يوميات حسين الاعظمي (1402)

المقام العراقي رواية العراقيين -8

من كتاب (المقام العراقي في مئة عام)

تحت عنوان داخلي مركزي

المقام العراقي رواية العراقيين -8

 ظروف النصف الاول من ق 20

      ان الغناسيقى العراقية بصورة عامة، في حقبة التحول وما بعدها. تبين هنا بدقة كبيرة كيف ان حدث، بل احداث عاشها العراقيون. احداث على اختلاف قربها النفسي والعاطفي والفكري. سقوط استعمار قديم ليحل محله استعمار جديد. ذهب العثمانيون، جاء الانكليز..!! دخل الانكليز الى العراق عام 1917 بعد الضحايا الكبيرة والكثيرة من آبائنا واجدادنا في(السفر بر) خلال الحرب العالمية الاولى(1914-1918) ثم تاتي بعد ذلك ثورة العشرين ثم المعاهدات الانكليزية المزيفة والكاذبة دوما وانتفاضة(1932) ثم ثورة مايس 1941 حتى ثورة 1958. واحداث اخرى عربية كان تاثيرها  قويا لدى العراقيين خاصة ماسأة اغتصاب فلسطين من قبل الصهاينة. وتلت ذلك ثورات الاستقلال في البلدان العربية. وعلى الصعيد الدولي كانت الحربين الكونيتين الاولى والثانية(1939- 1945) اللتان هزتا العالم اجمع..! وكان من الطبيعي ان يصحب هذه الاحداث المادية والشعورية والفكرية والسياسية، تغيُّرات وتطوُّرات عديدة في التعبير عن هذه الحقبة وظروفها الكبيرة وتاثيراتها الذوقية والجمالية والفكرية. حيث اظهرت الغناسيقى، ان احداث كهذه تتحول الى ما هو اكثر اثارة من الناحية الفنية في حالة نموِّها في بيئة ثقافية تربوية. ان هذا المفهوم المتعلق بنمو التعابير الغناسيقية بصورة عامة، هو حصيلة هذه الاجداث المأساوية. وقد سبق ان اشرتُ الى ان محمد القبانجي وتابعي طريقته الادائية. قد بين في غنائه المقامي وفحوى طريقته الغنائية بوضوح ووعي بأن تصويره للتراث المقامي ومن خلال هذه الاحداث. يرمز الى عصر جديد..! حتى بالمقارنة مع المغنين الكبار الذين سبقوه مثل احمد الزيدان ورشيد القندرجي. فقد كان القبانجي يتوقد حماسة لكل جديد. وكان نشطا يتتبع كل الظواهر الجديدة في الحياة وفي الغناء والموسيقى بانتباه وتفهم.

       في حقبة التحول، لم يكن المغنون المعاصرون لها على مستوى واحد من التعبير في غنائهم المقامي. فقد كانت معالجاتهم متفاوتة في تاثيراتها الذوقية والجمالية والثقافية نسبة لتوجهاتهم في هذه الصدد. وهم على العموم متنوعين في هذا المجال. فمنهم من اتباع الطريقة الرشيدية(القندرجية) ومنهم من اتباع الطريقة القبانجية ومنهم من استقى اسلوبه من الطريقتين او طرق اخرى(هامش1) ومنهم من كان مستقلا باسلوب خاص من الغنـــــاء استقاه من جملة اختلافات الطرق والاساليب في هذه الحقبة.

       ان الموقع الفريد الذي تحتله النتاجات المقامية في هذه الحقبة(حقبة التحول) في الغناء المقامي حسب المفهوم التاريخي التراثي في العراق. ليس مردها استعراض للحياة او تواصلاً معها بصورة طبيعية فحسب. بل انها ساهمت في معالجة مشاكل المجتمع النفسية والاجتماعية والعاطفية وعبَّرت عن حقائق الحقب الزمنية التي مرّت على بلدنا العراق بمختلف ظروفه. فهي بصورة عامة لم تكن تعبِّر بمجموعها عن تجارب شخصية وذاتية صرفة. ولكنها عبَّرت عن الحالتين الفردية والجماعية لمجموع ابناء الشعب. وعند سماعنا لنتاجات هذه الحقبة، ندرك ان الخط المهيمن في اداء مغنوا هذه الحقبة وبنظرة شاملة. كان خط التمسك الصرف بالشكل والمضمون المقامي التاريخي، أي بالمضمون المقامي المحلي الواضح في تعابير كل مغني هذه الحقبة الزمنية. وعليه فهم آخر المتمسكين بالمحلية الصرفة في غنائهم المقامي..! حتى ظهور محمد القبانجي الذي خرج عن هذه التقليدية وأدخل جُملاً غنائية جديدة اساسها تأثره بغناء وموسيقى البلدان حواليه رغم انه عرقها. أي انه اقتبس هذه الجُمل كشكل فقط ثم غناها باسلوبه المقامي العراقي واعطاها مضمونا تعبيريا عراقيا..! ونستطيع هنا ان نؤشر بعض من هذه المقامات التي ادخل فيها القبانجي شيئا من تطلعاته هذه وابرزها مقام الرست الذي يغني فيه قصيدة مخمّسة وهذا مطلعها.

(بوصال اليك هل من وصـول/ لك اشكو ما شفني من نحول) 

(خنت عهدي حفظاً لعهد عذول/ بابي انت مـن خليل ملـول)

             (لم يدم عهده اذا الظـــل دامـا) 

وكذلك نلاحظ هذا المنحى في مقام الاورفة بمطلع القصيدة.

(كـف المـلام فمـا يفيـد ملامي/ الـداء دائي والسقام سقامـي)

       حتى اثّرت هذه المحاولات بالكثير من اتباعه المغنين الذين حاولوا السير في هذا المنحى التجديدي وهذا الاتجاه الذوقي والجمالي والفكري الذي نما من خلال اعماله المقامية التي سجلها في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين..! وبذلك يكون القبانجي اول الخارجين عن طوق المحلية الصارم والتقليدية البحتة في المضمون الادائي للمقامات العراقية..! فقد حرّر نفسه في تطوره اللاحق ونتاجاته الادائية المقامية اللاحقة التي امست على مستوى اعلى الى درجة كبيرة. وذلك من حيث الاتجاه الجمالي وكذلك في مستوى هذه النتاجات الفني. ولاسيما في تسجيله للمقامات العراقية التي استحدثها..! كمقام الكرد ومقام النهاوند ومقام القطر ومقام الحجازكار ومقام الهمايون بمطلع القصيدة  للشاعر عبد الغفار الاخرس.

(طهر فؤادك بالراحات تطهيـــرا/ ودم على نهبــك اللذات مسرورا) 

        اضافة الى الروح الجديدة التي اعطاها للمقامات العراقية التقليدية التي سجّلها كمقام الابراهيمي ومقام السيكاه ومقام الحجازديوان ومقام البهيرزاوي ومقام الاورفة ومقام الخنبات ومقام البيات بمطلع القصيدة. 

(وداع دعاني والثريا كانــــها/ قلائد قد علقن خلــــف فتيق) 

           فهو في هذه النتاجات لم يكن عاجزا عن ان يرث أي شيء مقامي له اهميته الجمالية من اسلافه المغنين. ولكن نتاجات محمد القبانجي في هذه الحقبة باكملها، تنطلق من المنحى الجديد الذي سارت به الحياة بكل تطوراتها وتغيراتها وتحولاتها ومنعطفاتها الجمالية. فكان المعبر الاصدق عن حقبته.

والى حلقة اخرى ان شاء الله.

هوامش

1 – كتاب لي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت اسميته (المقام العراقي بين طريقتين) عام 2011  يتحدث عن بعض المغنين الذين تاثروا بالطريقتين البارزتين القندرجية والقبانجية والطرق الاخرى (الباحث). 

صورة واحدة / ارسلها لي مشكورا اخي وصديقي العزيز التشكيلي وليد نايف محمد مشكوراً الجالس في وسط الصورة. تظهر فيها مجموعة من زملائنا اعضاء الفرقة الموسيقية التي رافقت فناننا الكبير كاظم الساهر لاقامة بعض الحفلات في تونس. وصادف وجودي في نفس الفندق (فندق المشتل) عندما كنت مدعوا ضمن لجنة تحكيم مهرجان الاغنية العربية للشباب (المايك الذهبي). آب 1994.