اخر الاخبار:
سوريا.. اشتباكات عنيفة بين "قسد" والجيش - الجمعة, 11 تموز/يوليو 2025 11:25
حزب العمال الكوردستاني يبدأ تسليم سلاحه - الجمعة, 11 تموز/يوليو 2025 11:17
ندوة تفاعلية لاتحاد كتاب الإنترنت العرب - الثلاثاء, 08 تموز/يوليو 2025 11:01
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

ما يُتَعَمَّد تجاهله في دساتير العرب!// د. ادم عربي

تقييم المستخدم:  / 1
سيئجيد 

د. ادم عربي

 

عرض صفحة الكاتب 

ما يُتَعَمَّد تجاهله في دساتير العرب!

د. ادم عربي

 

ما تزال الحياة السياسية في مجتمعاتنا العربية، والتي كان يُفترض أنْ يشحنها "الربيع العربي" بقيم ومبادئ الديمقراطية، تعاني أمراضاً مزمنة ومستعصية، لم تجد إلى الآن سبيلًا للشفاء منها. وإنْ استمرّ الحال على ما هو عليه، سنبقى كمن يخطو إلى الأمام خطوةً على طريق الدولة المدنية، ليعود ويتراجع خطوات عديدة إلى الوراء.

 

من أخطر هذه الأمراض غياب مادة دستورية جوهرية عن دساتيرنا: تلك التي تجرّم استخدام الدين، بأي أسلوب أو وسيلة، لتحقيق أهداف ومصالح سياسية، لا سيّما في المواسم الانتخابية. إنَّ الزجّ بالدين في السياسة يجب أنْ يُحظر حظراً قاطعاً بنصٍّ دستوري واضح لا لبس فيه، ويُعامل على أنه جريمة قانونية يعاقب عليها القانون. كما يجب أنْ يكون هذا التحريم من الأسس التي تُبنى عليها قوانين إنشاء الأحزاب السياسية وترخيصها، بحيث لا يُسمح بقيام حزب يستند إلى مرجعية دينية.

 

إنَّ الإصلاح الديني في بعده السياسي، وبالذات الإسلامي، لا ينبغي أنْ يقتصر على إعادة قراءة النصوص أو تحديث الخطاب؛ بلْ يجب أنْ يتجه إلى تحريم كل محاولة لإضفاء شكل ديني على مضمون سياسي. السياسة من طبيعتها دنيوية، تنتمي إلى عالم الواقع والمصالح البشرية المتغيرة، ولا تحتمل أنْ تُقاس أو تُضبط بأدوات الغيب أو المطلقات.

 

إنَّ السؤال من نوع "ما حكم الشرع في هذا القرار السياسي؟" هو سؤال فاسد في جوهره، لأنه يحمّل الدين ما لا يحتمل، ويفتح الباب لاستغلاله في لعبة المصالح والنفوذ. أخطر مظاهر هذا الاستغلال نراها في الأحزاب الدينية، التي تتلاعب بعواطف العامة وتستخدم خطاباً دينياً عاطفياً لخدمة أهدافها السياسية، في مشهد هو التجسيد الفجّ للميكيافيلية بمظهرها الأكثر تضليلاً.

 

ولو أردنا تعريف "الحزب السياسي الإسلامي" لقلنا: هو تنظيم حزبي من المسلمين، يؤمن بأنَّ الفكر الإسلامي يصلح ليكون مرجعية سياسية شاملة، وبأنَّ من واجب هذا الحزب أنْ يستخرج رؤى ومواقف وبرامج سياسية من هذا الفكر، باعتباره "شاملًا" لا يستثني السياسة من سلطته.

 

تكمن خطورة هذا التوجه في أنه يُخضع الحياة السياسية لمعايير الحلال والحرام، مستغلاً ميول المجتمع المتدينة، خصوصاً لدى الشباب. لقد رسخت هذه الأحزاب في وعي الجمهور فكرة أنَّ الرأي السياسي يجب أنْ يُوزَن بميزان ديني، فصار الناخب المسلم حين يصوّت لها يشعر كأنه يؤدي صدقة أو يقدّم عملاً صالحاً في سبيل الله!

 

ولعل حزب "العدالة والتنمية" التركي، بقيادة أردوغان، يشكّل نموذجاً يمكن دراسته في هذا السياق. لقد مرّ الحزب بتحولات فكرية وسياسية واضحة، جعلته يتعامل بمرونة أكبر مع قضايا مدنية علمانية خلافية، كالعلمنة وعلاقة الدين بالدولة، مما يُظهر أنَّ المراجعة الفكرية داخل الأحزاب الدينية ممكنة، بلْ ضرورية، إذا أرادت أنْ تواكب متطلبات الدولة الحديثة.

 

 

وهذا النموذج ، على الرغم من تحفظاتنا على سياساته اللاحقة ، يُظهِر أنَّ الأحزاب ذات الخلفية الدينية يمكن أنْ تمر بمرحلة تحوّل بنّاءة، تتعلم خلالها كيفية الفصل بين العقيدة كقيمة روحية، والسياسة كفنّ للمصلحة العامة وإدارة الشأن العام. فليست العلمانية عدوًا للدين، بلْ هي ضمانة لعدم تحوّله إلى أداة للهيمنة السياسية، ولحماية التديّن نفسه من الابتذال والمزايدة والشعبوية.

 

ولا شك أنَّ السير في هذا الاتجاه من المراجعة والتطور سيترك أثره العميق في النص الدستوري، حيث ترتفع فيه تدريجياً نسبة القيم والمبادئ الديمقراطية، وتُبنى على أساسه دعائم الدولة المدنية. وهذه الدولة لا تُولد مكتملة، بلْ تنمو وتتطور مع الزمن. فالثورات، مهما كانت عاصفة، لا تأتي إلّا لتطلق يد التاريخ في الهدم والبناء، وتفتح أبواباً جديدة للإصلاح المتدرج العميق.

 

إنَّ تعمُّد تغييب مادة دستورية تجرّم استغلال الدين في السياسة ليس أمراً بريئاً ولا سهواً تقنياً، بل هو انعكاس لمعادلة سلطوية شديدة التعقيد. فالدين في السياق العربي ليس فقط مكوّناً ثقافياَ وروحياَ، بلْ هو أيضاً أداة طيّعة تُوظَّف في شرعنة السلطة، وتطويع الجماهير، وتصفية الخصوم. ولذلك، فإنَّ الأنظمة ، حتى تلك التي ترفع شعارات الحداثة والعلمانية ، لا تمانع ضمنياً في أنْ يبقى الدين ساحة مفتوحة للمزايدة السياسية، ما دام ذلك يعزز قبضتها، أو يضرب خصومها بأيدي خصوم آخرين. أما القوى الدينية، فهي بالطبع تستفيد من هذا الفراغ الدستوري لتحصّن موقعها في الحقل السياسي، وتدّعي تمثيل الحق الإلهي في المجال العام. وهكذا، يتواطأ الطرفان، ولو بصمت، على إبقاء هذا الباب مفتوحاً، لأنَّ إغلاقه يعني ولادة فضاء سياسي عقلاني مستقل عن الغيبيات والمقدسات، وهذا ما لا يناسب لا السلطويين ولا الإسلامويين.

 

ولا يمكن في ختام هذا الحديث إغفال البعد الخارجي للصورة، فالغرب، الذي يدّعي الدفاع عن القيم المدنية والحداثية، ساهم بقصد أو بذكاء استعماري مبطَّن في تكريس طابع ديني على الحياة السياسية في مجتمعاتنا. فكلما ازداد حضور الخطاب الديني في المجال العام، سَهُلَ على القوى الغربية تصوير المنطقة كرقعة خارجة عن الحداثة، غارقة في اللاعقلانية، وبالتالي تبرير التدخلات العسكرية، أو دعم الأنظمة الاستبدادية، تحت ذريعة "مكافحة التطرف". لقد جرت أسلمة السياسة في بعض السياقات ليس فقط من الداخل، بل بتحريض أو تغاضٍ من الخارج، لتتحول معاركنا إلى صراعات هوياتية مغلقة، تُعفي الجميع من مسؤولية بناء دولة مدنية حديثة. ولهذا، فإن أي إصلاح دستوري حقيقي لا بدَّ أنْ يواجه هذه الازدواجية: من جهة مقاومة توظيف الدين في الداخل، ومن جهة أخرى تفكيك خطاب الخارج الذي لا يرى في مجتمعاتنا إلّا مرآة لذاته الاستعمارية القديمة.

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.