اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• ( يوسف سلمان ) بين عامي 1942 – 1946 - الصفحة 2

 رب ناج من الردى, خاف الأنباء صرعى من المائج الهدار

 

مثقل الظهر, بالسنين الطويلات وبأشلاء بيته المنهــــــــــــــــــار

لاح لي فانطلقت أزجي إليه الشعر حران قاذفــــا بالشـــــرار

أيها المبتلى وأدعو بك الشعب وقد هم غيظه بانفجـــــــــــــــــار

ذلك النهر فاض بعد احتباس عاصفا بالــــدود عصـف أقدار

نبئني: أي ساعة أبصر الشعب وقد فاض بعد طوال الأسار

ساحقا في اندفاعه ما أقام الظلم في دروبه من الأسوار

 

ونشرت القصيدة كما وعدت.

 

وكان في الحلقات الجامعية التابعة لي شاب أرمني عرفوه علي باسم اصطفان, ولا أعرف إذا كان هذا هو اسمه الحقيقي أو انه اسم حركي. وكان أديبا يحب الشعر الأرمني الثوري ويرويه بافتخار. وكان يقضي معي الساعات الطوال يقرأ علي قصائد ارمنية ثورية تحرض العرب على غاصبيهم نظمها الشاعر الأرمني, أزاد فيشدوني فيترجمها لي بلغة بغدادية عامية فصرت أصوغها له بلغة عربية فصيحة. ونشرت له بعضها في " واسط" باسم مستعار أخر(أرمو) كونت منه دفترا صغيرا ما زلت أملك مخطوطته. وعندما قرأتها على زميلي المدرس الأرمني في حلب في الخمسينات, السيد أوديك أسحاقيان, سر بها وأهداني ديوان الشاعر أزاد فشدوني بالأرمينية وترجم لي قصيدة أخرى ضممتها إلى دفتري ولا أعرف الآن مصير الرفيق أصطفان الذي طالما أسعدني حسه الأدبي الشاعر. وهكذا كنت جم النشاط طوال أعوام ( 1943 و1944 و1945 و 1946) بقيادة فهد والكثير من توجيهاته المباشرة. ولذلك رشحني فهد للاتصال بالحزب الشيوعي (اللبناني السوري) باسمه وطلب إلي أن أسافر في العطلة الصيفية لعام 1943 إلى بيروت وأن أحمل إليها مطبوعات الحزب وأدبياته ولاسيما أعداد "القاعدة" ونظم الرفيق الشهيد محمد زكي بسيم لي حقيبة فنية فيها أرضية سرية جمعت فيها كل تلك المطبوعات واخترت السفر على عربة شحن للبضائع كمساعد للسائق اللطيف الودود (عدنان), وكانت هذه الشاحنات تنقل السلع العسكرية من بيروت إلى بغداد فطهران فالاتحاد السوفياتي وتعود فارغة. وكان أجرها زهيدا لي وممكنا وكانت سفرتي معه ممتعة سجلتها لنفسي في عشر صفحات. ولم يفطن لما في الحقيبة رجال الجمارك لما تضمه حقيبتي الحقيرة. وقابلت في بيروت الرفيق الشهيد فرج الله الحلو فسلمته فسر بها وحدثته عن العراق والحزب وفهد كل شيء, وكان متعاطفا حملني تحياته وإعجابه وتمنى علي أن أنقل إلى الرفيق فهد ضرورة اللقاء مع الكتل المعارضة وتسهيل عودتها للحزب. وقد فعلت ذلك وأسعدني أنني شهدت عودة الكثير من هؤلاء وتعاونت معهم في أعمال النشر ونشاطات حزب التحرر الوطني, وأصبح منهم أصدقاء لي لن أنسى عمق صداقتهم. وفي عام 1945 طلب مني الرفيق فهد أن استأجر منزلا بأسمى, يظل سريا لا يعرف به أحد. ولا أتخلى عن مكاني المعروف وهو غرفة في منزل عربي واسع نسبيا. فيه عقد كبير تحت مستوى ارض المسكن. في حي الشيخ عمر على مقربة من جامع الولي الشيخ عبد القادر الكيلاني. أقمت فيه طوال عام 1945 ومعظم عام 1946, حتى تم اعتقالي في حزيران من العام نفسه, ثم طردي في أواخر آب. فتكون إقامتي في المنزل سنة ونصف وفي العراق سبع سنوات وسبع أشهر. ولم أعرف بعد اعتقالي كيف تم التنازل عن المنزل وتسليمه لأصحابه ومتى ولو أنني عرفت فورا أن مطبعة الحزب وجريدته قد نقلتا من المنزل فورا إلى مكان سري أخر أجهل كل شيء عنه. لقد استخدمت هذا المنزل لإقامتي "المزعومة" لكن الرفيق فهد هو الذي أقام فيه. وكنت معه مجرد رفيق يحضر بعض اجتماعاته ويغيب عن أكثرها. وقد نقل إليه مطبعة القاعدة واتخذ من العقد (القبو) الواسع مقرا لها. وخزن فيه الورق والأعداد وكل لوازمها. وأخذت القاعدة تطبع في هذا المكان وتخزن فيه أعدادها وترزم وتوزع منه على جميع أنحاء العراق. وكان موقع البيت المنزوي يبن الأزقة, وقدسية الحي المجاور للجامع الكبير وكثرة الأغراب الذين يؤمون الحي عامل مفيدا لصرف النظار عنه. كان الذي يدهشني في سلوك الرفيق فهد أنه لم يكن قائدا منظما فذا وموجها فكريا عميق النظر وبعيده, قادرا على التنظير الفكري وتحليل الأحداث وفلسفة أسبابها ووضع الشعارات المنطقية المقبولة للمرحلة وأسلوب نشرها فحسب, بل كان إلى ذلك عاملا بارعا كأكثر عمال الطباعة مهارة, كان يصلح أجزاء المطبعة ويهيئ حروفها ويكتب مقالاتها ويصفها مهيأة للطبع ويقوم بنفسه بطبعها ورزمها, يفعل كل ذلك معا وبمنتهى البراعة والدقة والتنظيم. وكنت أتقدم لمساعدته أحيانا. ولكن كل مساعدة له كانت تبدو ضئيلة بالنسبة لعمله الكبير الذي لا يتوقف لا في الليل ولا في النهار. كان يعيش الرفيق فهد في هذا البيت معيشة المتصوفين والرهبان. وكنت ألحظ كيف كان يكرس كل لحظة من لحظات الليل والنهار, لإنجاز القضية التي وهب نفسه لها, على أكمل وجه. كان الرفيق فهد في حدود الخامسة والأربعين - كما حددت ذلك من وجهة نظري- هكذا كان يبدو لي كالشاب النشيط المقبل دائما على العمل بكل أشكاله الفكرية والتنظيمية واليدوية. وكان قوي البنية - كما كنت أراه- جم النشاط والغريب انه في جميع حوارا ته وأحاديثه العادية التي حضرتها في بعض سهراته مع الرفاق. أو في تصرفاته الشخصية, لم يشر إلى الجنس أو الكحول أو يقرب من ذلك بحسب علمي ورفقتي شبه الدائمة له في هذه الشهور من عامي 1945 و1946, وكان ذلك يثير في المزيد من الإعجاب به وإكباره. كنا نأكل ما بتيسر أو بعض ما يحضره بعض الرفاق أو ما نشتريه من الأزقة التي تحيط بنا. وفي عام 1945 رشحني الرفيق فهد لحضور المؤتمر المصغر للحزب (الكونفرنس) الذي عقد في يومين متتاليين في منزل أحد الرفاق في حي العلوازية, فحضرته كعضو منتدب واستمعت فيه إلى تقرير الرفيق فهد, وتقارير بقية الرفاق من القادة. وحين جرى انتخاب اللجنة المركزية الموسعة, فوجئت أن الرفيق فهد قد رشحني لعضويتها, وانتخبت فعلا وحضرت اجتماعين من اجتماعاتها التي كانت تعقد مرة كل ستة أشهر. وقد تعرفت بسب نشاطي الفكري بالكثير من الأدباء والشعراء الحزبيين وغيرهم. وكان الرفيق فهد كثيرا ما ينتدبني - بصفتي عضوا مؤسسا في حزب التحرر الوطني- للقاء بعض السياسيين والقادة المسؤولين. قد نبت عنه مرتين في مفاوضات مع السيد كامل الجادرجي. ومع السيد عزيز شريف ومع الشاعر محمد مهدي الجواهري في مكتب جريدته(الرأي العام) وكثيرا ما كنت أقرب من وجهات النظر بين الحزب وهؤلاء أو أخفف من نقاط الخلاف. كان الهم الأكبر هو المشاركة في الدفاع عن الديمقراطية وعن حرية الأحزاب وعن مطالبة الآخرين بمناصرة حزب التحرر الوطني للحصول على الإجازة بالتنظيم والعمل ورد الافتراءات عن عصبة مكافحة الصهيونية التي كانت تعلن عدائها العميق ضد الصهيونية وقد نشرت دار الحكمة لأحد أعضائها (يوسف هارون زلخة) كتابا ضافيا في هذا الباب عنوانه "الصهيونية عدوة العرب واليهود" وقد التقيت في السجن بهذا المثقف اليهودي المعادي للصهيونية ولم أسمع منذ طردي من العراق أي خبر مع ما عرف عنه أو لمسته فيه من عمق وإخلاص فيما يعتقد ويقول. كان يساعدني في عملي في دار الحكمة معظم الرفاق, حتى القادة منهم. كان الرفيق الشهيد محمد زكي بسيم يحاول أن يدربني على تنظيم أعمال الشركة وإدارة المكتب. كان لا يختلف عن المساهمة بجدية وإخلاص في كل عمل حتى الأعمال اليدوية كتنظيم الكتب والمقالات والمقاعد معا. كان في سلوكه يعلمنا بدون أوامر وبالمشاركة الفعلية, رايته مرة يساعد خادم المكتب (عبد الزهرة) في تنظيم الكراسي وتنظيف المكتب. كان يشعر الآخرين - أيا كانوا- بأنهم أندادا محترمون, فيكتسب بذلك احترامهم وطاعتهم إذا كانوا حزبيين. وكان الرفيق الأخر حسين محمد الشبيبي لا يقل حرصا على الحضور والنشاط عنه, والمشاركة الفعالة وكأنه عنصر أساسي من عناصر المكتب. وكان يساعدني المحامي الكاظمي الشهيد محمد حسين أبو العيس, والمحامي العاني الصديق سالم عبيد النعمان وغيرهما. كنا نؤلف عائلة واحدة يشارك الجميع فيها كل فرد بما هو مؤهل له أو يستطيعه. كانت القضية العربية الأهم المثارة على نطاق العراق والأقطار العربية, وهي قضية فلسطين. وكان خطر التقسيم قد بات واضحا في عام 1946. وكان الحزب الشيوعي العراقي بقيادة الرفيق فهد ضده, وكانت مبادئه وأحكامه قد نشرت على النطاقين العربي والعالمي. وكانت جميع المنظمات والأحزاب قد أدلت بدلوها في بحث جوانبه مؤيدة أو معارضة. وكان الاتحاد السوفياتي في أول الأمر معارضا, وكان رفض الشيوعيين له مبررا. ولكن الإتحاد السوفياتي بدل من رأيه فيه وصار يرى في التقسيم حلا وحيدا ممكنا. وتابعته الأحزاب الشيوعية في تأييده لا من الغرب فحسب بل في الوطن العربي (في مصر والقدس وبيروت والشام) ربما متابعة منها للإتحاد السوفياتي على أساس انه قائد المعسكر الاشتراكي, المسيرة الماركسية برمتها. أيده الجميع إلا فهد والحزب الشيوعي العراقي. وجريدة القاعدة والجرائد الأخرى التي تسير معها كالعصبة و واسط. ونشرات حزب التحرر الوطني. وظلت هذه القوى العراقية الكبرى تطالب كما كانت دائما بزوال الانتداب الإنجليزي نصير الصهيونية في فلسطين وإعطاء الشعب الفلسطيني, و80% بالمئة منه عربي, حق تقرير المصير لإقامة دولة ديمقراطية يتساوى فيها جميع السكان عربا ويهودا, أو بكلمة أوضح: إقامة دولة عربية ديمقراطية في فلسطين. ولم يكن هذا الكلام وهما يمكن إنكاره فقد سجلت صحف الحزب هذه المبادئ علنا ولاسيما بقلم القائد فهد ولم يبدل رأيه حتى استشهاده ولو أن من خلفوه في القيادة قد خانوا نهجه واعترفوا بما رفضه. ومن يريد تحري هذا الموقف الفريد, عليه أن يعود إلى افتتاحية الرفيق فهد في جريدة العصبة (عم نكافح) والتي نشرت بعد ذلك في كتيب خاص. ففيها الجواب الصحيح على الموقف العربي الواضح للرفيق فهد. كذلك عندي العدد الثالث من مجلة واسط التي نشرت في صفحتها ال14 فصلا من هذه المقالات (عم نكافح) يقول في أحدى مقاطعها: "على الحكومات العربية أن تعرض فورا قضية فلسطين على مجلس الأمن, وتطالب بتأليف حكومة ديمقراطية, أي عربية لأن أغلبية السكان كانت في عام 1946 من العرب, وكان اليهود فيها أقلية لا تتجاوز العشرين بالمئة" وكنت متأثرا بهذا الرأي ومساندا له. لذلك جاء في خطابي المنشور في العدد الخامس من مجلة واسط في الصفحة الثالثة بتاريخ 20 أيار 1946, تحت عنوان " ماذا يعني الانتداب في فلسطين" الكلمات التالية: " إن حل مشكلة فلسطين لا يكون إلا بإلغاء الانتداب, وبإعطاء شعبها حق تقرير المصير, حق تأليف حكومتهم الوطنية الديمقراطية الحرة. ولكن من حق شعبنا العربي في فلسطين, وهو يكون الأكثرية فيها, لأن يأخذ بيده المبادرة. فيألف - بمعونة اليهود- حكومة عربية ديمقراطية, تحقق لجميع السكان على السواء العدل الاجتماعي والتقدم" وذلك في الصفحة السادسة من العمود الأول لذلك العدد. إن من حقنا - اليوم- وقد مضى على استشهاد الرفيق فهد عشرات السنين, إن نبرز هذه الحقيقة, أنها الحقيقة الوحيدة التي تتفق مع العدل الإنساني ومع الشرع لدولي. وبخاصة مع الفكر الماركسي الصحيح, الذي كان يؤمن به فهد على حقيقته وبدون عقد عرقية أو دينية أو مذهبية أو غيرها. كان يؤمن بذلك كحق طبيعي ليس للعرب فحسب بل لكل الشعوب. ولأنه عربي فللشعب العربي بصورة خاصة. لا أقول أن الرفيق فهد كان قوميا عربيا بالمفهوم الخاطئ لهذا لمصطلح ومعظمه مشوب بالشوفينية والعنصرية والتطرف وكراهية الغير. ولكنني أقول وأصر على هذا القول: أنه لم يعاد العرب كما فعل آخرون. ولم يحول مثلهم نشاط الشيوعيين إلى محاربة القومية العربية التحررية أو الوحدة التي لا يستطيع الاستعمار إذلالهم بتحقيقها. لم يعاد العرب ولم يحارب نزوعهم الوحدوي, بل كان مؤيدا لحركات التحرر العربية. لأن ذلك التأييد كان من طبيعة فكره العلمي الماركسي. الم يخاطب البلاشفة بعد عام 1917 جميع الشعوب المجاورة بالحب والتأييد دافعين بها للتحرر؟ أكان البلاشفة في سلوكهم هذا مخطئين؟ ذلك ما فعله الرفيق فهد. لقد فهم الوضع العربي على حقيقته وأكتشف أن المرحلة التي يجتازونها هي مرحلة تحرر, ولن يكون هذا التحرر ممكنا إلا بتوحيد نضالهم. كان من طبيعة الفكر العلمي الماركسي في الأربعينيات أن تتكتل كل القوى العربية وأن تطالب بحق تقرير مصيرها, أي حقها في الوصول إلى حكم بلادها حكما ديمقراطيا عادلا. ومن الممكن بموجب هذا المنطق العلمي أن يكون التحرر القومي الإنساني غير المعادي للشعوب رديفا طبيعيا, لكفاح الأممي هذا ما كنت اعتقد فهد يؤمن به. وكان - كما عرفته ينتقد برفق طبعا- ودون تهجم أو شتيمة, كما فعل آخرون الموقف المعادي للعروبة والخاطئ. وحين أشتدت الدعوة لتقسيم فلسطين في أواسط 1946. وبدأ البعض يؤخذون بأضاليلها, وكنا في العراق نعاديها علنا وندعو جماهير شعبنا لمناهضتها, دعانا الرفيق فهد إلى التكتل مع بقية القوى الوطنية وأن تؤلف مجموعة من المثقفين (محامين ومهندسين وأطباء ومعلمين ونقابيين) لإصدار بيان صريح ضدها ولدعوة الشعب للتجمهر أمام بناء كلية الهندسة والمسيرة في مظاهرة شعبية سلمية تندد بهذا القرار على أن نطبع البيان وتنشره الصحف بأسماء واضعيه الصحيحة, وصدر البيان ونشرته الصحف وحدد يوم 26 حزيران موعدا لهذا التظاهر. وبما أن العراق كان يعيش منذ عشر سنوات - منذ انقلاب بكر صدقي- في ظل الأحكام العرفية وكان التظاهر جريمة يعاقب عليها القانون, فقد أعتبر بياننا جريمة توجب الاعتقال والمعاقبة, وقبض على جميع الموقعين إلاي, فقد كنت في بيتنا السري الذي تجهله الحكومة ودوهمت غرفتي في عقد النصارى فلم يعثروا علي. وقد رأى الرفيق فهد أن عدم اعتقالي وأنا أمثل الحزب تقريبا نوعا من الهرب, وأن علينا أن نواجه الحكومة ومحاكمها وأن نحول محاكماتنا إلى مظاهرات. وطلب مني الرفيق فهد أن أسلم نفسي وجمعت حاجياتي الضرورية في حقيبة يد وذهبت إلى الشرطة طائعا أسال عن سبب بحثهم عني.... فاستشاطوا غضبا وحولو التحقيق إلى البحث أين كنت أختفي فقلت لهم لم أغب عن غرفتي إلا مرارا للطعام وتأمين الحاجيات. سجنت مع الباقين وتمت المظاهرة والتجمعات في مواعيدها الأمر الذي ضاعف من غيض الحكومة فلم تقدمنا للمحاكمة وحوكمنا شكليا وصدرت براءة جماعية لنا وخرجنا على وليمة أقامها لنا رفيق كانت نوعا من الشوربة لعدم إرهاق معدنا الخاوية. وعندما ذهبت إلى مطعم العاصمة لأتناول طعاما, جلس إلى قربي شرطي سري وقال لي عليك أن ترافقني إلى مدير الشرطة وأدركت أنه اعتقال أخر. وبعد أن شتمني المدير وتفرس في هويتي العراقية ضمها إلى أوراقه وقال لقد سحبنا منك الجنسية وعليك مغادرة العراق. وسنسلمك بأنفسنا باعتبارك من مواليد إنطاكية. ولم يفد احتجاجي بأنني سوري. ونقلت إلى موقف قسم الشرطة في العباخانة, وهو أسوء سجن للشرطة في بغداد مكثت فيه خمسة عشر يوما. قدمت لي فيه فتاة طيبة اعرفها باسم نورية فراشا وبطانية ومخدة. ثم نقلت إلى سجن قسم الكرخ وهو أرقى وأفضل من سابقه. وبعد خمسة عشر يوما نقلت مكبلا بالحديد إلى محطة السكك الحديدية المتجهة على الموصل. وهنالك - في المحطة- وعلى بعد أمتار مني شاهدت عددا من الرفاق وعلى رأسهم الرفيق الشهيد حسين محمد الشبيبي, يودعونني بابتسامة رقيقة... ونهد القطار إلى الموصل. وبعد أيام في سجنها نقلت بسيارة من سيارات الشرطة مكبلا إلى مدينة زاخو حيث مكثت في سجنها أسبوعا. كان مدير السجن إنسانا شريفا أكرمني, وجنبني بعض الأذى. وعندما نقلت إلى الحدود التركية رفض الترك قبولي فأعادوني إلى زاخو فالموصل ومنها إلى محطة تلكوجك السورية. وسلمت لرجال الدرك السوريين مكبلا بالحديد دون أوراق, فلما سئل العراقيون عن الجريمة قالوا لا نعرف. وحينما رويت لهم السبب قالوا هذا موقف يوجب الثناء عندنا لا العقوبة. وبعد يومين حررت من القيود ونقلت إلى حلب وأمام موظف إدارة السياسية المثقف السيد فؤاد اسود قبل مني أن اكفل نفسي وأن أذهب إلى دمشق للحصول على أوراق شخصية ففعلت وأصبحت مواطنا أبحث عن وظيفة. ولم تنقطع صلتي الأدبية برفاقي في بغداد. كان الرفيق الشهيد محمد زكي بسيم يراسلني سرا بإرسال صحف بغداد إلي, يشحن هوامشها بتوصياته وأخباره حنى تم اعتقالهم بخيانة احد قادة الحزب. وبناء على توصياتهم ظللت صديقا للشيوعيين السوريين. ولما تمت الوحدة بين سوريا و مصر, كتبت لهم دراسة علمية مهذبة نصحتهم فيها بأن مصلحة الحزب في تأييده هذه الوحدة لا في محاربتها وصدرت الدراسة بجملة رسالة إلى الرفاق والقادة. وبعد أن قرأتها على صديقي مترجم "اصل العائلة" حملتها برفقته إلى مكتبهم الجديد وسلمتها لهم. وأنني إذ أعيد ذكرياتي عن الفترة الثرية بالنشاط والفكر وصدق العمل المطوقة بغلائل الحب والاحترام والثقة التي طوقني بها الرفيق الشهيد فهد ورفاق العراق الطيبين, لا يسعني بعد مرور نصف قرن إلا أن انحني بكل إجلال أمام هذه الذكريات الحية في النفس.... وأثمن من جديد مواقفه الواعية الشجاعة ومواقف رفاقه الشهداء الأبرار.... وشكرا.

 

دمشق 10/10/1993  

 

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.