اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• كتاب : مراحل تشكل المجتمعات البشرية - الصفحة 2

 السمات المعنوية للحياة في ظل الإقطاع:

 

ومن الواجب أن تكون نقطة بدايتنا في دراسة السمات العقلية المتولدة عن نظام الإقطاع هي تلك الحقيقة التي أشرنا إليها من قبل، وأعني بها أن نظام الإقطاع مرتبط أساسا بالحياة الريفية الزراعية. ولا شك أن طول المدة التي ظل فيها الإقطاع سائدا في الريف قد أدى إلى تداخل وثيق بين العلاقات الاجتماعية الإقطاعية وبين نمط الحياة الريفية بوجه عام، بحث يمكن القول إن قدرا غير قليل من معالم الحياة في الريف، كما نعرفها حتى يومنا هذا، قد تحدد عن طريق نظام الإقطاع، كما يمكن القول من ناحية أخرى إن السمات الرئيسية المميزة للعقلية التي تعيش في ظل الإقطاع قد تشكلت نتيجة لظروف البيئة الزراعية التي لا يسود هذا النظام إلا فيها.

 

1– أولى السمات التي تلفت الأنظار في البيئة الريفية التي يسودها الإقطاع، والتي تؤثر تأثيرا قويا على العقليات في هذه البيئة، هي ببساطة نمط الحياة وبطء إيقاعها. وصحيح أن هذه سمة مشتركة بين كل المجتمعات الزراعية، لكن نزوع المجتمع إلى الثبات ومحاربته للتجديد من الصفات التي تزداد وضوحا في المجتمع الإقطاعي على وجه التخصيص. ذلك لأن الإقطاع بطبيعته نظام راكد، يحرص أصحاب لسلطة فيه على الاحتفاظ بنفوذهم وسيطرتهم، ويؤمنون – عن حق – بأن شيوع الاتجاه إلى التجديد في أي ميدان من ميادين الحياة الاجتماعية يمكن أن تنتقل عدواه إلى سائر الميادين، ومن ثم فإنه يهدد سلطتهم ذاتها بالخطر.

 

في مثل هذا المجتمع تتخذ أساليب الإنتاج ذاتها طابعا ثابتا، ولا توجد أية حوافز للتجديد. وينعكس ذلك مباشرة على العقول، فتكون النتيجة أن تتسم طرق التفكير بالثبات، وتتسم العادات الاجتماعية والقيم الأخلاقية بالجمود والتحجر. وإلى هذا العامل يرجع قدر كبير من النفور من التجديد في مجتمعاتنا الريفية، والاعتقاد بأن الأحوال السائدة في المجتمع المحلي هي أوضاع أزلية، كانت ولا تزال موجودة في كل مكان وزمان. ولا جدال في أن ضيق نطاق التجارب في المجتمع الريفي يقوم بدور هام في هذا الصدد، إذ أن الانفتاح على العالم الخارجي، وتبادل الخبرات مع الشعوب والمجتمعات الأخرى، ظل حتى عهد قريب أمرا عسيرا بالنسبة إلى معظم المجتمعات الريفية في العالم، وزاد تحجر نظام الإقطاع من إحكام هذه العزلة، فكانت النتيجة هي ما نلمسه في المجتمعات الريفية من ارتياب وتشكك في أي نمط من أنماط السلوك والاعتقاد يخالف النمط الشائع في المجتمع المحلي، والنظر إلى كل تجديد على أنه بدعة لا تشكل انحرافا فرديا فحسب، بل تمثل خروجا على تقاليد المجتمع ذاته وتحديا وإهانة له.

 

2– ويرتبط بالسمة السابقة مباشرة تقديس الماضي على حساب الحاضر والمستقبل. ففي المجتمع الذي يسوده النزوع إلى الثبات، والنفور من التغيير والتجديد، تعد عبادة الماضي ظاهرة لا مفر منها. وهذه بدورها ظاهرة نلمسها في كافة المجتمعات الريفية عامة، حيث لم تتغير أساليب الإنتاج إلا في عشرات السنين الأخيرة، بينما ظلت عشرات القرون تكاد تكون ثابتة. ولكن المجتمع الإقطاعي يضيف إلى هذا التعليل العام سببا آخر: ذلك لأن زمام السيطرة في هذا المجتمع يقع في قبضة أناس يتجهون، بحكم وضعهم الاجتماعي، إلى تكريم الأسلاف والإشادة بماضيهم. فالمالك الإقطاعي الكبير يدين بثروته ونفوذه – في معظم الأحيان – للوراثة، وكثيرا ما تكون ممتلكاته موروثة من أسلاف بعيدين، بل إن لقبه ذاته قد يكون موروثا من أجداد سبقوه بمئات من السنين. وهكذا فإن أمجاده كلها مرتبطة بالماضي، وكل قيمة للحاضر إنما تستمد في نظره من علاقته بهذا الماضي. ولمّا كان الأعيان الإقطاعيون هم المسيطرون في مثل هذا المجتمع، فإن طرق تفكيرهم وقيمهم الأخلاقية هي التي تنتشر وتطبع صورتها على المجتمع ككل، ومن هنا تتعلق الأذهان في مثل هذا المجتمع بالماضي، وتنظر إلى المستقبل – الذي يحمل في طياته ذائما احتمالات التغيير – بعين الارتياب، بل إنها لا ترضى عن الحاضر ذاته إلا بقدر ما يكون انعكاسا للماضي، وترى أن القديم أفضل دائما من الجديد، وأن ما انقضى عهده لا يمكن أن يعوض. وحين تصبح هذه الطريقة في التفكير ظاهرة عامة، يؤمن بها الإقطاعيون والفلاحون على حد سواء، ويكون معنى ذاك أن أصحاب المصلحة في التغيير يعملون – عن غير وعي منهم – على محاربة التغيير، وعلى تأكيد حقوق الغاصبين الذين يعد التعلق بالماضي عاملا أساسيا من عوامل تثبيت سلطتهم وإحكام قبضتهم على المجتمع.

 

ويمكن القول إن كل إفراط في التعلق بالتراث الماضي، في مجتمع بعينه، إنما هو – في جانب من جوانبه – أثر من آثار هذه العقلية الإقطاعية التي تدين بمبدأ عبادة الأسلاف. صحيح أن من حق كل شعب، بل من واجبه، أن يتذكر أمجاده الماضية ويستمد منها قوة تعينه على النهوض بحاضره، ولكن حين يصل تقديس التراث الماضي إلى حد الإلحاح المريض على هذه الأمجاد مع نسيان الحاضر نسيانا تاما، وإلى حد الاعتقاد بأن تذكير الناس بماضيهم يكفي وحده لتعويض كل نقائص حاضرهم – فعندئذ لا تعود عبادة الماضي عاملا من عوامل نهضة الأمة، بل تصبح عائقا في وجه تقدمها.

 

وحسبنا أن نشير إلى أن هذا التعلق بالماضي ينطوي ضمنا على إنكار لمبدأ التقدم، بل على عدم إيمان بإمكان هذا التقدم. فمثل هذا المجتمع يرى أن كل علامات التقدم المحيطة به إنما هي مظاهر خادعة، ويعتقد أن مضي الزمن لا يؤدي إلا إلى زيادة تدهور البشرية، وعلى أحسن الفروض يتركها على ما هي عليه، دون أن يخطو بها إلى الأمام خطوة واحدة. ولا جدال في أن هذه النظرة التشاؤمية مرتبطة أوثق الارتباط بالنزعة الرجعية السائدة في عصور الإقطاع: إذ أن بقاء الأوضاع على ما هي عليه، وعلى ما كانت عليه بالماضي، هو خير ضمان للمحافظة على مكاسب الإقطاعيين واستمرار سيطرتهم على المجتمع.

 

هذه الظاهرة تتمثل في بعض المجتمعات التي ظلت خاضعة أمدا طويلا لسيطرة الإقطاع (فضلا عن أنها تنتشر أيضا في المجتمعات التي كان للنظام القبلي فيها دور هام في تحديد طبيعة العلاقات الاجتماعية). وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على عجز عن التكيف مع الواقع، وعلى رغبة لاشعورية في الهروب منه. وحين تتخذ عبادة الماضي طابعا متطرفا فإنها تصبح عاملا من عوامل تخدير المجتمع وصرف أنظاره عن مشاغله الحاضرة وعن واجباته في المستقبل. ولذلك كان لزاما على كل مجتمع يتطلع إلى إحداث تغيير ثوري في حياته أن يجعل لتأثير ماضيه حدودا لا يتعداها. وأفضل ما يمكن عمله في هذا الصدد هو أن يتخذ من ماضيه قوة تعينه على السير قـُدما نحو مستقبل أفضل – وهذا أمر لا يصعب إنجازه، إذ أن قدرة الأمة على اكتشاف نفسها والاهتداء إلى هويتها الأصلية، تعد من أهم العوامل التي تساعدها على النهوض في مستقبلها، بل إن البعض يرى أن تعمق الأمة في معرفة ماضيها وفهم أبعاد شخصيتها يعينها حتى في عمليات التنمية ذاتها، سواء أكانت تلك تنمية اقتصادية أم اجتماعية. في هذا الإطار يعد التعلق بالماضي والسعي إلى استكشاف أبعاده أمرا مشروعا، أما الوقوف عند حدود هذا الماضي دون النظر إلى متطلبات الحاضر وأهدافه المستقبل فمظهر من مظاهر عقلية معتلة ربما كان من أهم أسباب تكونها انتشار عادات التفكير التي ترجع إلى العصور الإقطاعية.

 

3– ومن الطبيعي أن يؤدي هذا النمط الاجتماعي السكوني المتحجر، الذي يسود عصر الإقطاع، والذي يربط العقول بعجلة الماضي أكثر مما يوجهها نحو المستقبل، إلى شيوع التزمت وضيق الأفق في مجال الفكر. ففي مثل هذا المجتمع لا يوجد للشك مجال: ذلك لأن الأسئلة تجد إجابات معدة سلفا، متفقا عليها بما يشبه العرف، والمفروض أن تكون هذه الإجابات كافية، وألا يثار من الأسئلة إلا ما يوجد عنه مثل هذه الإجابات. أما حالة الشك العقلي، والتردد وعدم الجزم (و هي المعرفة فلسفيا باسم "الاأدرية") فغير مقبولة في مجتمع كهذا. ذلك لأن الشك هو أول خطوات السعي نحو التغيير، الذي هو أكبر المحرمات في المجتمع الإقطاعي. وفي مثل هذا المجتمع لا يُسمح لأحد بأن يظل معلقا بين الشك واليقين، لأن كل الحقائق التي يُسمح بمعرفتها ينبغي أن تكون يقينية وأن تُقبل بلا مناقشة.

 

أما الآراء المعارضة فإن التسامح معها يؤدي إلى انهيار أسس المجتمع الإقطاعي، ومن هنا كان مبدأ التسامح ذاته من المبادئ التي لا يعترف بها مجتمع كهذا. ويصدق ذلك على مجال العلم والفكر، مثلما يصدق على مجال السياسة. فكما أن الحريات الفردية لا يُسمح بها في المجال السياسي، فكذلك لا تبدي السلطات المسيطرة على المجتمع تسامحا فكرا مع الرأي الذي يخالف العرف المتفق عليه، وتعمل على كبت روح النقد والتحليل العقلي.

 

على أننا لسنا بحاجة إلى جهد كبير لكي ندرك أن عددا هائلا من أعظم الكشوف التي توصلت إليها البشرية لم يظهر إلا لأن هناك عقولا سيطرت عليها – في البداية على الأقل – روح الشك في المعرفة القائمة، ولم تقتنع بالإجابات السهلة التي يُرد بها على تساؤلات العقول، بل لم تكتف أصلا بالنسبة التي يشيع طرحها، وإنما طرحت أسئلة جديدة، وحاولت أن تهتدي بنفسها إلى الإجابة الصحيحة عنها. وهذا يعني أن التزمت الفكري الذي يسود هذه المجتمعات يساعد – بدوره – على بقائها في حالة الجمود والتحجر التي أشرنا إليها من قبل بحيث يكون عدم التسامح وضيق الأفق سببا ونتيجة لهذا الجمود في آن واحد. ولعل في هذا ما يكفي لتفسير ظاهرة انعقد عليها إجماع المؤرخين، وهي أن أي عصر من عصور الإقطاع لم يشهد تقدما علميا وفكريا بالمعنى الصحيح، بل حدث هذا التقدم، جزئيا، في بعض العصور السابقة على الإقطاع، ثم تحقق معظمه في العصور اللاحقة له. وكان العامل الأساسي الممهد لهذا التقدم هو التخلص من تزمت العقلية الإقطاعية، والاعتراف بمبدأ التسامح الفكري. فمنذ اللحظة التي أدرك فيها المجتمع أن الشك في المعرفة وفي الآراء السائدة ليس جريمة، وإنما هو دليل على حيوية الفكر، وقد يكون هو الخطوة الأولى نحو الوصول إلى كشف جديد – منذ هذه اللحظة اصبح التقدم مسالة وقت فحسب. ولكن لابد لاعتراف بحق الغير في إبداء آراء مخالفة، ولإدراك قيمة المعارضة الفكرية في النهوض بالمعرفة البشرية في كافة مجالاته – لا بد لذلك من التخلص من بقايا العقلية الإقطاعية بما تفرضه من مجتمع نمطي موحد التفكير.

 

4– وإذا كان إنكار مبدأ الشك وعدم التسامح هو الوجه السلبي للعقلية السائدة في عصور الإقطاع، فإن الوجه الإيجابي لهذه الظاهرة نفسها هو الإيمان المفرط بالسلطة. ففي جميع مجالات الحياة توجد سلطة نهائية يُرجع أليها، وتكون لها الكلمة الأخيرة في كل أمر يختلف عليه الناس.

 

ولا شك أن فكرة السلطة هذه مستمدة أصلا من وضع المالك الإقطاعي في المجتمع، الذي تكون لديه بالفعل سلطة مادية على ساكني إقطاعيته، كما تكون لديه سلطة معنوية عليهم، تتمثل في إطاعتهم لأوامره وسعيهم إلى محاكاته والرجوع إليه من أجل حل مشكلاتهم. هذا النمط من السلطة يمتد بحيث يسري على سائر المجالات: ففي الأمور العقلية بدورها يكون هناك مصدر معين للسلطة يحتكم إليه المشتغلون بالعلم في كل مسألة يريدون استجلاء غوامضها. وقد يكون هذا المصدر شخصا حيا، ولكنه في معظم الأحيان حكيم من الحكماء السابقين الذين تطمئن العصور الإقطاعية إلى آرائهم، بعد أن تصبغها بصبغة متحجرة، كما هي الحال بالنسبة إلى أرسطو في العصور الوسطى.

 

على أن نوع الشخص – ماديا كان أم معنويا – الذي يتخذ منه المجتمع سلطة، لا يهمنا بقدر ما يهمنا مبدأ السلطة ذاته. فنتيجة لانتشار هذا المبدأ، يصبح منهج التفكير المعترف به هو إرجاع الجديد إلى القديم، ويضيع عنصر الابتكار الفردي في التفكير، بل إن الإبداع الفردي أمر لا يعترف به أصلا في المجتمع الإقطاعي. فكل ما يتم إنجازه في مثل هذا المجتمع يتحقق عن طريق جماعات، لا عن طريق أفراد،أو لنقل بعبارة أدق إن الفرد لا ينجز في هذا المجتمع شيئا بصفته الفردية، بل بوصفه عضوا في جماعة كبيرة تمحي فيها شخصيته الفريدة المميزة. فالفرد لا يتميز إلا من حيث هو عضو في طائفة دينية معينة، ومشتغل في إقطاعية معينة، وينتمي إلى جماعة حرفية معينة. وحتى الإبداع الفني، الذي تعد الفردية – في نظر الإنسان الحديث – شرطا أساسيا لتحقيقه، حتى هذا الإبداع كانت تمحي فيه شخصية الفنان، الذي لم يكن يقوم بعمله الفني إفصاحا عن مشاعره الخاصة، ورغبة منه في التعبير عن نفسه، وإنما كان يقوم به خدمة لأغراض الطائفة الدينية التي ينتمي إليها، وتخليدا لاسم الحاكم الذي يدين له بالولاء، وغير ذلك من الأغراض التي لم تعد لها مكانة هامة – أو لم تعد لها مكانة على الإطلاق – عند الفنان ذي النزعة الفردية في عصرنا الحديث.

 

ومجمل القول إن العصور الإقطاعية لم تعترف بالفرد من حيث هو كيان مستقل، بل إنها كانت دائما تدمج الفرد في كيان أوسع تذوب فيه شخصيته الخاصة. وكان على الفرد أن ينظر إلى المبادئ التي تحكم عمل هذا الكيان الأوسع – سواء أكان إقطاعية أم طائفة دينية أم جماعة حرفية – على أنها سلطة لا تناقش، وأن يرجع إليها كلما تشعبت أمامه المسالك والتبست الأمور،'ليجد لديها الكلمة الأخيرة في كل ما يريد أن يعرفه ويبيت فيه.

 

وفي مثل هذا الجو العقلي يستحيل أن تتقدم عملية البحث عن الحقائق، إذ أن كل شيء يُردّ إلى أصول معترف بها من قبل، وتتوقف قيمة النتائج التي يتوصل إليها المرء، لا على قدرتها على إقناع العقل، بل على قوة السلطة التي ترتكز عليها. وهكذا تظل الملكات العقلية للإنسان في حالة خمول وتعطل، ويشيع الاعتراف بمنهج القياس – أعني منهج إرجاع كل واقعة جديدة إلى واقعة أخرى أعم، تكون معروفة سلفا، وتنحصر قيمة الإنسان في مدى قدرته على الاستشهاد بآراء الغير، وبالعبارات المحفوظة عن الأجداد والأسلاف، والمنقولة حرفيا عن أقوال أولى الأمر، لا في قدرته على استخدام عقله من أجل توسيع معارفه والارتقاء بحصيلة المجتمع الإنساني من العلم، ومن فهم العالم الطبيعي والاجتماعي المحيط به.

 

5– ولقد كانت النتيجة المباشرة لسيادة أسلوب التفكير القائم على فكرة السلطة، هي شعور الفرد بالاستسلام والعجز عن تغيير أي وضع من الأوضاع التي يجدها سائدة في المجتمع. بل لقد كان الفرد يحس بأن هذه الأوضاع لا تقبل التغيير أصلا: فهي أوضاع أزلية لا يملك المرء إلا أن يقبلها على ما هي عليه.

 

ولقد كان البعض يعمد أحيانا إلى تفسير المبادئ الدينية تفسيرا باطلا يساعد على تقوية هذا الشعور بالعجز عن تغيير الواقع، وذلك عن طريق الدعوة إلى فهم معين لأفكار مثل القضاء والقدر، ويزيد من إحساس المرء بأن ما يحيط به في العالم مقدر له منذ الأزل أن يكون على ما هو عليه، وأن جهود الإنسان في هذه الحياة لن تجدي فتيلا، لأن كل شيء يسير في طريق مرسوم محتوم لا يملك الإنسان إزاءه شيئا، بل إن بعض المفكرين يرون أن هذا التفسير المتطرف للقدرية إنما هو التعبير المباشر – في المجال الديني – عن الرغبة في الإبقاء على الأوضاع السائدة في العصر الإقطاعي على ما هي عليه، وصبغها بصبغة أزلية لا تتغير ولا تتبدل. فحين يصبح كل حادث أمرا يستحيل على الإرادة الإنسانية أن تتدخل فيه وتعمل على تغييره، يكون معنى ذلك أن النظم الاستبدادية الظالمة في المجتمع هي بدورها شيء مقدر منذ الأزل، وأن الإنسان لا يملك إلا أن يتركها على ما هي عليه. وبعبارة أخرى، فإن التفاوت الهائل بين الطبقات، والاستغلال البشع الذي تمارسه الطبقة المالكة على الطبقات الدنيا في المجتمع، يُنظر إليه في هذه الحالة على أنه تعبير عن المشيئة الآلهية، التي ينبغي أن يقبلها الإنسان دون أدنى اعتراض. وليس هناك ما هو أبعد من هذا التفسير عن الفهم السليم لجوهر العقائد الدينية، التي كانت تستهدف إقرار العدالة ومحاربة كافة أشكال الظلم. وليس هناك أيضا ما هو أحب إلى الطبقات العليا المسيطرة، وأقرب إلى تحقيق أهدافها ومصالحها، من هذه الدعوة التي تؤكد استحالة تجاوز الفوارق بين طبقات المجتمع، وتشيع بين الناس الاعتقاد بأن النظام الاجتماعي ينتمي إلى مجال الأمور الأزلية المقدرة سلفا، وأنه جزء من النظام العام للكون، وأن الإنسان، مثلما يعجز عن أن يجعل الشمس تشرق من الغرب، لا يمكنه أن يتدخل في تغيير الفوارق الاجتماعية التي نُظمت بها حياة الناس منذ الأزل.

 

فهل من المستغرب بعد ذلك أن نجد أصحاب السيطرة في المجتمعات الإقطاعية يشجعون أمثال هذه التفسيرات الباطلة للعقائد الدينية ؟ لا جدال في أن الارتباط واضح بين مصالحهم الشخصية وبين انتشار الدعوة القائلة بأن الشكل الجائر للنظام الاجتماعي هو جزء من نظام الكون، ومن هنا فقد أصبحوا، على مر التاريخ، حماة لأصحاب هذه الآراء الباطلة وكونوا معهم تحالفا وثيقا، بل لقد تداخلت الفئتان تداخلا وثيقا، كما حدث في أوروبا عندما أصبح رجال الدين في العصور الوسطى هم في الوقت ذاته من كبار الإقطاعيين، وصار دفاعهم عن فكرة ثبات النظم الاجتماعية القائمة وأزليتها دفاعا عن مصالحهم الخاصة، لا عن مصالح حلفائهم فحسب.

 

6– وأخيرا، فإن تأثير هذه المصالح قد انعكس على التصور الديني لكثير من المجتمعات الإقطاعية في صورة أخرى، أسهمت بدورها في تشكيل عقول أفراد هذه المجتمعات بصورة مميزة: تلك هي إدخال نوع من التفاوت والتسلسل في المراتب في المجال الروحي ذاته. فهناك مجتمعات تتصور الألوهية عالية مترفعة عن عالم البشر، وتقيم نوعا من تدرج المراتب بين هذه الألوهية وبين عامة الناس: فبعد الله يأتي الأنبياء والقديسون، ثم كبار الكهنة ورجال الدين، ويتدرج الترتيب بعد ذلك حتى يصل آخر الأمر إلى الإنسان العادي. ولا بد للارتقاء إلى كل مرحلة من هذه المراحل من المرور بالمراحل السابقة، أي أن الإنسان العادي لا يستطيع مثلا أن يتقرب إلى الله، ويحظى بشفاعته أحد القديسين، إلا عن طريق الكاهن الذي يتوسط بينه وبينهم.

 

والدليل على أن هذه النظرة إلى الدين انعكاس لنظام اجتماعي يتسم أيضا بالتدرج وتفاوت المراتب، هو أن هناك نظرات أخرى إلى الدين تختفي فيها هذه الحواجز، ويشيع فيها التقارب بين الله والإنسان: إذ يعد الله قريبا من البشر، مستجيبا ومعينا لهم، بل إن بعض المذاهب الدينية تؤكد حلول الله في العالم، وإمكان اتحاد الإنسان به إذا ارتقى إلى مستوى معين من الروحانية. هذه الفكرة الأخيرة ترتبط بنظرة أكثر ديمقراطية إلى المجتمع البشري، لأنها لا ترتكز على تأكيد الفوارق في المرتبة بين الموجودات، ولأنها تعطي الإنسان العادي أملا في بلوغ أهداف العقيدة الدينية دون حاجة إلى واسطة. وبالفعل سادت هذه النظرة في العصور التي كانت أقرب إلى الروح الديمقراطية، على حين أن فكرة تسلسل المراتب من الأعلى إلى الأدنى كانت مقترنة بالتفاوت والفوارق التي هي أول خصائص المجتمع الإقطاعي.

  

المرحلة الرأسمالية

 

مقدمة:

 

لم يكن الانتقال من نظام الرق إلى المرحلة الإقطاعية انتقالا مفاجئا، ولم يكن يمثل ثورة إنتاجية وعقلية بالمعنى الصحيح. ذلك لأن القوى المنتجة في نظام الإقطاع، وهي رقيق الأرض، لم تكن تختلف كثيرا عن العبيد في نظام الرق القديم. كذلك فإن شكل الإنتاج لم يطرأ عليه تغير أساسي، إذ أنه ظل في أساسه زراعيا، فضلا عن أن حجم الإنتاج كان محدودا، وكانت أساليبه لا تختلف كثيرا في بساطتها عن نظيرتها في نظام الرق.

 

أما الانتقال من المرحلة الإقطاعية إلى المرحلة الرأسمالية فكان انتقالا حاسما بحق. فقد طرأ على شكل الإنتاج تحول أساسي، بحيث لم تعد الزراعة هي المصدر الأساسي لثروة المجتمع، بل حلت محلها الصناعة، التي لم يكن لها في المراحل السابقة إلا دور محدود، يناظر الأساليب الساذجة التي كانت تستخدم في ممارسة الحرف اليدوية. كذلك فإن القوى الإنتاجية قد طرأ عليها تغير أساسي، يتمثل في الانتقال من رقيق الأرض إلى العامل الأجير. ولعل أهم مظاهر هذا التغير هو أن الاستبداد الذي كان يحل على رقيق الأرض، وحتى على العبد، كان منصبا مباشرة من حيث هو "شخص"، أما العامل الأجير فقد أصبح يخضع لنوع غير مباشر من الاستبداد، لا ينصب على شخصه، بل عليه من حيث هو ينتمي إلى "طبقة". فصاحب العمل لا يستغل هذا العامل وذاك على وجه التحديد، بل هو يستغل العمال من حيث هم أجيرون، أي من حيث أن لهم وضعا طبقيا خاصا.

 

ولقد كان من الطبيعي أن ينعكس تأثير هذه التغييرات الحاسمة على العادات العقلية والنزعات الفكرية للإنسان في العصر الرأسمالي. ومع ذلك فإن هذه التغيرات لم تحدث دفعة واحدة، بل حدثت متدرجة على مراحل متعددة، يختلف تعدادها باختلاف وجهة النظر المتبعة في بحثها. على أننا نستطيع، بالنسبة إلى أغراض بحثنا، أن نلمح فارقا أساسيا بين مرحلتين للرأسمالية، كانت لكل منهما خصائصها المميزة (مع وجود سمات هامة مشتركة بينها بطبيعة الحال)، هما مرحلة الرأسمالية المبكرة، ومرحلة الرأسمالية المكتملة. وسوف ندرس كلا من هاتين المرحلتين من الزاوية التي ينصب عليها موضوع هذا الفصل، وأعني بها التأثير الفكري والمعنوي الذي يترتب على كل مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي.

 

 

الرأسمالية المبكرة

 

كانت أهم المعالم التي تنبىء بانهيار المرحلة الإقطاعية وبداية ظهور مرحلة جديدة في التطور الاجتماعي هي:

 

ظهور فئة منتجة مستقلة هي فئة "الصناع"، التي يمكن أن يعد ظهورها مرحلة وسطا بين الاقتصاد الإقطاعي الذي كان زراعيا، ولم يكن يعرف إنتاجا حرفيا منظما، وبين المرحلة الصناعية المكتملة في العصر الحديث. هذه الفئة لم تكن قد انفصلت تماما عن الواقع الذي تنتج فيه ومن أجله، بل كانت ولا تزال لها صلات قوية بانتاجها وبالأغراض التي تنتج من أجلها.

 

ظهور نمط اقتصادي لا يستهدف الاستهلاك في نفس الوحدة المنتجة، أي ظهور البوادر الأولى "للسوق"، التي ينفصل فيها المنتج عن المستهلك. ومع ذلك فإن المعالم الكاملة للسوق، من حيث هي كيان لا شخصي مجهول لا يعرف العامل المنتج عنه شيئا سوى أنه قوة تتحكم فيه دون أن يدري عنها شيئا – هذه المعالم لم تكن قد تحددت بعد بوضوح في هذه الفترة.

 

ولعل أهم مظاهر التحول إلى المرحلة الجديدة هو ظهور التاجر من حيث هو قوة رئيسية في الاقتصاد، تتحمل مخاطرة الشراء من المنتج لكي تبيع لمستهلك لا صلة له بهذا المنتج. ومن المعترف به أن التجارة قد عرفت منذ أبعد العصور، ولكن دورها في هذا العصر كان متميزا: فقد أصبح التاجر يعتمد على نوع جديد من الثروة، لم يكن يعرفه العصر الإقطاعي الذي كانت ملكية الأرض فيه هي الشكل الوحيد المعروف للثروة – هذا النوع الجديد هو رأس المال التجاري الذي أصبحت له أهمية فعّالة في شراء المواد والأدوات اللازمة للإنتاج، ولتخزين المنتجات، فضلا عن أهميته في الائتمان والمعاملات المصرفية.

 

والواقع أن الدور الأكبر الذي قام به التاجر في تطوير الاقتصاد نحو المرحلة الرأسمالية، كان يتمثل في تأكيده لأهمية المال كقوة جديدة لها وزنها الفعّال في المجال الاقتصادي. فبعد أن كانت الأرض، وقوة العمل التي يبذلها فيها الفلاحون هي المصدر الأساسي لإنتاج الثروة في المجتمع، أصبح هناك مصدر جديد لا صلة له بأي شكل مباشر من أشكال الإنتاج (لأن المال النقدي لا يستطيع، بذاته، أن ينتج شيئا). ولقد كان هذا المصدر الجديد هو الذي أعطى المرحلة الرأسمالية شكلها المميز، وهو نقطة البداية في تحديد المعالم الرئيسية لهذه المرحلة الجديدة.

   

تأثير التعامل النقدي:

 

لكي ندرك قوة التأثير المادي والمعنوي الذي أحدثه التعامل النقدي في العصر الرأسمالي المبكر، ينبغي علينا أن نبدأ بكلمة موجزة نتعرض فيها لطبيعة النقود من حيث هي قوة اقتصادية: فالنقود وسيط يتم عن طريقه التبادل، وهي وسيلة لتخزين الثروة، ومقياس للقيمة، وإن كانت مقياسا متقلبا لا يتسم بالثبات. وقد كانت النقود تتخذ في البداية شكل قطع من المعادن (كالذهب والفضة والنحاس) توزن عند إجراء كل تعامل وصفقة، ثم صنعت قطع من المعادن لها وزن ثابت وسمك معلوم، وأصبحت الحكومات ضامنة لها، وبهذه الوسيلة أصبح تبادل السلع أيسر بكثير مما كان عليه في نظام المقايضة، إذ أن هذا النظام الأخير يحتم على الشخص الذي يريد استبدال سلع أن يجد شخصا آخر لديه ما يريد من السلع، ويريد ما لديه منها، وهو شرط لا يمكن تحقيقه في كل الأحوال. ولذلك كانت النقود عاملا حاسما في ازدهار التجارة، وفي تعميق تقسيم العمل وتوسيع نطاقه. وقد يسرت النقود تكديس الفوائض في الثروة، وبالتالي تكوين رأس المال، وذلك لسهولة تخزينها وإمكان جمعها في حيز محدود، ولأنها لا تفسد كالحاصلات الزراعية مثلا، فضلا عن سهولة نقلها من مصادر متعددة، بحيث يصبح من السهل جمع مدخرات أناس كثيرين في مكان واحد واستغلالها في مشروع أوسع نطاقا.

 

ولا يمكن القول إن هذا التعامل النقدي قد بدأ لأول مرة في الفترة التي نتناولها هنا بالعرض، إذ أن بوادره الأولى قد بدأت منذ الحضارات القديمة: كالحضارة السومرية والتي ظهرت فيها أول بدايات نظام الائتمان ودفع الفوائد لقاء القروض، كذلك تضمن قانون حمورابي الذي يرجع تاريخه إلى حوالي 1750 قبل الميلاد نصوصا خاصة بالعقود وبالتعهدات والالتزامات في مجال الأعمال الاقتصادية. ولكن أهمية التعامل النقدي، بوصفه عاملا حاسما في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، لم تظهر بوضوح إلا في العهد المبكر للرأسمالية.

 

ذلك لأن مرونة المال النقدي وسهولة تبادله وتشكيله بأشكال مختلفة، أدت إلى تحرر الأفراد الذين يملكونه من الارتباط بالمكان الثابت الذي كان من قبل هو المصدر الوحيد للثروة، وأعني به الأرض الزراعية، وزيادة قدرتهم على التنقل من مكان إلى آخر، بل من وطن إلى وطن. وكان هذا من العوامل الأساسية التي أدت إلى أن تصبح المدن مركز الثقل في الحياة الاقتصادية في العصر الرأسمالي، بعد أن كانت هذه الحياة تتركز من قبل في الريف. فالحضارة الرأسمالية حضارة مدن قبل كل شيء، بل إن بقايا الطبقة الإقطاعية حين شعرت بالضعف، نظرا إلى ثبات دخلها وافتقارها إلى المرونة، أخذت في بيع أراضيها وتحولت إلى المدينة مستهدفة تحقيق مطالبها فيها، وبذلك ازدادت أهمية الريف ضآلة، وساهم الإقطاع في هدم نفسه بنفسه. وكلما توطدت دعائم حياة الحضر، ازداد المجتمع تعلقا بها، إذ يجد في المدن خير مجال لتبادل السلع، وكذلك لتبادل الأفكار: ذلك لأن التبادل التجاري كان على الدوام أيسر الطرق لتبادل الخبرات والتجارب بين مختلف الجماعات.

 

وكما أدى التبادل النقدي إلى زيادة المرونة في التنقل المكاني، فإنه أدى أيضا إلى زيادة المرونة الاجتماعية: ذلك لأن مكانة الفرد لم تعد متوقفة على ما يملكه من الأرض الزراعية، وعلى لقبه الوراثي، بل أصبحت تتوقف على مقدار ما يستطيع تكديسه من المال. والمال قيمة اقتصادية تجريدية، لا شأن لها بالأشخاص، تُعطي من يملكها – أيا كانت صفاته الأخرى – قوة ونفوذا في المجتمع. وحين لا يعود للعوامل الشخصية دور في تحديد طابع الملكية، أي حين تصبح الملكية ذات صبغة لا شخصية محايدة، فإن الفوارق الجامدة بين الطبقات تبدأ في الزوال، ويصبح الانتقال من طبقة اجتماعية إلى طبقة أخرى أمرا ممكنا، إذا توفر المال اللازم. وهكذا فبينما كانت الوراثة والأصل العائلي تحول دون انتقال أي شخص من الطبقات الدنيا إلى الطبقة العليا، إلا في أحوال نادرة، فإن مثل هذا الانتقال أصبح الآن أمرا ممكنا، بل إن الطبقة العليا القديمة أصبحت عاجزة عن الاحتفاظ بمكانتها، وأصبحت فرص من لا ينتمون إلى هذه الطبقة، في الارتقاء، أكبر من فرص كبار الملاك الوارثين، لأن أسلوب التعامل النقدي، والتجاري، لم يكن غريبا بالنسبة إلى الأولين.

 

وحتى في الحالات التي لم يكن فيها الارتقاء إلى الطبقة العليا ممكنا، كان العامل الذي يظل في الطبقة الدنيا أكثر تحررا من الفلاح المرتبط بأرض الإقطاعي في نواح متعددة: ذلك لأن العامل يتلقى أجره نقدا، على حين أن الثاني يتلقاه – في أغلب الأحيان – عينا. وحين يتخذ الأجر صبغة النقد القابل للتداول الحر في أشكال لا حصر لها، يستطيع العامل أن ينفقه كيفما شاء وأينما شاء، ويصبح له بالتالي مزيد من الحريات، من الوجهة النظرية على الأقل.

 

وهكذا يتضح لنا أن شكل التبادل النقدي لم يقتصر تأثيره على المجال الاقتصادي البحت فحسب، بل لقد امتد هذا التأثير حتى أضفى على الحياة بأسرها طابعا جديدا. وسوف تزداد هذه الحقيقة وضوحا عندما ندرس السمات المميزة للعصر الرأسمالي المبكر.

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.