كـتـاب ألموقع
• فاطمة العراقية وثقافة المبادرة
د. هاشم عبود الموسوي
فاطمة العراقية وثقافة المبادرة
تُعتبر ثقافة المبادرة ركيزة من ركائز الاقتصاد المعاصر، فلا يُمكن للقوانين وحدها ولا للتمويل وحده أن يُشجّع الناس على المبادرة بخلق فرص عمل ما لم تكن هناك ثقافة داعمة للمبادرة وراعية لها يتم تأسيسها في مكونات النظام التعليمي وأساليب التنشئة الاجتماعية ووسائط الإعلام، بالإضافة إلى خلق نماذج لمشاريع صغرى وابتكارات تقنية يتم احتضانها ورعايتها لتكوين نماذج ناجحة يقتدى بها.
ومن النساء اللواتي أُعجبتُ باندفاعهنّ للتضحية ونكران الذات وثقتها العالية الإيجابية هي السيدة "فاطمة العراقية"، أرملة عراقية، مناضلة أشعر وأنا أقرأ مواضيعها التي تكتبها على صفحات المواقع الالكترونية بصدق وحرارة مشاعرها تجاه وطنها، وعندما تُعلّق على كتابات الكثير من المثقفين والعلماء العراقيين خارج الوطن، فهي تطلب وتتوسل إليهم كي يعودوا إلى بلادهم فهو بحاجة إليهم.. وأخيراً كتبت إليّ تطلب مني أن أُرسل لها دراسة سبق وأن نشرتُها في موقع مركز النور بعنوان: "نحو استراتيجية شاملة لحماية البيئة في المدن العراقية"، ولم ينفتح لديها الملف، فحاولت الاستعانة بي، وبعد أن أوضحت لي بأنها بدأت بفعالية جديدة (مُبادرة مباركة) قامت بها مع مجموعة من الخيّرين (حملة وطنية لزراعة الأشجار)، ويأملون أن تمتد جهودهم حتى تغطي مسافات الطرق بين المدن.
وأنا أنحني إجلالاً أمام هذا الإصرار على العطاء، وأتمنى من الرجال والنساء أن يحذوا حذو هذه المرأة الأصيلة، بقليلٍ من الحب والشهامة والنخوة، وليس بغير ذلك، يُمكن أن نُحافظ على وطنٍ اسمه "العراق".
وعندما نعود إلى ثقافة المبادرة.. فنستطيع أن نقول بأن الثقافة بمفهومها الشمولي التشبيكي الواسع هي نمط معيشة الناس والإطار المرجعي التفعيلي لكل مظاهر السلوك، وتأتي مقاربة مسألة الثقافة عموماً وثقافة المبادرة في سياق التعريف الذي وضعه تايلور من أنها تُمثّل هذا الكل المركب من العادات والتقاليد والأعراف والقيم والمواقف والاتجاهات والآداب والفنون، وكل ما صنعته وتصنعه يد الإنسان وعقله بصفته كائناً اجتماعياً، وتتسع آليات العلاقة بين الثقافة والمبادرة لتشمل ثنائية افتراضية تؤكد أن الثقافة هي المحدد الرئيسي لنمط النشاط البشري سواء أكان هذا النشاط اقتصادياً أم اجتماعياً أم سياسياً أم غيره.
إن الثقافة الداعمة للإتكالية تدفع دوماً في اتجاه التهميش والتغييب الاجتماعي وتحويل الإنسان إلى متلقٍ تعوزه إمكاناته عن المبادرة والاعتماد على الذات، وتختصره تنشئته في حدوده الكمية الجسدية حتى يصير مقتنعاً ومستسلماً، وبهذا يحاصر الإنسان ذاتياً ويتماهى بوضعية المتلقي بل ويصير سجيناً لها، وهو في الغالب أكثر هشاشة اجتماعياً.
وفي المقابل تكون الثقافة الداعمة للمبادرة والمشاركة والاعتماد على الذات في اتجاه التمكين لا التسكين وخلق فرص العمل بدل البحث عنها والعطاء بدل الاستعطاء، وذلك على حد قول فرانسيس فوكوياما في كتابه "الثقة" الذي يرى أنه لا يمكن أن يُقام بناء اجتماعي مستقر ومؤسسات اجتماعية فاعلة باستدامة دونما اعتبار للعادات الإيجابية والتقاليد والأخلاق النابذة للتواكل والداعمة للمبادرة، ولا يُمكن صوغ ذلك إلا من خلال عملٍ واعٍ يُعزّز البعد الثقافي المنشود، ويبرز هنتنجتون في كتابه "صدام الحضارات" هذا التوجّه بقوله أن جميع المجتمعات ستضطر إلى توجيه اهتمام أكبر إلى الثقافة الداعمة للمبادرة والعطاء والقادرة على التعامل مع المشكلات في مستواها الذاتي والمحلي وحتى العالمي.
إن عبارة ثقافة المبادرة والعمل تعبير عن مجموعة من الخصائص الذاتية والمجتمعية والعالمية، فالفرد ينضح بما في إناء مجتمعه. وكل إناء بما فيه ينضح، إذ قلما تجد ثقافة المبادرة في معتقدات أفراد مجتمع لا يتوجّه ثقافياً نحو المبادرة فهو إذاً فاقد للشيء غير مُعطٍ له، والعكس في المقابل.
إن بعض المفاهيم الدالة على التوجه (نحو خُلق العمل) التي جسّدها ماكس فيبر في كتابه الأخلاق البروتستانتية لا تُعبّر بدقة عن معنى ودلالة ثقافة المبادرة والمشاركة في صنع الحياة، وهنا يُمكن الإشارة إلى ما قاله فرانسيس فوكوياما عندما أكّد أنه إذا كان المقصود بعبارة "أخلاق العمل" وجود ميلٍ عام لدى السكان في سن النشاط الاقتصادي للنهوض مبكراً في الصباح والعمل لساعات طويلة في مجالات مُضنية جسدياً وفكرياً، فإن ها لا يعني خُلق المبادرة والابتكار والإبداع، فكثير من الشعوب تعمل كثيراً ولساعات أطول ومجهود أكثر لكن عطاءها أقل، شأن ذلك شأن الفلاح الصيني العادي الذي يكدّ أكثر ولساعات أطول مما يفعله العامل المعاصر في خط التجميع في ديترويت، إن ما ينبغي أن يُفهم من ثقافة المبادرة هي تلك المُعطيات التي تُعنى بالموارد البشرية من حيث التمكّن من المعرفة والمقدرة على التعلّم والتعامل بكفاءة مع التقنية والابتكار وخلق فرص العمل.
إن مضامين ثقافة المبادرة كثيرة ومتعددة تبدأ من الاعتزاز بالذات والتمكّن والإرادة والتفكير العقلاني في تسوية المشكلات والانشغال بتطوير معطيات الواقع من خلال الابتكار والعمل والاستعداد للمجازفة وغيرها.
إن تحقيق ثقافة المبادرة كرافد من روافد تنمية الموارد البشرية ليس وصفة جاهزة ولا هي حزمة تدريبية مقطوعة الصلة بالواقع المعاش، إنها تعبير عن منظومة متشابكة ومتداخلة تنتظم من خلالها فعاليات الأسرة والتعليم والإعلام والدين وغيرها، لتكون إطاراً مرجعياً يواكب حياة الإنسان وليداً وكهلاً.
كما أن الاكتفاء بانتقاد المعطيات الثقافية المتخلفة والداعمة للتواكل والاعتماد والمبالغة في الحمائية ليست إلا مرحلة تقود إلى مراحل إجرائية تنطلق في مسارات محددة يتم بمقتضاها غرس ثقافة المبادرة والعمل المنتج في سيرورة مسيرة المجتمع، وفي فعاليات التعليم والدين والتنشئة والإعلام.
ويتأكد التوجه نحو ثقافة المبادرة من خلال العديد من المرجعيات ذات العلاقة والتي ترسخ من خلالها حقيقة الدور الإيجابي المهم لهذه الثقافة في خلق فرص العمل والتصدي لظاهرة البطالة بمختلف أشكالها والتوجه نحو المبادرين لمشروعات صغرى واحتضانهم من خلال برامج حاضنات الأعمال والمشروعات الصغرى، وحاضنات الابتكار التقني.
ويتوجه المجتمع الدولي عموماً إلى الأخذ بيد المبادرين بمشروعات وكسر حاجز الخوف والرهبة من المبادرة والإقدام الواثق نحو بدء وتأسيس المشروع واستدامته، إنها توسيع الخيارات أمام الناس وزيادة مقدرتهم التنافسية.
والحديث حول هذا الموضوع لا يُعد متكاملاً إلا إذا تضافرت جهود الخيرين وتناولوه من زوايا شتى.
المراجع:
* فرانسيس فوكوياما (1998)، الثقة: الفضائل الاجتماعية وتحقيق الازدهار، ترجمة مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية.
* رونالد روبرتسون (1998)، العولمة: النظرية الاجتماعية والثقافية الكونية، ترجمة أحمد محمود، المجلس الأعلى للثقافة، جمهورية مصر العربية.
* أ.د. رمضان السنوسي، وأ.د. عبد السلام بشير الدويبي، (2003)، حاضنات الأعمال والمشروعات الصغرى، المركز العربي لتنمية الموارد البشرية.
* مايكل مندرسون (2000)، ثقافة العولمة، ترجمة عبد الوهاب علوي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.
المتواجون الان
817 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع