ورقة نقدية حول النص: بنية الخراب وتصدّعات الذات في شعر ما بعد الفاجعة// كريم إينا

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

كريم إينا

 

للذهاب الى صفحة الكاتب 

ورقة نقدية حول النص:

           بنية الخراب وتصدّعات الذات في شعر ما بعد الفاجعة

                  للشاعر قتيبة العباسي

نقد: كريم إينا

 

صدر للشاعر الموصلّي الجميل قتيبة العباسي مجموعة شعرية بعنوان: "جمرُ المكان" الطبعة الأولى سنة 2024 لوحة الغلاف: أنور الدرويش، تصميم باسم محمد، التنضيد علي عبد المنعم، طبعت المجموعة بدار ماشكي للطباعة والنشر والتوزيع في الموصل/ المجموعة الثقافية، يقع الكتاب بـ (106) صفحة إحتوت المجموعة على (21) قصيدة مع مقدمة المدخل والكتاب من الحجم المتوسط، بدأ الشاعر بأوّل قصيدة عنوانها: " قزحُ الأخطاء" ص9، قصيدة متوسطة في الطول، حيث يقول: / في كلّ نافذةٍ / مُواءُ غوايةٍ يترصّدُ / إسفنجةٌ كفَّ المساء / تمتصّ ما سفحَ الصباحُ من الضياءْ /.

 

النص يتأسّس على ثلاثة أعمدة كبرى:

الصورة الكثيفة المتراكبة:

يتواتر فيها اللون، الضوء، المطر، السراج، الصدى، الجسد، النار، والهواء كعناصر دائمة التحوّل. النص يحوّلُ العناصر الأربعة إلى مفردات للوجع الجمعي:

- الضوء =  إحتمال الخلاص

- الظلمة =  قدرية الخراب

- المطر =  الذاكرة/ التطهير

- الريح =  الفقد/ التشريد

 

اللغة هنا تعمل كأنّها تراكم جيولوجي: كل مقطع طبقة فوق طبقة. الذات بوصفها وطناً مكسوراً.

يتحوّل الوطن إلى جسد، والجسد إلى وطن، فتتشابك الأوجاع.

"يا وطن يحملنا أقصى فلك..."

"من يسقط الجسد…؟"

السؤال يصبحُ شكلاً من أشكال المقاومة، لا طلباً لإجابة. الزمن في النص ينزاح:

- ليلة الميلاد

- ذكريات الطفولة

- مشاهد الحرب

- موت الأطفال

- أشباح المدينة

لا خط مستقيم، بل بوحٌ شبيه بتيّار الوعي، لكنّهُ مفعم ببلاغة شعرية مكثّفة.

- إيقاع داخلي يقوم على التكرار (هدنة عابرة… ليلةٌ مرّتْ…).

- صور سوريالية تمتدّ إلى حدّ الهذيان الجميل.

- حضور قوي للرمز

الماء  = الحياة المؤجّلة

الماسة  = السرّ/ المنقذ / اللعنة

الشمع  = العمر القصير

العلاقة بين المثول والغياب اليومي قد يتجلّى الضوء/ المذبح/ القربان/ الصلوات تتجاور مع الخراب:

 

النص مكتوب كأنّه صرخة طويلة في ليلٍ لا ينتهي هو ليس حزناً عادياً، بل حزن ذو بعد ميتافيزيقي، يأخذ الوطن والذاكرة والطفولة والحرب ويخلطهم في بوتقة شعرية واحدة تلامسُ حدود الأسطورة. وهذه الورقة النقدية مبنية على الأسس الأكاديمية لتحليل الخطاب الشعري الحديث، ومخصّصة للنص الطويل الذي قدّمته. حاولت تقديمها بوضوح منهجي دون الإخلال بالروح الجمالية للنص. ينتمي هذا النص إلى ما يمكن وصفه بـ الشعر- السرد أو النص الموزّع الذي يتجاوز حدود القصيدة التقليدية، ويتغذّى من بنية شذرية، متقطّعة، عصيّة على الإصطفاف، بما يضعهُ في صلب الشعر العربي ما بعد الحداثي،

يتأسّس العمل على ثيمة مركزية تتكرّر وتتحوّل عبر مئات الأسطر إلى الأرض/ الوطن كجرح، والذات: كشاهد وذبيحة في آن واحد.

 

النصّ ليس قصيدة؛ إنّه حقلٌ من الشظايا، رؤى، ذكريات، مناخات، صور، خيالات، ومشاهد تتناسلُ بلا توقّف. يبدأ النص منفسحاً على ظلال العتمة: ففي ص9 قصيدة " قزحُ الأخطاء" من بحر الكامل حيث يقول:

/ قزحٌ بناصية الزوال مكبّلٌ... / وبكلّ لونٍ حلكةٌ تتفلّتْ /، وفي قصيدة" هدنةٌ عابرة"ص14 من بحر الرمل فاعلاتن أو فعلاتن، حيث يقول: / هدنة عابرةٌ فوقَ الشفاهِ / ليلةُ الميلادِ مرّتْ / وقميصُ الدمعِ مُلقىً في زوايا الأمسيات/، ذات إيقاع مريح يعلق بأذن المتلقّي. 

 

وتتوالى الصور التي تشي بإنهيار داخلي وخارجي، حيثُ يمتزج خراب الوطن بخراب الجسد، كما في:

- المطر الذي ينشر " أوراق النكاية."

- الشجر الذي ينوءُ بحمل " العمر الفاقع."

- المدن التي " تعبت " و" أرهقها نشيج تشرّدي."

السؤال الذي يختمُ به النص "ما الذي أسقطنا؟" يُحوّلُ الخراب من حدث خارجي إلى محكمة وجودية تحاكمُ الذات والهوية والتاريخ.

حضور الجسد كمرآة سياسية وروحية، الجسد في النص ليسَ بيولوجياً بل خريطة وطنية.

- تعبت دمائي

- من يسقط الجسد…؟

- زمناً ونظر… دون خطى… سفر في الفراغ.

الجسد مشروخ، منهك، وممتدّ بين الحياة والموت، بين الرغبة والقمع، بين الطفولة المفقودة والكهولة المعطوبة، الطفولة كفاجعة مؤجلة. نرى في ص97 قصيدة بعنوان: " عذرا أيّها القمر" فيقول: / يغورُ عميقاً هذا الماء / بفلاة يدي يتوارى / خلفَ إرتباكِ الأصابعِ والخطى / فطبيبكَ أوصى / لا ماء تُسقى /.

يقدّمُ لنا النص مشاهد الطفولة على أنّها مساحة وجعٍ لا خلاص:

- الطفلة التي تُخبرُ أباها المسافر/ الميت إنّها ستأتيه بالأزهار.

- الطفل الشهيد "عبدالله" الذي "أطفأ شمعته الأخيرة."

الطفولة هنا ليست رمزاً للبراءة، بل لشقاء المستقبل المنقوص.

 

الذاكرة كمحرّض لا كملاذ:

الذكرى لا تؤدي دور العزاء، بل هي صاعق للألم.

كلّ نافذة تُفتح تُلقي مزيداً من الضوء على العطب، وليسَ على الزمن الجميل.

الذاكرة تتقدّم بوصفها " سجلاً للخسارات." وفي ص59 تظهر قصيدة" حلم آشور" حيث يقول: / ماضياً يعتلي صهوة الحنجرة / غازياً سُدماً / مُقلاً... سارياتِ الظنون / يرتمي مرّة حكمةً / وثناً يرتمي مرّةً ثانية / بينَ أفخاذِ كلّ زنيم /، وهي على بحر المتدارك أتت مكتنزة حالمة والختم بيدها،

البنية اللغوية والأسلوبية:

كثافة الصورة الشعرية، يمتازُ النص بكثافة بلاغية عالية، تعتمد على:

- الإستعارات المتتابعة

- الكثافة اللونية

- التراسل الحسّي

- الصور السريالية

كأنّ الشاعر يحاولُ أن يقيمَ كوناً موازياً يتدفّق عبر اللغة، لا عبر المنطق السردي.

 

الإيقاع الداخلي:

على الرغم من إلتزام الشاعر بالوزن الخليلي، نَراهُ يتكئ بنصّهِ على:

- تكرار الجمل... “ليلة مرّتْ…” “هدنة عابرة…” “أضحتْ ”

- التوازي التركيبي

" لا متكأ عند العاصفة، لا سيف ولا قافلة..."

- الجمل القصيرة الصادمة التي تكسرُ التيار الشعري فجأة:

" ما الذي أسقطنا؟"ص41 قصيدة "من مفكرة السقوط"حيث يقول: / فاضت سيُولُ القبّرَة تدفّقي / أيّتها الأشجارُ صَوبي / أوانٌ مبعدٌ /. قد يقترب من إيقاع الكامل.

هذا الإيقاع يمنحُ النص نَفَساً رتيباً يشبهُ "التنفّس المتعب” لوطن يلفظ أنفاسهُ الأخيرة.

هُناكَ أربعة حقول أساسية تتحكّم في النص:

حقل الخراب...: الموت، الجذام، المقصلة، السيوف، النزف

حقل الضوء...: القمر، السراج، الشمع، الألوان، الضياء

حقل الماء...: المطر، البحر، الماء الريان، طمي الفكرة

حقل الجسد...: الشفاه، الصدر، الكفوف، العيون، الضلوع

تتداخلُ هذه الحقول حيث تصنعُ شبكة رمزية تحيلُ دائماً إلى فكرة:

الحياة تتقدّم، لكن ببطء يتآكل، وداخل نصّ يحاولُ أن يلتقط أنفاسهُ.

البنية السردية وتفكّك الزمن:

النص لا يخضع لزمن خطّي. الزمن فيهِ يتكرّر، يتشظّى، يتقدّم ويتراجع، يستعد ككابوس لا كذكرى.

 

الإنتقالات المفاجئة من الحرب إلى الطفولة، من الوطن إلى الجسد، من السيرة الذاتية إلى الشهادة، لا تأتي كخلل بل كإختيار فنّي يعكسُ فوضى الوجود في واقع مأزوم.

الرمز حاضر بكثافة، ومن بينها:

- الماء: الخلاص المستحيل

- الشمع: العمر القابل للإنطفاء

- الشجر: الوطن المتعب

- المذبح: الفاجعة الجمعية

- القمر: عين المراقبة / الأمل

- الماسة: السرّ الملعون/ الحقيقة المستحيلة

والرمزية لا تأتي صافية، بل ممتزجة بلمسة سوريالية تشبهُ هذيان ما بعد الكارثة.

أهم الإشكاليات الفنية:

الإفراط في الترميز والصور، قوّة النص في كثافته، لكنّها أيضاً قد تؤدي إلى إرهاق القارئ.

بعض المقاطع تُتخمْ بالرؤى إلى حدّ فقدان التوازن، ويصبح النص ذاته "خطاباً يتنّفس بصعوبة."

 

التشظّي الفنّي هو جزء من جمال النص، لكن غياب الوحدة قد يربك المتلقي الذي يبحثُ عن خطّ ناظم. ففي ص31 قصيدة " جمرُ المكان" التي إتخذها عنواناً لمجموعته الشعرية حيث يقول: / لبُعدٍ مؤرّقٍ / أعدُّ حريقَ رِحالي / وقربٌ كفيفٌ / لعُسرِ الكلام... يُحيلُ كلومي/.

الأسىْ يُهيمنُ عليه حتى النهاية دُونَ منح القارئ قوساً عاطفياً واضحاً يُقلّل من حدّة الألم.

أمّا في قصيدة" رحيل الدفلى" ص69 حيث يقول: / نهضت زينب قبلَ الأهلِ / لبست صدريتها / لبست أحلى زيٍّ / والشعرُ خيولٌ جذلى / ألقتْ حبّات الدخن لطيرِ الُحُبّ /، أخذت من شعر التفعيلة مأخذاً لما حدثَ في مأساة حادثة ملجأ العامرية، وفي قصيدة " مروة" ص93 يقول: / أضحت بلا لُعبٍ ولا كتبٍ / ولا أهلٍ ولا لَعبٍ أضحتْ /، إستخدم بحر الكامل: متفاعلن متفاعلن متفاعلن، ويتكرّر هذا البحر في قصيدة" لسعِ الخفاء" حيث يقول: / قُضبانُ سجنٍ حالكة / يا شعرها وفي الشفاهِ / تَقُصّ للأعدامِ بدله /، وتأتي قصيدة" عودة من الزمن المهرّب" ص80 وهي على بحر الوافر مفاعلتن لفظها مستأنس يشوبُها طيف الزمن الهارب. 

لكنّ هذه "الإشكاليات" ليست بالضرورة نقاط ضعف، بل سمات لتيار شعري يقومُ على تفجير البنية لا تشكيلها. وهناكَ قصائد مثل: ذكريات نوافذ منفية ، موجز أموات الوطن، ضفتي – فضةُ الأوراق، شالأرض، مذكرة نقض متأخرة، المثول خارجاً، تبّت يدا رسّامها، بكائية جسد... وغيرها، لا يفقدُ الضوء بريقهُ فيهما، بل تُزيدُ الألق وتُثيرُ نار العاطفة، النص عمل شعري ضخم، مشتبك، كثيف، ينهضُ على أنقاض مدينة وذاكرة وذات. إنّه قصيدة - أرشيف، ومرثية وطنية- وجودية تمتدّ على طبقات من الصور والمعاني. هو نصّ يصرخُ أكثر ممّا يتحدّث، ويُبصر أكثر ممّا يروي، ويستحضر الماضي لا كحنين بل كحملٍ يُثقل كاهل الروح من الناحية الجمالية، هو نص جدير بالتأمل والتحليل، ومن الناحية الفنية ينتمي بوضوح إلى الشعر العربي الحديث الذي يكتب من قلب الكارثة لا من هوامشها، أتمنّى لشاعرنا قتيبة العباسي الموفقية والنجاح في ما آلَ إليهِ لخلق نفحات تنعش الروح والتألّق في مجال المشهد الشعري العراقي خاصةً والشعر العربي الحديث عامةً.