مقالات وآراء
الانتماء في زمن التداخل: القومية والعولمة وجهًا لوجه// د. عامر ملوكا
- تم إنشاءه بتاريخ الجمعة, 04 تموز/يوليو 2025 22:53
- كتب بواسطة: د. عامر ملوكا
- الزيارات: 558
د. عامر ملوكا
الانتماء في زمن التداخل: القومية والعولمة وجهًا لوجه
د. عامر ملوكا
في خضم عالم يشهد تسارعا غير مسبوق في وتيرة العولمة وتشابك الثقافات، تبدو مسألة الهوية القومية أكثر إلحاحا من أي وقت مضى، لا سيما بالنسبة إلى الشعوب ذات الجذور الحضارية العميقة. ومن بين هذه الشعوب، تبرز الأمة الكلدانية بما تحمله من إرث بابلي مجيد، وعبقرية فلكية، ولغة عريقة، ودورٍ طليعي في نشوء المدن الأولى وابتكار القوانين. الكلدان، ومنذ فجر التاريخ، شكّلوا نسيجا حيا في الحضارة الرافدينية. فمن بابل، التي أبهرت العالم بحدائقها المعلّقة وبشريعتها المدنية، إلى الإسهامات الثقافية في العصور المسيحية، لم تكن القومية الكلدانية أبدا شعارا للانعزال، بل كانت صوتا فاعلا في تشكيل الوجدان الإنساني. واليوم، إذ تواجه هذه الأمة تحديات الاغتراب وضغوط العولمة، لا يكون الاعتزاز القومي ترفا أو استجابة عاطفية عابرة، بل ضرورة وجودية تحفظ المعنى والامتداد. لقد كانت الهجرة الجماعية من العراق إلى الشتات لحظة مفصلية في تاريخ الهوية الكلدانية. فالانفصال عن الجغرافيا لا يعني فقط الابتعاد عن الأرض، بل عن اللغة والطقوس والذاكرة الجمعية. وفي مجتمعات جديدة لا تحمل شيئا من بابل أو أور أو نينوى، تتعرض الأجيال الجديدة لخطر الغزو الثقافي، ولفقدان صلتها بالهوية الأصلية. ويفاقم هذا الواقع استمرار نزيف الهجرة من الداخل العراقي، الذي أفرغ المدن والقرى الكلدانية من سكانها، فباتت مناطق مثل تلكيف وبلدات زاخو ودهوك وألقوش وباطنايا وكرمليس وكرملش مهددة بفقدان طابعها الديمغرافي والثقافي. هذه الهجرة لا تعني فقط تناقص الأعداد، بل انقطاع خيوط الوصل بين الإنسان وأرضه، وتحويل الهوية الكلدانية إلى مشروع منفي، مجرّد من التربة التي أنجبته ومن البيئة التي تغذّيه. في هذا السياق، يكتسب الاسم القومي بعدا رمزيا بالغ الأهمية. فالاسم ليس مجرد لفظ، بل هو مرآة لهوية متجذّرة. أسماء مثل "كوركيس"، "أبلحد"، و"بهنام" ليست فقط علامات فردية، بل تحمل صدى حضاراتٍ بأكملها. استبدال هذه الأسماء بأخرى لا تمت إلى الإرث بصلة، هو خسارة لصوت من الماضي، ولرابط غير مرئي بالتاريخ. الاسم القومي هو ذاكرة ناطقة، وحين يتوارى، ينكسر خيط من خيوط الانتماء. في مواجهة هذا التحدي، انطلقت جهود قومية يقودها مثقفون وناشطون ومؤسسات في المهجر، عملوا على ترسيخ الوعي القومي في الجاليات الكلدانية، فأنشأوا الجمعيات والمنتديات والمدارس والكنائس التي تعلّم اللغة وتُحيي الطقوس وتحتفل بالمناسبات القومية. هنا، في قلب المغترب، تُعلَّم التراتيل بلغة الأجداد، وترنم الجوقات بألحان مشرقية، ويُستعاد الإحساس بالهوية من بين تفاصيل الحياة اليومية. وقد بُذلت جهود حثيثة لإعادة الاعتبار إلى الأسماء القومية، من خلال حملات مجتمعية ومبادرات ثقافية، شجّعت العائلات على اختيار أسماء كلدانية لأبنائهم، ونشرت مطبوعات تحتفي برموز قومية مثل "رأس السنة البابلية" (أكيتو)، و"يوم العلم الكلداني"، و"ذكرى شهداء صوريا وسيفو". كما ظهرت منصات رقمية متخصصة تُوثق التاريخ والأدب الكلداني، وتُقدّم دروسًا تعليمية ولغوية للشباب بلغاتهم المعاصرة وأجهزتهم الذكية. أما الأدب والفن، فقد حملا الراية بتجدد وإبداع، فظهرت نصوص سردية وشعرية تستحضر الذاكرة الكلدانية، وتحاكي تجربة الاغتراب بلغة حديثة، تُخاطب الوجدان دون أن تقطع مع الأصل. لم تعد الهوية مجرد حنين، بل مشروعا حيا يستمد من الماضي رؤيته للمستقبل. إن الاعتزاز القومي الكلداني لا يعني الانغلاق أو العيش في زمن غابر، بل هو فعل مقاومة هادئة في وجه التهميش والانصهار. هو وعيٌ راسخ بالذات، يرفض الذوبان في ثقافة الآخر دون أن يُنكر حق التفاعل معه. التمسّك بالاسم، واللغة، والرمز، ليس عنادا، بل إعلانٌ بأن هذه الأمة ما زالت هنا، رغم العواصف والتغيرات. ولكي لا يتحوّل هذا الاعتزاز إلى مجرد خطاب إنشائي، لا بد أن يتجسد في مشاريع ثقافية وتعليمية مستدامة، تُشرك الأجيال الجديدة في صياغة هوية كلدانية متجددة، تحتفي بالأصالة دون أن ترفض الحداثة. ويتطلب ذلك جهدًا مشتركا من المؤسسات الكنسية والثقافية، ومن الآباء والمعلمين والمبدعين، لصوغ خطاب جامع ينفتح على العالم دون أن يتنازل عن الجذر. في نهاية المطاف، فإن التحدي الأكبر الذي يواجه القومية الكلدانية اليوم ليس العولمة ذاتها، بل الاستسلام لفكرة التلاشي والانفصال عن الأصل. الأصالة لا تناقض الحداثة، والانتماء لا يتعارض مع الانفتاح. الكلداني الذي يحفظ اسمه، ويتحدث لغته، ويروي لأطفاله حكايات بابل ونينوى وأور، لا يُعيد التاريخ، بل يمنحه حياة جديدة وفرصة ثانية للبقاء.