اخر الاخبار:
قاضٍ أمريكي يُغرّم ترامب ويهدده بالسجن - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 20:36
مصدر: صفقة «حماس» وإسرائيل قد تتم «خلال أيام» - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 11:00
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

Beez5

حكاية ونَص- لوحةٌ على جُدرانِ غُرفَةِ التَعذيبِ!// محمود حمد

محمود حمد

 

عرض صفحة الكاتب 

من مجموعة (مرثيات سومرية)

حكاية ونَص- لوحةٌ على جُدرانِ غُرفَةِ التَعذيبِ!

محمود حمد

 

عندما أعادوني إلى الزنزانة الانفرادية، ألقوني بقوة على الأرض الاسمنتية العارية، فارتطم رأسي بالجدار المرقش بذاكرة من سبقوني في التجويف المظلم...

 

تناهى إلى سمعي صتيت من بعيد مختلط بين الصراخ المُستغيث في غرف التعذيب وأذان الفجر بـ (المصلى!) في مديرية الأمن!

لكني أحَسست بأن الأصوات كانت بعض شهقات الجدران، فَسَرَتْ في بدني قشعريرة جاءتني من ارتعاشة من سبقوني كالذبائح في فضاء الظلمة...

 

اهتز الجدار، فهطل سحت من غبار الإسمنت على وجهي، وصار قناعاً لي مضمخاً بالدم في ضيافة... (أبو صبري) أحد المشاركين بمعركة "الغموكة" (1)، الذي التحق بالكفاح المسلح في أهوار الناصرية سنة سبع وستين وتسعمائة وألف... وهو يهمس لي... حَذَراً من السجانين:

(أنشأنا قاعدة لنا في "أهوار الدوّاية"، وفي شهر آيار سنة ثمان وستين وتسعمئة وألف قررنا الهجوم على مركزين للشرطة للاستيلاء على الأسلحة، وتَمَكَّنا من ذلك!

لكن خلال انسحابنا باتجاه "هور الحَمّار" وقعنا في كمين نصبه لنا أزلام السلطة... مما اضطرنا للحَوْمِ في نفس المكان لأربعة أيام، وبعد أن أدركنا أننا محاصرون بزوارق السلطة، تركنا زوارقنا وتسللنا خارج الطوق نحو اليابسة!

 

من هناك كُلِّفْتُ باستقدام دليل يُرشد المجموعة المنسحبة، ولأُوفر مؤناً لهم، وعندما عدت وجدت مجموعتنا المنسحبة تتعرض لهجوم بالطائرات والمدفعية نتيجة وشاية من أهل المنطقة!

ودارت بينهم وبين قوات السلطة معركة غير متكافئة من حيث العدة والعدد!

ولما وصلت إلى المكان الذي تركت فيه المجموعة لم أجدهم في مكانهم، حيث انسحبوا إلى مكان آخر لا أعلمه في أعماق الهور... فاضطررت إلى العودة للقرية التي تركت فيها رفيقيَّ اللذَّيْن كانا معي، وانسحبنا من هناك مع رعاة قطيع مواشي أهل القرية، الذين ساعدونا على الخروج لمكان أكثر أماناً!

 

وصلنا إلى "مدينة الكوت"، ومنها إلى "مدينة الثورة" في بغداد، حيث اختفينا لحين زوال أثار التعب ولسع البعوض لوجوهنا خشية أن نلفت انتباه الناس إلينا ويكتشفون قدومنا من الأهوار)!

 

حاولت التشبث بـ(أبي صبري) الخارج لي من بين أنين جدران الزنزانة لمعرفة مصيره... لكن اصطخاب غرف التعذيب المجاورة بزعيق الجلاّدين وصراخ المُعَذَّبين... أطبق علي تواصلي مع ذاكرة جدار الزنزانة... فاستسلمت للإعياء، وما أن أرخيت حواسي حتى طرق علي السجان الباب يستدعيني لـ(وليمة تعذيب) أخرى!

 

لكن هَوْلاً وقع في وسط المدينة استدعى جميع قوة الأمن إليه... فتركوني متأملاً الجدار الذي مَسَّهُ بصيص من ضوء القمر تسلل إليه من شق في نافذة الزنزانة...

انفرج الجدار عن فضاء شاسع لمخيلتي، فارتحلت في مدياته، افك طلاسم النقوش المحفورة بأظافرٍ مُدَماةٍ لغائبين أمضوا أنفاسهم الأخيرة بعد تدوينها عليه!

 

أسَرَتْني حروفٌ اعرفها، فهَبَطَ إلي من خلالها صديقي الشاعر "البشوش بصمت والحميم بحزن"، (حسب الشيخ جعفر) الذي سبقني في استيطان الزنزانة عندما عاد من موسكو... أصغي إليه وهو يترنم بنصٍ تخفق أجنحة أسراب الطيور المهاجرة بين حروفه، وتَمْلأُ رئة أزمنته رائحة القصب النَدِيْ!

 

في تلك الآونة صرت اسمع صوت (أبي) يأتيني من قرارة الحزن في قبره يطلب مني أن اهيئ له تراب الزنزانة، فهو قادم إليها بعد عشر من السنين العجاف، فانزع جلدي لأفرشه بساطاً لـ(أبي)، لأني لا املك في الزنزانة ما احمي به (أبي) من سياط الجلادين غير أن اكسيه بجلدي!

 

حاولت عبور الحَدِّ الفاصل بين دولة الجحيم وسِرِّ قادمِ الأيامِ، فالتهمتني زوابع الاستجوابات بأنيابها، لكني أفْلَتُّ منها واستوطنت في (لوحة على جدار غرفة التعذيب) ادون ما تبوح لي اللوحة من اسرار...

ولكيلا انسى حكاياتها... كتبت:

لوحةٌ على جُدرانِ غُرفَةِ التَعذيبِ!

ذاتُ صباحٍ أيقَظَني "سَيِّد مارِد" (2) بالركلاتِ...

تَكالَبَ حَوْلي جَوقُ بُغاةٍ مِن أهلي...

وَغْدٌ...لا أعرِفُهُ من خلفِ نِباحِهُمُ يتقدمُ نَحوي...

اعتدنا أن نُسْحَلَ من أقبيةِ العَزلِ الفَرديِّ بليلٍ...

لجحورِ التَعذيبِ المَنْبوشَةِ خصيصاً للاستجواب...

لكِنْ...

هذي المرةَ...أوقَعَني أرضاً في ذاتِ المَهْجَعِ...

وأقامَ شِجاراً قَبَلِياً فَوقَ ضُلوعي...

يسألُني عِن أسرارِ اللوحةِ...

تِتكاثَرُ فَوقَ جدارِ القَبرِ الكامِنِ فيهِ...

تَقمَعُني أعقابُ بنادقِهِم...

تُلقيني كومةَ صَمتٍ ودماءٍ!

تَصرَخُ بي:

فُكَّ رموزَ الاستفهامِ الصاخبِ في اللوحةِ!!!

ماذا تَعني الشَمسُ العُريانَةُ تَسبحُ في بحرِ دماءٍ مُتَدَفِق؟!

مَنْ تِلْكَ المرأةِ عالقةً بين الجَنَّةِ والكلماتِ؟!

ولماذا تأتي الريحُ من الشَرْقِ بعنفٍ صَوبَ فصولِ العَلفِ الغربيّةِ؟

ولماذا تَتَفَطَرُ هاماتُ الناسِ بأعلى اللوحةِ وبأيديهِم حِرْزٌ يُعْصِمُهُم من نارِ التَنورِ؟

****

شَدّوني واللوحةَ لجدارِ الاستجوابِ المُبْتَّلِ بِجُرحي...

بَحثوا عن جمرٍ مَخبوءٍ تَحتَ رماد اللوحةِ...

سَمِعوا صوتَ رَضيعٍ يَنْغي...

زمرةَ صبيانٍ تُنْشِد في وادي "أوروك"...

سربَ عصافيرٍ يأوي لأفانين السِدرَةِ في "بابل"...

ريحاً تَخفِقُ حقلَ سنابل!

صاحوا بالجسدِ المَيِّتِ تحتَ حطامِ الأشياءِ بأعلى اللوحةِ:

إهبط والحلمَ الـ كنتَ تتمتم فيهِ لحفارِ القَبرِ...

إهجِرْ هذا الكَفَنَ المُشْرَعِ مُنذُ عقودٍ في ساحاتِ الرَفضِ...

إغلق بابَ الشمسِ...

فإنّا لا نُدْرِكُ دَرباً إلاّ في الظلمةِ!!

****

تَهبِطُ بِنتٌ في مُقتَبلِ العُشقِ بِصَمتٍ من شرفاتِ اللوحةِ لوحولِ التعذيبِ...

يسألُها عن اسمِ أبيها...

تُخرِجُ رُقُماً طينيةً...

يَصرخُ فيها:

هل تُؤمِنْ؟

تِرنو بخشوعٍ لشروقِ الشَمسِ الساطعِ في أنفاسِ اللوحةِ...

توقِفُ نَزفي بيدَيها...

تَمسَحُها بفضاءِ اللوحةِ...

تِغدو حَقلَ "شقائق" يَغمُرُ روحي!

****

يَتَلَمَظُ ذاكَ الوَغْدُ المُتَقَدَمُ نحوي...

يَغمِزُ لقطيعِ المُفتَرسين...

يومئُ للطفلةِ...

أن تَمضي لَيْلَتها في حفلٍ ماجِن...

قَبْلَ حُلولِ التَرحيلِ إلى سجنِ النِسوَةِ...

يُمسِكُها من يَدها...

كالشاحِطِ شاتاً للمَقْصَبِ...

تتألقُ غيمةُ ضوءٍ من مَوطئِها...

تَتَصاعَد كشهابٍ مُرْتَدٍ...

تَتَلاشى في شفقِ الشَمسِ المَنشورةِ في أرجاءِ اللوحةِ!

يَركِلُني مُهْتاجاً...

ويَكيلُ سُباباً لقطيعِ المَذهولينَ...

يَتراخى جَسدي...

أهوي لِرَسيسِ الغَيبوبةِ...

تأتيني كـ العادةِ بَعدَ زياراتِ المُفتَرسينَ لقبري!!!

 

(1)  معركة الغموكة: شرارة (انتفاضة مسلحة للتحرر)، قمعها التوحش السلطوي والتخلف المجتمعي!

(2)  آمر حرس السجن.

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.