مقالات وآراء

يوميات حسين الاعظمي (1400)- المقام العراقي رواية العراقيين - 6

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

حسين الاعظمي

 

عرض صفحة الكاتب 

يوميات حسين الاعظمي (1400)

المقام العراقي رواية العراقيين - 6

 

من كتاب (المقام العراقي في مئة عام)

تحت عنوان داخلي مركزي

 

تيارات(حقبة التحول) الجمالية

     لقد كانت حقبة التحول التي قادها بكل ثقة كل معاصري هذه الحقبة، على اختلاف ثقافاتهم وامكانياتهم واتجاهاتهم الجمالية منذ بداية القرن العشرين. التي استطاع فيها محمد القبانجي ان يكون ابرز معاصريه ليقود حملة الابداع والتجديد بعد ان ختم تعليمه من اسلافه السابقين. وعلى الاخص من سلفه رشيد القندرجي. حتى تسيّد كل الحقبة، بل كل القرن العشرين، والى يومنا هذا وبكل استحقاق. وهو في هذا يكون قد عبّر في الحقيقة عن حقبة تحول كبيرة عمّت البشرية في هذه المرحلة من الزمن بواسطة التطور الصناعي المضطرد. وظل القبانجي من ثم يعطي تعبيرا فنيا امينا لاتجاهات هذه الحقبة الذوقية والجمالية والفكرية والتقدمية..! وقد اصبح القبانجي احد مغني عصره الاكثر شعبية والاكثر نجاحا على صعيد نتاجاته المقامية. التي سجلتها له الشركات الاجنبية في العراق وخارجه. والتاثير الغنائي الذي مارسه القبانجي في كل الغناسيقى العراقية لا حدَّ له..! وبذلك يكون القبانجي قد تجاوز سابقيه، وقاد معاصريه الى آفاق جديدة، واخذ يدلّهم الى روح جديدة في التعبير المقامي والتصوير التاريخي، والى ذوق وجمال جديد هو الآخر.

       ولكن يبدو مع كل ذلك، انه من المبالغة الاعتقاد المطلق بأن حقبة التحول هذه في اتجاهات الشكل والمضمون المقامي، او في الغناسيقى العراقية ككل. تعتمد في الواقع على مبادىء الطريقة القبانجية فقط..! فقد سبق ان تحدثنا في مناسبة سابقة عن الصراع الذي احتدم بين الطرق الادائية المقامية القديمة التي قادها وحمل لواءها المطرب الكبير رشيد القندرجي. وبين الطريقة القبانجية التي سادت الاوساط الفنية بعدئذ(هامش1). وكذلك تعدد الاساليب القديمة لدى المغنين الاسبق الذين بدأ فنّهم بالظهور مطلع القرن العشرين، بحيث برز من هؤلاء مغنين ممن تميز باسلوب خاص نوعا ما ولم يتبعه احد من لاحقيه. ومثال على ذلك المغنين جميل البغدادي ويوسف كربلائي وعباس كمبير وعبدالفتاح معروف ونجم الشيخلي وجميل الاعظمي. واصبح كل واحد من هؤلاء المغنين يمتلك اسلوبا يكاد ان يكون مستقلا عن غيره(هامش2).

        لذلك كانت هذه التحولات قد تبلورت وتطورت بحيث ظهرت بصورة واضحة في حقبة زمنية عبّرتُ عنها بـ(حقبة التحول). ويوجد طبعا، شىء اكثر من هذا يمكن قوله عن الاتجاهات الذوقية والجمالية في الغناء المقامي او في الغناسيقى العراقية ككل. وتستطيع ان تتحدث هنا بصورة موجزة عن اتجاهين جماليين مهمين. فمن جهة هناك اتجاهات جمالية في الغناء المقامي برزت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. التي اتسمت بالاتجاه الكلاسيكي الذي يشترك كثيرا في وجهة النظر بشكل ومضمون الغناء المقامي في تلك المرحلة الزمنية. من خلال صرامة الالتزام بالاسس القديمة والتعابير الرصينة الدينية والدنيوية ووصول الغناء المقامي الى ذروة تبلورت من حيث الاصول التقليدية عند توديع القرن التاسع عشر واستقبال القرن العشرين.

      من جهة اخرى، هناك الاتجاه الذي تمثله حقبة التحول من المغنين. الذين تأثروا بهذه الاتجاهات وبدأوا تسجيل نتاجاتهم المقامية في العقود الاولى من القرن العشرين. امثال جميل البغدادي ورشيد القندرجي وعباس كمبير ونجم الشيخلي وعبدالفتاح معروف وغيرهم. الذين اجتهد معظمهم بالابقاء دون مساس بالشكل المقامي(form) واصوله التقليدية القديمة. التي كان تبلورها مستمرا خلال قرون (الفترة المظلمة)(هامش3) ولكنهم اقتربوا كثيرا من المضمون المقامي وتعابيرهم عن حقبتهم. ويمكن ان نقرب حقبة التحول في العقود الزمنية الاولى من القرن العشرين، من مفهوم الاتجاه الجمالي الرومانسي وسماته العاطفية..! والثورة على المخلفات التي اصبحت بالية ولا تواكب الحقبة التي انتُدبَ لها المطرب الكبير محمد القبانجي ومغنين آخرين بكل قوة..! ولا يمكن بطبيعة الحال، وبقلة المصادر والمراجع. ان تكون مهمتنا هنا اعطاء عرض شامل لتصارع هذه الاتجاهات الجمالية التي تمثلت بالطرق الغنائية المقامية. خاصة قمّتيها  في القرن العشرين(الطريقة الرشيدية (القندرجية) والطريقة القبانجية). ومن الارجح اننا سنكتفي بما ألقينا على هذه الحقبة من ضوء وتوضيح مختصر لمغني هذه الحقبة الزمنية واتجاهاتهم الجمالية والذوقية. ولكننا سنشير الى مغنين لهم اهميتهم في القرن العشرين على اختلاف اذواقهم وجمالياتهم وبالتالي اتجاهاتهم. وهم في نهاية الامر مغنون ملائمون لحقبهم الزمنية التي عاشوها.

        ان تركيز الطريقة الرشيدية (القندرجية) على الاتجاه الكلاسيكي في الذوق والجمال والفكر. يعطي نتاجات مؤديها منظورا تاريخيا كبيرا وواسعا. ومع ذلك وفي ذات الوقت، اتسمت هذه النتاجات بالمباشرة والصراحة في الالتزام الصارم بالمنظور التاريخي. وهذا يعني من ناحية اخرى، إفقاراً لعالمِها الفني والخيالي. لأنه إفقاراً لمنظورها المستقبلي..! خاصة وهي تواجه حقبة التحول الكبيرة التي عمّت البشرية. مقارنة مع الطريقة القبانجية التي امست حلقة الوصل المقنعة بين القديم والجديد. وبالتالي في رؤيتها المستقبلية..! وبهذه الميِّزات صمدت هذه الطريقة وبقي تأثيرها حتى مغني القرن العشرين كله، بل حتى يوم الناس هذا..! وبذلك تكون اعظم انجازات محمد القبانجي الغنائية والفنية. هو تطويره الرائع لما تعلمه من اداء مقامي تاريخي عن اسلافه، وعلى الاخص منهم رشيد القندرجي. ليمسي القبانجي بعد ذلك بطلاً لحقبة التحول، والشخـــصية المركزية خلالها ضمن مغني المقامات العراقية. التي اقترب فيها القبانجي من معايشة مأســاة مجتمعه بكل عواطفه ومشاعره.

 

والى حلقة اخرى ان شاء الله

 

 

هوامش

1 – صدر كتاب للباحث حسين الاعظمي مطلع عام 2011 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، موسوما بـ(المقام العراقي بين طريقتين). وقبل هذا الكتاب كان قد صدر عن نفس المؤسسة كتابين متناظرين موسومين بـ(الطريقة القندرجية في المقام العراقي واتباعها) وكتاب (الطريقة القبانجية في المقام العراقي واتباعها). وبعد حين صدر كتاب (الطريقة الزيدانية في المقام العراقي واتباعها). لمؤسسها المطرب المقامي احمد الزيدان (1832-1912) في ذكرى وفاته المئوية.

2-  أنجزتُ كتابا مخطوطا ينتظر الطبع ان شاء الله اسميته مؤقتاً( طرق مستقلة في المقام العراقي ) تحدثت فيه عن بعض المغنين الذين اتسموا بنوع من استقلالية الاسلوب (الباحث).

   3 - الفترة المظلمة: يعترض أ. د. رشيد عبد الرحمن صالح العبيدي، الشاعر وأستاذ اللغة العربية في جامعة بغداد (انظر كتابي المقام العراقي الى اين؟ ص198 نبذة مختصرة عنه) على مصطلح – الفترة المظلمة – لحقبة القـرون التي تلت سقوط العباسيين 656هـ – 1258م حيث قال في رسالته التي بعثها الى – المؤلف – بهذا الشأن مؤرخة في 20/3/2002 يقول فيها شاع في استعمال الباحثين الأوربيين استعمال مصطلح (الفترة المظلمة) يطلقونه على الظروف والاحوال التي عاش المجتمع العربي الإسلامي في القرون المتأخرة بعد غزو بغداد، وتداول الباحثون العرب تقليداً للغربيين، من غير تمحيص ولادراية هذا المصطلح.

         وهذا المصطلح غير صالح، وغير صحيح، بسبب مايأتي:

1.    ان لفظ( فترة) ويريدون بها (مدة) أو (زمن) غير صحيح لغوياً. لأن الفترة تعني الانقطاع. قال تعالى ((على فترة من الرسل)) أي: انقطاع.

2.    ان لفظ (مظلمه) غير صحيح. لأن الإظلام الذي يطلقونه على هذه الحقبة الزمنيه لايحكي واقعاً ولايصدق مصطلحاً على الحقبة. فالحقبه التي كانت بعد (غزو بغداد) من احسن الحقب في العلوم والاداب والمعارف والثقافات والموسوعية العلمية.

 

 

صورتان 1 و 2 / في اكبر مسارح ستوكهولم السويدية، حسين الاعظمي يغني برفقة فرقة طيور دجلة (موسيقيون وكورال) بقيادة المايسترو علاء مجيد في تشرين اول 2012.