عبّارة الموت- قصص قصيرة جداً// طلال حسن

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

طلال حسن

 

 

عبّارة الموت- قصص قصيرة جداً

طلال حسن

 

جوعان..

ــــــــــــــــــ

في صغري، كانت أمي تحذرني من نهر دجلة، وخاصة عندما تهيج مياهه في الربيع، وكانت تقول: إنه يهدر، ويقول: جوعان.. جوعان.

يا دجلة الخير، يا رفيق الطفولة، ما كان لكَ، ومهما كنتَ جائعاً، أن تغيب في أعماقكَ، أكثر من ” 120 ” موصلياً في عيد الربيع الدامي.

 

المنقذ

ـــــــــــــــ

جلس على مقربة من أمه المقعدة، فنظرت إليه منكسرة، وقالت: بنيّ، اليوم ربيع، أخرج واذهب إلى الغابات.

وأطرق رأسه، وقال: كنتُ أتمنى أن آخذ ابني خيري، وابنتي سعاد وأمهما، إلى الجزيرة.

وبصوتها الشائخ الدامع، ردت أمه قائلة: إنهم من الشهداء، فلينتقم الله ممن تسبب في إثارة الحرب المدمرة في الموصل، التي أخذتهم مع الآلاف.

وذهب إلى الغابات، ورأى العبارة تتهاوى بمن فيها من النساء والرجال والأطفال، وتنقلب على من فيها، فهبّ من مكانه، وارتمى بين الأمواج العاتية، لينقذ زوجته وابنه خيري وابنته سعاد.

 

رسائل على الماسنجر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أرسل لها، على مدى أشهر، رسائل على الماسنجر، هادئة وعاطفية ومؤدبة، رغم ذلك لم تردّ عليهاً، وليلة البارحة” 20 / 3 / 2019 ” أرسل لها رسالته الأخيرة، قال لها فيها، سأكون غداً ” 21 / 3 / 2019 ” ، يوم نوروز، في الجزيرة السياحية.

لم تردّ عليه كالعادة، ولم تذهب إلى الجزيرة السياحية طبعاً، وكاد قلبها البكر، الذي أحبه، أن ينفجر، حين رأت على الفيسبوك صورته، من بين الغرقى في حادثة غرق عبارة الموت

 

العودة إلى البيت

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

جلسوا في كازينو يطل على الشاطىء، ورأى ابنه وسام العبارة، فصاح: بابا لنعبر إلى الجزيرة.

وقالت ابنته متوسلة: هيا ، يا بابا.

ونظر إلى زوجته الشابة، فقالت : لنذهب كلنا.

وقبل أن ينظر إلى أمه، قالت له: اذهب أنت وزوجتك وولديك، أبوك متعب، سنبقى ننتظركم هنا.

وذهب هو وزوجته وولده وابنته، واستقلوا العبارة المتهالكة، مع أكثر من مائتي شخص، وقريباً من منتصف النهر، وأمام أنظار الأبوين العجوزين، مالت العبارة، ثم انقلبت بمن فيها في النهر الهائج.

وجاء المساء، وخيم الظلام، ونظرت المرأة إلى زوجها المنهار، وقالت: حجي..

لم ينظر إليها، وقال كأنما يحدث نفسه: ماذا! نعود إلي البيت؟ أي بيت؟ أولادنا في النهر.

 

عبّارة الموت

ــــــــــــــــــــــــــ

مالت العبارة العجوز، الغاصة بالأطفال والأمهات والآباء، وسرعان ما توقفت مرتجة، وانقلبت في مياه دجلة الهائجة.

واحتضن أب، زوجته وبناته الصغيرات الثلاث، وارتطم وإياهم بالأمواج العارمة، وغاصوا إلى الأعماق العكرة المظلمة للنهر.

وعاد بعد قليل إلى سطح الماء، وشهق بعمق طلباً للهواء، وحين صحا قليلاً، وجد يديه خاليتين من زوجته وبناته الصغيرات الثلاث.

بحث عنهن كالمجنون، بين أمواج النهر الغاضبة، فلم يقع لهنّ على أثر، وارتطمت به طفلة، حدق فيها، لم تكن واحدة من بناته، لكنه أخذها بين ذراعيه، واتجه بها إلى الشاطىء.

 

المرأة الأم

ــــــــــــــــــــــ

جلس وحده إلى منضدة، تطل على النهر، وأمامه كوب شاي دافىء، الجو دافىء، والشاي دافىء، وجسمه ساخن تشويه الحمى.

قالت له أمه: لا تخرج، أنت محموم.

فابتسم لها، وقال: سيشفيني الربيع والغابات ودجلة.

وراح يراقب الربيع حوله، أطفال، وشابات كالورود، ونساء وشباب، يندفعون إلى العبارة، ويتدافعون ليحجز كلّ منهم مكانه فيها، وكاد ينهض، ويصيح بهم: لمَ العجلة؟ انتظروا قليلاً، العبارة ستعود بعد قليل، وستقلكم جميعاً إلى الجزيرة.

وسارت العبارة المتهالكة ببطء، وفوقها أكثر من مائتي شخص، وفجأة توقفت، وتأرجحت فوق الأمواج المتلاطمة، ثم انقلبت بمن فيها من أطفال، وشابات كالورود، ونساء، ورجال.

وهبّ من مكانه، ناسياً شايه الدافىء، وجسمه الذي تشويه الحمى، وارتمى بين الأمواج المتلاطمة، وأنقذ طفلين، وطفلة، و .. ورأى امرأة في عمر أمه، تغوص إلى الأعماق، وعلى الفور، لحق بأمه، ومرت الدقائق، ولم يخرج من الأعماق، لا هو، ولا المرأة التي في عمر أمه.

 

ألو الموصل

ــــــــــــــــــــــــ

فزّ من النوم، خائفاً منقبض القلب، حلم آخر، حلم قاتم وإن كان لا يذكر خيوطه بوضوح، ولساعات حاول أن يُهدىء نفسه، لا فائدة، ورفع سماع التلفوت، وجاءه تغريدها العذب من أرض البيبون: ألو ، بابا.

وقال وصوته يخونه : حبيبتي ، أرجو أنكِ بخير.

وضحكت ضحكتها الحلوة ، وقالت : إنني أدرس.

فرد عليها ، وقلبه يهدأ قليلاً : اسلمي لي ، يا بيبونتي ، اذهبي وادرسي.

بعد ساعة اتصلت به، وقالت: بابا، اليوم نوروز، سأذهب مع ماما إلى الغابات.

وخفق قلبه، وتراءت له الغابات، ربما رآها ليلة البارحة في منامه، وجاءه صوتها: بابا، ماذا تقول، أذهب مع ماما أم..؟

وسكتت ابنته، الطالبة في الكلية، فقال لها بصوت مرتعش: اذهبي حبيبتي، وحين تعودين إلى البيت، اتصلي بي مساء، وطمأنيني.

وجاء المساء، ولم تتصل به ابنته، وكيف تتصل، وهي وأمها في أعماق نهر دجلة، بعد أن انقلبت عبارة الموت بأكثر من مائتين من الأطفال والرجال والنساء، وكانت هي وأمها من بينهم؟