اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

أحافير في الحب – النص4, هل الحب رزق مقدر، أم سعي محسوب، أو مصادفة؟// د. سمير محمد ايوب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. سمير محمد ايوب

 

عرض صفحة الكاتب 

أحافير في الحب – النص الرابع

هل الحب رزق مقدر، أم سعي محسوب، أو مصادفة؟

الدكتور سمير محمد ايوب

 

قبل مغيب شمس الامس، كنت ببطء اصب قهوتي في فنجال صغير، أحاول عبر بخاره، لملمة شتات روحي وترتيب فوضاها، حين وصل سقيفتي التي اطل من عليائها على غابة اشجار الموز أمامها، والتي تصل حدودها الغربية، الضفة الشرقية لنهر الاردن، حين وصلني مالك مزرعة النخيل المجاورة لسقيفتي، وهو محام متقاعد أعزب، لا يعرف مهنة بعد تقاعده الا الحب. سألته عن النخل، فحدثني عن كرم النخل، وعرج في حديثه مطولا على نخلة البتول، ستنا مريم عليها السلام، وحدثته عن غدر شجرالموز بأمه، حتى سمي بِقَبَّارِ أمِّه، ففسائله الجديدة لا تنمو الا على جثث امهاتها.

أشعل لي لفافة مما يدخن، وقال وهو يناولني اياها ضاحكا: دعنا يا جاري العزيز مما فُطِر عليه الشجر، فمن أحب من البشر يا سيدي، صار سيد زمانه. فالحب بكل عناوينه، مضامينه وتبعاته هو المُعطي للأوقات معانيها، والمُضفي على الأماكن أسماءها. فمن يعش بلا حب تتشابه أيامه، حتى تغدو بلا لون أو طعم وبلا عبق، بلا اسماء وبلا تواريخ. الحبيب يا صديقي زمن فيه تسكن وفيه تزدحم المعاني التي تعاش. قل لي بربك يا جار، ماذا يعني أن تتكدس أيامك بالصمت او بالبرد، حد سد الطرق أمامك بالسأم والملل؟!

قلت وانا للمرة الثانية أملأُ له فنجاله بالقهوة: اتفق معك في ان الحب هو مما يؤكد علاقة الانسان الحميمة بالحياة. وأننا نحن البشر، في حنين ابدي للنصف الغائب.

وهنا قاطعني مستأذنا: ولكني يا جار، وأنا اتبصر في تجاوز شغف البعض في الحب وتبعاته، حد المعقول،  سرعان ما اندفع الى طرح سؤال وجودي مؤداه: من يصنع مَنْ؟ هل نحن صنيعة الحب، أم نحن صانعوه؟ أم أن القدرهو من يصنعنا جميعا ؟!

أجبته بجدية بالغة:  العثور على الآخر الشريك نصيب وقَدَر، اما تكملة الشراكة والبناء عليها، فهما انحياز بشري واختيار. وعلى كل حال، كائنا من كان الصانع أضيف، يستطيع الواحد منا التحكم والتأقلم مع ظروف حبه والتعايش معها، وصياغتها على الوجه الذي يريد. والآن دعني أسألك يا جاري العزيز بسؤال مثقل    بشيء من التخابث الحائر: ماذا لو تاهت او ضاعت عناوين الحب؟!

أجابني والحيرة تتسع فوق وجهه وتتعمق: ليس أسهل من تحميل الظروف او الشريك المسؤولية عن القصور وعن الأخطاء، بالقول: عاندتني الظروف، وجاءت بغير ما أشتهي. أو قررتُ فخذلني الشريك.

فعاجلته متسائلا: ألهذا عندما تضيق الصدور، وتتباعد المسارات، يودع " المحبون والأشباه الجالسون على حواف الحب " بعضهم بعضا، بتكسير العظام، وباللعنات، وإطالة اللسان، حد الابتعاد البشع عن ادب العشرة، والتنكر للياقة الذكريات؟!

عندما تُهيّء السماء غَيْم الوداع، لمَ لا يعودوا للوراء قليلا، او يتلفتوا حولهم بنَفْسٍ لوَّامَةٍ؟!  فإن بعض الابتعاد فرصة للتجدد، والخروج مما هم فيه، من انسداد في الأفاق الصحية، وفرصة لتحقيق الأماني المكبوتة، التي قصروا في العمل على انجازها. فقد يكون في الفراق حل مؤقت لمشكلاتهم الذاتية، كالتردد واضاعة الفرص، او التسرع في بعض الامور، وعدم التدقيق، واحراق المراحل!!!

تعال نتأمل الحياة فينا خاصة، وفيمن حولنا على العموم. سنجد من يريد الهرب من مسؤولية تصرفاته او عما يقع له. جاهز دائما للتمسك بذرائع مسبقة الاعداد، في التفسير وفي التبرير. متناسيا ان الحب المناسب الذي لا يتكرر، شخصان مليئان بالاصرارعلى قبول عيوب بعض، واستيعاب هموم بعض. يتركان العالم جانبا، ويحاولان ترميم بعضهما البعض بهدوء. فَلِدوام الحب إماراتٌ وأفعال كثيرة يتكئ عليها، سنامها الرحمة والمودة المتبادلة، ما اعتاد أحد إهداء السعادة لأحدٍ بلا مقابل، الا الوالدان.

نعم تعج الدنيا بالناس. ولا شيء يحدث بينهم عبثا. فداخل كل قدر من أقدارهم سر، يمهد الطريق لسرٍّ آخر. تتداحل الظروف الخارجية والمصادفات في تشكيل حسنات وسيئات حياتنا جميعا، ولكننا لسنا مجرد ادوات مسلوبة الارادة، تحركها قوى غامضة، لا يمكن التصدي لها، إلا إذا كانت العقول والقلوب في إجازة مفتوحة.

وهنا وقف وهو يقول مودعا: ماذا تقول يا شيخي، لإصحاب المراثي ونصّابي المشاعر، الذين يظنون ان الحب موظف لديهم، هم يتمنون وعليه التلبية؟!

أجبته وانا أقف لأودِّعَه: مع كل ليل، هناك فرصة لمراجعة الذات، ومحاسبتها على ما فعلته وما لم تفعله. قبل نقش الأمنيات، إحفظوا للحب جلاله، لا تجعلوه مسؤولاً عن أخطائكم، ولا تحمِّلوه جريرة ضعفكم واهمالكم. وعندما تنهمر دموعكم، لا تتهموا الشريك بالغدر وبالخذلان. ومع كل صبح، باشروا العمل للتشذيب والتهذيب الذاتي، قبل أن تذهب التمنيات المعلقة مع ليل السكارى.

لا يملك اي كان لكم إلا الدعاء، أما الاستعداد للحب، والعمل لتجسيده، فهو عليكم أنتم وحدكم.

الاردن - 7 /1 /2025

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.