ألمكتبة
• وصول غودو/ رواية للدكتور أفنان القاسم - صفحة 7
- تم إنشاءه بتاريخ السبت, 26 أيار 2012 10:33
- الزيارات: 21320
أخذتني الفتاة الصفراء إلى قطار مهجور حولته إلى صالون خيالي من صالونات الصين القديمة بهرني كل شيء فيه من بقايا الإمبراطورية، الأسرّة الستائر اللوحات الدواشك السجاجيد الصواني الأعواد القَصعات الطائرات الورقية القناديل الفراشات الأضواء التنينات التنينات التنينات التنينات التنينات التي تبتسم وتكاد تنطق. قالت إنها ستُرضع طفلها، وبعد ذلك ستعتني بي. نادت عليه، وهي تكشف عن ثديها، فدخل شيخ صيني عجوز عمره يربو عن التسعة والتسعين عامًا، وضع نفسه في حضنها، وتناول بفمه حلمتها، وراح يرضع، ويرضع، ويرضع، دون أن يتوقف. ملت نفسي من الانتظار، فطلبَت الفتاة الصفراء قليلاً من الوقت. مَسَحَتْ خد طفلها المليء بالعقد والدرنات بكفها الحنون الناعمة، لهذا السبب شاخ طفلي لأنه لا يتوقف عن الرضاعة، أوضحت الفتاة الصفراء. لم تتخلص الفتاة الصفراء من طفلها الشيخ إلا بعد أن غفت عيناه، وكأن تسع سنين طويلة مضت منذ اللحظة التي جئنا فيها. جاءتني الفتاة الصفراء بثديها الآخر، لن أطلب منك أن تدفع مقابل هذا شيئًا بعد أن أعييتك انتظارًا، قالت لي الفتاة الصفراء. أبعدتها عني بلطف، ورفعت إصبعًا كارهة نحو باب الخروج، فنهضنا، وعدنا، أنا والفتاة الصفراء، أدراجنا قاطعين مقبرة للقطارات لا حياة فيها، لم يكن فيها لا طير ولا بشر ولا نمل. قطعنا آخر رصيف، ومررنا بالحقائب الأربع المتروكة إلى قلب محطة الشمال. استقبلنا الصخب والناس والقطارات كما يجدر بالصخب أن يستقبلنا والناس والقطارات في محطة الشمال، كانت هذه هي الحياة. دفعتني الفتاة الصفراء إلى درج يهبط تحت الأرض، فواجهني صف من الفرنسيين، وهم يحملون لوحات جوارب مثقوبة ورافعات نهدين مقطعة وأوراق كلينيكس مستعملة ثمنها بالملايين بسبب الأزمة. على اليسار، رأيت كيف يبدل أجانب الناس سلال اليوروات بقليل من نقودهم على شبابيكِ صرفٍ الصرافون فيها ما بين صراف وصرافة يرتدون كلهم ثيابًا براقة كثياب الملاحين الكونيين. واصلنا السير، أنا والفتاة الصفراء، حتى نهاية الممر، ووقفنا تحت ساعة ضخمة فيها تنينات أخذت أشكال الأرقام. ودون تردد، تقدمت الفتاة الصفراء من خزانة حديدية كانت هناك فتحتها بمفتاح أخرجته من بين فخذيها، وإذا بباب في داخلها لم تغلقه من ورائها اجتزناه إلى عالم أصفر من بشر وحيوان وأشياء، حتى التنينات الرقمية فيه كانت صفراء. لم تكن التشاينا تاون، كانت كل الحضارة الصينية هناك. كانت الصين. كانت الدراجات. كانت القبعات. كانت الفساتين المشقوقة على طول الساقين. كانت الأعلام الحمراء. كان ماو. كان الإمبراطور الحديث. كل صيني كان إمبراطورًا حديثًا. كان البط المبرنق. كان الشعر الأسود. الشعر الطويل. الشعر الجميل. الشعر الأخرق. كان الخصر الأصفر. كان السحر الأصفر. كان الموت الأصفر. الأصفر. الأصفر. الأخضر. كان الموت الأخضر. أخذت أنتقل من مكان إلى مكان، وبقوة الأشياء غدوت أصفر. غدوت أخضر. لم ينقصني سوى التحدث بالصينية. كانت تلك مهمة الفتاة الصفراء مرافقتي. جعلتني أكتشف مستوى آخر من هذا العالم السفلي، المافيا فيه صفراء لا ترحم، والجميل فيه أصفر لا يرحم حتى ولو كان أشقر أو أسود أو أحمر، وأمكنة العبادة فيه لبوذا رأس المال، وهي أمكنة للجنس في نفس الوقت.
أشارت الفتاة الصفراء إلى صف من كبار رجال الأعمال والوزراء على باب بوذا، ها هم عملاؤنا الجدد، قالت الفتاة الصفراء بشيء من ترف الكلام. كان كل منهم هناك ليقذف بجسده وببلده بين ذراعي مومس صفراء. لم يكن ذلك بالطبع سوى استعارة، المومس الصفراء كانت في الواقع تلك الراهبة الحبلى القادمة من الجناح الفرنسي في المدينة المحرمة. كنا قد ذهبنا لنشاهد صراع الأرز مع الأرز، أرز أبيض وأرز أسمر وأرز أحمر وأرز أسود وأرز أصفر، هكذا كانت تُدعى فرق المصارعين. انتصر في هذا الصراع الأرز الأصفر. ليس هذا كل شيء في العالم السفلي لمحطة الشمال، قالت لي الفتاة الصفراء. سحبتني من يدي كما تسحب كلبها، تعال، قالت لي.
أنزلتني الفتاة الصفراء في مصعد طابقين آخرين تحت الأرض، ووجدتني أمام عشرات بل مئات وربما آلاف التماثيل الصينية المطعونة بعشرات السيوف المرشوقة بعشرات الأسهم المبقورة بعشرات الرماح. هؤلاء هم أجدادنا، قالت الفتاة الصفراء. كان متحف الأجداد الصفر. لم يكونوا في أشكالهم ليختلفوا كثيرًا عن أحفاد اليوم الصفر. يختلفون ربما من ناحية واحدة عشق المال، قالت الفتاة الصفراء، وعشق الهيمنة. صُفر اليوم لا يهمهم ما سيكون العالم معهم، ولكن أن يكونوا هم أسياد العالم كما كان الذين من قبلهم، أضافت الفتاة الصفراء. قبل أن تسحبني من المتحف، بَصَقَتْ على أحد التماثيل، فأثارت دهشتي. هذا لأنني شيوعية، قالت.
في الطابق الوسط، طابق بين بين، الطابق الذي تمنيت أن أجد فيه حقيقتي، وجدت حصانًا أبيض ينتظرني. أذهلني جماله. درت به، ودار بي. احتضنته، واحتضنني. امتطِهِ، قالت الفتاة الصفراء، وهي تبكي. امتطيته، فسار بي نحو باب الخروج. داومت الفتاة الصفراء على البكاء، وهي تشير بيدها مودعة. كانت دموعها دموع الوداع. صعد الحصان بي في المصعد، وعندما خرجت، وأنا على ظهر الحصان، إذا بي في الموقف العام لسيارات محطة الشمال. تهادى الحصان بي، وأنا أمر بالمراحيض، وبالمخازن، وبدهاليز المترو إلى أن وصل إلى باب الخزانة المفتوح. دخلت بالحصان منه، وأنا أنظر. كانت شبابيك الصرافة عادية بصرافين عاديين كل منهم لاه بشغله، وعلى باب المستودع كان بعض السياح الذين يودعون حقائبهم. صعدت بالحصان الدرج إلى وسط محطة الشمال، والحصان يتهادى بي بين أناس ألقوا عليّ نظرات سريعة، وعادوا إلى أشغالهم. كانت القطارات هي القطارات، والأرصفة هي الأرصفة، والآماد هي الآماد. وكان الحصان الأبيض الذي أركبه، وأسير، غريبًا عن هذا العالم. ذهبت به إلى مركز الشرطة، وأودعتهم إياه.
وأنا أعود من حيث جئت، كانت الحقائب الأربع في مكانها. وبينما أنا أنظر إليها، وأتساءل أين ذهب أصحابها، شعرت بيد صغيرة تشدني من سترتي، وسمعت صوتًا ناعمًا:
- قطعة صغيرة.
استدرت برأسي من حولي، فلم أقع على أحد، لكنني ما لبثت أن رأيت الصبي القصير القامة، وأنا أنظر إلى قدميّ.
- قطعة صغيرة، جِد صغيرة.
أخرجت من جيبي حفنة من قطع النقد الكبيرة، وأخذت أبحث تحت عيني الصبي الطامعتين عن قطعة صغيرة إلى أن وجدت واحدة ثم واحدة أخرى أصغر، وقدمتها له. عبس الصبي، بعد أن سال لعابه على منظر قطع النقد الكبيرة، وراح يحدق باستهجان فيما أعطيته.
- قُلْتَ جِد صغيرة.
- أشكرك، يا سيد غودو.
وضع القطعة النقدية في جيبه.
- هذه الحقائب لك؟
تأملت الحقائب الأربع مليًا.
- لي.
حاول الصبي حملها، فلم يستطع.
- سأطلب عونًا.
راح ينظر هنا وهناك.
- إنه أخي. أخي أكبر مني وأقوى.
وضع إصبعين في فمه، وصفر، فجاء صبي يشبه أخاه، وكأنه توأمه، لكنه أقصر قامة. عندما وصل حياني:
- طاب وقتك، يا سيد غودو.
أشار إلى الحقائب الأربع، وسأل:
- هذا كل ما هنالك؟
أجاب أخوه:
- هذا كل ما هنالك.
وهو يهم بحملها، أوقفته:
- انتظر.
أخرجت كل ما في جيبي من قطع نقدية، وانتقيت قطعة صغيرة، فمد يده ليأخذها، لكني وقعت على قطعة أصغر أعطيته إياها، وأنا أرسم بسمة مناكفة على شفتيّ، والأخوان بسمة ليست راضية. حمل الكبير القصير الحقائب الأربع، فلم أعد أراه لكبرها. سأل الصبي:
- وأي قطار قطارك، يا سيد غودو؟
قلت:
- أي قطار.
ضحك الصبي:
- أي قطار.
- أي قطار.
- أي قطار، يا سيد غودو؟
- أي قطار.
همهم الصبي:
- أي قطار.
وتوجه بالكلام إلى أخيه:
- هل سمعت ما قاله السيد غودو؟
- السيد غودو لا يتبدل.
هز الصبي رأسه مؤكدًا:
- السيد غودو لا يتبدل. السيد غودو لا يتبدل أبدًا.
* الكتابة الأولى صيف 2010
* الكتابة الثانية يوم الخميس 2012.02.02
أعمال أفنان القاسم
المجموعات القصصية
1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995
الأعمال الروائية
7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يوما بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011
الأعمال المسرحية النثرية
33) مأساة الثريا 1976
34) سقوط جوبتر 1977
35) ابنة روما 1978
الأعمال الشعرية
36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010
الدراسات
44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي
نموذجًا (جزءان) 1983
46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
48) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995
49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
50) خطتي للسلام 2004
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
تحاول هذه الرواية البقاء ضمن الخط الذي رسمه صموئيل بيكيت في مسرحيته "بانتظار غودو" تبعًا لتأويلين طبيعي وما وراء طبيعي، إضافة إلى ذلك تعمل على توسيع حقول الصراع الإنساني، مع النفس، مع الغير، مع الواقعي، مع الفانتازي، مع الذاكرة، مع الفكرة، خاصة مع الفكرة، من كل نواحيها، فكرة الانتظار، الانتظار تحت كافة أشكاله، انتظار مُعِينٍ أكثرَ منه منقذًا أو متفرجًا، لكن أفعال هذا الشخص "المنتظر" عندما تحل أفعاله محل ما على البشر أن يفعلوا لأنفسهم لم تكن في صالحهم، لتأخذ مجانية الوصول قوتها، فيعيد العبث إنتاج نفسه على مسرح الحياة، ويعطي للحياة قيمتها.
أهم ما في هذه الرواية المكان الذي تجري فيه أحداثها: محطة الشمال في قلب باريس، محطة هي بالأحرى "مغارة علي بابا"، كل شيء فيها، وكل شيء ليس فيها ممكن حتى الأشياء الأكثر جنونية والمشاهد الأكثر ميتافيزيقية.
ماذا كان صموئيل بيكيت سيقول عن رواية أفنان القاسم "وصول غودو" بعد انتظار دام أكثر من ستين عامًا؟
* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...
- << السابق
- التالي
المتواجون الان
687 زائر، وعضو واحد داخل الموقع