مقالات وآراء
انا لستُ موجوداً لأنَّني اُفَكِّر!// د. ادم عربي
- تم إنشاءه بتاريخ الإثنين, 27 تشرين2/نوفمبر 2023 20:36
- كتب بواسطة: د. ادم عربي
- الزيارات: 1503
د. ادم عربي
انا لستُ موجوداً لأنَّني اُفَكِّر!
د. ادم عربي
"أنا أُفكِّر، فإذن أنا موجود وعليه ، الله موجود، في استنتاج لا بدَّ منه مثالياً ". عبارة قالها رينيه ديكارت، الفيلسوف والعالم الفرنسي الذي يُعد مؤسس الفلسفة الحديثة.
لا يمكن لأحد أنْ ينكر عظمة صاحب هذه الكلمات المشهورة، ولا يجوز له أنْ يشك فيها. ولكن هذه الكلمات، رغم عظمة مَنْ قالها، لا تحمل في طياتها عظمة ما. وكلما حاول مفكرون أوْ فلاسفة أنْ يضفوا على هذا القول الديكارتي معاني عظيمة زائدة، كلما زادتْ درجة السخف في القول ذاته.
نبدأ بالقول إنَّ هذا القول لا يحتاج إلى تفسير فلسفي معقَّد، وهذا ما يميِّز الفلسفة المثالية وأتباعها، نقول إنَّ معنى "أنا أُفَكِّر، فأنا موجود " لغوياً هو أنَّ التفكير هو النشاط الذي يجعل الإنسان يدرك وجوده، ويتيقن منه. فإذا سُئِلْتَ: هل أنتَ موجود؟، تقول: بلى أنا موجود؛ لأنني أُفَكِّر؛ فتفكيري هو أفضل وأوضح دليل على أنِّي موجود.
كان السؤال عن الوجود أو العدم محور اهتمام الكثيرين من البشر، وخاصة الفلاسفة منهم؛ ومن بين هؤلاء الفلاسفة المثاليون، الذينَ نفوا أيَّ وجود للعالَم الخارجي المادي، وفي اعتباره مستقلا عن الذهن، (ومنهم أتباع المثالية الذاتية)؛ فبحسب رأيهم، فإنَّ التُّفاحة التي أريد أنْ آكلها ليست ْموجودة في الواقع، بل هي مجرد إحساسات في ذهني، وهذه الإحساسات لا تتألف من مادة ، ولا تحتاج إلى وجود خارجي عن ذهني (أو وعيي)؛ والنتيجة اللازمة لهذا الفكر هي أنْ يقول الإنسان: ليس هناك ما هو موجود إلاَّ ذهني أنا (فالكون كله هو إحساساتي التي لا تستقل عن ذهني).
ديكارت، الفيلسوف الذي ينتمي إلى المثالية؛ لكنه ليس من المثاليين الذاتيين ، ارتاب وشكَّ في وجود الوجود؛ واستمر الارتياب والشكّ الذي سيطر على عقله حتى بلغ ما اعتبره يقين؛ فقال وكأنه يختصر تجربته في الارتياب والشك: "ما دمت أنا أفكر (والارتياب أوْ الشكّ تفكير) فأنا موجود".
هيجل، الفيلسوف الرائد والمبدع في المثالية العقلانية الجدلية وله يعود كلّ الفضل في الجدل كطريقة تفكير، رآى الإنسان العاقل والناطق والحكيم على أنَّه المخلوق الذي به و فيه، ومن خلاله، وعتْ الفكرة المُطْلَقَة (الإله في الديانات) نفسها؛ فـالطبيعة، التي سبقت ظهور هذا الإنسان، والتي هي تحقيق وتجسيد للفكرة المُطْلَقَة، في إحدى مراحل تنميتها وتطورها ، لم تستطع ولم يكن بمقدورها أنْ تكون المخلوق الذي تدرك فيه، وبواسطته، الفكرة المُطْلَقَة نفسها. ولو أنَّ هيجل كان مادياً لقال: في الإنسان وبالإنسان، ومن خلاله، وعتْ المادة نفسها.
هلْ أنا كائن حيّ وموجود لأنِّي أُفَكِّر؟
لا وكلّا؛ فأنا أُفَكِّر لأنِّي كائن حيّ وموجود.
يُمكنني أنْ أَكُفَّ عن التفكير؛ ولكنني لا أزال موجوداً؛ ولكن إذا ما توقفتُ عن الحياة وأنْ أَكُفَّ عن الوجود فسأتوقف عن التفكير؛ وهذا الإنسان الذي رحل الآن توقف عن التفكير وهو لا يزال موجوداً بشكل ما.
لا يمكن أنْ يكونَ المثالي مادي؛ لكن يمكن للمادي أنْ يُفَسّر ما هو مثالي؛ أوْ لا نُفسِّر المادي بـالمثالي؛ بلْ نُفسِّرالمثالي بـالمادي ولأجل توضيح ذلك أقدم مثالاً سهلاً: أنظر إلى شجرة البرتقال التي في بستانك. تأملها وتدبرها بعينيك؛ ثم أغلق عينيك، فـتشاهد في عقلك، أو في ذاكرتك، نموذج شجرة البرتقال هذا هو النموذج العقلي (المثالي) لشجرة البرتقال الحقيقية؛ فـالأساس الحقيقي لهذا النموذج العقلي موجود خارج عقلك، ولا يتأثر به؛ إنه موجود في بستانك. هل يعني ذلك أنَّ شجرة البرتقال التي تظهر في وعيك عندما تغلق عينيك وتتخيلها أنَّها موجودة حقاً في ذهنك؟!.
هل تتغير شجرة البرتقال الحقيقية إذا ما تخيلتَ، في ذهنك، شكلها المختلف؟! حاول أنْ تغير، في ذهنك، شكلها المختلف، كأنْ تتصور شجرة برتقال من فضة أوْ ذهب ؛ فهل تتأثر شجرة البرتقال الحقيقية، كأنْ تصبح، في الحقيقة، شجرة برتقال من فضة أوْ ذهب؟!
إنَّ كلَّ فكرة في عقلك ما هي إلَّا تصوُّر ذهني، له، وينبغي أنْ يكون له، مصدر في الحقيقة (المادية) ، وإنْ كانتْ خيالاً أوْ نسخة ذهنية ليستْ من أصلها المادي ، فلا بدَّ له من أنْ يكون تصوُّر ذهني مُخلوط وخيالاً، لكن عناصرها الأولية من الواقع الموضوعي ، كشجرة البرتقال من الذهب أوْ عروس البحر ، رأسها رأس إنسان وباقي الجسم سمكة.