اخر الاخبار:
اخبار المديرية العامة للدراسة السريانية - الأربعاء, 24 نيسان/أبريل 2024 18:10
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

Beez5

حكاية ونَص: أول العبادات "الحب".. وآخر العبادات "التسامح"!// محمود حمد

محمود حمد

 

عرض صفحة الكاتب 

حكاية ونَص:

أول العبادات "الحب"... وآخر العبادات "التسامح"!

محمود حمد

 

زارني صديقي (أبو خالد) في منتصف الأسبوع ليس كعادته، ودخل علي محتدم المشاعر، ومُكفَهِر الوجه، وجلس دون كلام لأكثر من ساعة.

 

نهضت لالتقاط أنفاسي في الهواء الطلق ولتحريك الدم في عروقي بناء على توصية الطبيب لي... جلست على الأريكة الخشبية العتيقة التي انتهشتها الرطوبة ونخرتها سهام الشمس الحارقة في حديقة المستشفى... فتبعني (أبو خالد)، وجلس إزائي، ودونما مقدمات قال محدثاً نفسه بصوت مسموع:

ليس أمامي سوى الطلاق!

 

تذكرت أحاديث (أبي خالد) قبل ثلاثين عاماً ونيف، عندما كنا عُزّاباً نتحلق حول مائدة التساؤلات، والحوار، والجدل، والثمالة، ونختتم جلساتنا بالاستماع لقصيدة (الشاعر أحمد شوقي) بصوت (الملحن محمد عبد الوهاب)، وكل واحد منا يستحضر من قرارة روحه سِرَّ حُبِهِ، متخيلاً أن حبيبته هي مقصد الشاعر، ومُلهمة الملحن والمطرب، وكيف كان (أبو خالد) يتفرد بيننا بالتماهي مع الكلمات، مردداً اسم (بلقيس) محبوبته (أم خالد) التي كان يمتنع أهلها عن القبول به لاختلافهم مع أفكاره (الهدامة!) ... واضعاً رأسه المُخَدَرِ على حافة الطاولة ومترنماً بالكلمات حتى تهطل دموعه وهو يرددُ مع المُطربِ ذلك المقطع:

ويقول تكاد تجنّ به.. فأقول وأوشك أعبده

مولاي وروحي في يده... قد ضيعها، سلمت يده

ناقوس القلب يدق له... وحنايا الأضلع معبده

 

اعرف ما آلت إليه العلاقة بين صديقي (أبو خالد) وزوجته عقب مقتل ابنهم (خالد) بمسدس (كاتم صوت) من قبل (جهة مجهولة معلومة!) في التظاهرات التي اندلعت مطالبة بالخلاص من نظام المحاصصة الطائفية الفاسد... وتحميلها أفكار (أبي خالد) مسؤولية (تورط ابنهم الفقيد بمعارضة ممارسات سلطة طائفية متوحشة تأتمر بأوامر الأجنبي)!

 

في تلك الآونة استعنت بصوت عبد الوهاب صادحاً بأغنية (مضناك) لتطهير مسامع ومشاعر (أبي خالد) من غبار الغضب الذي يربك حاضره الملتبس ويدنس ماضيه النقي!

مطلقاً نافذة للحوار مع صديقي... قائلاً له: 

عندما تباغت المرء الشيخوخة (مثلنا) وهو في أوج وعيِّهِ، يميل إلى (المراجعات)... ينبش المطمور من الأحداث ليتفحصها ويتمحصها، ويقلب المنسي من صفحات المواقف ليعيد استقصاءها وتقييمها، ومنها (أول العبادات) التي تعلمها أو تعلم منها!

والعبادة لغة كما تعرف يا (أبا خالد) هي:

الطاعة، والخضوع، والتذلل، والاستكانة!

فالحب إذن كان أول (العبادات) من اختيار الإنسان، وليس كـ(العبادات) الأخرى التي تُقحم عنوة على المرء في النطفة برحم أمه قبل صيرورته "إنساناً!"، ويتلفع بها دون اختيار منه حال الولادة كـ (لبس ثوب العيش دون أن يُسْتَشَرْ) ... كما يقول عمر الخيام!

 

مع أولى دبيب الكائنات على الأرض كانت الأنثى الملاذ الواسع الرحيم الذي يمنح الذكر الاطمئنان... لأنها فضاء للمَسَرَّة ينجذب إليه مثلما تنجذب هي إليه، بحثاً عن جمال الروح وسكينة النفس... فضاء لا مثيل له، يتضوع بمشاعر مفعمة بالود العميق، والاطمئنان اللامحدود، والدفء الروحي، والاستلطاف النفسي، واحترام آخر لم تكن تعرفه من قبل!

 

ولـ (الحب الحقيقي) قدرة فائقة على إعادة خلق الإنسان، بأفضل تكوين نفسي وروحي مما كان عليه قبل أن تعصف به رياح الحب، بغض النظر عن طبيعة المحبوب، و(الحب) بخصاله النبيلة أزلي الوجود... أبدي الأثر، يبقى ملازماً لتردد أنفاس الإنسان في صدره، فإن انتهى (الحب!) قبل انقطاع تلك الأنفاس، فهو ليس بحب، لأن جوهره وأثره يبقى حتى بعد اندثار الجسد... فـ (في الحب الحقيقي تحتضن الروح الجسد)! كما يقول نيتشه!

 

يا (أبا خالد) وأنت اليوم خيمة لأحفادك أولاد المرحوم (خالد) وسنداً لنفس ولأيام (أم خالد... التي لم تتغير) ... ومازالت تستوطن في أعماقك وأنت تنوح وملأت مسامعنا:

أكاد أُجَّن... وأوشك أعبدها!

 

تأملت ملامح وجه (أبي خالد) التي غشتها غيمة كثيفة من الحزن والأسى، وشفاهه الشائخة المرتعشة تتمتم بمفردات الندم الخجول... فأمسكت بمعصمه معاضدا إياه!

 

كانت أمامي آخر مقالة كتبها (أبو خالد) على الفيسبوك (متخمة بالمفردات الخشنة، والآراء المتشنجة، والمثقلة بالأفكار اليائسة، والمكبلة بوهم امتلاك الحقيقة)!

 

واصلت الحديث معه قائلاً له:

كنت تردد على مسامعنا:

إن التسامح مع من خالفك الرأي مرساة للتعقل، لأنه يُجَنِب المرء التشدد القائم على المشاعر الظرفية المنفعلة، أو العقائد الدينية المغلقة، او الشعارات القومية المتطرفة، ويعبر عن القناعة الواعية بأن في رأي الآخر بعض الصواب!

كنت تطالب صديقنا (أبي نزار) المختلف معك عادة، أن يحافظ على جسر التسامح الذي سيحتاج العبور عليه في جولة أخرى من جولات الاختلاف التي تفرضها الحياة علينا معه ومع الآخر!

أنا فوجئت بمواقفك المتشنجة في كتاباتك الأخيرة، وكأنه إعصار غيظ مشوشٍ وإحباط ظلامي استباح عقلك وأمتد من بين جدران بيتك إلى مفردات مقالاتك!

 

يا عزيزي... نحن نعيش في مجتمع ثري بتنوعه... وأنت كاتب مخضرم... والمبدعون يتألقون بالضرورة في المجتمعات الكثيرة التنوع والصادقة التسامح، التي تحتضن الأفكار الجديدة والثقافة الواسعة المديات، وتُحفزها على التلاقي والتثقف وفتح آفاق جديدة للمعرفة المتجددة، مما يؤسس للمقومات والمستلزمات الحتمية للمستقبل الواسع المديات، لان الأصل في التسامح أنك تستطيع الحياة حتى مع الأشخاص الذين تعرف يقينًا أنهم مخطئون... فالتسامح كالشجرة كما يقولون:

لا تحجب ظلها حتى عن الحطاب!

أنت من كنت تحدثنا عن أن التاريخ في أحد قراءاته الموضوعية، هو تاريخ للتسامح بين البشر، التسامح غير المشروط، لأن التسامح المشروط ليس بتسامح، بل هو عفو عن عقوبة مؤجلة!

والتسامح هو وجه ناصع من أوجه الحب... وآخر العبادات!

 

غادرني (أبو خالد) بصمت...

لكني كتبت له:

أول العبادات "الحب"... وآخر العبادات “التسامح"!

يولدُ المرءُ عرياناً...

يصرخ مذعوراً من ظلام الحيرة...

يتشبثُ بحنان امرأة تأويه من الخوف...

وتسقيه القدرةَ لعسير الزمن القادم!

يحبو...

عيناهُ معلّقتان إلى رمش امرأة تَهديه الدرب...

يصعدُ مُختالاً...

دون جناح صوب العبث الشاسع...

ويَداهُ بلا كللٍ لعباءةِ امرأة لا تتعثر!

.......

كالنسر تؤمن حالكة الطرقات...

يُشرقُ...

مفتوناً بنسيم امرأة تخطف كالبرق الساطع بزحام الأحلام...

يقوى ساعِدهُ...

يحرثُ أرضاً نبذتها الغدرانُ...

فتجيءُ امرأةٌ تُرضِعُها بالخصب...

فتكون النخلة!

..............

يُحِبُ امرأةً "ورديةً"...

يألفها...

يُسكِنها بشغاف القلب...

يَغرسُ ورداً في درب مودتها...

ساعة مولدها...

يومَ فتوَّتِها...

ويومَ يتكئُ عليها...

وتتكئُ عليه!

........

يرسمُ لها حمامة من السحاب السَخيِّ...

في أول اللقاء...

تغسلُ وجههُ من رماد اليأس...

تكونُ جسراً للمودة عندما يَتَّقِد الغيظُ...

تَروي روحه بالأمل...من ظمأ الغربة...

تَحملُ أثقاله عندما ينفرطُ العِقدُ...

تمسحُ الغبار عن الزمن الآيل للتبدد...لحظة الغروب!

..............

امرأةٌ تُعلِّمهُ...

أن أول العبادات "الحب"...

وآخر العبادات “التسامح"...

وبينهما الشوق إلى الحبيب!

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.