اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

الفرد أم الجماعة؟// المطران د. يوسف توما

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

المطران د. يوسف توما

 

 

الفرد أم الجماعة؟

المطران د. يوسف توما

 

نسمع كثيرا من المفكرين يدعون إلى "تحرير المبادرات الفردية"، أو إلى التخلص من "السلطة المركزية" والبيروقراطية، وشلل المؤسسات الثقيلة، فقد قيل إنهم في الصين قبل النهضة الحالية كان من يريد فتح محل بسيط يحتاج إلى 114 توقيعا... وهذا ما لمسناه نحن أيضا، في كل العهود الماضية التي مرت علينا من نظم دكتاتورية أو مذهبية أو دينية حصرت نفسها في محاصصة وابتعدت عن التطورات التي حصلت في بلدان قريبة وقطعت شوطا كبيرا فيها.

 

في هذه الأيام النقاش – في كل مكان - يدور حول تحديث السياسة، ولم يعد اليسار ولا اليمين يعنيان شيئا في الكثير من البلدان، وحتى الوسطية والاعتدال، لم يعد لهما تأثير لأنهما كانا لفترة معينة لتهدئة المخاوف من تيارات التطرف بأشكاله، الذي أراد فرض نفسه بأساليب الرعب والارهاب. أما اليوم فنحن مضطرون إلى ملاحظة صعود الفردية، منذ ثمانينيات القرن الماضي (عام 1979 مفصليّ)، وفي نفس وقت ساد أنموذج آيديولوجي جديد: بأن إرادة المجتمعات المحلية عليها أن تحكم نفسها بنفسها، ليس في الدول فقط وإنما المدن والأحياء وحتى القرى. صار المواطن أكثر تعليما وقدرة من أي وقت مضى. ولم يعد يقبل فرض أي نماذج عليه، لا من بعيد ولا حتى من قريب، حتى لو كان قريبه أباه في البيت، نزلت جموع الشباب إلى الشوارع ضد الجيل السابق الذي عشق السلطة، لكنه لم يفهم أن السلطة خدمة فكدّس الفساد على حساب أمور أخرى تجاوزها جيراننا حتى ممن كانوا أفقر منا يستعطون الفتات من موائدنا قبل خمسين عاما.

 

علاوة على ذلك، في سياق العولمة الزاحفة (قبل عولمة فايروس كورونا)، أصبحت التعددية في دائرة الضوء، ولم يعد الجيل المتحكم بالسلطة يستطيع أن يسد أذنيه وعينيه كالأنظمة السابقة مع الرقابة، بحيث كدتُ أنا شخصيا أذهب إلى السجن في عام 2002 بسبب امتلاكي لصحن فضائي على السطح.

 

هل يمكننا قراءة الزمن المعاصر من منظور الفردانية؟

إن أول ملاحظة تبرز هي وجود طريقين متباعدين لتولي مسؤولية هذه الرغبة بالاستقلال والمشاركة وحق الاختلاف. فالمرء نشأ يرى ويسمع بشكل يومي عن "الربيع العربي"، لكن هذا الربيع لم يأت من فراغ بل هو بالحقيقة استلهم ما حدث في أنحاء كثيرة من العالم، لذا يجدر بنا أن نسميه "الربيع الفردي" ليس إلا. إذ إننا عندما نسمع "نريد وطن" إنما يشيرون إلى أهمية الحفاظ على التماسك الاجتماعي والتضامن والدولة الوطنية التي تظل وظائفها وخدماتها ضرورية غير منقوصة.

 

كان الجميع، قبل سنوات قليلة، خائفا من تقسيم العراق سياسيا، بعد أن بدا بسبب الانحطاط مقسَما جغرافيًا واجتماعيًا. وقوة هذا الاتجاه معاكس تماما للعولمة ولتيارات التجارة وزوال الحدود وفتح طرق "الحرير" برًا وجوًا وبحرًا، ما أثر بقوة على التفكير السياسي لدى الأجيال الشابة، وبقيت الأجيال الأخرى حائرة تكرّر شعارات فارغة المضمون. إذ بعد ما يقرب من عقدين من سقوط النظام السابق الكل شعر أننا راوحنا في مكاننا لمجرد أننا لم نعهد إلى الشخص المناسب بالسلطة (التي يعشقها بعضهم بجنون وفراغ)، ولكن الفكرة المنقذة هي: كيف نجعل الجميع يشعر بمسؤوليته من أجل ذاته ومنطقته؟ بأن يتحرك ويعمل من دون أن تشله الجماعة والمركزية والموظف الفاسد. إلى أن جاء فايروس كورونا ليخلق حالة طوارئ أظهرت حقيقة من يهتم بالكل، فقبل بالحجر المنزلي، ومن لم يقبل دفع الثمن، خصوصا من كابَرَ واختلط وتسبّب بانتشار العدوى. هنالك تشابه بين فايروس كورونا والأفكار السامّة التي انتشرت وتفشت بالتطرف، وغسلت الأدمغة بحيث لم يحدث قط في التاريخ كهذا العدد الهائل من الانتحاريين، وأغلبهم شباب، ممّن لم يحذروا من نتائج الأفكار الخبيثة، إلا بعد فوات الأوان. أيعقل أننا كنا نحتاج إلى سنوات لنكتشف بشاعة الإرهاب؟ والأقبح من (داعش) وكورونا أن بعضهم لا يزال يكرَّر الكلام نفسه حتى اليوم!

 

لقد تغيرت المجتمعات عموما (والعراق خصوصا) إلى حد كبير. فإذا كنا خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي نسلّم "لحيتَنا" بيد الدولة على أنها المحرك الرئيسي للتنمية، لكن مسلسل المصائب أثبت أنه كان خطأ فادحا. اليوم فصاعدا، يجب أن يتشكل تحالف بين الفرد والمجتمع المدني، أي كل المواطنين العاديين (كالحجر المنزلي: أكرمنا ببقائك في المنزل). فالخلاص من انتشار الفايروس يتم بالابتعاد، والانتظار والتفكير بالمرحلة التالية لتطوير مجتمعنا من مركزية المسؤوليات والموارد للمجتمعات المحلية. أي نراهن على الذكاء الفردي، وعلى قدرة النساء والرجال الذين يعيشون في المناطق التي يعرفونها أفضل من أي موظف يأتي من العاصمة لا يعرف شيئا، أليس "أهل مكة أدرى بشعابها"، وتقرير ما هو جيد لهم؟

 

مقياس لا يخطئ: مسؤولية الفرد

إن حيرة البلاد اليوم في اختيار السياسي الكفوء والشلل الذي أصاب البرلمانات كشف أن الأكثر أهمية الذي ظهر في العراق (والشرق الأوسط عموما) في السنوات الأخيرة، هو قيام "الفردية" المقرِرة. وبهذا لا يختلف مجتمعنا عن المجتمعات الغربية التي مرّت بتقلبات كثيرة في هذا المجال، خصوصا حين حاول كل من القومية والدين أو الشعوبية فرض نفسه لإسكات الأفراد الذين عدّوهم نشازا، لكنهم – بعد حروب طاحنة - أثبتوا أنهم كانوا على حق، وهنا لا يصدق القول الروماني القديم القائل: "صوت الجماعة هو صوت الله"، بالعكس واحد يكون ضد الكل والكل ضد واحد، وهذا أثبته كل المخترعين الحالمين المضطَهَدين في الغالب. هذه الفردية ليست مرادفة للأنانية أو الانسحاب أو الكسل أو عدم الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين، بالعكس! فأغلبية الناس البسطاء، والشباب خصوصا اليوم هم أكثر فهما وتعلما واطلاعا من كل من يريد اسكاتهم، خصوصا عندما تنعدم الكفاءة لدى من في يده السلطة، هنالك وسيلة لتقييم شخصية الفرد وهي: الحزم والرؤية المستقبلية (وهذا مقياس لكل فكر). الأفراد، من ذوي الكفاءة، يلتحقون اليوم بطواعية بأشكال جديدة من الانتماء وهم مستعدون أن يموتوا على أن يرضخوا خانعين ومشلولين لمن يريد أن يشوّه شخصيتهم بشعارات عفا عليها الزمن قادمة من معالم عتيقة جماعوية أو عشائرية أو تعاليم تقليدية أثبتت فشلها، إن الشباب يريدون هواء نقيا صاروا يعرفون قيمته، والدليل أنهم لم ولن يكرروا خطأ آبائهم بتبني وقبول العنف والانقلابات والثورات التي كانت كناعور تصعد مملوءة وتنزل فارغة بعد أن تجفّ منابع فكرها المحدود.

 

في جميع المجالات، يتوقف الفرد عن كونه مجرد مستهلك تابع سلبي للسياسة والدين (نفِذ ثم ناقِش!). اليوم، نحن كمن أمام مائدة طعام متنوّع "بوفيه مفتوح"، نواجه عددًا لا يحصى من الخيارات، ونستمتع بحرية الاختيار بينها، مع مراعاة الجودة والديمومة. سيكون لهذه المتغيرات تأثير واضح على الحكومات والبرلمانات المستقبلية. فالمتظاهرون يريدون نهاية: النموذج الواحد والحزب الواحد والمذهب الواحد والأسلوب الواحد. وهذا فهمته شعوب الغرب منذ الثورة الأمريكية عام 1776، والفرنسية 1789، التي أصدرت إعلان حقوق الإنسان والمواطن أي انتصار الفردانية على الجماعوية. وشيئا فشيئا رفعت الدولة يدها عن محاولة تكييف الفرد وترويضه لدين أو مذهب أو تربية مدرسية معينة، القوالب تفشل بأساليبها الأحادية خصوصا في التعليم والخدمة. السبيل الوحيد للتكيّف هو اللامركزية بالمسؤولية وتنشيط وسائل لدعم مبادرات الأفراد.

 

كثيرون، منذ الأزمنة القديمة يخافون على "التماسك الاجتماعي" ويدافعون عنه، لكن انزلاق هذه الجماعات يأتي سريعا فيصبحون أكثر الناس اهمالا وأنانية وخوفا على مصالحهم، فلا يعيروا أهمية للتنمية العامة والشاملة، ويتم خداع الناس بالكلام عن منجزات "وهمية" وهي أساطير الزمن الحاضر، لها التخدير نفسخ الذي كان لأساطير الماضي، بحسب ما جاء في كتاب "أساطير" للمفكر الفرنسي رولان بارت R. Barthes (الصادر عام 1957). لكن حذار من الاعتقاد بأن اللامركزية تتحقق في التنمية بلا مبادئ توجيهية لسياسة شاملة تضع في حسابها ما يحدث في بقية العالم.

 

نريد وطن

"نريد وطن"، كان نداء المتظاهرين منذ تشرين أول 2019 في ساحات العراق، لكن السؤال هو: كيف سيتحقق ذلك في أرض الواقع؟  هل يمكن أن نجعل الآخر يقبل المختلف عنه في وطن واحد؟ أليست التفرقة هي التي دفعت الملايين من أبنائه إلى الهجرة إلى بلاد بعيدة؟ سؤالي لهؤلاء هل هجرتكم أفادت في تقوية روابط التآزر بين وطنكم القديم والبلد الذي تبناكم؟ إضافة إلى ذلك، تكمن اليوم منابع الفاعلية في كل مكان في تبني نظرة جديدة واسعة عابرة للحدود والقارات، كي لا نبقى نخاف الغريب كما في كل مكان، في حين حيثما الفرد مثقف يمكنه أن يجد قدرة على التأثير، وبهذا خرجت دول عدّة من عنق الزجاجة، لأنهم غيّروا نظرتهم وتعاملهم مع المواطنين.

 

المواطن هو فرد يثق بالسلطات المحلية التي يكلفها مؤقتا بوسائل إبراز المبادرات لخدمة الجماعة كلها من منظور الديمقراطية الاجتماعية التي تعيد الفرد إلى نفسه، وتدفعه لأن يصبح جزءًا من شبكات ومجموعات المجتمع المدني. وبهذا يسلك كل فرد في "طريق المواطنة" معتمدا التشاور بين الجهات الفاعلة حتى لو كانت بعيدة عن انتماءاته المحلية والعشائرية والمذهبية، على مستوى الوطن والعالم. الفاعلية لم تعد للتجمعات فقط للأماكن التي فيها أوكسجين وحياة للمواطن ليمارس حقه بجدارة، لا بأنانية ورؤية جزئية.

 

إن من مزايا هذا التفكير في الفرق بين الفردانية والجماعوية هي أن يتوضح للجميع أهمية المتغيّرات، التي تقدمها وتنادي بها أحزاب سياسية على أنها جديدة، لكنها في أماكن كثيرة من العالم جرّبَت، قسم منها نجح وآخر لم ينجح، منذ قرن على الأقل، لم ننتبه إليها لانغلاقنا وجهلنا. بقينا نستورد ما يصنع لكننا لم نتساءل عمّا جعلهم ينجحون أو يفشلون فيه. فالمجتمع المدني ليس كتلة مقفولة، بل هو في تطوّر مع كل جيل، ولا ينبغي استيراد نسخة قديمة منه كما اعتاد الكثيرون لقيام به في بلادنا (كما فعلوا مع أيديولوجيات القرن الماضي)، يا رب، كم يبدو تاريخنا المعاصر تاريخ "ترقيع" وليس فكرا ينمو ويترعرع بيننا، يسلم إلى أشخاص أكفاء كل في مجاله بلا تبعية لأحد!

 

كركوك 17 نيسان 2020

 

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.