مقالات وآراء
لبنان النزوح والعودة..// خديجة جعفر
- تم إنشاءه بتاريخ السبت, 30 تشرين2/نوفمبر 2024 21:28
- كتب بواسطة: خديجة جعفر
- الزيارات: 845
خديجة جعفر
لبنان النزوح والعودة..
خديجة جعفر
لطالما ارتبط مفهوم العودة بحراك سياسي، عسكري يفرض نزوحا مؤقتا أقله من حيث التسمية.
النزوح حالة سلوكية، شعورية، مصيرية، وجودية تعيشها الافراد،في، مجتمع ما، ففيما تؤكد مفاهيم علم الاجتماع ارتباط المجتمع بالحدود الجغرافية لساكنيها لامكانية التفاعل والاستمرارية يصبح للمكان اذا خاصية اساسية في تشكل وتوصيف الافراد، بالتالي أن هذا التنقل او النزوح لسوف ينقص من مفهوم الجماعات خصائص ويغير في طبيعتها وطبائعها...
ان هذا المجتمع الذي نتشارك ضمنه، انظمتة وقيمه، سعيا لتحقيق مصالح وأهداف كيف سيتلقى مفاعل العودة بعد النزوح الاضطراري؟ ..
يحدث ان تتعرض الجماعات لظروف تجعل من هذه البقع الجغرافية مكانا مائعا، مهتزا وغير مستقر، يفرض على ساكنيه الانتقال ضمن الحدود او الى خارجه، بالتالي فان هذا الانتقال سيشكل حالة سلوكية، شعورية، مستمرة وليست مؤقتة بفعل الضرورة...
فمع كل حركة للنازح، نظرتين متناقضتين، حمولتين متناقضتين ومتلازمتين من ماضي مألوف وحاضر مجهول، اتجاهين متعاكسي المسار في جسد واحد، انه نزوح الزامي لضمان حياة الفرد اولا، ثم بيئته الضيقة من الأسرة، ثم التوسع بعيدا - مع تاكيد ال بعيدا - الى العائلات والجيران في الاهداف، فإن يكن المجتمع افرادا وجماعات متفاعلة، مترابطة الاهداف والمصالح، فالى اي تقوض مجتمعي نذهب، وماذا سيتبقى منا كجماعة؟ ..
النازح خفيف، لا يحمل معه سوى ضروريات عيشه، واوراقه الثبوتية ومفتاح البيت، فهو بذلك وبحركة لا شعورية يربط بين قيمة الحياة وأهمية المسكن كمُهِم لا يُستهان به لاستمرار حياة، انه البيت..
يخال للبعض بعد قراءة سريعة لتاريخ اللبناني بانه من المنطقي والمقبول الا نجد هذا الارتباط بين الحياة والبيت، وذلك نظرا لتعدد النزوحات التي عاشها في حياته، فبمجرد مراجعة بسيطة لجيل آباء واجداد اليوم، يمكننا إحصاء عدد ليس بالقليل من الانتقالات على أقل تقدير، فأين موجبات الترابط والبيت الذي يبكيه النازح، مكانا لا يحتويه بكليته، بل بأجزاء منه، من ذاكرته ومن محطات حياته التي انتشرت في أمكنة متناثرة والتي يعرف تماما بانه لن يعود اليها، فلماذا يبكي النازح بيته الان في حرب يعرفها تماما، يدرك مسبقا حجم مُصابها، يُحصي مسبقا خسائره منها، حربا لن تكن غريبة عنه، فقد لامس عند كل نزوح كيف يضع ماضيه على ظهره وكيف يتخفف منه شيئا فشيئا حتى يضمحل بين شوارع التنقل لحين او ان العودة محملا بمستلزمات عيشه وحمولة السؤال الوجودي حول بيت سيستقبل عودة. اللبناني يعرف كيف والى اين ينزح، فقد اختبر المناطق جيدا في السابق، يعرف تماما كيف يتوجه، يعرف ال "من" و" متى" و" اين" من وجهة المغادرة، لكنه لم يختبر اليها عودة حقيقية. فلطالما شكل النزوح مُكتَسبا معرفيا مُختبرا، فيما كان دوما يكتشف مجاهيل العودة..
اللبناني لا يبك بيتا تهدم، لا يبك فقد عزيز، إنها خسارات عرفها، اعتادها، فقد تحصن بالتجربة والتكرار بمهارات قسوة الانفصال، لئلا يتأثر، اللبناني يبني من حزنه دفاعاته، فهو لا يبك ذاكرة، ذاكرته متقطعة الى ذاكرات منفصلة متصلة باربطة غير قابلة للإنقطاع، له في كل مكان سَكنَه مؤقتا، ذاكرة تختلف عما سبق وتشكل آت جديد يصعب توصيفه والامساك به الا عندما يتعرض لظرف مشابه، اللبناني يبكي الامل بأن يملك ذاكرة يبكيها.
نحن مجتمع نحتاج الى ذاكرة حتى ننجو، فذاكرة اللبناني تجمدت في اماكن الآثار للحضارات التي سبقت وجودنا بعهود وعهود...
في الحرب الأخيرة كما يتمنى اللبناني، مليون لبناني على طرقات العودة، مليون فم، على اقل تقدير، يلوك صمتا، أسئلة ال الى اين؟ نحو اي ركام نتجه؟ هل يمكن ان يتفعل ميكانيك المفاتيح التي نحمل لمصادفة انتظارٍ من باب يفتح؟ هل ستتعرفنا حدائق منازلنا وقد تخففنا مجددا من اخر اجزاء ماضينا على طرقات التنقل، ولم يتبق من وجوهنا الا القليل؟ هل تبقى من اصواتنا ما يشبهنا ليضحك لنا الجدار مستقبلا؟ هل من الممكن احصاء العائدين احصاء مكتمل العددية؟ بأي فقيد سوف نعزي؟ لأي عزيز سنفرح؟ ماذا سنسرد من احاديث الامس وقد عدنا جماعات منقوصة الذاكرة؟ محملين بحمولة آن البناء بدل اللقاء؟
المفتاح اللبناني لا يشابه مفتاح النكبة الفلسطينية، ا ، مفتاح الفلسطيني بالصدأ المكتمل ذاكرة يتعرف بابه، المفتاح اللبناني معطوب، يعرف بابه ، يضحك له لكنه لا يتمكن فتحه، المفتاح اللبناني لا يتقن اكتمال ذاكرة، فيما الابواب تعيش تناقض بين ثبات ورحيل، المفتاح اللبناني يفقد من خاصيته حتى حلم العودة، لانه يعود في كل مرة شخصا جديدا، منقوصة ذاكرته، طفلا في بنائه، عجوز متعب من حمولة التفاصيل رغم التخفف الا من حمولة الاثر.
نزوح اللبناني ليس اختبارا، لم يعد ظرفيا، نزوح اللبناني صار جزء من ثقافته، قيمة الانفصال باتت صفة مشتركة، نحن نتكرر انفصالا في الكثير من أوجه حياتنا، انفصال الامكنة، عن الامكنة، عن مواطنتنا، عن الاشخاص، عن الاسر، عن الذكريات حتى عن القيم نفسها، الانفصال بات قيمة أساسية من القيم الحمائية، وأسلوب لحل المشكلات، لم يعد النزوح مرحليا، لم يعد حالة مؤقتة، بالتالي فان الانفصال لم يعد ظرفيا بل على العكس، انه بات فينا لبنانيا، نمط عيش واسلوب تفكير.
خديجة جعفر
30 /11 /2024