اخر الاخبار:
انفجار في بغداد دون إصابات - الثلاثاء, 13 أيار 2025 10:59
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

البابا فرنسيس: تلميذ المحبة والسلام- عاش قديسا ومات قديسا// د. عامر ملوكا

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. عامر ملوكا

 

عرض صفحة الكاتب 

البابا فرنسيس: تلميذ المحبة والسلام

عاش قديسا ومات قديسا

د. عامر ملوكا

 

ولد خورخي ماريو برغوليو في 17 كانون الأول 1936، في أحد أحياء بوينس آيرس المتواضعة، لأسرة أرجنتينية متجذّرة في الروح الإيطالية، ومرتبطة بعراقة البسطاء وطيبتهم. نشأ بين أحضان أم رؤوف، وأب كادح يعمل في السكك الحديدية، في بيت صغير، لكنه عامر بالمحبة والصلاة والتواضع. كانت طفولته متواضعة في ظاهرها، عظيمة في معناها— فمنذ البدايات، صاغته البساطة، وشكلته القيم العائلية، وغذّته مشاعر التضامن والرحمة.

 

لم يكن مجرد طفل كباقي الأطفال. كان يحمل في قلبه حسا مبكرا بالآخرين، وميلاً خفيا إلى القرب من الضعفاء والمهمَّشين. عمل منذ صغره في مهن متواضعة—في المختبر، كحارس، وكعامل نظافة— ولم تكن تلك الوظائف مراحل عابرة، بل كانت دروسا عميقة في فهم كرامة الإنسان وقيمة العمل اليومي ومشاركة البشر همومهم ومعاناتهم.

 

لكن في أعماق هذا الشاب، كان صوتٌ إلهي يهمس بنداءٍ خفي: "كرّس حياتك لما هو أسمى". وعندما واجه مرضًا خطيرا في شبابه، خضع لعملية استئصال جزء من رئته، كانت تلك اللحظة بمثابة استدعاء سماوي، أيقظه على أسئلة الوجود والرسالة. ومن بين وجع الجسد، انبثق نور الدعوة.

 

في عام 1958، دخل الرهبانية اليسوعية، فألقى ذاته في حضن الروح، ليغتسل بتعاليم الفلسفة واللاهوت، وليهيّئ نفسه لخدمة الله من خلال الإنسان. سيم كاهنا في 1969، ومنذ تلك اللحظة، بدأ مسيرته الروحية كراع يحمل عصا المحبة، لا عصا السلطة.

 

لم يكن الكرسي هدفه، بل كان القلب مأواه. عاش كما عاش معلمه يسوع: بين الناس، في الأزقة، في الفقر، في المعاناة. كان يركب الحافلات، يأكل على موائد البسطاء، ويمسح دموع المنسيين. وذات خميس مقدّس، انحنى وغسل أقدام المساجين والمهاجرين، لا استعراضا، بل طقس حب، يُعيد تفعيل المعجزة الكبرى: أن تتنازل لترفع الآخر.

 

تدرج في المهام الكنسية، من أسقف مساعد إلى رئيس أساقفة بوينس آيرس عام 1998، لكن رداءه لم يتغير: ظل نفس الراهب، بنظرة حانية، وقلب مشغول بمن ليس لهم أحد. لم يكن يرى المنصب، بل يرى الرسالة. يطرق أبواب الأحياء الفقيرة، يوزّع الخبز والرجاء، ويجلس لا كواعظ، بل كأخ.

 

وفي عام 2013، حين انتُخب البابا الـ266 للكنيسة الكاثوليكية، هبّ نسيم جديد على روما. لم يكن انتخابه مجرد انتقال في الرئاسة، بل كان ولادة رمزية لعصر جديد من التواضع والخدمة. أول بابا من أمريكا اللاتينية، وأول يسوعي في هذا المقام، وأول من اختار اسم "فرنسيس"، تيمنا بالقديس الذي أحبّ الفقراء واختار العيش معهم.

 

منذ لحظة ظهوره على شرفة الفاتيكان، أذهل العالم بطلبه المتواضع: "صلّوا من أجلي". لم يكن ذلك مجاملة، بل تجلّيا نقيا لروحانية ترى في الخدمة أقدس من السلطة. قدم نفسه تلميذا لا سيدا، رسولا لا زعيما، قلبا نابضا لا هيكلا من البروتوكول.

 

أطلق إصلاحات جذرية داخل الفاتيكان، ونادى بالشفافية والرحمة، وفتح أبواب الكنائس وقلوب المؤمنين خلال "سنة الرحمة" 2015، فصار كل باب مفتوح هو دعوة جديدة للغفران والعودة.

 

وفي زياراته إلى أماكن مزقتها الحروب، كالعراق في 2021، كان وجهه يحمل سلاما سماويا، وصوته يزرع رجاءً في أرض اليأس. لم يكن يحمل معه سوى الكلمات، لكنها كانت كلمات من نور، تذكّرنا بأننا أبناء الأرض الواحدة، وأننا كلنا إخوة، مهما اختلفت أدياننا أو أعراقنا.

 

وكان من أوائل الأصوات التي دافعت عن البيئة بجرأة روحية، حين أصدر الرسالة البابوية "كن مسبَّحا"، فخاطب العالم: "احموا بيتنا المشترك". في قلبه، كانت الأرض كائنًا مقدسا، لا موردا يُستنزف.

 

كل ما فعله، وكل ما قاله، كان يعكس رسالة واحدة: المحبة هي طريق السماء، والسلام هو صوت الله في الأرض. لم يكن البابا فرنسيس مجرد رجل دين، بل كان تلميذًا عاشقًا، وراهبًا في هيئة قائد، وقديسا يتقدّس لا بوعظه، بل بأفعاله.

 

هو تلميذٌ لمعَلِّم عبر الأجيال، لكنه ظل أمينا للرسالة، حافظا للعهد، يذكرنا في كل ظهور أن جوهر الإيمان هو العطاء، وأن الله لا يُعبَد بالكلمات وحدها، بل بحضور حقيقي في حياة المتألمين.

 

وعلى الرغم من كونه تلميذا لمعلم سبقه باكثر من 2000 عام ولكن كان تلميذا وفيا وحافظا للعهد وفي كل مكان ذهب إليه، كان يثبت أن المحبة والرحمة هما جوهر الحياة البشرية.

 

عاش قديسا... ومات قديسا. وما بين الميلاد والرحيل، كان يمشي على خطى القديسين، ويضيء للعالم دربا نحو الرحمة والسلام.

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.