عدنان الظاهر
فريد الأطرش
عدنان الظاهر
أيلول 2025
فكّرتُ كثيراً وفكّرتُ طويلاً حتى تجمّعت لديَّ مادة تستحق الكتابة عن الفنان فريد الأطرش كما أحسبُ. قسّمتُ الموضوعَ إلى ثلاثة أجزاء هي 1ـ فريد فنان الحزن، 2ـ فريد فنان الحب و3ـ فريد فنان البهجة والطرب.
أولاً / فريد سيّد الحزن :
أتناولُ في هذا الباب أغنية فريد الأطرش (بتبكي يا عين على الغايبين ودمعكْ عالخدود سطرين). قيل في حينه إنها في رثاء شقيقة فريد أسمهان غناها بعد موتها غَرَقاً في ترعة وهي في طريقها نحو الإسكندرية. لحنُ هذه الأغنية لا مثيلَ له سواء في المقدمة أوفي المقاطع الثلاثة التي تكوّنت الأغنية منها. المقاطع الثلاثة هي: (بتبكي عاللي راح منك ومن إمتى اللي راح بيعود يا خوفي يذبّلك حُزنك وما تلقيش للدموع دي خدود خدود زاهية طفيتها وذبّلتِ الحياه فيها ..) يليه مع تبدّل المقام الموسيقي (يا عين شفتي وحبّتي وقُلتِ لقلبي ميلْ واعشقْ طوعتك لمّا خليتي خيالي عمرو ما يصدّقْ بإنْ اللي هواه قلبي حينساني ويغدرْ بي ..) أما المقطع الثالث والأخير فيقول فيه فريد مع مقام جديد (بتبكي علّلي هجروكِ وخانوا العِشرةْ وفاتوكِ وذول لو كانوا حبّوكِ ما كانوا فيوم يُبكّوكِ يا عينْ بيعي اللي باعوك يا عين إنسي اللي نسيوكِ ..). عدا المقطع الأول، وهو موضع تساؤل ونقاش، فالمقطعان الآخران لا علاقة لهما بالرثاء فهما في رومانس خائب وبكاء ودموع وهجر وخيانة ودعوى للنسيان. قلتُ المقطع موضوع قابل للنقاش فهو يصلح للرثاء كما يصلح للعتاب. كذلك الأمر في مقدمة الأغنية فهل كذلك ذات وجهين تصلح كرثاء كما تصلح للحزن على فراق وغياب الأحبّة. مجملاً أرى هذه الألحان المتحرّكة بعبقرية غير مسبوقة وهذه الأُغنية بصوت فريد سمفونية حزن كوني لا مثيل لها لا في الأولين ولا في الآخرين. لا مليون عبد الوهاب يستطيع تلحين مثيلاً لهذا اللحن ولا مليار حليم حافظ بقادر على أداء هذه الأُغنية. تبقى رمزاً ومثالاً لعبقرية فريد يفخر بها عالم فني التلحين والغناء لقرون وقرون وقرون.
ما قدّم محمد عبد الوهاب بهذا الخصوص وما قدّم عبد الحليم؟ غنّى عبد الوهاب أُغنية (أيها الراقدون تحت التُراب) وغنى حليم أُغنية (ظلموه) وأغنية (بعد إيه بعد إيه) ثم أُغنية (أي دمعة حزن لا لا) وجميع هذه الأغاني لا تساوي شيئاً إذا ما قورنتْ بسمفونية فريد.
ثانياً / فريد فنّان الحب الوحيد في زمانه :
فاق فريد جميع معاصريه في عدد الأغاني التي غناها للحب منذ بداياته الأولى في أواسط ثلاثينيات القرن العشرين حيث غنّى من تلحينه أُغنية (بحبِّ من غير أملْ وقلبي راضي وسعيد وان طال عليَّ الأجلْ إنتَ الحبيب الوحيدْ) ثم أجاد في أداء أُغنية يا ريتني طير لطير حواليك وهي ليست من تلحينه إنما تلحين فريد غُصنْ كما أظن وغنّاها قبله إيليا بيضا لكنَّ فريد حوّر فيها وطوّرَ حتى استقامت بالشكل المعروف. ثم غنّى الأغنية الأعجوبة تلحيناً وأداءً وأظنها من تلحين الشيخ زكريا أو محمد القصبجي أو ربما مدحت عاصم أو محمود الشريف .. أعني اُغنية (من يوم ما حبّك فؤادي من يوم حفظتِ ودادي وزاد سُهادي وأنيني الدنيا حليتْ في عيني). في كلمات هذه الأغنية تناقض واضح فمرة يُغرّدُ عالياً للحب المطلق ليعود بعد قليل فيقلب ظهر المِجن متنكّراً للحب كافراً وزاهداً به. مثلاً (ميمي مين زيي شاف الهنا مين زيي نال المُنى من يوم ما حبّك فؤادي من يوم هجرتِ ودادي وزاد سُهادي وانيني الدنيا حليت في عيني). ثم أنكى الجميع يقول فريد (كِرِهت حبِّكْ من كثرِ صدكْ وكرهتِ فيكِ كثر الدلال على أيه ححبكْ ولا أودك مش عايز أشوفكْ ولا في الخيالْ). اللحن كما أحسب غير مسبوق بعذوبته وتفرّده ومطابقته لطبيعة أوتار حُنجرة فريد في شبابه المبكر إذْ لو غناها في سنوات عمره المتأخرة لما نالت ذلك النجاح المنقطع النظير. تبقى هذه الأُغنية من أغاني الحب الراقيات جداً تجلّى وأبدع فيها مُغنيّا وليس مُلحِّناً فاللحنُ لغيره. أُغنية أخرى غناها فريد للحب الحي في فلم إنتصار الشباب أدّاها تلفونيّاً كمحاورة ثنائية مع طرف آخر مثّلته الفنانة روحية خالد. يقول فريد فيها (وحياتك تقولي لي الحقْ بتحبيني ولّا لا .. تقول له روحية خالد كلاماً لم نسمعه فيرد: دي أحلى كلمة يا مُنايَ لما تقولي لي أحبّك قوليها تاني ..) أبدع فريد في أداء هذه الأُغنية البسيطة والعميقة المغازي والرفيعة اللحن البرئ.
في ذهني أغانيه القديمة التي لم يضمّنها في أفلامه يحضرني منها أغنية (بتسأليني عن حالي وانتِ السبب في اللي جرا لي) وأغينة (يا ريت تذوقي اللي في قلبي وتعرفي مقدار حُلّي يا ريت يا ريت تذوقي اللي في قلبي) أو أُغنية (يا فرحتي يوم ما تجيني بعد الخصام وتصالحيني يا فرحتي يوم ما تجيني). غنّى فريد هذه الأغاني للحب بشتى تنوّعاته وطبقاته فالحب طبقات ومدارج. لم يجاره أو يضاههِ أحد من مطربي زمانه وزماننا فيما قال فريد في هذه الأغاني التي طواها النسيان ولا يتذكرها أحدٌ للأسف الشديد. نعم، فريد فريد زمانه فيما غنّى للحب سبق وفاق الجميع بلا استثناء. ثم حلَّ العام 1953 حيث مثّل فريد فلم لحن الخلود وغنّى في آخره فريدته الرائعة (بنادي عليك). إنها ملحمة سيذكرها عالم اللحن والطرب إلى ما شاءَ الزمانُ. فريد بارع في الإنتقال بأغانيه من مقام لآخر حسبَ ما تقتضيه أحوال كلمات الأُغنية فالمُلحّن يحول الكلام المنطوق إلى لحن يؤدّى على آلات موسيقية يُشجي أو يُطرب أو حتّي يُبكي. مَن غنّى في العالمين أُغنية كهذه .. مَنْ؟ الأغاني التي كرّسها فريد للحب كثيرة لا تُعد ولا تُحصى منها أغنية (ختم الصبرُ بُعدنا بالتلاقي) ولا ادري مَن وضع كلاماتها. وأغنية (عشْ أنتَ إني مُتُّ بعدكْ وأطلْ ما شئتَ صدّكْ) كلمات الشاعر اللبناني الأخطل الصغير بشارة الخوري. والأغاني الأُخَر التي غنّاها في آخر فلمين له قبل وفاته مثل أغنية (يا حبايبي يا غايبين وحشيني يا حلوين لو أغمّضْ وأفتّحْ ألاقيكم جايين) ثم الأغنية الأروع (زمان يا حُب) التي ختم بها فلمه (زمان يا حب) مثّله مع زُبيدة ثروت وليلى طاهر ويوسف وهبي في لُبنان. فضلاً عن أغاني الحب والطرب والفرح والبهجة مثل أغنية (حبّينا حبينا حبيناكِ حبّيني) وأُغنية (فوق غصنك يا لامونة) وأغنية (لكتب عاوراق الشجر سافر حبيبي وهجر يا حبيبي دخلك عود بيكفّي غياب وسفر .. . مَن غنّى مثل هذه الأغاني التي جمع فيها فريد جمال طبيعة لبنان والفرح الغامر والحب الشفيف الراقي ورقصات الفنانين اللبنانيين... مَنْ؟ غنّى حليم حافظ أُغنية (جانا الهوى جانا ورمانا الهوى رمانا) برفقة الفنانة نادية لطفي وصورها كذلك في لبنان محاولاً تقليد فريد ولكن هيهات هيهات فالثرى غير الثريا. رقصت نادية في مرقص وحانة بملابس الراقصات المحترفات وتبادلت الكأس مع حليم وأكثرا من تبادل القُبل الحقيقية وليس القُبل السينمائية وهذا بحد ذاته أمر مُثير ومُدهش ولا اعتراض عليه ولكن... يبقى فريد متفوّقاً وفريداً فالأصل الأصلُ غير المنسوخ والتقليد.
الكل يُركّز على اُغنية (الربيع) لفريد لكني أجد أغنية (أول همسة) أفضل منها وأسيغُ سماعها المرة تلوَ المرة. أغنية الربيع ليست خالصة للحب إنما هي خليط متجانس من الرومانس والبهجة حالها حال (بساط الريح) وأوبريت (إنتصار الشباب).
ثالثاً / فريد والبهجة والطرب :
كلما خطر في بالي موضوع الأنس والبهجة والطرب لدى فريد أجد أمامي القول [ويرقصُ الطيرُ مذبوحاً من الألمِ]. غنّى فريد للبهجة والإنتشاء ما لا يُحصى من الأغاني في مختلف مراحل عمره غير الطويل. الأمر الذي قصّر فيه الباقون وعجزوا عن الإتيان بمثله. الأمثلة كثيرة لكني أُركّز على أُغنية (يا زهرةً في خيالي) على إيقاع التنكو و (ليالي الأُنس في فيينا) والربيع التي بنى لحنها على إيقاع الفالس و(بساط الريح) وأُغنية (يا بنت بلدي) وأغنية (مرّة يهنيني ومرّة يبكّيني) غناها على رقص هند رُستم ثم ثنائيته الرائعة مع شادية (يا سلام على حبّي وحبّك) وثنائياته مع صباح ونور الهُدى وثنائيته مع أسمهان في فلم إنتصار الشباب (الشمس غابت أنوارها) والأخرى أوبريت إنتصار الشباب كذلك مع أسمهان كلها مُترعة بالبهجة والتفاؤل وبشائر الخير تشيع المرح والمسرة في قلوب سامعيها. وفي هذا الفلم بالذات لحّن فريد أروع الأغاني لشقيقته أسمهان مثل (ياللي هواكْ شاغل بالي) و (أيها النائمُ عن ليلي سلاما) وأغنية (الورد) التي تسمعها بأداء أسمهان فيُخال إليك أنَّ ترى ربيع كل الدنيا شاخصاً أمامك مسحوراً والعينان نحو السماء.
بخصوص الهوى والرومانس نجح محمد عبد الوهاب بأغنيته (الجندول) ولعبت كلمات الأغنية دوراً فعّالاً في نجاح هذه الأُغنية. كما نجحت له أغانٍ أُخر ولكن بأصوات أخرى مثل أغنية كل ده كان ليه وأغنية لا تكذبي وأغنية أنت عمري. إذا سرق فريد الأطرش مقدّمة لحن أُغنية (فردا لونا) بصوت ريتا هايوارث في فلم رملٌ ودم وغنّاها في أُغنية (عينيَ بتضحك وقلبي بيبكي) فإنَّ عبد الوهاب كان في غاية السذاجة حين لطش جزءاً من السمفونية الخامسة لبيتهوفن ووضعه مقدمة لأغنيته (أحب عيشة الحرية). فضيحتان بجلاجل.