اخر الاخبار:
اخبار المديرية العامة للدراسة السريانية - الأربعاء, 24 نيسان/أبريل 2024 18:10
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
"انتحارات القربان المرعبة" تعود إلى ذي قار - الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 11:16
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• كتاب / مدخل الى الاشتراكية العلمية .. الجزء الثاني - الصفحة 3

  

4- الانتهازية الإصلاحية

 

لم تكتف الأحزاب والنقابات الجماهيرية في أوروبا الغربية بأن تعكس تطورا مؤقتا لصراعات طبقية محصورة بمعظمها في حقل الاصلاحات، لقد أصبحت بدورها قوة سياسية زادت من حدة تكيف الحركة العمالية الجماهيرية مع الرأسمالية «المزدهرة» للبلدان الإمبريالية. أهملت الانتهازية الاشتراكية-الديموقراطية عملية إعداد الشغيلة للتغيرات المفاجئة في المناخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي التي كانت تعلن عن نفسها، وأصبحت هكذا عاملا مهما سهل استمرار الرأسمالية على قيد الحياة في خضم سنوات 1914-1923.

تجلت الانتهازية على الصعيد النظري عن طريق مراجعة للماركسية أطلقها رسميا إدوارد برنشتاين («الحركة كل شيء، الهدف لا شيء») الذي كان يطلب من الاشتراكية-الديموقراطية أن تتخلى عن كل نشاط عدا ذلك الذي يتوخى إحداث إصلاحات في صلب النظام. أمّا «الحركة الماركسية الوسطية» المتمحورة حول كاوتسكي فقد كافحت النزعة المراجعة، إلاّ أنها قدمت لها في الوقت ذاته العديد من التنازلات، لاسيما عن طريق تبرير ممارسة للأحزاب والنقابات كانت تقترب أكثر فأكثر من النزعة المراجعة.

لقد تجلت الانتهازية على الصعيد العملي بقبول التحالف الانتخابي مع أحزاب بورجوازية «ليبرالية»، وبالقبول التدريجي للمشاركة الوزارية في حكومات تحالف مع البورجوازية، وبانعدام نضال منسجم ضد الاستعمار وتجليات أخرى للإمبريالية. إذا كانت هذه الانتهازية قد تلقت ضربة قاسية من نتائج ثورة 1905 في روسيا، فقد تجلت على وجه الخصوص في ألمانيا برفض الموافقة على اقتراح روزا لوكسمبورغ تفجير إضرابات جماهيرية لأهداف سياسية. كانت تعكس في الواقع المصالح الخاصة بجهاز بيروقراطي إصلاحي (نواب اشتراكيون ديموقراطيون، وموظفون في الحزب والنقابات حصلوا على مكاسب وفيرة داخل المجتمع البورجوازي).

ويدل هذا المثال على أن اكتساح الانتهازية الإصلاحية للحركة العمالية لم يكن أمرا محتوما. لقد كان بالإمكان القيام بنشاطات غير برلمانية وبإضرابات أكثر فأكثر اتساعا خلال السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، وكان بإمكان تلك النشاطات أن تعد الجماهير العمالية للمهام التي طرحها الصعود الثوري عند نهاية تلك الحرب.

 

5- ضرورة بناء حزب طليعي

 

تثبت التجربة هكذا العناصر الأساسية للنظرية اللينينية حول حزب الطليعة. إذا كان للطبقة العاملة أن تنخرط بذاتها في نضالات طبقية بالغة الاتساع حول أهداف فورية، وإذا كان بإمكانها أن تبلغ مستوى أوليا من الوعي الطبقي، فلا يمكنها أن تصل تلقائيا إلى الأشكال العليا من الوعي الطبقي السياسي، التي لا غنى عنها من أجل توقع المنعطفات المفاجئة للوضع الموضوعي للتمكن من إنجاز مهام الحركة العمالية التي تترتب عليها، والتي لا غنى عنها كذلك للانتصار على المناورات البورجوازية وعلى كل التأثيرات التي يمكن أن تمارسها الأيديولوجية البورجوازية والبورجوازية الصغيرة على الجماهير الكادحة.

زد على ذلك أن الحركة الجماهيرية تمر حتما بحاولات متفاوتة فالجماهير الواسعة لا تبقى على الدوام عند مستوى مرتفع من النشاط السياسي. إن منظمة جماهيرية تسعى للتكيف مع المستوى المتوسط من نشاط تلك الجماهير ووعيها سوف تلعب إذا دورا كابحا لتفتح النشاط الثوري الذي لا يتم إلا في فترات محددة.

لهذه الأسباب جميعا لا غنى عن بناء منظمة طليعية للطبقة العاملة، لا غنى عن بناء حزب ثوري. هذا الحزب سوف يبقى أقليا في الأزمنة العادية، إلاّ أنه سيبقى على استمرارية نشاط مناضليه وعلى مستوى وعيهم. سوف يسمح بالحفاظ على مكاسب التجربة النضالية وبنشرها في الطبقة، ويظل مشدودا نحو نضالات ثورية قادمة، ويرى في تهيئة تلك النضالات رسالته الأساسية، وهو سيسهل هكذا إلى حد بعيد حدوث الانعطافات في ذهنية الشغيلة المنظمين والجماهير الكادحة الواسعة وفي سلوكها، وهي الانعطافات التي تتطلبها التبدلات المفاجئة للوضع الموضوعي.

طبعا،لا يمكن لأحزاب طليعية كهذه أن تحل محل الجماهير للسعي وراء تحقيق ثورة اجتماعية بالنيابة عنها. «لا يمكن لتحرير الشغيلة أن يكون إلاّ على أيدي الشغيلة أنفسهم». إن كسب أغلبية الشغيلة إلى جانب برنامج الحزب الثوري واستراتيجيته وتكتيكه هو الشرط المسبق الذي لا بد منه لكي يتمكن حزب طليعي من لعب دوره بالكامل.

لن يكون هذا الكسب ممكنا بصورة طبيعية إلاّ في لحظات «حارة» من الأزمنة ما قبل الثورية أو الثورية «يشير إليها» إنفجار حركات جماهيرية عفوية ضخمة. لذا ليس من تعارض مطلق بين عفوية الجماهير وضرورة بناء منظمة ثورية طليعية، فهذه الأخيرة تستند إلى تلك العفوية وتواصلها وتكملها وتسمح لها بالانتصار عن طريق تركيز كل طاقتها على النقطة الحساسة، المتمثلة بقلب السلطة السياسية والاقتصادية لرأس المال.

 

6- الثوريون إزاء النضال من أجل الإصلاحات

 

لقد تطورت، داخل شرائح أقلية في الحركة العمالية والطبقة العاملة، مواقف يسارية متطرفة ترفض أي نضال من أجل تحقيق الإصلاحات، وذلك كرد فعل تجاه الانتهازية الإصلاحية.

إن النزعة الإصلاحية لا تتماثل إطلاقا مع النضال من أجل الإصلاحات، في نظر الماركسيين الثوريين، فالإصلاحية هي وهم إلغاء الرأسمالية تدريجيا، عن طريق مراكمة الإصلاحات. إلاّ أنه يمكن دمج المساهمة في نضالات لتحقيق إصلاحات فورية مع إعداد الطليعة العمالية لنضالات مناهضة لرأس المال يصل حجمها إلى حد التسبب بأزمة ثورية في المجتمع.

إن الرفض الجذري لكل نضال من أجل إنجاز إصلاحات يستتبع القبول السلبي بتردي وضع الطبقة العاملة، إلى أن يأتي اليوم الذي تصبح هذه قادرة فيه على قلب النظام الرأسمالي بضربة واحدة. هذا الموقف هو في الوقت ذاته طوباوي ورجعي.

هو طوباوي لأنه يتجاهل أن الشغيلة المنقسمين على أنفسهم وفاقدي المعنويات، يوما بعد يوم، بفعل عجزهم عن الدفاع عن مستوى معيشتهم، وعن عملهم وحرياتهم وحقوقهم الأولية، ليسوا بقادرين أبدا على مواجهة ظافرة حيال طبقة اجتماعية تمتلك الثروة والتجربة السياسية، هي البورجوازية الحديثة. وهو رجعي لأنه يخدم موضوعيا قضية رأس المال وأرباب العمل الذين لهم مصلحة في خفض الأجور والإبقاء على بطالة كثيفة وإلغاء النقابات وحق الإضراب فيما لو ترك الشغيلة أنفسهم يتحولون إلى عبيد مكتوفي الأيدي.

يرى الماركسيون الثوريون في تحرر الشغيلة وقلب الرأسمالية نهاية مطاف حقبة من القوة التنظيمية المتزايدة لدى البروليتاريا، والتماسك والتضامن الطبقي المضاعف، والثقة المتنامية بقواها الخاصة. ولا يمكن لهذه التحولات الذاتية أن تنجم عن الدعاية وحدها أو التربية الفكرية. إنها حاصل نجاحات متراكمة إبان نضالات يومية هي النضالات من أجل الإصلاحات.

ليست الإصلاحية الناتج الآلي لتلك النضالات أو النجاحات. إنها نتيجتها في حالة واحدة تتحقق حين تمتنع الطليعة العمالية عن تربية الطبقة على فكرة ضرورة إطاحة النظام، حين تمتنع عن مكافحة تأثير الأيديولوجيا البورجوازية الصغيرة والبورجوازية داخل الطبقة العاملة، وعن الانخراط عمليا في نضالات جماهيرية غير برلمانية معادية لرأس المال تستهدف تجاوز طور الإصلاحات.

لابد للأسباب ذاتها من أن ينشط الثوريون في النقابات الجماهيرية ويناضلوا لتقوية المنظمات النقابية لا لإضعافها.

طبعا، تكون النقابات عاجزة عادة عن الإعداد لمعارك ثورية وعن تنظيمها، فليست تلك وظيفتها، إلاّ أنها ضرورية للدفاع عن مصالح الشغيلة يوما بيوم في وجه مصالح رأس المال. إن النضال الطبقي اليومي لا يختفي، حتى في عصر انحطاط الرأسمالية، فبدون نقابات قوية تضم جزءا عظيما من الطبقة العاملة، يتمتع أرباب العمل بفرص كبيرة للخروج منتصرين من تلك المناوشات اليومية. إن التشكك والحذر، من جانب الجماهير العمالية الواسعة حيال قواها الخاصة بها، اللذين ينتجان عن تجارب بائسة كهذه، يضران إلى حد بعيد بنمو وعي طبقي رفيع لدى تلك الجماهير.

يضاف إلى ذلك أن العمل النقابي لم يعد يتقوقع حتما في دائرة النضال من أجل رفع الأجور، ومن أجل خفض عدد ساعات العمل، في عصر الرأسمالية الحديثة، إذ أنه تواجه الشغيلة يوما بعد يوم مشكلات اقتصادية شاملة تؤثر على مستوى حياتهم، من مثل التضخم وإغلاق المعامل والبطالة وتسريع وثائر العمل ومحاولات الدولة للحد من ممارسة حق الإضراب والتفاوض الحر بخصوص الأجور، الخ… هكذا تجد النقابة نفسها مجبرة على اتخاذ موقف، عاجلا أو آجلا، من كل تلك المسائل، فتصبح إذا مدرسة تربية للطبقة العاملة تتناول بين ما تتناول مشكلات شاملة تطرحها الرأسمالية والاشتراكية. تصبح حلبة تتواجه فيها اتجاهات مؤيدة للتعاون الطبقي الدائم، لا بل لدمج النقابات في الدولة البورجوازية، واتجاهات نضال طبقي ترفض إلحاق مصالح الشغيلة بـ«مصلحة عامة» مزعومة، ليست سوى مصلحة رأس المال وقد تم تمويهها قليلا. وبما أن الثوريين المنخرطين في اتجاه الصراع الطبقي يدافعون ضمن هذه الشروط عن المصالح المباشرة للجمهور الكبير، في وجه محاولات حرف النقابات عن وظيفتها الأساسية، فإن لديهم حظا بالتأثير المتنامي داخل النقابات، شريطة أن يعملوا بصبر ومثابرة وألا يتخلوا عن حقل العمل الجماهيري هذا للبيروقراطيين والإصلاحيين واليمينيين من كل الأنواع.

يسعى الثوريون لكي يكونوا أفضل النقابيين أي لكي يضغطوا باتجاه تبني النقابات وأعضائها للاقتراحات المتعلقة بأهداف النضال وأشكال تنظيم النضالات، تلك الاقتراحات الأكثر توافقا مع المصالح الطبقية الفورية للشغيلة. إنهم لا يتوانون أبدا عن الدفاع عن تلك المصالح الفورية، في حين يطورون بلا انقطاع دعايتهم العامة لصالح الثورة الاشتراكية التي لا يمكن بدونها توطيد أي مكسب عمالي، ولا تقديم حل نهائي لأي مشكلة حيوية تخص الطبقة العاملة.

زد على ذلك أن البيروقراطية النقابية الأكثر فأكثر اندماجا في الدولة البورجوازية، والتي تعمد أكثر فأكثر إلى إحلال سياسة مصالحة طبقية و«سلام اجتماعي» محل مهمتها الأصلية المتمثلة بالدفاع الذي لا يلين عن مصالح أعضاء النقابات، تتولى إضعاف النقابة موضوعيا إذ تدوس بأقدامها يوما بعد يوم مشاغل وقناعات المنتسبين إليها. إن النضال من أجل الديموقراطية النقابية والنضال من أجل نقابية قائمة على الصراع الطبقي يتكاملان هكذا بصورة منطقية، في خضم المعارك اليومية.

******

 

 

10/ الديموقراطية البورجوازية والديموقراطية البروليتارية

 

1- الحرية الاقتصادية والحرية السياسية

 

إن الحرية السياسية والحرية الاقتصادية مفهومان متساويات في نظر الكثيرين ممن لا يفكرون بهذه المسألة، وهو ما تؤكده العقيدة الليبرالية على وجه الخصوص، هذه العقيدة التي تزعم اليوم اصطفافها «بجانب الحرية» في جميع الحقول، وبالطريقة ذاتها.

إلاّ أنه إذا أمكن تحديد الحرية السياسية بسهولة، بحيث لا تستتبع حرية البعض استعباد الغير، فليس الأمر هو ذاته بالنسبة للحرية الاقتصادية. إن لحظة من التفكير تبرهن أن معظم مظاهر هذه «الحرية الاقتصادية» تستتبع اللا مساواة على وجه التحديد، وحرمان جزء كبير من المجتمع من إمكانية الاستمتاع بهذه الحرية بالذات.

إن حرية شراء عبيد وبيعهم تفترض أن يكون المجتمع منقسما إلى مجموعتين: مجموعة العبيد ومجموعة أسياد العبيد، وتفترض حرية تملك وسائل الإنتاج الكبرى تملكا شخصيا وجود طبقة اجتماعية مضطرة لبيع قوة عملها، إذ ما الذي يمكن أن يفعله مالك مصنع كبير لو لم يكن أحد مضطرا للعمل لحساب الغير؟

لقد دافع بورجوازيو عصر صعود الرأسمالية المنسجمون مع أنفسهم عن مبدأ حرية تشغيل الأطفال في سن العشر سنوات بالأعمال المنجمية، وحرية إجبار الشغيلة على الكد ما بين 12 و14 ساعة في اليوم، إلاّ أنهم حظروا بشدة حرية واحدة، هي حرية تجمع الشغيلة التي منعها في فرنسا قانون لوشابلييه الذي تم تبنيه في أوج الثورة الفرنسية، بحجة تحظير كل التكتلات من أصل حرفي [20].

تختفي هذه التناقضات الظاهرة في الأيديولوجية البورجوازية منذ يعاد تنظيم كامل تلك المواقف حول موضوعة مركزية واحدة، تتمثل بالدفاع عن الملكية والمصلحة الطبقية الرأسماليتين. تلك هي قاعدة الأيديولوجية البورجوازية بمجملها، لا مجرد دفاع حازم عن «مبدأ» الحرية.

يظهر هذا بوضوح أكبر في تاريخ حق التصويت، فالبرلمانية الحديثة نشأت كتعبير عن حق البورجوازية في فرض رقابتها على النفقات العامة التي تمولها الضرائب التي تتولى هي دفعها. لقد أعلنت إبان ثورة 1649 الإنكليزية أن «لا ضرائب دون تمثيل» (برلماني) [21]، واستتبع ذلك منطقيا إنكار حق الطبقات الشعبية، التي لا تدفع ضرائب، بأن تدلي بأصواتها. الا يجد ممثلوها «الديماغوجيون» أنفسهم مدفوعين للتصويت «باستمرار» لصالح نفقات جديدة، طالما يتولى دفعها آخرون؟

مجددا نقول أن ما يوجد في أساس الأيديولوجية البورجوازية ليس مبدأ مساواة كل المواطنين في الحقوق (إن حق التصويت الذي يتمتع به دافعو الضرائب يدوس هذا المبدأ بالكثير من الوقاحة) ولا مبدأ الحرية السياسية المضمونة للجميع، بل مبدأ الدفاع عن الخزانات المالية وكبار المتمولين!

 

2- الدولة البرجوازية في خدمة مصالح رأس المال الطبقية

 

هكذا لم يكن صعبا إبان القرن 19 التوجه إلى الشغيلة بشرح مفاده أن الدولة البرجوازية لم تكن يوما «حيادية» في الصراع الطبقي، ولم تكن «حكما» بين رأس المال والعمل، وهي المكلفة بالدفاع عن «المصلحة العامة»، لا بل أنها مثلت أداة للدفاع عن مصالح رأس المال في وجه مصالح العمل.

لقد كان حق التصويت موقوفا على البرجوازية وحدها، ولها وحدها الحق المطلق لرفض تشغيل الشغيلة. وما أن أضرب العمال ورفضوا بمجموعهم بيع قوة عملهم بالشروط التي يمليها رأس المال، حتى ووجهوا برجال الدرك أوالجيش الذين أطلقوا عليهم النار. لقد كانت العدالة عدالة طبقية بما لا يقبل الشك، فالبرلمانيون والقضاء وكبار الضباط وكبار الموظفين الاستعماريين والوزراء والمطارنة كانوا ينتمون جميعا إلى الطبقة الاجتماعية ذاتها، وكانوا يرتبطون فيما بينهم جميعا بالروابط ذاتها، عنينا روابط المال والمصلحة، لا بل العائلة. أما الطبقة العاملة فكانت مستبعدة كليا عن هذا العالم الجميل!

تعدل هذا الوضع بدءا من اللحظة التي انطلقت فيها الحركة العمالية الحديثة، واكتسبت قوة تنظيمية مرهونة، وانتزعت حق التصويت العام عن طريق نضالات مباشرة فرضت نفسها (إضرابات سياسية في بلجيكا والنمسا والسويد وهولندا وإيطاليا، الخ.). أصبح للطبقة العاملة تمثيل واسع في البرلمان (وهي وجدت نفسها مجبرة بذلك على أن تدفع حصة أكبر من الضرائب، إلاّ أن هذه قصة أخرى). ثمة أحزاب عمالية إصلاحية تشارك في حكومات تحالف مع البرجوازية، إلاّ أنها بدأت تشكل أحيانا حكومات مؤلفة من ممثلين لأحزاب اشتراكية-ديموقراطية على وجه الحصر (بريطانيا، سكاندينافيا).

مذ ذاك أصبح وهم قيام دولة «ديموقراطية» فوق الطبقات تكون «حكما» حقيقيا و«مصالحا» للتعارضات الطبقية، أمرا مقبولا بشكل أسهل داخل الطبقة العاملة، وأنها لإحدى الوظائف الأساسية للنزعة الإصلاحية المراجعة أن تنشر تلك الأوهام بصورة واسعة. لقد كان ذلك حكرا على الاشتراكية-الديموقراطية في الماضي، إلا أنّ الأحزاب الشيوعية المنخرطة في طريق إصلاحي جديد تنشر اليوم النوع ذاته من الأوهام.

إلاّ أن الطبيعة الحقيقية للدولة البرجوازية، حتى الأكثر «ديموقراطية» تظهر للعيان حالا إذا تفحصنا في الوقت ذاته مسارها العملي والشروط المادية لهذا المسار.

إنه لنموذجي أنه كلما انتزعت الجماهير الكادحة حق الاقتراع العام ودخل الممثلون العماليون إلى البرلمان بقوة كلما انتقل مركز ثقل الدولة القائمة على الديموقراطية البرلمانية من البرلمان إلى جهاز الدولة البرجوازي الدائم: «الوزراء يأتون ويمضون، أمّا الشرطة فتبقى».

والحال أن جهاز الدولة هذا يفرز توحدا كاملا مع البرجوازيتين الوسطى والكبرى، بالطريقة التي يتم بها اختيار قياداته، وبتلك التي ينظم تسلسله وفقا لها، وبقواعد الاختيار والمهنة التي تحكمه. ثمة وشائج أيديولوجية واجتماعية واقتصادية لا تنفصم تشد هذا الجهاز إلى الطبقة البرجوازية، فكل الموظفين الكبار يقبضون معاشات تسمح لهم بمراكمة خاصة لرأس المال لا بأس بها، ولو كانت متواضعة أحيانا، وهو ما يحفز هؤلاء الأشخاص بالذات، على الصعيد الفردي، للدفاع عن الملكية الخاصة، ويثير اهتمامهم بسير الاقتصاد الرأسمالي سيرا حسنا.

يضاف إلى ذلك أن الدولة القائمة على البرلمانية البرجوازية تنشد كليا إلى رأس المال بواسطة السلاسل الذهبية للتبعية المالية والدين العام. ولا يمكن لأي حكومة برجوازية أن تحكم دون اللجوء باستمرار إلى التسليف الذي تشرف عليه المصاريف ورأس المال المالي والبرجوازية الكبرى. إن أي سياسة معادية للرأسمالية تكتفي حكومة إصلاحية برسم خطوطها العريضة تصطدم فورا بالتخريب المالي والاقتصادي من جانب الرأسماليين. فـ«إضراب التثميرات»، وهرب الرساميل، والتضخم، والسوق السوداء، وهبوط الإنتاج، والبطالة، تنجم جميعها عن هذا الرد في مهلة زمنية قصيرة جدا.

إن تاريخ القرن العشرين بمجمله يؤكد استحالة استخدام البرلمان البرجوازي والحكومة المرتكزين إلى الملكية الرأسمالية والدولة البرجوازية استخداما منطقيا في وجه البرجوازية. فكل سياسة تود أن تتبع عمليا طريقا مناهضة للرأسمالية تصطدم سريعا بخيار مصيري: أمّا الاستسلام لقدرة رأس المال تحت تأثير الابتزاز والتهويل، أو تحطيم جهاز الدولة البرجوازية وإحلال التملك الجماعي لوسائل الإنتاج محل علاقات الملكية الرأسمالية.

 

3- حدود الحريات الديموقراطية البورجوازية

 

ليس صدفة أن تكون الحركة العمالية في طليعة النضال من أجل الحريات الديموقراطية في القرنين 19 و20. فالحركة العمالية إذ تدافع عن الحريات تدافع في الوقت ذاته عن أفضل شروط ارتقائها، والطبقة العاملة هي الطبقة الأكبر عددا في المجتمع المعاصر. إن اكتساب الحريات الديموقراطية يسمح لها بأن تنظم نفسها وتضمن إلى جانبها العدد الأكبر من الناس، وترجح كفتها أكثر فأكثر في موازين القوى.

زد على ذلك أن الحريات الديموقراطية التي ثم انتزاعها في ظل النظام الرأسمالي تمثل المدرسة الفضلى للديموقراطية الجوهرية التي سوف يستمتع بها الشغيلة لاحقا، بعد إطاحة مملكة رأس المال.

يتكلم تروتسكي، وهو محق، على «خلايا الديموقراطية البروليتارية داخل الديموقراطية البرجوازية» التي تمثلها التنظيمات الجماهيرية للطبقة العاملة، وقدرة الشغيلة على عقد مؤتمراتهم وتسيير مواكبهم وتنظيم إضرابات ومظاهرات جماهيرية وامتلاكهم صحافتهم ومدارسهم ومسارحهم وصالاتهم السينمائية، الخ.

ولكن تهم معرفة حدود الديموقراطية البرلمانية البرجوازية مهما تكن متقدمة، لأن الحريات الديموقراطية تكتسب بالضبط أهمية جوهرية في نظر الشغيلة.

فالديموقراطية البرلمانية البرجوازية هي ديموقراطية غير مباشرة قبل كل شيء، يعد بالآلاف من الوكلاء فقط، أو بعشرات الآلاف (نوابا وشيوخا ومختارين وعمدا وأعضاء مجالس البلديات أو مجالس عامة، الخ) من يشاركون في ظلها بإدارة الدولة، بينما تحرم من تلك المشاركة أكثرية المواطنين الساحقة، التي تكمن سلطتها الوحيدة في وضع بطاقة الاقتراع في صندوق كل أربع سنوات أو خمس.

ثم إن المساواة السياسية في ديموقراطية برلمانية برجوازية هي مساواة شكلية لا أكثر، وليست مساواة حقيقية. فمن حيث الشكل، يتمتع الغني والفقير «بالحق» ذاته، «حق» تأسيس جريدة يكلف إصدارها مئات الملايين من الفرنكات، ومن حيث الشكل يتمتع الغني والفقير بـ«الحق» ذاته، حق شراء فترة ظهور على شاشة التلفزيون، وبـ«القدرة» ذاتها في التأثير على الناخبين. إلاّ أنه لما كانت الممارسة العملية لتلك الحقوق تفترض مسبقا تحريك وسائل مادية ذات شأن فليس لغير الغني وحسب أن يتمتع بها كليا. سوف ينجح الرأسمالي في التأثير على عدد كبير من الناخبين الذين يرتبطون به ماديا، وفي شراء صحف ومحطات إذاعة أو فترات بث تلفزيوني، بفضل إمكاناته المالية. سوف «يقبض على ناصية» برلمانيين وحكومات بقوة رأسماله.

حتى لو طرحنا جانبا في نهاية المطاف كل هذه الحدود التي تقف عندها الديموقراطية البرلمانية البرجوازية، ولو افترضنا خاطئين أنه لا ينقصها شيء، يبقى أنها ليست أكثر من ديموقراطية سياسية. لكن ما نفع مساواة سياسية بين الغني والفقير -وهي مساواة لا علاقة لها بالواقع- إذا كانت تتطابق في الوقت ذاته مع لامساواة اقتصادية واجتماعية عظيمة، لا تنفك تتعاظم، وذلك منذ أكثر من نصف قرن، لا بل منذ أكثر من قرن؟ حتى لو كان الأغنياء والفقراء يتمتعون بالحقوق السياسية ذاتها، فالأولون يحتفظون مع ذلك بسلطة اقتصادية واجتماعية عظيمة لا يمتلكها الأخيرون، سلطة تخضع الأخيرين للأولين حتما في الحياة اليومية.

 

4- القمع والديكتاتوريات البرجوازية

 

إن الطبيعة الطبقية للدولة المرتكزة إلى الديموقراطية البرلمانية البرجوازية تبدو واضحة تماما حين نتفحص دورها القمعي. فنحن نعرف ما لا يحصى من النزاعات الاجتماعية التي تدخل فيها رجال الشرطة والدرك والجيش بغية «تحطيم» فرق إضراب، وتفريق مظاهرات عمالية، وإخلاء معامل يحتلها الشغيلة وإطلاق النار على المضربين، بينما لا نعرف حالة واحدة تدخلت فيها الشرطة والدرك أو جيش البرجوازية لتوقيف أرباب عمل يصرفون عمالا، أو لمساعدة شغيلة على احتلال معامل أغلقها رأس المال، أو لإطلاق النار على برجوازيين ينظمون غلاء المعيشة أو هرب الرساميل أو الغش الضريبي.

سوف يرد المدافعون عن الديموقراطية البرجوازية بأن العمال أنتهكوا حرمة «القانون» في كل الحالات آنفة الذكر، وأنهم كانوا يهددون «النظام العام» الذي يفترض بقوى القمع أن تدافع عنه. أمّا نحن فنجيب بأن ذلك يؤكد تماما أن «القانون» ليس حياديا على الإطلاق، بل هو قانون برجوازي يحمي الملكية الرأسمالية، وأن قوى القمع في خدمة تلك الملكية، لذا فهي تتصرف بصورة مختلفة جدا حسبما يكون العمال، أو الرأسماليون هم الذين يقترفون انتهاكات شكلية بحق «القانون»، وأنه لا شيء يثبت بأفضل من ذلك الطابع البرجوازي قبل كل شيء الذي تتسم به الدولة.

لا تلعب أجهزة القمع في الظروف العادية أكثر من دور هامشي في الحفاظ على النظام الرأسمالي، لا سيما أن هذا النظام يحظى باحترام فعلي، في الحياة اليومية، من جانب الغالبية العظمى للطبقات الكادحة. إلاّ أن الأمر يختلف كليا في فترات الأزمات الحادة (أكانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو عسكرية أو مالية)، حين يكون النظام الرأسمالي عرضة لهزات عميقة، وحين تبدي الطبقات الكادحة إرادتها في إسقاط النظام، أو حين لا يعود هذا الأخير قادرا على العمل بشكل طبيعي.

إذ ذاك يتصدر القمع المسرح السياسي، وتظهر الطبيعة الأساسية للدولة البرجوازية فجأة بكل عريها: مجموعة من الناس المسلحين في خدمة رأس المال. هكذا تتأكد قاعدة أكثر عمومية في تاريخ المجتمعات الطبقية: فكلما كان هذا المجتمع أكثر استقرارا كلما أمكنه منح حريات شكلية متنوعة للمضطهدين، وكلما كان عديم الاستقرار تهزه أزمات عميقة كلما كان عليه أن يمارس السلطة السياسية عن طريق العنف الصريح.

هكذا نلاحظ أن تاريخ القرنين 19 و20 هو تاريخ العديد من تجارب القمع، تمارسها الديكتاتوريات البرجوازية ضد الحريات الديموقراطية للشغيلة، سواء كانت ديكتاتوريات عسكرية أو بونابرتية أو فاشية، إلاّ أنّ الديكتاتورية الفاشية هي الشكل الأكثر شراسة وهمجية للديكتاتورية الموضوعة في خدمة رأس المال الكبير.

تتميز هذه الديكتاتورية على وجه الخصوص بكونها لا تكتفي بإلغاء الحريات المتعلقة بالمنظمات الثورية أو الراديكالية للطبقة العاملة، بل تسعى كذلك إلى تحطيم كل شكل من أشكال التنظيم الجماعي لدى الشغيلة، ومن أشكال مقاومتهم، بما فيها النقابات وأشكال الإضرابات الأكثر بدائية. إنها تتميز كذلك بواقع أن محاولة تذرير الطبقة العاملة لا يمكن أن تحضى بالفعالية عن طريق الاستناد فقط إلى جهاز القمع التقليدي (الجيش والدرك والشرطة والقضاة)، بل هي تحتاج إلى عصابات مسلحة خاصة تنبثق هي الأخرى عن حركة جماهيرية، هي حركة البرجوازية الصغيرة المفقرة، التي أيأستها الأزمة والتضخم، والتي لم تفلح الحركة العمالية في جرها إلى خندقها عبر سياسة هجوم جريئة في مواجهة رأس المال.

ولا يمكن للطبقة العاملة وطليعتها الثورية أن تكونا حياديتين إزاء صعود الفاشية، بل عليهما أن تستميتا في الدفاع عن حرياتهما الديموقراطية. لذا عليهما أن تشكلا جبهة موحدة تضم كل المنظمات العمالية، بما فيها أكثرها إصلاحية واعتدالا، من أجل مواجهة صعود الفاشية وسحق الوحش الشرير وهو ما يزال في البيضة. عليهما أن يخلقا وحداتهما للدفاع الذاتي في وجه عصابات رأس المال المسلحة، وإلاّ يثقا بحماية الدولة البرجوازية. إن الطريق من أجل الحؤول دون الهمجية الفاشية المؤدية إلى معسكرات الاعتقال والمذابح وعمليات التعديب، من بوشنفالد إلى أوشويتز، إنما تكمن في بناء المليشيات العمالية المستندة إلى جماهير الشغيلة، بحيث تضم كل المنظمات العمالية وتمنع أي محاولة فاشية لإرهاب قطاع من القطاعات الجماهيرية أو لكسر إضراب واحد، أو لـ«تخريب» ندوة واحدة لمنظمة عمالية. إن أي نجاح على هذا الطريق يسمح للجماهير الكادحة بالانتقال بجزم إلى الهجوم المضاد وإلى الإجهاز على الخطر الفاشي، وفي الوقت ذاته على النظام الرأسمالي الذي أطلقه وغذاه.

 

5- الديموقراطية البروليتارية

 

إن الدولة العمالية وديكتاتورية البروليتاريا والديموقراطية البروليتارية التي يريد الماركسيون أن يحلوها محل الدولة البرجوازية التي تظل في المحصلة النهائية ديكتاتورية البرجوازية حتى وهي تتلبس الشكل الأكثر ديموقراطية، إنما تتميز بتوسيع الحريات الديموقراطية الفعلية لجمهور المواطنين الكادحين لا بالحد منها. لا بد من التذكير بشدة بهذا المبدأ الأساسي، لاسيما بعد التجربة المريعة للستالينية التي دمرت مصداقية الإيمان الديموقراطية التي أقسمتها الأحزاب الشيوعية الرسمية.

سوف تكون الدولة العمالية أكثر ديموقراطية من الدول المستندة إلى الديموقراطية البرلمانية، بمقدار ما سوف توسع من مساحة الديموقراطية المباشرة. سوف تكون دولة تشرع بالزوال منذ ولادتها، عن طريق تسليم ميادين كاملة من النشاط الاجتماعي إلى التسيير الذاتي والإدارة الذاتية للمواطنين المعنيين (البريد والمواصلات السلكية والصحة والتعليم والثقافة، الخ)، وتشرك جمهور الشغيلة المنظمين في مجالس عمالية في ممارسة السلطة مباشرة، عن طريق إلغاء الحدود الوهمية بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. كما سوف تلغي الاحتراف من الحياة العامة عبر الحد من أجور الموظفين، بمن فيهم من هم في أعلى المناصب، حيث لا تزيد عن أجرة العامل المتخصص المتوسط، وتعيق تشكيل فئة مغلقة جديدة من المدراء -مدى- الحياة عبر إدخال مبدأ التناوب الإلزامي إلى كل انتداب للسلطة.

سوف تكون الدولة العمالية أكثر ديموقراطية من الدولة القائمة على الديموقراطية البرلمانية، بمقدار ما ستخلق القواعد المادية لممارسة الجميع للحريات الديموقراطية. تصبح المطابع ومحطات الإذاعة والتلفزيون وقاعات الاجتماع ملكية جماعية وتوضع تحت التصرف الفعلي لكل مجموعة من الشغيلة تطلبها. إن حق خلق العديد من المنظمات السياسية، بما فيها المنظمات المعارضة، وخلق صحافة معارضة، والسماح للأقليات السياسية بالتعبير عن آرائها عبر الصحافة والاداعة والتلفزيون، هذا الحق سوف تدافع عنه المجالس العمالية دفاع المستميت. أمّا التسليح العام للجماهير الكادحة وإلغاء الجيش الدائم وأجهزة القمع، وانتخاب القضاة، والعلنية التامة لكل المحاكمات، فسوف تكون الضمانة الأقوى للحيلولة دون تمكن أي أقلية من ادعاء حق استبعاد أي مجموعة من المواطنين الكادحين من ممارسة الحريات الديموقراطية.

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.