محمد علي محيي الدين
جبر داكي- شاعر غنّى للحياة حتى رحيله
محمد علي محيي الدين
في قلب مدينة الحلة، حيث تتعانق ضفاف الفرات بعطر النخيل، وُلد الشاعر جبر داگي حسون الربيعي عام 1950 في محلة الجامعين. ومنذ طفولته، كان ابنًا للضوء والماء، يحمل في روحه نغمة الشعر، وفي قلبه شغف الحكاية.
أكمل دراسته الأولية في الحلة، ثم انتقل إلى بغداد ليلتحق بمعهد المعلمين المركزي في الأعظمية. وهناك بدأت ملامح شاعريته تتفتح كما تتفتح زهرة برية في مهبّ ريح الجنوب. عرفه زملاؤه صوتًا عذبًا وذاكرة تحتضن الشعر كأمّ تحتضن رضيعها. كانت حقيبته المليئة كل سبت لا تحمل طعامًا فحسب، بل أحلامًا وأمنيات، إذ كان يتوجه إلى بغداد للدراسة ويسكن قرب كلية الهندسة بباب المعظم، في شقة تحوّلت إلى ملتقى أدبيّ ضجّ بالشعراء والأصدقاء، من أبرزهم الشاعر كريم العراقي، زميله في المعهد.
كان جبر داگي مولعًا بالشعر، لا يفرّق بين فصيحه وشعبيّه، قرأ ما وقعت عليه يداه ونهل من ينابيعه حتى أجاد قرضه، فاحتفت به الصحف، ووجد في المهرجانات منابر تليق بصوته، لا سيّما مهرجان الشعر الشعبي في قاعة نقابة الفنانين بالحلة، حيث تألّق بين عمالقة الشعر الشعبي ككاظم الركابي وناظم السماوي وذياب كزار وعلي الشباني، وكان أصغرهم سنًا وأشدّهم تألّقًا.
اعتلى المنصة كمن يعتلي صهوة المجد، فغصّت القاعة بالتصفيق وهو يلقي قصيدته بصوت جهوري أخّاذ، متجاوزًا رهبة الحضور وجلال المناسبة. ومنذ تلك اللحظة وُلد الشاعر في أذهان من سمعه، واختُزن في ذاكرة الشعر العراقي كأحد الأصوات التي لا تُنسى.
امتد حضوره إلى "ندوة عشتار" فكان من أوائل المساهمين في نشاطاتها، رفيقًا لأدباء جيله، يسهر معهم، ويغني في ليالي السمر إلى جانب عبد الجبار عباس، وحامد الهيتي، وشاكر نصيف، وكريم النور، وآخرين من رفاق القصيدة والزمن الذين تبعثرت أحلامهم بين المنافي والمقابر بسبب الانتماء اليساري وما جرّه من ملاحقة وتغييب.
في مهنته كان معلمًا من طراز نادر، لا يعلّم بقدر ما يُغني للعلم، محوّلًا جفاف الدروس إلى أناشيد تترنّم بها أفواه التلاميذ. كانت الحروف تتراقص في صوته فتستقر في عقول طلابه وتخترق وجدانهم.
وإلى جانب الشعر، كتب القصة، ونُشرت أقاصيصه في الصحف المحلية. لكن نتاجه الأدبي ظل مبعثرًا لم يُجمع في كتاب، فطواه النسيان بين أوراق متفرقة وصفحات صفراء. ومع قِصر حياته، كانت عامرة بالشعر والمحبة والصوت فقد كان يغني قصائده في جلسات الاصدقاء بصوته العذب وأدائه الجميل.
في إحدى أمسياته التي خُصّصت له، وقف يغني ويتهكم ويهجو، مرتجلاً ومبتهجًا، ومن بين ما غنّاه:
انعل ابو السلطان لابوا لباشه
خذلك أبنيه من بنات الأسكان العين ساعه والحواجب رمان
خذلك أبنيه من بنات الشاوي العين ساعه والعـــيون أداوي
خذلك أبنيه من بنات الجامعين تتغنج أبخفه وتهز النهدين
خذلك ابنيه من بنات الثوره
وحين نفدت المقبلات من طاولته، التفت إلى صديقه كرم قائلًا بلحن شجي:
يا كــرم .... للحـــزب عـــوفه
وأترك الحله وأسكن الكوفه
بالأمن ساهر للبــسط حاضر
حزبك الساير بالعقل شوفه
هكذا كان جبر، شاعرًا يعيش الشعر حتى في المزاح، غيورًا على أصدقائه، حاضر النكتة، متوقد الذكاء، وفيًا لمن حوله، محبًا للحياة.
وعندما اجبر صديقه الشاعر الشهيد شاكر نصيف على المشاركة في الحشد الشعبي في قاطع الأهوار قال ساخرا منه:
أفرح يگلبي وكيف أخذوه لأبن أنصيف
حلوه وجميله البـــدله وتلوگ لأبو گذله
وفرحانه كل الحله بالهور خله أيصيف
الرحيل الشاعري
في قاطع ميسان عام 1982، سقطت قذيفة على ناقلتهم فتناثرت أجسادهم، ورحل جبر كما يليق بالشعراء. كان في الخطوط الخلفية حين مازحه أحدهم بأن يستشهد، فردّ ضاحكًا: "أنا في الخطوط الخلفية"، ولم يدرك أن الموت بانتظاره.
أمّه التي أحبّته حبًا يفوق الوصف، لم تحتمل الفقد، فرمت بنفسها من سطح المنزل فور سماع نبأ استشهاده، ثم لحقت به بعد أربعين يومًا، كأنها لم تُرِد أن يظل وحيدًا في قبره.
تقول أخته إنها كانت تراه في المنام يناديها: "أخرجوني من القبر". وحين قرروا فتح القبر ونقل الجثمان، وُجد الكفن كما هو، والجسد لم تقربه دابة، كأن الأرض حفظته كما يحفظ التراب القصائد.
ترك وراءه طفلة تُدعى "سجى"، ورثت منه ملامحه الأدبية وسماته النقية: صدق الكلمة، وضحكته البريئة، ووفاءه لمن حوله. واليوم تتغنى بشعره، وتغزل من ذكراه عطرًا لا يفنى.
أما صديقه ورفيق دربه، الأستاذ طه فرحان الربيعي، فكتب عنه كلمات تفيض بالحنين، وصفه فيها بأنه "الإنسان الذي جمع القرابة والصداقة والصدق في آن"، مؤكّدًا أن طيفه لا يزال يلازمه، وأنه من الأرواح التي لا تموت في الذاكرة.
الغياب الذي لا يُعوّض
للأسف، ورغم البحث المتواصل، لم يُعثر على أي قصيدة أو مقطوعة تحمل توقيعه. وحتى المتبقّي من عائلته لم يحتفظوا بشيء من إرثه الأدبي، فكأنّ شعره قد طواه النسيان. جرى الحديث عن لقاء أجراه معه الناقد عبد الجبار عباس نُشر في جريدة الراصد وتضمّن آراء مهمة، لكنه لم يصل إلينا.
وتذكّره الشاعر مجيد الحلي في رثائه لصديقه حامد الهيتي، مشيرًا إلى جلسة غنائية أحياها جبر داگي مرددًا:
بستان الحلو هب الهوى وطاب
وكعدنه أنه وجليل أمره والأحباب
وفي قصيدة إهدائية طويلة، خصّه الشاعر حامد كعيد الجبوري بتحية وفاء في ديوانه البخيت، قائلًا:
يا الشايل همومك والفرح خنياب
عرفتك بالزغر، هسّه شبابي شاب
كما نشر له الدكتور سعد الحداد قصة قصيرة في كتابه أنطلوجيا القصة، وهي من الشذرات القليلة الباقية من إنتاجه الذي ضاع أغلبه.
ورغم النداءات لتوثيق نتاجه، لم يستجب أحد، لكن الأمل لا ينطفئ، فلعلنا نظفر يومًا بمخطوطة أو صفحة من دفاتر النسيان، ليعود صوته من الغياب.
رمزية الفقد
غياب جبر داگي ليس غيابًا فرديًا، بل تمثيل رمزي لغياب جيلٍ كامل من المبدعين الذين طحنهم التهميش، وأكلت أصواتهم رياح السياسة والنسيان. لم تُنشر كتبهم، ولم تُجمع دواوينهم، وكأنهم عبروا كالشهاب في ليل التاريخ: أضاءوا لحظة ثم خبا ضوؤهم، تاركين أثرًا لا تحفظه الأرشيفات.
استذكارهم اليوم واجب إنساني، لا لتخليد أسمائهم فقط، بل لإعادة الاعتبار لتجارب تنزف الشعر والحلم في صمت.
كان جبر داگي نسيج وحده: شاعرًا وقاصًا، معلمًا وصديقًا، ومناضلا غنى حزبه الشيوعي في اعياده ومناسباته، ومن المؤسسين لجمعية الشعراء الشعبيين في الحلة قبل أن تجيرها سلطة البعث لحسابها، عاش كما يليق بالشعراء، ورحل كما يليق بالأنقياء، تاركًا أثرًا لا تمحوه الأيام.