام من عمره وخادمته، وبعد عام من إقامته ماتت أم أولاده لمرض أصابها قيل إنه ساندروم القدس، فربتهم الخادمة التي كانت بمثابة الزوجة له. عندما كبرت البنتان، تزوجتا، وسافرتا إلى أمريكا مع زوجيهما.

*

- سلوى، كل هذا التوت لك، قال يعقوب ذو السنين السبع.

- هل اشتريته لي؟ سألت الصغيرة سلوى ذات السنين الخمس.

- قطفته لك.

- من أين.

- من شجرة التوت.

- أحب التوت، همهمت سلوى، وهي تحمل السلة.

- كلي.

- زي السكر.

- وأنا؟ سأل قاسم ذو السنين السبع، وهو يخرج من الدار.

- وأنت، كل، قال يعقوب.

- زي السكر، همهم قاسم. دخل قاسم الدار، وما لبث أن عاد، وهو يحمل طابة من الشرايط صنعها. يعقوب، تعال نلعب.

- وأنا؟ سألت سلوى.

- أنت كلي التوت، أجاب أخوها.

- أكلت.

- كلي كمان، قال يعقوب.

- أكلت.

- أنت صغيرة على الطابة، قال قاسم، وهو يلعب في الحوش.

- أنا كبيرة.

- العبي، سلوى، قال يعقوب، وهو يرمي لها الطابة.

- سنلعب وحدنا، قال قاسم، وهو يخلّص أخته الطابة. يعقوب تعال نلعب.

- أين؟

- في حارة المغاربة.

خلال هذا الحوار، وقع انفجار في فندق الملك داوود، من بين الجرحى كان كنعان الجد، جد سلوى وقاسم. كان يمضي من هناك. لما علم أبراهام، جد يعقوب، بالأمر، ذهب إلى المستشفى يجري.

- تأخرت اليوم عن لعب النرد معك، همهم كنعان، وهو يرسم على شفتيه ابتسامة موجعة.

- أنا أغفر لك، لكن حذار، كن على موعدنا غدًا، همهم أبراهام، وهو يرسم على شفتيه ابتسامة محزنة.

- إنهم أصحابك، عاد كنعان يهمهم، وهو يرسم على شفتيه الابتسامة الموجعة دومًا.

- ليسوا أصحابي، عاد أبراهام يهمهم، وهو يرسم على شفتيه الابتسامة المحزنة دومًا.

- أصحاب من إذن؟

- أصحاب الشيطان.

- شيطاننا أم شيطانهم؟

- شيطانهم.

- الوداع، يا صديقي أبراهام.

- لا، انتظر، سارع أبراهام إلى القول، وعيناه مغرورقتان بالدموع، لكن كنعان لم ينتظر. بعد عدة أشهر حصلت مجزرة دير ياسين، فأصيب أبراهام بسكتة قلبية، ومات. كان على موعد مع صديقه كنعان، وهو لم يخلف موعدًا في حياته أبدًا.

بعد عدة سنوات، تسع سنوات أو عشر، قدم يعقوب باقة من الورد الأحمر لسلوى.

- سلوى، كل هذا الورد الأحمر لك.

- هل اشتريته لي، سألت اليافعة سلوى.

- قطفته لك.

- من أين؟

- من حارة المغاربة.

- أحب الورد الأحمر، همهمت سلوى، وهي تحمل الباقة.

- شمي.

- زي "السوار دو باري".

- عندما أكبر سأصنع منه عطرًا لك.

- يعقوب، أنت لا تحبني؟

- أحبك.

- وأنا؟ سأل الغيور قاسم، وهو يخرج من الدار.

- أحبك.

- كم؟

- أحبك.

- أكثر من سلوى؟

- شوي.

أخذ قاسم يسب، ويشتم، ويصرخ:

- لا تحبني، لا تحبني.

خلال ذلك، كان يدور هذا الحديث بين إسحق، والد يعقوب، وكنعان الأب، والد قاسم وسلوى، كان إسحق من بدأ:

- الظروف تسوء يومًا عن يوم، كل المبادئ الجميلة والقيم العليا التي علمني إياها أبي تُداس كل يوم، أين المجتمع الوثني؟ أين الانفتاح على الدين، فقط الانفتاح على الدين؟ أين البناء الاشتراكي؟ أين المساواة في الحقوق؟

- أنت لن تهرب من كل هذا، إسحق، استنتج كنعان الأب.

- سأبيع الدار، وسأذهب إلى البلد الذي أحمل جنسيته، فرنسا.

- أنت لن تترك كل شيء لهم.

- لم أعد أحتمل، المتطرفون من ناحية، والمستقوون من ناحية.

- أنت لن تستلم.

- إذا بقيت صرت مثلهم.

- إسحق، ابق، وصر مثلهم، ولكن ابق، فالأصدقاء قليلون هذه الأيام.

عامان أو ثلاثة قبل 67، فاجأ قاسم يعقوب وسلوى، وهما يقبلان بعضهما في الحوش، فجن جنونه.

- تفعل هذا مع أختي! صاح قاسم، وهو يمسك بخناق يعقوب، مع أختي!

- اتركه، قاسم، صاحت سلوى.

- أحبها، قاسم، صاح يعقوب.

- لتعهرها في تل أبيب؟ عاد قاسم إلى الصياح.

- اتركه، اتركه.

- سنتزوج.

- أختي تتزوج من يهودي!

- اتركه، اتركه، اتركه.

- ماذا تريد؟

- أختي تتزوج من يهودي!

- اتركه، اتركه، اتركه، اتركه...

- اتركني.

- لن أتركك.

- اتركه، اتركه، اتركه، اتركه، اتركه...

- قلت لك اتركني، ودفعه، فسقط على الأرض، وأخذ ينشج.

- قاسم، حبيبي، هبت سلوى لتضم أخاها، وهي تبكي، قاسم.

- قاسم، لا تبك، طلب يعقوب، وهو يرفعه.

رمى قاسم بنفسه بين ذراعي يعقوب، وهو يبكي أشد بكاء، ويشده أشد ما يقدر عليه، وبينما شلال الدمع يتفجر من عينيه، راح قاسم يقبل يعقوب من وجنتيه تحت عيني سلوى الدهشتين، وفجأة سقط بشفتيه على ثغره، وقبله بعنف لم يستطع يعقوب الإفلات منه. أدمى قاسم شفتي يعقوب قبل أن يذهب راكضًا، ويترك الحوش. في تلك الليلة، لم يعد قاسم إلى البيت، وقضى الجميع معظم الليل في البحث عنه في القدس الغربية. نهضوا في الصباح متأخرين، وعندما مضوا بشجرة التوت، رأوا، وهم يفركون عيونهم، قاسم الذي شنق نفسه معلقًا على أحد أغصانها. ماتت أم قاسم بعد هذا الحادث بشهرين، ثم تبعتها أم يعقوب.

في اليوم السابع من حرب الستة أيام، حضر إسحق بين يدي كنعان الأب، وهو في ثيابه العسكرية، والبندقية بيده.

- صرتُ مثلهم كما أردت، همهم إسحق.

- قلتُ صر مثلهم ولم أقل صر جنديًا، همهم كنعان الأب.

- وهل يتركون لك مجالاً؟

- لماذا أنت هنا؟ للاحتفال بالانتصار أم بالهزيمة؟

- وهم يزحفون من القدس الغربية إلى شارع صلاح الدين، ويطلقون الصيحات المنتشية، كان عليّ أن أعود إلى شَرطي.

- كنتَ ضائعًا إلى هذه الدرجة؟

- كان أبي الميت إلى جانبي يؤنبني ويقول لي إسحق ماذا فعلت؟ ضحكت، وقلت ما كنت ستفعله أنت لو بقيت حيًا. انتهرني أبي، لا تضحك، قال لي. لقد خسرت حياتك. تحديته، لم أخسر حياتي قلت له. تركته، وجئت.

- وبعد ذلك؟

- خذ، وطلب، وهو يقدم البندقية من كنعان الأب، دعني أربح حياتي.

- إنه لمجنون، يابا، انبثق صوت سلوى من وراء الباب، لا تسمع له.

- اذهبي أنت إلى الشيطان واتركينا وحدنا، انتهرها أبوها.

- لن تقتله، يابا، جلجلت سلوى بصوتها، وهي تقف بين الرجلين، فدقها أبوها في كتفها، وأمرها بالخروج.

وجدت سلوى يعقوب في قلب الحوش يبكي، فابتهلت:

- امنع أبي من أن يقتل أباك.

لكن يعقوب لم يتحرك، وواصل البكاء، وهو يخبئ وجهه بين يديه.

- قم وحل دون الجريمة.

ويعقوب لا يتحرك، ويواصل البكاء.

- قم، يا يعقوب، وانقذ أباك.

قام يعقوب، وغادر الحوش راكضًا. في تلك اللحظة، انفجرت طلقة فجرت الدمع من عيني الفتاة التي جمدت على مرأى أبيها، وهو يحمل إسحق على ظهره. على بعد عدة أمتار من الحوش، أوقفه الجنود، وبعد تحقيق سريع معه، أردوه قتيلاً.

- للمتابعة اذهب الى الصفحة الرابعة / انقر التالي ادناه

القسم الرابع

- عادت إليّ كل آلامي فرانك، تأوهت أبولين دوفيل، وهي ترمي الأوراق المصفرة جانبًا.

- ما لك، يا حبيبتي؟ سألت العجوز سلوى بلهفة.

- ساندروم القدس، همهم فرانك لانج، وهو يمسك يد الساحرة الشقراء.

- بعيد الشر! لفظت جدة سامي.

فتحت الصندوق الذي تخبئ فيه حياتها، وأخرجت قنينة زيت، سقت أبولين دوفيل منه ملء سِدادة.

- هذا الزيت من الناصرة، أوضحت سلوى، بهذا الزيت كان المسيح يشفي المرضى، ويقال إنه كان به يقيم مراسم التعميد. هذا الزيت ليس كزيت القدس الذي لا طعم له ولا رائحة، وعلى أي حال جبل الزيتون اليوم بدون زيتون، كله باطون، هذا الزيت معجزة. خذي، قالت لضابطة المخابران الخارجية، وهي تقدم لها الزجاجة، اشربي منه ليومين، وستبرأين. انتظري... عادت تبحث في الصندوق إلى أن أخرجت ضمة مرامية في كيس من البلاستيك. أما هذه المخملية، فهي السحر بعينه، إنها مرامية الجليل. ليس هناك بعد مرامية الجليل. اغليها كلما أحسست بألم، مهما كان الألم، واشربيها، فيها شفاء للناس. هذه الأشياء صارت نادرة اليوم، لهذا أنا أخفيها. في إسرائيل صار كل شيء نادرًا، فلسطين لم تنته إلى الأبد، ولكن في إسرائيل صار كل شيء نادرًا.

- شكرًا، همهمت أبولين دوفيل.

- شكرًا، همهم فرانك لانج.

- هل تأخذان قهوة ثانية؟ سألت الجدة، وهي تنهض.

- سأعملها أنا، سارع رجل التحري الخاص إلى القول.

- أنا أقف على قدميّ كما تراني، رمت سلوى، وأنت لا تعرف كيف تعمل قهوتنا.

- شكرًا، عاد فرانك لانج يهمهم. أحسن؟ سأل أبولين دوفيل أول ما وجد نفسه وحيدًا معها.

- أسوأ، جمجمت ضابطة الدي جي إس إي.

- كل هذه الحكايات تؤثر عليك نفسيًا.

- ألم أقل لك إنها اللعنة؟

- لن أدعك تسقطين فريسة لها.

- بعض الأيام وسنترك كل هذا من ورائنا.

- ككل شيء.

- ككل شيء.

- إذن لِمَ كل هذا؟

- لنترك كل هذا من ورائنا.

- ألا يمكن للمرء أن يرتاح؟

- المرء يرتاح.

- في قبره تريدين القول.

- الخنازير أيضًا ترتاح، ولكن الفرق بيننا وبين الخنازير أننا لسنا خنازير.

- سلوى تلك تعرف هذا، ويعقوب ذاك يعرف هذا.

- يجب أن يعرفا، دون أن يعرفا لن يتعبا.

- ها أنا، طلع عليهما صوت الجدة، وهي تحمل البكرج. سنشرب القهوة، ومع القهوة سيجارة، قالت، وهي تصب السائل الأسود. تلفتت حولها، وأضافت، ابن بنتي ليس هنا.

عادت تجلس على الدوشك، وهي تهمس: احمنا من الشياطين الإنس قبل الشياطين الجن، يا إلهي. وزعت السجائر، وأشعلتها.

- في الدخان نرى الأشياء كما لو كنا ننظر إليها من ضباب البحر، همهمت العجوز. وإلى فرانك لانج، وهي تعطيه الأوراق المصفرة: خذ، اقرأ لنا بصوت عال.

*

بعد مصرع الأبوين، وجد يعقوب وسلوى نفسيهما وحيدين. كان كل واحد منهما عائلة الآخر، ولكن كل القدس كانت ضدهما، القدس الغربية كالشرقية، كل القدس، كانت كل القدس ضدهما. لو كانت يهودية مع عربي لهان الأمر، فالكثير من الفلسطينيين تزوجوا من إسرائيليات. أما عربية مع يهودي... كان الأمر غريبًا. كان الأمر جسيمًا.

- سنتزوج بعيدًا عن كل هذا، قال يعقوب.

- بعيدًا أين؟ سألت سلوى.

- بعيدًا.

- أين؟

- سنذهب إلى فرنسا.

- ولم لا إلى أمريكا عند أختيك.

- أختاي كغيرهما لن تقبلا بنا.

- إذن لن نتزوج.

- فرنسا.

- أنا لا أعرف الفرنسية، وفرنسا بعيدة.

- ليست أبعد من أمريكا.

- أنا لا أعرف الفرنسية.

- ستتعلمينها.

- لم يعد لي رأس لهذا.

- سأعلمك إياها.

- لم يعد لي رأس لهذا.

- سأبدأ بتعليمك إياها منذ اليوم.

- لم يعد لي رأس لهذا قلت لك.

- سأنشئ هناك مصنعًا للعطور والمساحيق.

- أنت المحامي عطور ومساحيق.

- فكرة ورثتها عن جدي.

- جدك؟

- جدي. فكرة غالية على قلب جدي. فكرة لم يتمكن أبي من تحقيقها.

- وأنت ستتمكن.

- معك سأتمكن. سأنجح في كل شيء من أجلك.

- أحبك يعقوب.

تقبله قبلة طويلة، ثم تدغدغه، فيفرط وإياها من الضحك، يريدها، فتهرب، يركض من ورائها، ويمسك بها، وكلاهما يضحك، يرفع فستانها. دومًا ما كانت عارية تحت فستانها. فخذاها المرمريتان يأخذها منهما، ويرميها، فتفتح فخذيها. كان محرابه هناك، توراته، قرآنه، إنجيله، كان يقرأ الآيات المقدسة بلسانه، يرشف العسل بلسانه، يلعق اللبن بلسانه، كان كل الوعد هناك، وعندما ترفعه إليها، كان يسمع صوت الله، كان الله يكلمه، ليس كموسى، ولكن لأنه موسى. وهو يغرق في بطنها، كان كليم الله، وهو يعض ثديها كان يبحث عن سوفوكل، ويجده تحت لسانها. كل التراجيديا الإنسانية كانت تحت لسانها. لم تكن التراجيديا التي نعرف، كانت التراجيديا التي لا نعرف. كانت تراجيديا زمن المتعة، زمن لا يتعدى بضع ثوان. وكل العالم كان يرتعش لذة. كل العالم كان يضاجع معهما. كل العالم كان يتأوه متعة. كل العالم كان يخترق مهبل سلوى كنعان الصغير، كل العالم بإنسه وجنه وملائكته وشياطينه. القدس أول العالم. كانت القدس أول العالم الداخل في معركة العناق، كانت القدس وكل العالم مع القدس في المهبل الصغير. وكان المهبل الصغير يسع العالم والقدس، القدس بكل أطيافها، القدس بكل قديسيها، القدس بكل رذيليها، وكانت القدس تتأوه من اللذة، لم تعد القدس، تهدمت القدس، واندثرت، وسكن المهبل سكون العاصفة بعد طوفان، انسحب منه العالم، دون القدس العالم لا مكان له هناك.

*

استأجرا شقة صغيرة في حيفا، ولم يخالطا أحدًا كيلا تعرفهما حيفا. اختبآ بين سكانها، ولم يجعلا أحدًا إلا البحر صديقًا. وقعت سلوى حاملاً، فكان يعقوب أسعد الناس. لم تكن حال سلوى. لو كان أبوها لم يزل حيًا لما أسعده ذلك. لو عاد أخوها إلى الحياة لانتحر مرة ثانية. في أحد الأيام، قررت الإسقاط. كل هذا عبث. كل هذا إذلال. كل هذا مسئولية. لم تقل له. رتبت كل شيء مع الطبيب، وهي في طريقها إلى غرفة العمليات، فطن يعقوب إلى كل شيء. جاء يجري، سقط عليها، وهم ينقلونها على العربة، وانفجر باكيًا. بكى كما لم يبك أحد. بكى بقدر كل المعذبين على الأرض. بكى. بكى، وهو يتشبث بها. كالطفل يتشبث بها.

في تلك الليلة، بقي يقظًا حتى الصباح، قال لها هناك قضية هامة يقوم بتحضيرها، قضية يتوقف عليها مستقبله. إذا نجح سيواصل مهنة المحاماة، وإذا لم ينجح... لم يقل ماذا سيفعل. ولم ينجح. ذهب إلى مقهى، وشرب حتى تختخ.

- لم تنجح، قالت له سلوى أول ما دخل.

- في حيفا الكثير من الملائكة لهذا السبب، همهم يعقوب.

- من الملائكة العرب أم من الملائكة اليهود؟

- من الملائكة، راح يصرخ كالمجنون، فقط من الملائكة، من الملائكة، لماذا يجب أن يكونوا عربًا لماذا يجب أن يكونوا خراء، من الملائكة، أنت مثلهم، مثلهم كلهم، لست أحسن منهم، أنت أسوأ من الجميع. من الملائكة، يا رب السموات، فقط من الملائكة.

أنزلت حقيبتها من فوق الخزانة، وبدأت ترمي فيها ثيابها دون أن تفوه بكلمة واحدة.

- سلوى، ماذا تفعلين؟ ذهب عنه سكره. سلوى لماذا كل هذا؟ سلوى إلى أين أنت ذاهبة؟ سلوى أجيبيني. سلوى ما كل هذه الخرينات؟ سلوى ردي عليّ عندما أسألك. سلوى لم نعد أطفالاً. سلوى كل الأرض سأحرقها. سلوى كل البحر سأغلقه. سلوى كل العجول سأذبحها. سلوى، وجذبها من ذراعها لتصرخ من الألم.

- أتركني، يا وغد! صاحت بأعلى صوتها. جذبت حقيبتها، وخرجت.

لم تعد سلوى إلى دارهم في القدس، سارت في شوارع حيفا. كان في حيفا الكثير من الملائكة بالفعل، فالكل كان ينظر إليها، وهي تجر حقيبتها من ورائها دون هدف، والكل كان يكتفي بذلك. الملائكة لا يتعذبون من أجلنا، قالت المرأة البائسة. جلست على مقعد قرب الشاطئ، وأصغت. لم يكن البحر يصرخ من وضعها، كانت الأمواج تنساب واحدة تلو الأخرى، وتذوب في الرمل. لم يكن الذهب، كان الموت. لم يكن الزمن، كان المحطة. لم يكن حلم البحارة، كان كابوس الصيادين. كانت الأمواج تنساب الواحدة تلو الأخرى، وتذوب في الموت. كل لحظات حياتها كانت كالأمواج، تنساب الواحدة تلو الأخرى، وتذوب في العدم. وجدت نفسها تنهض، وتسير باتجاه البحر، وتدخل البحر إلى حيث يعود البحر بالأمواج. غمرها البحر كما يغمر كل حيفا، وبدا البحر منتشيًا لعناقه معها. ملأها بالماء. كان الماء منيه. وجذبها إلى القاع.

بعد هذا الحادث، فترت العلاقة بين الحبيبين. عاشا تحت سقف واحد كغريبين. هكذا هي النوارس. كانا ينعقان من وقت إلى آخر كلما جاءت سفينة من بعيد، ويحلقان معها حتى تصل الميناء. عندما وضعت يوسف، أحست بخلاصها.

- إني أتركه لك، همهمت سلوى.

باع يعقوب دارهم في حوش القدس، وغادر مع ابنه إلى باريس.

*

- هل تشعرين بالألم، يا حبيبتي؟ سألت سلوى أبولين دوفيل.

- وأنت؟ ردت ضابطة الدي جي إس إي، وهي مريضة بحكايتها.

- أنا ألمي ميتافيزيقي، أجابت الجدة باسمة.

- في الخارج، همهم فرانك لانج مأخوذًا، وهو يشير بيده إلى جهة ما، في الخارج.

- ماذا؟ سألت الشقراء الفرنسية.

- في الخارج.

- في الخارج ماذا فرانك؟

- في الخارج.

- يريد القول، نعم، في الخارج، همهمت سلوى.

- في الخارج ماذا فرانك؟

- في الخارج.

- نعم، نعم، هذا لا شيء، قالت العجوز لتطمئنه.

نهض رجل التحري الخاص، وذهب.

- فرانك! صاحت أبولين دوفيل من ورائه. وقفت على الباب، ونادت: فرانك، عد. رجعت إلى الداخل، وقالت لسلوى: سأذهب، سألحق به. وسارعت إلى الذهاب.

- لم تأخذي... سارعت إلى القول، وهي تشير إلى قنينة الزيت وضمة المرامية، فلم تلتفت أبولين دوفيل.

وضابطة الدي جي إس إي تجري من وراء فرانك لانج، كانت أصوت الطبول والأبواق، الطبول تدق، والأبواق تدوي، في فناء الأقصى، كيوم القيامة. نظرت، ورأت مئات المؤمنين قيامًا قعودًا، وكأنه يوم الحشر. كانت كل تلك الطقوس توحي بأن هناك شيئًا مدنسًا في مملكة القدس. مضى فرانك بهم، وهو لا يعيرهم أدنى انتباه، ظل يمشي كمن ركبه شيطان من الشياطين. كان يبدو كالمسحور، وكان لا ينظر إلى أحد. وهو على مقربة من حائط المبكى، كان المؤمنون هنا هم أيضًا قيامًا قعودًا، الطبول تدق، والأبواق تدوي.

- فرانك ماذا دهاك؟ سألت أبولين دوفيل، وهي تجذبه من ذراعه.

- ماذا؟ سأل رجل التحري الخاص بدوره كمن يصحو.

- لماذا؟

- ماذا لماذا؟

- لا شيء.

- سنأكل شيئًا.

- سنعود إلى الفندق.

- أنت لست جائعة؟

- لا.

- سآكل شيئًا، وسألحق بك، قال، وذهب.

- فرانك، نادت، فالتفت. كل شيء على ما يرام؟

رفع لها يده، واختفى.

*

- سلوى، ما الذي تقولينه، يا مجنونة؟ استغرب يعقوب آدم.

- أعرف أنني مجنونة، أجابت سلوى كنعان.

- وليس مجنونة فحسب.

- ماذا؟

- مهسترة.

- مستهترة.

- أيضًا.

- أخذت مني ابني ألا يكفيك هذا؟

- أخذت منك ابنك لأنك...

- أريد أن آخذ منك كما أخذت مني، هكذا نصبح متساوين.

- لكنى لن أمكث في القدس سوى ثلاثة أيام.

- ثلاثة ايام تكفي لصنع ابن لي.

- سلوى!

- ثلاثة ايام تكفي، ثلاثة أيام فيها الكفاية.

- سلوى، فكري.

- فكرت.

- تعالي معي إلى باريس إذن.

- لن نعود إلى ما سبق وتحدثنا فيه آلاف المرات، أنت كحكامك أرعن لا تمل.

- كحكامي وحكامك.

- كحكامك.

- وحكامك أنت؟

- أنا لا حكام لي.

- كما تشائين.

- تعال، سأفتح لك، وستبصق في.

- سأبصق فيك.

- ستبصق فيّ، فتصنع لي ابنًا.

- سلوى.

- ابصق فيّ قلت لك.

- أبصقُ فيك.

- أبصق فيّ، أبصق فيّ، أمرته، وهي تجذبه على السرير، تحت صورة أبيها، أبصق فيّ، وهي تخلع بنطاله، وتمسكه، وتضعه فيها. أبصق فيّ، همهمت المرأة اليائسة، ودموعها تسيل على خدها.

قال الكشف بعد عدة أسابيع بوقوع سلوى حبلى، وبعد عدة أشهر، ولدت سلمى.

*

انتظرت أبولين دوفيل عودة فرانك لانج في غرفته، فتأخر رجل التحري الخاص إلى ساعة بعيدة من المساء. لم تكن تشعر بألم، وكأنها برئت تمامًا. فكرت في جرعة الزيت التي أخذتها، وابتسمت.

- لماذا تأخرت فرانك؟ سألت الساحرة الشقراء أول ما دخل، فلم يجبها.

أخرج من جيبه الأوراق المصفرة، ورماها لها.

- قرأت إذن باقي الحكاية، همهمت أبولين دوفيل.

- هل تشعرين بألم؟

- لا، أعني قليلاً، تعال، وجذبته من يده إلى السرير، أريدك أن تدلكني قليلاً.

- تريدينني أن أحنو عليك.

- آه! صاحت، لكم أريد.

- الحنان، هذا ما كان ينقصها.

- من؟

- سلوى.

- والإدراك.

- إدراك ما لا يُفهم.

- هل تريدني أن أخلع ثيابك أولاً أم ثيابي؟

- تريدين أن "نتضاجع" بالفعل؟

- آه! صاحت، لكم أريد.

- وإذا كنت لا أحبك؟

- هذا لا يهم.

- أحبك أبولين.

التقط شفتيها، وذهب معها في قبلة طويلة، أثارت كل الرغبات الحيوانية في جسديهما، كان ذلك هو فعل الحب الصادق. خلعا ثيابهما، وهما في أقصى درجات الهيجان، ودخلا الفراش معًا. لم يكونا يريدان أن يصنعا ابنًا بل عالمًا أبديًا من المتعة، لهذا قدمت أبولين دوفيل كل جسدها له، ليعبث به على هواه، ريثما يأتي دوره، فيقدم كل جسده لها، لتعبث به على هواها.

القسم الخامس

كانت القدس القديمة تغلي بالمنتفضين، وكان المنتفضون يتوافدون كالشياطين من كل الأزقة. كانوا كلهم يتوافدون من القدس الشرقية، ويتجهون نحو ساحة الحرية في القدس الغربية. وكلما اقتربوا من ساحة الحرية، كلما علا صراخهم. ومن فترة إلى أخرى، كانت تُسمع في الأجواء أصوات القنابل المسيلة للدموع، وفرقعات الرصاصات المطاطية. وأبولين دوفيل وفرانك لانج على مقربة من الدرج الصاعد إلى بيت بنات الهوى، لاحظا حركة غير عادية في درب الآلام. كانت بنات الهوى يقمن بإسعاف الجرحى الذين كانوا يحتلون الدرج كله حتى داخل بيتهن، وكن يوزعن قناني الماء على الظامئين من الشباب، والكعك، والحلوى.

- ها هما الفرنسيان، صاحت إحداهن، تلك التي تضع على صدرها صليبًا، أول ما وقعت على رجل التحري الخاص وضابطة الدي جي إس إي.

- أنتما لستما جريحين؟ سألت ثانية.

- أنتما لستما ظامئين؟ سألت ثالثة.

- أنتما لستما جائعين؟ سألت الرابعة

- أنتما تريان كل هذا الخراء؟ سألت الخامسة.

- هذا الخراء هو ثورتنا، عادت المومس الأولى إلى القول.

- جميل خراؤنا، أليس كذلك، عادت الثانية إلى القول، رائحته رصاصات مطاطية وقهوة عربية وقنابل مسيلة للدموع.

- خذا، اشربا على حساب البيت، عادت الثالثة إلى القول، وهي تصب لهما فنجاني قهوة.

- لدينا ساندويتشات خنزير، عادت الرابعة إلى القول، للفرنسيين فقط.

- وللإسلاميين إذا أرادوا، عادت الخامسة إلى القول، معذرة، للحريديين.

- أنتن هناك، صاح حريدي، اليوم السبت، فأغلقوا الدكان.

- هذا الشيطان، من أين خرج لنا؟ صاحت بنات الهوى.

حملنه من فوق الرؤوس، وهو يقاوم دون جدوى، وألقين به في صندوقٍ للقمامة، وهن يقهقهن.

وهما على أطراف ساحة الحرية، كانت المواجهات على أشدها، إلى أن تمكن المنتفضون من الطرفين من إحكام الخناق على الجنود. حط الصمت بالتدريج إلى أن توقف التاريخ عن الحركة. راح الجنود ينظرون في وجوه الثوار، والثوار ينظرون في وجوه الجنود، وفجأة، رمى الجنود أسلحتهم وعصيهم في الهواء، وهم وكل من كان هناك يصرخون، وتراموا في أحضان بعضهم. كان التآخي، وكان العلم الإسرائيلي يرفرف في الناحية الغربية، والعلم الفلسطيني في الناحية الشرقية.

- إلى البلدية، صرخ سِلِسْتا.

وهناك من ردد كالصدى:

- إلى البلدية.

توجهت الجموع إلى البلدية، وهي تنشد أغنية الثورة:

لماذا لم تفعل هذا من قبل

وتركت أمك تبكي كل الوقت؟

ألم تفكر في عينيها؟

لماذا لم تفعل هذا من قبل

وتركت أختك تمشي كل الوقت؟

ألم تفكر في قدميها؟

لماذا لم تفعل هذا من قبل

وتركت "فأرتك" تنادي كل الوقت؟

ألم تفكر في نهديها؟

كانت قبة السماء زرقاء، وكان الناس يعلمون دون أن يرفعوا رؤوسهم أن قبة السماء زرقاء. كانت الحرية أن يعلموا دون حاجة بهم إلى معلم. الحرية زرقاء عندما ينتصر الإنسان، لهذا كانت قبة السماء بلون البحر. لم يعد للخوف مكان، كانت الحرية. لم يعد للتخويف مكان، كانت الحرية. لم يعد للاحتلال مكان، كانت الحرية. وكانت الحرية ألا يكون شيء آخر غير الحرية. الوجود. كانت الحرية الوجود. الجوهر. الفكر. العقل. ساندويتشات بنات الهوى. العناق. المتعة. الجمال. الفن. الأدب. الموسيقى. الأيام. كانت الحرية الأيام. كل أيام الأسبوع، وكل أيام الشهر، وكل أيام السنة. وكل أيام العمر. كانت الحرية كل أيام الطير. كانت الحرية حرية الطير، وكان الطير كل هذا، كل الأحلام، كل الأوهام. كل الأقدام. كانت الحرية كل الخطوات الذاهبة إلى البلدية. كل الخطوات. حرية. خطوات. كل الخطوات. كل الخطوات الذاهبة إلى البلدية، وإلى بيت بنات الهوى، وإلى فناء الأقصى، وإلى حائط المبكى، وإلى كنيسة القيامة. كانت الحرية كل الخطوات. كل الطرق. الطريق إلى عمان كالطريق إلى حيفا كالطريق إلى جهنم. كل الطرق الحرية. كل الطرق. كل الخطوات. كل الاتجاهات. كانت الحرية كل طرق العالم. العالم. كل الشعوب. كانت الحرية كل الحكومات. كل الجامعات. كل الجمعيات. كل البارات. كل النقابات. كل خلايا النحل. كل أروقة النمل. كل الأعشاش. كل الأعشاب. من الهندباء إلى الماريجوانا. كل النجمات. فينوس نجمة الصبح أولها. كل الشموس. كل الشامات. كل الحلمات. الحرية. كل الحرية. كانت الحرية كل حرية، وكل حرية الحرية. الحرية. الحرية. الحرية.

في البلدية المجتاحة بأبناء الحرية، تمكن فرانك لانج من الوصول إلى سِلِسْتا. كان يحتل مكتب جده، وصورة جده المبتسم من أمامه، ومن حوله سامي ودافيد وعيسى وحنان وشلومو وآخرون غيرهم.

- لو كان جدك لم يزل على قيد الحياة لكان فخورًا بك، قال فرانك لانج.

- التآخي في الاختلاف شعاره هو كل هذا وقد تحقق، قال سِلِسْتا.

- أضف إلى ذلك أنكم لستم في القدس وحدكم، قالت أبولين دوفيل.

- معظم بلديات المدن الأخرى تم اجتياحها من طرف المنتفضين، تباهى سِلِسْتا.

- والآن ماذا ستفعلون.

- سنشكل حكومة جديدة، وسنكتب دستورًا جديدًا.

- هل أنت لينين جديد أم مايكل جاكسون جديد؟

- لا هذا ولا ذاك.

- أنت من إذن؟

- أنا كلب الحرية.

- سؤال أخير.

- ما هو؟

- من قتل جدك؟

- لا، ليس الموساد.

- إذن من؟

- الموساد كان يعرف، وترك القاتل يفعل.

- إذن من؟

- ليس الموساد على كل حال.

- إذن من؟

- الكل يعلم أن جدي كان ضد الاحتلال، ضد الجدار، ضد المستعمرات، ضد التهويد، وكان ينفق الأموال على كل الجمعيات والمؤسسات دون أي تفريق.

- إذن من؟ إذن من؟

- ليس الإرهابيين العرب على كل حال.

- إذن من؟ إذن من؟ إذن من؟

تدفق المنتفضون الذين جاءوا ليحملوا سِلِسْتا على أكتافهم، وحصل ضجيج لم يسمع التحريان على أثره اسم القاتل. رأيا شفتا الثوري الشاب تتحركان قبل أن تجرفه الأمواج.

وهما يدخلان على الجدة في وسط دارها، كانت على الهاتف تقول:

- تحبينني؟ وأنا أيضًا أحبك، يا بنتي. تحبينني أكثر من أي شيء في الوجود؟ وأنا أيضًا أحبك أكثر من أي شيء في الوجود، يا بنتي. بنتي، بنتي، اسمعي، بنتي، متى ستعودين إلى البيت؟ بنتي، آلو! بنتي، بنتي، آلو! آلو! آلو! قالت للفرنسيين حزينة، وهي تقفل: كانت سلمى، بنتي، قالت تحبني أكثر من أي شيء في الوجود. وبعد قليل: تعالي، يا حبيبتي، قالت للساحرة الشقراء.

- جئنا فقط لنقول لك مع السلامة، همهمت أبولين دوفيل.

- هل أنهيتم إعادة كتابة مدينة الشيطان؟

- أنهينا، أجاب فرانك لانج، وهو يعيد إليها أوراقها المصفرة. هذه الذكريات قيمتها لا تقدر بثمن!

- والآن؟ سألت، وهي تشعلها بعود كبريت تحت نصف صرخة من فم التحريين. الآن هذه الذكريات دخان. رماد. ككل شيء مات، وانتهى. ثم لأبولين دوفيل: نسيت أن تأخذي قنينة الزيت وضمة المرامية، قالت، وهي تقدمهما لها.

- شكرًا كثيرًا، همهمت أبولين دوفيل، وهي تأخذهما من يدها.

قبلتها ضابطة الدي جي إس إي من خدها، وقبلها فرانك لانج من يدها. أعطياها ظهرهما، وبعد خطوتين، التفت فرانك لانج، وهمهم:

- سؤال أخير.

- ما هو؟

- من قتل يعقوب؟

- يوسف.

باريس الجمعة في 2012.09.07

أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يومًا بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011
33) تراجيديا النعامة 2011
34) ستوكهولم 2012
35) شيطان طرابلس 2012
36) زرافة دمشق 2012
37) البحث عن أبولين دوفيل 2012
38) قصر رغدان 2012
39) الصلاة السادسة 2012

40) مدينة الشيطان 2012

الأعمال المسرحية النثرية

41) مأساة الثريا 1976
42) سقوط جوبتر 1977
43) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

44) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
45) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
46) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
47) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
48) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
49) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
50) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
51) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

52) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
53) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي نموذجًا (جزءان) 1983
54) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
55) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
56) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995
57) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
58) خطتي للسلام 2004
59) شعراء الانحطاط الجميل 2007 – 2008
60) نحو مؤتمر بال فلسطيني وحوارات مع أفنان القاسم 2009
61) حوارات بالقوة أو بالفعل 2007 – 2010
62) الله وليس القرآن 2008 - 2012
63) نافذة على الحدث 2008 - 2012



عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

مدينة الشيطان رواية الثورة الإسرائيلية، رواية متخيلة، اقترحتها على المؤلف حركة الاحتجاجات التي اجتاحت إسرائيل، فكانت مناسبة للتشريح الكياني والتحليل المجتمعي، وقول ما كان من اللازم أن يقع تحت شروط لم تزل بعد في مرحلة المخاض، لكنها تؤشر في العمق إلى تغيير حتمي قادم، يضع حدًا لسياسة "شزفرنة" المجتمع، ليسهل على حكام هذا البلد تمرير برنامجهم التغريبي، تغريب الآخر، وتغريب الذات، من أجل الإبقاء على المكاسب الشخصية والمطامع الشيطانية. لهذا كان لا بد لهذه السطور من أن "تمضي كالمسيح من هنا"، جملة تقولها إحدى شخصيات الرواية، فالشيطان كعنصر بنيوي وعنصر درامي هو البطل الرئيسي، والقدس كمدينة للشيطان هي الفضاء القدسي.

في هذه الرواية عودة إلى الرواد اليهود الأوائل "الاشتراكيين-الثوريين"، وفشلهم التاريخي، وعودة إلى الفاجعة الفلسطينية منذ وعد بلفور إلى اليوم تحت رؤية جديدة وتناول جديد، خمسة أجيال من عمر تاريخنا المشترك، والأهم من هذا وذاك عملية "الأنسنة"، أنسنتنا وأنسنتهم، عملية كلفت أفنان القاسم جهدًا جماليًا جبارًا ومهارة حبكوية لم يعتد عليها قلمه من قبل.

هذه الرواية هي السادسة من السلسلة التي يكتبها أفنان القاسم مع بطليه التيميين فرانك لانج رجل التحري الخاص وأبولين دوفيل ضابطة الدي جي إس إي.

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.