محطات طبية

تأخر النطق معاناة الأهل قبل الطفل// د. مزاحم مبارك مال الله

تقييم المستخدم:  / 2
سيئجيد 

تأخر النطق معاناة الأهل قبل الطفل

د. مزاحم مبارك مال الله

 

كثير من الأمراض الجسمانية تنعكس نفسياً والعكس صحيح، ولكن هناك حالات تنعكس اجتماعياً كالعاهات مثلاً.

سعادة كل عائلة أن تتحقق أمنياتهم بالاستقرار والأمان والاطمئنان وكذلك بإنجاب أطفال أصحاء خالين من العاهات والأمراض، حيث يمر الطفل بمراحل نموه الطبيعي، والأبوان يراقبان عن كثب هذه المراحل وخصوصاً الأم الملتصقة دوماً مع وليدها، بل وتترقب انتقال الطفل بمراحل تطوره من مرحلة الى أخرى.

وحينما يمر الطفل بمراحل التطور الطبيعية وينمو ويكبر وتتحسن مداركه وافعاله الإرادية واللاإرادية، يشعر الأبوان بالسعادة، ولكن حينما يحصل خلل أو تلكؤ أو تباطؤ في سلسلة النمو التطوري، مثلاً تأخر الجلوس والزحف والمشي، أو تأخر النطق ..الخ، فتكون هذه الحالات مصدر قلق وتوتر الأبوين.

ولكن يبدو (وجدنا ذلك من خلال ممارسة المهنة)، أن واحدة من أزعج المشاكل التطورية في نمو الطفل هي مشكلة تأخر النطق، وأحياناً ليس فقط تأخره وإنما يكون غير قادر على النطق تماماً.

علماً أن تطور النطق يختلف من طفل الى أخر حتى ضمن العائلة الواحدة، مع ملاحظة مَن هم الأطفال الذين يوصفون بالمتأخرين بالنطق؟ هم أؤلائك الذين يتأخرون عن أقرانهم في إصدار أو إنتاج هذا الفعل الحيوي.

ولهذه الحالة الصحية ـ الاجتماعية أسبابها والتي تتطلب المراقبة والمتابعة والعلاج ما أمكن ذلك.

النطق يختلف عن باقي الأفعال الحيوية كونه يأتي من خلال التعلم والتعليم، من خلال المحيط الذي يعيش في كنَفه الطفل، بينما النظر ورؤية الأشياء ليست تعليماً وكذا الحال بالنسبة للسمع أو الشعور بالبرد أو الحر، أو الشعور بالألم جراء لسعة حشرة، أو مغص...الخ من باقي الحواس، فهي تنمو وتتطور مع نمو الطفل البدني.

ولمّا كان النطق هو تعلم، لذا توجب وجود منظومة سمعية كي يتعلم الطفل من خلالها النطق، وهذا يعني أن النطق هو نتاج السمع والسماع.

الصوت يظهر نتيجة مرور الهواء في الحنجرة التي تحتوي الحبال الصوتية، تهتز تلك الحبال فيصدر عن هذه الحركة الفيزياوية ما يعرف بالصوت، والذي فيما بعد وبمساعدة اللسان يمكن تغييره  وإصدار حروف وكلمات مختلفة ومتنوعة.

الرضيع وبأيامه وأسابيعه الأولى لا نسمع منه الاّ البكاء(وهو صوت)، وكذلك فالمحيطون به وخصوصاً أمه تتكلم معه (وهي بالحقيقة وكأنها تتكلم مع نفسها)، وحينما يبلغ الشهر الرابع تقريباً من التطور التدريجي لباقي الحواس، يبدأ الطفل بإخراج  أصوات والتي نطلق عليها بلغتنا الدارجة "يناغي"، نعم فالطفل يبدأ يناغي، أي يُخرج أصوات لا معنى لها وغير موجودة في اللغة، وربما يتجاوب مع الأم وهي تتحدث معه فرحانة وسعيدة به ومعه، يتجاوب أيضاً  بأصوات الـ "مناغاة".

ولما كان النطق مرتبط ارتباطاً عضوياً بالسمع، لذا صار لزاماً أن نختبر في البيت سمع الطفل(في الأشهر الأولى أي بعد الشهر الرابع)، كي نطمأن أن المنظومة السمعية طبيعية، أن الأطفال الذين يعانون من مشاكل في السمع وبدرجات متفاوتة ،فأنهم سوف لا يسمعون نطق الحروف والأصوات وبالتالي لا يمكنهم تقليدها، وعليه  لا يمكنهم نطقها.  إن الاختبار يتم من خلال:ـ

1.   ردود أفعاله لفعل الأصوات المحيطة به.

2.   انتباهه لأي صوت خارجي.

3.   يحرك عينيه أو رأسه لمصدر الصوت وخصوصاً حينما تناديه بإسمه.

ومع تقادم الأشهر في عمر الطفل وخصوصاً لمّا يبدأ بالجلوس أو الزحف، تأخذ الأصوات التي يصدرها تتميز أكثر وتكون مرتفعة نوعاً ما، ويبدأ عند قرابة نهاية السنة الأولى من عمره، بنطق كلمة أو اثنتين مثل(بابا، ماما)، ولكن هاتين الكلمتان لم تخرجا ذاتياً وإنما من خلال تحفيز الأهل له في أن يتعلمها وينطقها، يتعلم الطفل كلمات سهلة ويتكرر فيها الحرف، كما في (ما ـ ما)، (با ـ با) وغيرها.

في نهاية السنة الأولى يستطيع أن ينطق عدة كلمات وأجزاء من كلمات أخرى، في السنة الثانية يبدأ كلامه بالتحسن، ولكن هناك ظاهرة في المرحلة بين السنتين الأولى والثانية، وهي أن يبدأ الطفل بالكلام الكثير غير المفهوم، أو يسمي الأشياء بغير مسمياتها، أو أنه يخلط بين الكلمات، وهذا ما نطلق عليه "الثرثرة" أو بلهجتنا، نصف هذه الحالة ونقول، أن الطفل "يلغي"، وكلما كان عدد الأفراد الذين يعيشون معه ويتكلمون معه أكثر، كلما كان نطقه أسرع والكلمات التي ينطقها أكثر بالرغم من عدم تمييزها، فهو يحاول أن يقلد الأصوات التي يسمعها، وبشكل عام فأن البنات ينطقن بوقت أبكر من نطق الأولاد، ولحد الأن لا يوجد تعليل علمي واضح لماذا البنات ينطقن أسرع من الأولاد..

الكلام يختلف عن اللغة، الكلام هو نطق الكلمات، بينما اللغة وظيفة دماغية ترتبط بادراك الأشياء والتعبير عنها، كما أن الكلام والأصوات تأتي كانعكاس للواقع الذي يعيشه الطفل، فبعض الأطفال(المنسيين أو المُهمَلين) من قبل آهاليهم ويلتصقون بالتلفاز وأفلام  الرسوم المتحركة وأشباهها، تجدهم يجيدون تقليد الأصوات التي يتلقونها من هذه الأجهزة غير مدركين أن ما يرونه ما هي الاّ أشياء لا روح فيها! ثم أن الطفل يتلقف ويحفظ ويقلد ما تغذيه به من كلام، مازلت أتذكر الطفل "محمد" ذو الأربع سنوات جاءت به مربيته لي في العيادة بسبب حالة عابرة أتذكر، أنه كان يعاني من ارتفاع درجة الحرارة، المهم أن المربية كانت مسيحية كلدانية، وكانت تتحدث معه باللغة السريانية وهو يعي ما تقوله بل وينطق جمل سريانية بالكامل، وقالت، "محمد مثل أبني معي طوال الوقت أبواه مشغولان طوال اليوم"، هذا دليل على أن الطفل يتعلم بما تُعلّمه عليه.

وبناءً على ذلك فأن التطور الطبيعي لطفلٍ طبيعي، أنه سينطق في نهاية السنة الثانية من العمر جمل مؤلفة من كلمتين أو ثلاث ويردد ما يسمعه ويتبع التعليمات، أما في نهاية السنة الثالثة فأنه يفهم ما يُقال ويميز بين الأشياء المختلفة، في نهاية السنة الرابعة يبدأ يفهم معاني متعددة لموضوع واحد ويبدأ بطرح بعض الأسئلة، في السنة الخامسة بإمكانه أن يقص القصص.

مع ملاحظة مهمة جداً وهي هذا التطور الزمني المفهوم والمعروف في حياة الطفل تتزامن معه تطورات القدرات والقابليات، فأغلب الأطفال(خصوصاً أذا كان الأبوان متعلمان)، يبدأون بالتلوين والرسم على قدر المستطاع.

العوامل التي تؤثر في النطق

1.   العوامل الوراثية.

2.   الحمل، فيما لو كانت هناك مشاكل صحية أثناء فترة الحمل.

3.   الولادة، هل الطفل طبيعي، أم حصلت مشاكل أثناء الولادة، هل الطفل خديج، نقص الوزن، نقص الأوكسجين..ألخ

4.   الطبيعة الاجتماعية للظروف المحيطة بالطفل، وهل تعرض لصدمة نفسية؟

5.   أمراض يصاب بها بعض الأطفال كالسحايا، التشنجات(الشمرة)..ألخ

 

أسباب تأخر انطق

علينا أن نميز بين حالتين، كخطوة مهمة في التشخيص وبالتالي العلاج، الحالتان هما: هل الطفل لا يتكلم تماماً، أي "أبكم" وباللغة الدارجة "أخرس"، أم أنه يعاني من تكلؤ النطق والكلام؟

•     فهناك التأخر البسيط العادي/الطفل في عمر ما قبل المدرسة، ينطق ولكنه يتردد أو يتعثر ببعض الكلمات أو حتى في ترتيب الجمل.

•     وهناك حالة لطفل تصل الى مستوى العاهة(وخصوصاً لدى المصابين بالصم والبكم).

وفيما يلي الأسباب الأكثر شيوعاً في تأخر النطق:

أولاً ـ الأسباب العضوية:ـ

1.   التهاب الأذن الوسطى(وهو شائع بين الأطفال بسبب قصر قناة أوستاكي)، المهمل والمزمن، مع ظهور إفرازات مستمرة من الأذن.

2.   نقص السمع الوراثي.

3.   أمراض انتقالية كالتهاب السحايا  والتهاب المخ والنكاف والحصبة.

4.   إصابة الطفل في الأشهر الأولى من حياته بأمراض شديدة تسبب له الهزال وضعف في جهازه المناعي مما تؤدي الى تأثر مركز الكلام في الدماغ.

5.   إصابة الأم بالحصبة الألمانية أثناء الحمل وخلال الثلث الأول منه.

6.   شدّة خارجية على الرأس.

7.   عدم قدرة الطفل من تحريك لسانه بسبب وجود ربط بين اللسان وبين قاعدة الفك الأسفل، يطلق عليه اللسان المربوط، وعلاجه سهل جداً بفك هذا الربط عن طريق الليزر أو تداخل جراحي بسيط، ويمكن أجراء ذلك في العيادة.

8.   تضخم اللوزتين والزوائد اللحمية الأنفية والتهاباتها المزمنة فتؤثر على مستوى السمع.

9.   تشوهات ولادية، مثل شفة الأرنب وسقف الفم المشقوق، تشوهات بالفك والأسنان.

10.  تأثر العصب السمعي جراء استخدام علاجات، تمتاز بتأثيرات جانبية على العصب السمعي فيما لو استخدمت بشكل عشوائي وليس تحت أشراف الطبيب كالستربتومايسين والكارامايسين.

11.  تأخر نمو الطفل وتطور دماغه، جراء ضمور الدماغ، أمراض وراثية معقدة، تأثيرات مَرَضية جينية، مضاعفات نقص الأوكسجين أثناء الولادة..الخ

ثانياً ـ الأسباب الاجتماعية:ـ

1.   الصدمة النفسية في المرحلة الحرجة لتعلم الكلام وخصوصاً في السنة الثانية من العمر.

2.   عدم تعليم الطفل النطق بسبب إهمال الوالدين، وهذا الإهمال ناتج أما عن ترك الطفل ينمو ويتطور معتمدين على الفطرة، أو بسبب انشغالهما، وأحياناً ترك الطفل مع مربية يكون هو السبب.

3.   جهل الأسرة بطرائق التربية السليمة، إضافة الى التأثيرات السلبية الذي يتركه تعنيف الطفل.

4.   عدم اختلاط الطفل مع أطفال آخرين.

5.   اللعب مع والتركيز على وسائط أو ألعاب ناطقة (لا تتطور)، لا تنمّي قابليات الطفل، أو التركيز على التلفزيون فقط أو الوسائل الالكترونية الحديثة، مع إهمال الجوانب الحياتية الأخرى.

6.   اختلاف لغة الوالدين.

7.   التوأم ـ ربما يتأخر نطق أحد التوأمين بسبب الأهتمام بأحدهما على حساب رعاية الأخر.

ثالثاً ـ وهناك سبب أخر لم يحسم العلماء أسبابه بعد، فالدراسات جارية من أجل الوصول الى الأسباب الحقيقية الكامنة وتحويل الفرضيات الى حقائق، الاّ وهو "التوحد"، وهو خليط من الأسباب العضوية والاجتماعية والنفسية، وأسباب داخلية وخارجية.

وهناك ظواهر وأشكال منوعة من تأخر النطق لدى الأطفال ومنها:

•     استخدام إشارات للتعبير عن شئ ما.

•     استخدام كلام"نوعية خاصة" ليس لمفرداته أية دلالة لغوية.

•     أن ينطق ولكن بعملية استبدال حرف مكان أخر مثل اللام بدلاً من الراء، أو السين بدلاً من الثاء.

•     أن ينطق صوتاً يختلف عن مخرجه الأصلي.

•     هناك مظاهر التأتأة، او اللعثمة أو التهتهة.

•     بعض الأطفال ينطقون وكأن الصوت يخرج من الأنف، الأخنف.

•     فقدان الترابط والتماسك بالكلام المنطوق.

•     الالتباسات(تداخل الضمائر، المفرد والجمع، المؤنث والمذكر).

•     التعبير بكلمات غير واضحة.

•     قلّة المفردات التي يستخدمها الطفل.

•     أحياناً وبعض الأطفال تسمعهم ينطقون كلمات لفترة (يوم أو يومين)، ثم يتركونها ويرفضون نطقها، والسبب يعود الى أن الطفل حينما ينطق شئ ما فهو يقلد، وحينما يجد نفسه غير قادر على نطقها، فسيتركها.

التقييم والعلاج

الخطوة الأولى تبدأ من العائلة في كشف حالة الطفل، حينما يلاحظ الأبوان، أن الطفل تأخر في النطق، سواء بالخبرة أو بالمقارنة مع أقرانه.

وهنا يتوجب عرض الطفل أمام اختصاصي النطق والذي سيبحث عن الأسباب، فيمكن تحديد، هل تأخر أو عدم النطق راجع الى :

أ‌)    نقص في التحفيز؟

ب‌)   أو ضعف في السمع؟

ت‌)   أو خلل في الفهم والاستيعاب؟

ث‌)   أو وربما الطفل يعاني من التوحد؟

بعد تحديد السبب، يمكن التعامل مع الحالة وفق ذلك السبب، فبعض الحالات تحتاج علاج أو تداخل جراحي أو أعادة تأهيل، وفي جميع الأحوال يبقى الجزء الحيوي في موضوع العلاج هو  تعليم الطفل كيفية النطق من خلال:

1.   الحوار المستمر مع الطفل.

2.   التحدث معه بشكل سليم وواضح وصحيح(لا ينصح المختصون أن تتحدث بطريقة الطفل ذاتها في أخراج الكلمات رغم حلاوتها).

3.   تغيير الطبيعة الحياتية للطفل، كتقليل مشاهدة التلفاز، أو اللعب بالألعاب الالكترونية، أو كسر طوق الوحدة والانعزال والعمل على الاختلاط مع الأطفال..الخ.

4.   العامل النفسي واهمية التعامل الأنساني مع هذا الطفل، ومن وجهة نظري فأن هذا العامل أو العنصر، من أهم عناصر العلاج، وخصوصاً للطفل الذي يُدرك، حيث أن الأنتقاص منه (سواء أن كان لوحده أو أمام أخرين)، يُعد ذلك جرحاً في ذاته المتألمة أساساً، فلا نعتقد أن صاحب العوق أو العاهة أو حالةً ما أنه سعيد أو يتغاضى عن حالته، بل أن الأنتقاص أو الأستهزاء به أو جعله مادة للضحك، إنما كلها وسائل ستأخر العلاج بل وربما تقف عائق رئيسي بوجه الشفاء، بينما ومن الجانب الثاني، نجد أن التشجيع والأخذ بيد الطفل، ستوفر بيئة ممتازة للأمل في أن يتجاوز مما يعاني منه.