اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

• معلم في القرية/ 9 : من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

ألناشر محمد علي الشبيبي

 

 معلم في القرية/ 9 :

              من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)

 

ليلة مع الغناء الريفي

ليلة ليلاء قضيتها البارحة [ليست هذه الليلة ثانية للليلة التي شرحت فيها هواجس "ساعة سأم" ولم أر ضرورة لتأريخ ليالي، عدا الأحداث الهامة]. ليلة من الغناء الريفي يشجي ويطرب، يفرح ويبكي، يشيع البهجة في النفس، ويثير الأسى في القلب. يهز ويدفع إلى الرقص والمرح أو يسيل الدمع بصمت.

دعاني شاب نجفي من التجار، وهو ضيف عند ملاك قروي، لقضاء سهرة طيبة. هناك عند الغروب، وبين النخيل ترى سطوة مهيبة، حيث تبدو أشباح النخيل في هذا الظلام الحالك مخيفة، يهاب السير فيها حتى القروي نفسه، ولا يقطعها إلا لص يبحث عن رزقه بين سواعد الموت! أو فتى شجاع ينشد المتع واللذات، أو لأداء رسالة عاجلة دعت إليها ضرورة وإلا فإن سرى الليل عندهم للصيف في أكثر الأحيان.

بظهر المضيف فرشت الطنافس العربية. وصفت المساند، جلسنا وعن يميننا وشمالنا كبير الأسرة المضيفة. وأبناء الحي متحلقون في جلسة منتظمة متراصون تراصاً مزدحماً، وعلى وجوههم يطفح البشر والسرور، ولا تكف ألسنتهم تتبادل رمي النكات والطرف، فهي مسرة مضحكة طوراء تسري بين ذلك الجمع سريان النشوة البليلة، فتنعش الكدِر، وتهز المرح الطروب. وهي وخز موجع طورا آخر، لما تنطوي عليه من إشارات وتلميحات يفهمها الذي توجه إليه، آو يعرّض به.

وكثيراً ما تتضمن تلك النكات أمثالاً رائعة، تضاهي في بلاغتها الأمثال والحكم في الفصحى. أما بعضها فمأخوذ من الفصحى بلا شك. وبعضها في قالب شعري آخاذ.

تحرش أحدهم برفيق له، يقابله في المجلس.

- عبد الحسن، يا عبد الحسن. الماينوش العنگود يگول ...

أكمل المخاطبْ المثل:– حامض! وأردف خايب آني مثل البعير محمل ذهب وياكل عاگول!

وتنحنح ثالث وهو يغمز بعينه إلى أحدهما.

- الما يعرف تدابيره، حنطته تاكل شعيره

فرد الأول:- آني أبوك يا فليح، أراويك انشا الله

فقال الثالث:- أي والنعم، ليش لا

فسوة عجلنه طيرّت جل البوه               غاد من أهلنه ممشه سبع سوگات [هذه الكلمة "سوگة" يستعملها "المكارون/ الواحد مكاري" لقياس مراحل الطريق في أسفارهم]. فضحك السامعون وتهامسوا.

وأقبل كهل تبدو على وجهه سيماء الظرف والفكاهة. فهتف به بعضهم.

- اهنا ابن عفلوك! اهنا.

- لا خويه. آني زعلان. خليني.

أجابه الذي دعاه بلهجة ساخر.

- زعل العصفور على بيدر الدخن زاد دغار.

فقال آخر:- ابن عفلوك آني مستعد اصالحكم.

اجاب ابن عفلوك: لا خويه، احنه زعلنه وصلحنه ما ندخل بيه احد!

فامتعض المتدخل وقال:

- أنت أعرف بصاحبك، حرامي الهوش يعرف حرامي الدواب.

وتدخل رابع وقال:- ابن عفلوك ..... آنه دواك؟!

فضحك ابن عفلوك ضحكة ساخرة طويلة. وقال:

- العصفور گال للنخلة، الزمي نفسك اريد أطير!؟

على مثل هذه المناوشات بين الجالسين مضى وقت ليس بالقصير. أعلن في نهايته، عن حضور العشاء. ومدت المائدة "السفرة وهي مصنوعة من سعف النخيل" على طول المجلس. كان عشاء فاخراً في جودة طبخه، وتعدد ألوانه. والقرويون يبذرون في ولائمهم تبذيراً لا يوصف. فلأجل ضيف واحد تُعد مائدة تكفي العشرات.

وبعد أن تم إعداد الطعام، نهض المُضيّف. وصاح بلهجة مؤدبة:

- تفضل سيد ماجد .... تفضل استاذ. [السيد ماجد السيد جلوي من تجار الحبوب في النجف، والقرويون لا يقدمون أحد على السيد لأنه من أبناء الرسول]

ثم إلى بعض الوجهاء من الحاضرين، دعاهم بأسمائهم. وسكت عندما أخذ الذين دعاهم مكانهم الذي عينه هو. ولزم الباقين الصمت إلا همساً.

اكتفيت من الأكل قبل غيري، ولم أرفع يدي [في معظم عشائر الفرات تسود هذه العادة. فلو اكتفى أحدهم من الزاد يتظاهر كأنه يأكل حتى يكتفي الآخرون]، كيلا يرفع الآخرون أيديهم. وحين نهضنا من المائدة. نادى المضيف بأسماء الآخرين، هُم دون الوجبة الأولى في المكانة، والوجبة الثالثة خليط من كبار وصغار.

وبعد استراحة وجيزة، قال:

-         يالله يا جماعة للربعة [الربعة دكة مسطحة للجلوس في أيام الصيف عصراً أو ليلاً، وتكون أمام المضيف أو المكان المعد لهذه المناسبة]

نهضنا وتقدمنا هو، وصلنا إلى مكان قد أعد وأضيء بمصابيح "لوكس الكتريك" يلفظوها هم "علنتريك". في جهة من المجلس أنتظم نخبة من شبابهم، وتهيأوا للغناء، ومعهم آلة الطرب الوحيدة، المعروفة عندهم "خِشِبَه". وصاح المضَيِّف بأحدهم مشيراً إليه بيده:

- يا الله...

تنحنح صاحبنا، وابتلع ريقه، ودار نظراته بين رفاقه مبتسماً. بدأ الصوت أول الأمر خفيضاً، وتعالى تدريجاً بهذا البيت من الأبوذية:

انا أذكـركم ودمع العــين ياهل             وبيّه ما دريتوا اشصار ياهل

صرت عصفور جني بيد ياهل             اهو يلعب وحر المــوت بيه

وهذا مأخوذ عن البيت المنسوب لمجنون ليلى:

كعصفورة في كف طفل يهينها             تقاسي اليم الموت والطفل يلعب

وغنى ثان وثالث. كتبتها عنه عند انتهاء الحفل.

كان الجمع المحيط به يتمايلون، كأنهم السنابل يحركها نسيم هادئ، وعيونهم تلمع ببريق ينم عن تأثرهم البليغ بصوته الساحر، وما تجسده من الأبيات من معاني شعر هي صدى أحاسيسهم وعواطفهم.

وضرب أحدهم بأصابعه "أصبعتين" فصدح الجميع بأغنية عذبة، تمازجها هزات الرقاب والأكتاف، وتمايلوا يميناً وشمالاً تمايلاً منسجماً مع لحن الأغنية، تلاحقه العين مرغمة، وتتركز عليه النفس غافلة عن كل شيء سواه.

وهب أحد الحاضرين فوسعوا المجال، وأندفع يرقص. فزاد هياج المغنين يضربون بأصابعهم، ويدبكون برجل ممددة، ويهزون رقابهم وأكتافهم. ويصفقون بأيديهم، تصفيقاً ذا لحن ينسجم مع لحن الأغنية. وراح صوت "الخِشِبَه" يلعلع في أرجاء البستان، صاعداً هابطاً، متتالياً متقطعاً.

وبعد ردح من الوقت عاد صاحبنا ثانية إلى أغنية حزينة [كانت من أغاني خضير حسن الناصري ولازمتها "حيل وياي"] لم يجاره فيها أحد، ولا واكبها رقص، أنغمر بها فهو يميل، ويميل معه الجميع بأجسادهم، كأنهم شدوا إلى وتر واحد. فلا تسمع إلا الزفرات تتصاعد، وآهات ترتفع، كان صوته يتماوج، ويداه تتحركان حركات الناعي الحزين.

الأغاني الريفية جميلة رائعة بأنغامها، سامية بمعانيها، لأنها ليست من محترفين، لكن ألحانها بسيطة. كما إنها لا تؤلف وحدة منسجمة، لا في الوزن الشعري، ولا القافية، ولا المغزى. فترى المغني الريفي، بينما يتغزل في بيت، إذا به يهجو في آخر، وفي ثالث يعتب ويتوجع، وفي رابع يرسل الدمع ويتذلل أو يمدح أو يرثي. يأتي تارة بالضمير مذكراً وأخرى مؤنثاً بنفس الأغنية.

وهم لا يستنكرون الغناء، ولا يرون تحريمه [أجمع فقهاء الشيعة على حرمة الغناء، وهم يفسرون الآية "واجتنبوا قول الزور" إن المقصود بقول الزور هو الغناء. وهذا تكلف!] الريفيون يقولون "راس المابيه كيف گصه وذبه". والكل يرقصون –في المناسبات- رقصات ريفية، عدا فئة بحكم مكانتها الاجتماعية. وعلى الأكثر لا تمتنع عن حضور حفلات الرقص في الأفراح كالأعراس والختان.

بعد فترة من الغناء والرقص، هتف مضيفنا بولده:

- كاظم ولك گوم تونس ونس خطارك؟

نهض كاظم متردداً حياء مني. وصحت به أمنعه فما ينبغي أن أوافق، وهو تلميذي، فأستغرب الآخرون فقال أحدهم:

أستاد انتو هنا خطار، مالك حق، هذا المكان ماهو مدرسة؟!

وفي احد فترات الاستراحة، قام أحدهم بما يضحك الحاضرين، فقد أحضر جملة ضفادع حية، شدها من الأرجل بخيط على هيأة قلادة، وغمز بعينيه إلى أثنين سرعان ما أنقضا على الجزار "بوده" فوضع الأول القلادة في عنقه. وقف المسكين وهو يصرخ مستنجداً بالحاضرين، وقد جحظت عيناه، وتقززت جلدة وجهه، يستغيث –وهم يضحكون- كلما قفز ضفدع ومس وجهه صرخ وتقيأ. ولكن الجميع يشتدون بالضحك والسخرية به، وأخيراً نهض الملاح "أبو طابق" وصاح به:

- خايب اشصار، تلعب روحك من عگروگ، دجيب؟

نزع القلادة من عنق "بودة" والتقم ضفدعاً منها وضم عليه شفتيه، ثم أخرجه وقضم يده، وراح يلوكها كما يلوك الكندر؟! هنا أبدى الجميع اشمئزازا واستنكارا. أبو طابق، ملاح تجاوز سنه المئة –كما قال- أخذ يحدثنا بالمناسبة عن أغرب فعلة له.

كان يشتغل بالسفن بين البصرة والكوفة. أحيانا تكون حمولته جنائز إلى النجف [كانت الجنائز تدفن موقتا في أماكنها ويسمونها وديعة، ثم يخرجونها بعد ستة أشهر متيبسة ويرسلونها إلى النجف لتدفن بأرضها احتماء بالإمام علي. وأغلب علماء الشيعة يرفضون نقل الجنائز. وبعضهم يحتاط، فيقول: لا يجوز إذا حدث التفسخ. ثم صارت كأنها أمر طبيعي لما تدره من الأرباح على الكثير من عوائل النجف]. وتعشى ركاب السفينة، وناموا دون أن يدعوا "نوخذتهم" أبا طابق للعشاء معهم. حمل أبو طابق في صدره عليهم الغيظ. فلما غطوا في نومهم، تناول كيساً كان معلقاً  على –الشيال- وراح يأكل منه. فلما استيقظوا في الصباح عاتبهم أبو طابق:

- خايبين لا گلتو نوخذتنه، أكلتوا وتزقنبتوا وحدكم. تراني گمت وفلت الجيس واكلت على كيفي؟! الا شدعوة مخلينله هاكثر ملح؟

وصاح به أحدهم ولك أبو طابك، أكلت أبوي!

أما أبو طابق فرد عليه:- آنه ادري به أبوك.

كان أبو طابق يقص حكايته، والسامعون يتأففون، ويبدون الاشمئزاز. لكن صاحبنا المغني أنقذنا فغنى ولعلعت –الخشبه- تصاحبه. وعاد الجمع ينسجم بنشوة الطرب والشباب، وحرقة البؤس والفراغ.

 

الغناء في الريف

أتحدث عن الغناء في الريف. أتحدث ببساطة. لا حديث باحث متتبع. لا أستطيع ذلك. بسبب ما يكتنف حياتنا من أمور تستدعي الحذر. فالسلطة تخاف وتكره اتصال المثقفين بالفلاحين، وهي تعتبر بالطبع جميع المعلمين مثقفين! بينما تلعب الطائفية دوراً قذراً في علاقات المعلمين ببعضهم مضافاً إلى جهل الفلاحين، وسيطرة العقلية القبلية في علاقاتهم، التي كثيراً ما تستخدم ضد مصالحهم، وفي زيادة ثقل قيودهم. لهذا يصعب عليّ أن أتنقل لجمع المعلومات النافعة عن مسألة الغناء الريفي والشعر. مضافاً إلى هذا كله ما يتطلبه من وقت ومال.

للريفيين تقاليد، ولهم مطامح. وكثيراً ما تصطدم تقاليدهم مع مطامحهم. وعلى الرغم من أن تقاليدهم أيضاً تتعارض مع بعض التعاليم الدينية، فإنهم يسبغون على التعاليم الدينية مسحة من التقاليد. تماماً كما صنع العرب الأولون، كانوا يحولون الأشهر الحرم حين يضطرون إلى ذلك، فيقدمون شهر ويؤخرون شهراً.

غناؤهم دائماً لا يعتمد القصيدة الكاملة إلا نادراً، ونادراً جداً. الأغنية تعتمد الأبيات المتفرقة، ذات المضامين المتعددة، وكثيراً ما يكون أصحابها مجهولين. وتردد في أكثر من لحن. البيت الواحد يغنى في عدة ألحان من ألحانهم. وألحانهم كما هو معلوم بسيطة، بساطة الآلات الموسيقية التي يستعملونها. والشائع منها لديهم بكثرة ما يشبه "الناي" وتسمى عندهم "شبابه" والمطبـﮓ والخشبه. وهم يجيدون استعمالها أجادة تامة ولكن بدون أبداع وابتكار. [هذه الآلة "الناي" لا تعرف عندهم بهذا الاسم. منهم من يسميها "شبابه" ومنهم من يسميها "ني" وهي عندهم من قصبة طويلة بالنسبة للمطبـﮓ ومثقوبة عدة ثقوب تشبه تماما الناي المصنوع من الخشب. أما المطبـﮓ فمن قصبتين أدق من الناي ملتصقتان ببعضهما بشيء من القار. أما الخشبه فمصنوعة من الفخار وعلى فوهتها جلد مرقق مثبت بدقة، تشبه الطبلة]

كثير من الأساطير التي نعرفها بالتراث موجودة لديهم. ولكنهم يسبغون عليها شيئا من تقاليدهم وعاداتهم، حتى كأنها حدثت في محيطهم.

أخذ بعضهم يتحدث في الديوان عن مجنون ليلى:- "التقى بحبيبته ليلى، وعدته إنها ستعود إليه، بعد قليل. وظل حيث هو ينتظر عودتها. لم يشعر بالجوع والعطش، لم يشعر بأي شيء. ومرت الأيام، وهو لم يبرح مكانه، ومات حيث هو. متكأ على جدار من طين، من بيت مهجور. وغطاه العشب وهو هيكل متيبس!

مثلك بلغ مجنون من واعِدَنّه                العشب باني عليه ويابس لگنه!

وهم شغوفون بالحديث عن حب عنتر لعبلة وبطولته، يذكرونها وكأنها لأحد أبناء قبيلتهم، ولم تسلم منهم أسطورة "بئر ذات العلم" ومملكة الجن التي حاربهم فيها الأمام علي.

ويصوغون عن"حاتم الطائي" وكرمه، مالا تعرف عنه في التراث. وبعض ما يغنى من شعرهم، منقولة معانيه من القصص الدينية.

مثل آدم اغتريت وعنه اطلعــــوني                  گالولي اكل من هاي هم وهدنوني

هم ابني واتعب بيه وهم امشي عنه                 صرت ابن شــداد من بنه الـــجنه

وبعضها يبدو لي إنها ترجمة مطابقة لأصل قصيدة من الفصيح. هم يرونها ولا يعرفون ناظمها. أما التي هي باللغة الفصحى فمنسوبة لوضاح اليمن. قرأ علي أحدهم هذه القطعة هي في حبيبته "روضة"

هي

لاني بوعــــد وياك                 لا تظن ظنه

وي غادي ابعد ليك                 لَي لا تـدنـه

هو:

لاني بوعــد ويـاج                  لا من رِدَه بيـج

لاﭼن بشهل العين                   نفسي دنت ليـج

هي:

الخبـــز خبز يهــود                محد يضـوگه

معلمــاتك الشِـــنات                لجل المطوگة

درب المشيته النوب                بالك تـــــمره

وَرْوَرْ تِركِ ويثـــور                معتلگ شَــرّه

هو:

گمنه وبنينه السور        بنيـــــــان تمـكيـن

بيه اثنعش طابـور        من صوجر وﭼين

هي:

درب المشيته انوب                 عمده ارد امر بيه

شَـعْتِذر عند النـاس                 لـو ردت اخـــليه

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.