مقالات وآراء

من اللعب إلى التشكيك وصولا إلى الإدمان// المطران د. يوسف توما

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

المطران د. يوسف توما

 

من اللعب إلى التشكيك وصولا إلى الإدمان

المطران د. يوسف توما

 

لديّ صديق ممتاز لكنه يكرر دائما إزاء كل ما يسمع: "ومن يقول إن هذا صحيح؟"، يقول ذلك مثلا إذا قيل له إن الأطباء فعلوا كذا... مثل هذا القول جيد، إذ لا ينبغي أن نصدق كل شيء، لكنه ليس عنده مجرد سؤال، فهو لا يبحث عن صدق المعلومة وإنما يدخل ضمن مسار "التشكيك": "ومن يقول؟"، فالتشكيك من أجل التشكيك فقط، مجرد لعبة فكرية سهلة، قد يكون ناتجا عن كسل أو كي لا يتعب نفسه، أو لا يتخذ قرارا بترك عادة سيئة مستحكمة، كالتدخين مثلا.

 

كان التشكيك عبر التاريخ سلاحَ كل الخصوم، يذكرني بسؤال معاصري يسوع: "أأنت الآتي، أم ننتظر واحدا آخر؟"، بالرغم أنهم رأوا الأعاجيب والمعجزات وأكلوا الخبز في البرية. مثل هؤلاء كثيرون بيننا. كتلك الفتاة التي كلما خطبها أحد تقول: "ومن يقول إن هذا هو الأفضل؟"، لعل واحدا آخر أفضل منه سيأتيني... هكذا ستبقى هذه البنت تراوح في مكانها، كانت جدتي تقول عن أمثالها: "لما خطبوها تعزعزت، ولما تركوها ندمَت". ما أكثر من يفوتهم قطار العمر، فقط لأنهم تعوّدوا التردّد والتشكيك وانتظار من لا ينتظرهم، لم يعرفوا أن يمسكوا الوقت من قرنيه، بل أمسكوه برخاوة من ذيله، لكن دائما بعد فوات الأوان. لذا ترى مثل هؤلاء يصبحون بالتدريج تبعيّين في الحياة، شكاكين مترددين إلى حد الوسواس القهري، ولن يقوم من بينهم قياديون للمجتمع بل يبقون تابعين للقيل والقال حتى العظم.

 

للأسف مثل هذه الحالة في زماننا تتزايد، فوسائل التواصل الاجتماعي تخلق أمراضا جديدة لم نعرفها من قبل: بسبب التعامل مع تلك الوسائل والركض وراء كل جديد، بلا تفكير ولا تحليل إنما الاستهلاك فقط، ناهيك عن الصرعات وتيارات تسيّر الأغلبية، والانبهار بما هو غير متوقع، خصوصا من جانب البرامجيات Applications التي تخلق في الشباب تبعيّة وحيرة، ما يضع علماء النفس في قلق حقيقي، وشخّصوا الكثير من الأمراض المستعصية تضرب الجهاز العصبي. من ضمنها اضطرابات الشخصية والسلوك، فلا يشبع المدمن من النوم، أو ينام "نوم الحارس" بعين واحدة، ينام مذعورا لئلا يغيب عنه شيء ما، ويقفز حالما يسمع رنينًا معيّنا أو رسالة SMS.

 

أمراض جديدة تظهر في زماننا واحد منها يسمّونه بالانكليزية "نوموفوبيا" (no-mo-phobia أي No-mobile-phobia، أي الخوف من فقدان الهاتف النقال، والرعب من الابتعاد عن العالم الرقمي وانقطاع الانترنت، فيصل ذلك إلى اللاوعي لدى صاحبه المنتمي إلى جماعة (أو عائلة) رقمية وليست واقعية، فيغوص بالتدريج كما في نوم مغناطيسي خاضع للشاشة، ويتعوّد على عادات غريبة، إلى جانب الانزلاق إلى حالة التعوّد القهري. أمام شخص كهذا يرى الباحثون ثلاث حالات نزول تدريجية تبدأ: بالتساهل (مع الادمان) ثم الوقوع في الاكراه وأخيرا الإصابة فعليًا بالإدمان. لنشرح ذلك قليلا:

 

التساهل (la tolérance) يكون في البداية: مثلا سأدخن سيجارة واحدة هذا لن يؤثر... ثم يصبح التدخين حاجة مرتبطة بموعد أو جلسة أصدقاء، إلى حين تصبح الحاجة إلى زيادة الجرعة ضرورة للحصول على الارتياح والرضا ذاته.

 

الإكراه (la compulsion) وهو الحالة التي فيها تتجلى لدى الفرد عدم القدرة على مقاومة رغبته بشيء ما: يجب عليّ...

 

الإدمان (l’assuétude) أو الوقوع في التبعيّة والعبودية، وهي تحدث بأشكال فكرية كما فعلية، تأتي الرغبة ملحة فينتهي الأمر بصاحبها أنها تأخذ كل حيّز ومكان في حياته فيقول: لم أعد أستطيع... للأسف هذا يحدث في السجاير والقمار والكحول ومختلف العادات خصوصا الألعاب ومنها الالكترونية لدى الشباب اليوم.

 

في أغلب هذه الحالات يحس المرء أنه قد وقع كما في قبضة حديدية. يشعر أن الضعف العقلي يسوده بأشكال لم يعرفها من قبل. وقد قام مختبر أمريكي اسمه (Near Future Laboratory) أي "مختبر المستقبل القريب"، مكوّن من أطباء ونفسانيين، رصدوا أربع حالات:

 

القلق المتزايد.

ما يشبه الفصام في الملف الشخصي (La schizophrénie de profile).

رهاب الأتاساغورا Athazagora phobia، وهو خوف مفرط أن ينساني أحد الأقران أو يتجاهلني. ويبدو أنه يكثر في المدن. أعرف سيدة كانت تقيم في مدينة أمريكية في الشمال، توفي والدها في الوطن ولم "يأخذ كل من تعرفهم بخاطرها"! فغضبت واكتأبت وانتقلت إلى الجنوب، لمدينة مقطوعة في صحراء أريزونا كي لا ترى أحدا ولا يراها أحد ممن تعرفهم، هذه مصابة بـ"الأتساغورا" بحق!

 

في الأخير تأتي السوداوية المزاجية أو الحموضة، التي أسمت أمهاتُنا صاحبها: "نفسو جيفي"! (أي نفسُه نتنَة) وما أكثرهم، حيث لا يتذكر أقرباؤه متى ضحك أو حتى متى ابتسم!

 

كشفت العلوم النفسية أنه لا يمكن أن نثق بأنفسنا بشكل مطلق، لأن الانفعالات قد تلوّث شخصيتنا كلها، عندما يبدو لي أن ما أشعر به هو المقياس وليس الحقيقة. ولأني لا أستطيع التخلص من الانفعالات تماما، أستخدم وسائل أخرى كبدائل، عندما أميل لأن أريح نفسي من القلق بأشكال الهرب والتسلية، وهذا يحدث عادة بعد أزمة منتصف العمر. ما عدا ذلك، جاءت العولمة بتراكم المعلومات وكثرة المراجع فأصبح جميع الفلاسفة والمفكرين والأدباء في متناول يدي. لكن الكثرة تقتل شهيّة التعلم فتراجعت القراءة بشكل مخيف، هذه الشهية أسماها الإنجيل "الإيمان"، فقال المسيح: "لو كان لكم إيمان بقدر حبة خردل لقلتم لهذا الجبل انتقل من هنا فينتقل" (متى 17: 20). إنها شهية معرفة "معنى الحياة" ولماذا نحن هنا، بلا تبعية أو تكرار أو ادمان، فلا نعود نخاف من المتغيرات والتقلبات والمطبّات، والإيمان لن يعود مجرّد اعتقاد أو تصديق لما قال فلان عن فلان رحمه الله، ولن يسيطر على صاحبه الملل أو اللامبالاة أو التشكيك، وهذه كلها هي سبب انتشار نوع جديد من الالحاد "الشعبي"، لكنه أقرب إلى التبعية الكسولة التي تكتفي بتكرار ما تسمع هنا وهناك من فتات حديث أو تعليقات...

 

قام في الماضي مصلحون أيقظوا شهية الناس وأعطوهم البراهين، كعلامات للفهم ولهضم التقاليد والأعراف... وحتى زمن قريب كان على الرئيس أو الشيخ أو رجل الدين أن يكشف عن إيمانه بحسن السلوك والأفعال. لأن الله بالأساس يربط القول بالفعل، والفهم بالعمل. لكن انحراف التديّن جعل الله "شعبيا" متاحًا دائمًا، فيأتي اسمه تعالى في استعمالات مبالغ بها اقتحمت لغتنا اليومية الدارجة، بأشكال القَسَم وغيرها. فأصبح التدين مبتذلا أو نوعا من المقايضة، أضيف إليه شعور قبليّ، وصار الدين هو الهوية، كأواصر الجماعة، أو القرابة، أو مجرد طيبة بيننا فقط، هكذا ضاع نَسَغ الدين واختفت قيمُه الأساسية: العدل والرحمة للكل، ولم يعد مكانا للأفكار الصحيحة، ولا ضمانا لسلامة الفرد والمجتمع. في مثل هذا التديّن يموت الفرد ولا يعود يبحث عن الإبداع والإنجاز. وعندما يُهمَّش الفرد، يفسِد ويقع في مطبّات الإدمان التي ذكرنا أعلاه.

 

قبل مدة قصيرة قرأت عن حياة هيلاري هآن Hilary Hahn (مواليد 1979)، أفضل عازفة كمان من جيلها معروفة بالموسيقى الكلاسيكية، تعزف منذ سن الخامسة وبقيت مصرّة على التفوّق والابداع. أعجبني إصرارها، لكنها تقول: "كل مرّة أصعد خشبة المسرح أشعر بالقلق والتردّد والخوف": أي من يقول إني أمينة تجاه مؤلف هذه القطعة الموسيقية؟ شعرتُ أني مثلها، كلاهوتي ومحاضر منذ 40 عاما، عندما أعطي شيئا من خبرتي الإيمانية أو الثقافية، أسمع في أذني: "ومن يقول إن ما تقوله صحيح؟". لذا أحاول أن أكون أمينا في التعبير عن "مقطوعة" كتبها واحد آخر غيري! أعرف أن عليّ أن أبقى أنا نفسي، وأن يخرج كلامي من أعماقي، لكن عليّ ألا أخونه هو، وهذا التوازن صعب لكنه مطلوب من كل عازف، بل من كل إنسان لديه رسالة ومهمّة يحبّها، وعليه أن ينقلها بصدق. التوازن صعب لكن المسيح يعطيه الجواب والاطمئنان إذ يقول: "كل من صار تلميذا في ملكوت السماوات يشبه ربّ بيت يخرج من كنزه كلّ جديد وقديم" (متى 13: 52). 

 

كركوك 23 تشرين الثاني 2020