مقالات وآراء

ديمقراطية الخراب في الأرض اليباب// د. حميد الكفائي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. حميد الكفائي

 

ديمقراطية الخراب في الأرض اليباب

د. حميد الكفائي

 

من أهم أسباب نجاح الديمقراطية في أي بلد هو أن تكون اللعبة الوحيدة المتاحة لجميع المشاركين فيها، فإن كان هناك طريق آخر يوصل إلى السلطة، فلابد أن يجربه القادرون على سلوكه، إن رأوا فيه فرصة للنجاح.

 

الديمقراطية التي أقامها الأمريكيون على أرض العراق اليباب، لم تنبت، بل ظلت عليلة كسيحة تحتاج إلى الرعاية والحماية المتواصلة، لأنها زُرِعت في غير بيئتها، ولأن لها أعداء كثيرين في الداخل والخارج. ومنذ عام 2003 وحتى اليوم، تتصارع القوى المسلحة على حصة لكل منها في البرلمان والمناصب التنفيذية والمنافذ الحدودية والجيش والشرطة والأجهزة الأمنية والسفارات وباقي مؤسسات الدولة.

وفي كل انتخابات، يجلس (الزعماء) بأزيائهم الدينية والقومية والمناطقية الزاهية المميزة، والتي تبرهن للقاصي والداني على أنهم مختلفون في كل شيء، ويتفاوضون لأسابيع حتى يتفقوا على الحصص النيابية لكل منهم، وعندها فقط يعلنون نتائج (الانتخابات)، التي ستتطابق كليا مع الاتفاقات التي أبرموها في مفاوضاتهم، وليس مع أصوات الناخبين وإرادتهم، كما جرت العادة في الأنظمة الديمقراطية. وبعد الإعلان عن النتائج، تتواصل الجلسات التفاوضية الودية (والتي تتخللها أحيانا تهديدات أخوية وربما اغتيالات وانفجارات واختطافات وصولات وجولات) لأسابيع أخرى أو أشهر (استمرت لتسعة أشهر عام 2010)، من أجل الاتفاق على الحصص في المناصب التنفيذية.

 

وعندما يحصل الاتفاق، والذي لا يُنجَز في العادة إلا بعد تدخل الأصدقاء من الجيران والأمريكان، الذين يذلِّلون خلافات المتخاصمين ويهدونهم إلى سواء السبيل، حتى تتشكل الحكومة بعد عملية قيصرية، تجري في العادة على مراحل. فالوزارات في العراق تنقسم حسب أهميتها الأمنية ومواردها المالية، ولكل وزارة نقاط معينة، فلا يمكن مساواة وزارات النفط والمالية والخارجية والدفاع والداخلية، بوزارات البلديات والصحة والتعليم والتربية والكهرباء والعمل والزراعة والموارد المائية والثقافة! أما البيئة والآثار والسياحة والعلوم فقد ألغيت كليا. فما الحاجة لوزارة للبيئة في بيئة يتفاقم فيها التلوث وتزدحم فيها القمامة؟

 

وما الحاجة لوزارة الآثار في بلد يراد له أن ينسى إرثه الحضاري ويذوب في دولة أخرى؟ وهل هناك حاجة للسياحة في بلد يمتلئ بالمتاريس والأسلحة والملثمين ويُقْتَل فيه الأبرياء وتُخْطَف فيه النساء ويُعتدى فيه على الضعفاء، ويُخطَف فيه حتى صائدو الغزلان في الصحراء! أما العلوم، فقد حلت محلها الخرافات والغيبيات وأصبح (فتاحو الفال) يرشدون الناس عبر قنواتهم الفضائية إلى مستقبلهم وما ستؤول إليه أحوالهم، ويفتتحون (عياداتٍ) لهم وسط العاصمة والمدن الرئيسية ويعلقون عليها لافتات كتبوا عليها (وإذا مرضتُ فهو يشفينِ) كي يوهموا الناس بأنهم يستمدون (علومهم) من القرآن الكريم!

يتفق الفرقاء ابتداءً على تقاسم الوزارات السيادية وهي المالية والداخلية الخارجية والنفط والتخطيط، ثم يأتي دور الوزارات الخدمية كالتعليم والتربية والتجارة والعمل والكهرباء والصحة والثقافة. لكن الاتفاق على الوزارات الأمنية يستغرق وقتا أطول، بل يطول أحيانا لبضعة أشهر أو حتى عام، وأحيانا تبقى الحكومة دون وزير للداخلية أو الدفاع كما حصل في الفترة 2010-2014، ودون وزير للمالية كما حصل في الفترة 2016-2018.

 

وتقاسم المناصب هذا لا يحصل من أجل إدارة شؤون البلد وتقديم الخدمات للمواطنين، فهذا آخر ما يفكر فيه الزعماء الدينيون والقوميون والطائفيون، بأزيائهم الزاهية المتنوعة، أو المسلحون الذين يمثلون دولا أخرى، وإنما هو في الحقيقة اتفاق على تقسيم الموارد والوظائف بين الجماعات السياسية، فهذا هو الهدف الأساس منه، وإن كانت هناك خدمة تقدم للناس، فهي تأتي كنتيجة عرضية، أو لتبرير وجود الوزارة أو المؤسسة المعنية، وفي كل الأحوال فهذا الأمر ليس مهما، فكل وزير أو مسؤول يعلم أنه لن يأتي إلى الوزارة مرة أخرى، وأن زعيمه قد يتخلى عنه في أي لحظة إن انتهت صلاحيته، أو اتضحت سرقاته وتجاوزاته للناس جميعا، لذلك لا يهمه تقديم أي خدمة أو تحقيق أي إنجاز، لأنه مسؤول أمام زعيمه وربِ نعمته، الذي جاء به إلى المنصب، وليس أمام الشعب أو القانون.

وبعد أربع سنوات تتكرر العملية نفسها. انتخابات وانفجارات واغتيالات واتهامات ومحاكم وهروب ومعارك سياسية ومفاوضات وتدخلات أجنبية، ثم تقاسم للمناصب والموارد والأموال، وفي هذه الأثناء تتدهور الخدمات وتتفاقم الأزمات ويزداد الفقر والبطالة وتتعقد المشاكل التي سيتحدثون عنها في الانتخابات المقبلة ويتهمون بعضهم بعضا بالفشل والفساد والتبعية لهذه الدولة أو تلك.

 

إزاء هذا المسلسل الدرامي الدامي والمحزن، بدأ المواطنون المدنيون العراقيون منذ عام 2011 بالاحتجاج السلمي في الساحات وأمام الوزارات والمؤسسات، من أجل المطالبة بحقوقهم الأساسية في العيش الكريم في بيئة آمنة ومستقرة، لكن الجماعات السياسية المسلحة تجاهلت الأمر وكأنه لا يعنيها، حتى جاءت حكومة عادل عبد المهدي عام 2018، التي تشكلت بطريقة غامضة ومريبة، تبادل الأمريكيون والإيرانيون التهديدات حولها، فالأمريكيون هنأوا أربعة وزراء فقط، لمَّحوا بأنهم أصدقاؤهم، بينما ادعى الإيرانيون بأن نتائج المباراة الأخيرة بينهم وبين الأمريكيين انتهت بفوز إيران بثلاثة أهداف مقابل صفر! والمقصود أن الإيرانيين هم الذين اختاروا شاغلي المناصب الرئيسية الثلاثة، وهي رئيس الدولة ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان.

 

لكن هذا (الفوز) الإيراني كان قاسيا على العراقيين هذه المرة، خصوصا بعد تراكم المشاكل والكوارث الاقتصادية والأمنية والصحية على كواهلهم، فانفجروا محتجين في أنحاء العراق المختلفة في أكتوبر عام 2019، مطالبين بحقوقهم الأساسية وحرياتهم العامة التي ازدادت القيود عليها، فأصبح القتل والخطف والابتزاز أمورا مألوفة، وتحصل دونما سبب واضح في أكثر الأحيان. فما كان من حكومة عبد المهدي "الوطنية الديمقراطية" إلا أن تواجههم بالرصاص فقتلت ما يقارب 800 منهم، وجرحت عشرات الآلاف وغيبت المئات الذين لا يعرف أحد مصيرهم حتى الآن.

 

 لكن القتل والخطف والإرهاب لم تُسكِت الشباب المصممين على نيل حقوقهم، إذ ظلوا مرابطين في الساحات، حتى في ظل جائحة كورونا، يواجهون الرصاص بصدورهم العارية حتى أسقطوا حكومة عبد المهدي، وعندها وجد الزعماء أنفسهم في أزمة جديدة مفاجئة، ألمَّت بهم في غير موعدها. فدستورهم الذي كتبوه على عجل وبلغة ركيكة وقابلة للتأويل، لم يأتِ على ذكر (الاستقالة) البتة، باعتبارها أمرا غير قابل للحدوث في بيئة يعض المرء فيها بأضراسه على المنصب ويمسك به بيديه ورجليه، ولا يتخلى عنه إلا وهو جثة هامدة!

 

ولكنهم اضطروا في النهاية إلى تشكيل حكومة عرجاء ضعيفة وفق مقاساتهم، اضطرت تحت ضغط الشعب أن تجري انتخابات سمتها مبكرة، رغم أن ما يفصلها عن الموعد المعتاد هو ستة أشهر فقط. لكن هذه الانتخابات، رغم كل ما شابها من صعوبات ومشاكل، كانت مختلفة فالتزوير فيها لم يكن واسعا، بل ربما كان محدودا، والدليل أن الجماعات السياسية المتحكمة بالمشهد سابقا خسرت معظم نوابها في البرلمان بينما برزت قوى جديدة وتعززت سلطة قوى قديمة مازالت تتمتع بتأييد شعبي.

 

غير أن الزعماء الخاسرين (بعض الخبثاء يسمونهم الذوعماء)، المرعوبين من النتائج الأخيرة التي مكَّنت خصومهم منهم، والذين طالما تشدقوا بالتمسك بالدستور والديمقراطية، اجتمعوا على عجل وقرروا أن الانتخابات مزورة، رغم أن أحدهم حصل على مقاعد أكثر مما كان لديه في البرلمان السابق، بينما أصدرت الفصائل المسلحة بيانات تدعو فيها أتباعها إلى الاستعداد للدفاع عن (كيانهم المقدس)! يتناسى هؤلاء، أو ربما يجهلون، أن لا كيان مقدسا في الأنظمة الديمقراطية. هناك فقط رابحون وخاسرون، والخاسر ينتظر دوره كي يفوز في المرة المقبلة، عندما يتمكن من إقناع الناس ببرنامجه السياسي والاقتصادي، هذا إذا كانت الديمقراطية هي اللعبة الوحيدة المتاحة للجميع.

 

ولكن بوجود المليشيات التي تدعمها دولة أخرى، هناك طريق آخر للوصول إلى السلطة، وهو السيطرة عليها بالقوة والتخلص من المنافسين عبر التصفيات الجسدية. هل تجرؤ الجماعات المسلحة أن تشهر سلاحها بوجه الدولة العراقية بجيشها وقواها الأمنية ومؤسساتها وشعبها المستعد للتضحية؟ وهل يمكنها حقا أن تواجه القوى الفائزة المسلحة أيضا؟ وهل ستمضي إيران في خططها لتفتيت العراق وجعله دولة ضعيفة هزيلة وتابعة لها؟ مخاطِرةً بمساعيها لتحسين علاقاتها مع المجتمع الدولي ورفع العقوبات الأمريكية عنها؟ وهل تصمت المؤسسة الدينية العراقية على ادعاء المسلحين التابعين لدولة أخرى بأنهم يمارسون أفعالهم هذه باسم الإسلام ودفاعا عن المقدسات؟ كل شيء ممكن في دولة غير متماسكة يقودها زعماء لا ولاء لهم سوى لأنفسهم.

 

لكن من غير الممكن أن يتخلى العراقيون عن خيارهم في العيش في دولة عصرية طبيعية تتمتع بالأمن والسلم والرخاء، كباقي شعوب الأرض. ومن غير الممكن أن يتخلى التيار الصدري الفائز عن حقه الدستوري في أن يحصل على الفرصة الأولى لتشكيل الحكومة، وعليه ألا يتخلى عن هذا الحق الذي تخلت عنه القائمة العراقية عام 2010 تحت ضغوط دولية وداخلية. وإن كانت القائمة العراقية ضعيفة التكوين والتماسك، فإن التيار الصدري متماسك، وقادر على الدفاع عن مكاسبه.

 

من الواضح أن بعض الجماعات التي تنضوي تحت لواء (الحشد)، وتدعي الارتباط بالدولة العراقية والامتثال لأوامر قادتها، هي جماعات لها أهداف سياسية مناهضة للدولة، وهي مستعدة لاستخدام كل الطرق المتاحة لها، بما فيها الإرهاب، لمواصلة نهجها الذي دمر العراق وأضعفه وحوله إلى دولة لا يثق بها شعبها، ناهيك عن الدول الأخرى. ولا سبيل للخروج من هذا الوضع إلا بمواجهة هذه الجماعات بقوة القانون.

 

من الضروري الآن تشكيل حكومة جديدة، وليس صحيحا أن تستمر الحكومة الحالية التي فشلت في الكشف عن القتلة والخاطفين والحد من الفساد ومكافحة جائحة كورونا، بينما أفقرت الشعب العراقي بتخفيضها العملة وتحميل الفقراء تبعات الفساد. يجب أن تكون هناك حكومة جديدة تنطلق بعزيمة قوية لتغيير الأوضاح ونزع سلاح المليشيات وتحقيق الأمن وتقليص الفقر وبسط سلطة الدولة وتعزيز سيادتها والتعاون مع الدول الإقليمية والمجتمع الدولي من أجل تحقيق الاستقرار والرخاء في عموم المنطقة.