كـتـاب ألموقع
محطات ما بين آذار ونيسان عام 1979// أمير أمين
- المجموعة: أمير أمين
- تم إنشاءه بتاريخ السبت, 31 آذار/مارس 2018 07:01
- كتب بواسطة: أمير أمين
- الزيارات: 2572
محطات ما بين آذار ونيسان عام 1979
أمير أمين
في بداية عام 1979 إشتدت الحملة المسعورة التي قامت بها سلطة البعث المقبور ضد تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي في جميع محافظات العراق ولأن العاصمة كبيرة وفيها كثافة سكانية واسعة فقد التجأ اليها الشيوعيين من عدد من المحافظات وخاصة من جنوب العراق ووسطه هاربين من الملاحقة ولكي لا تطالهم أيادي أزلام الأمن والمخابرات والأجهزة القمعية الأخرى, لكن الأجهزة ما لبثت أن علمت بالأمر حتى صارت تلاحقهم بسيارات اللاندروفر البيضاء وتحاول القبض عليهم في شوارع بغداد....
كان يوم 23 آذار من تلك السنة يوم حزين حيث إستطعت التسلل فجراً الى گراج الشطرة والتوجه الى بغداد حاملاً معي بطاقة طلابية تشير الى كوني في الصف السادس الاعدادي وهي نفس بطاقة هويتي السابقة والتي تحمل صورتي وإسمي لكني قمت بتغيير السنة الدراسية فقط وصارت صالحة للاستخدام ولا تشك بها أية سيطرة فكنت أتجول فيها بحرية بينما في الواقع كنت جندي مكلف وهارب تواً من الجيش.! وزيادة في التمويه أطلت شعر رأسي وغيرت بعض من هندامي ..كنت قد زرت العاصمة لبعض الوقت وبفترات متباعدة فلم أتعرف عليها بشكل جيد لكن مع مرور الأيام والاسابيع صرت أعرف بعض ملامحها الجميلة وقمت بالتردد على بيتين لرفاقنا الشيوعيين أحدهم كان في الإسكان والآخر في الثورة بالإضافة الى غرفة صغيرة كان قد إستأجرها أخي الأكبر وبعض من رفاقه ..زرته أكثر من مرة وهي تقع في محلة الحيدرخانة في بيت قديم وكانوا مختفين فيها عن أنظار الأجهزة القمعية لحين توفير فرصة لهروبهم خارج العراق.. رتبت لي صلة بالشهيد أبو رؤوف لكي أتواصل مع رفاقي وأتعرف من خلالهم عن وجهة عمل الحزب اللاحقة ..لأن التنظيمات تم قطع صلاتها بضربات شديدة القوة والاتساع وتمزقت بعض الخيوط التنظيمية وإرتبكت بعض الصلات وبقيت على صلتي به لحين غادر الى خارج العراق ...كانت السماء ملبدة بغيوم سوداء .حزن وقلق على مصير الحزب والشعب بشكل عام وحزن على حياة الرفاق وخاصة من الذين يساقون الى السجون والمعتقلات ومنها سجن الأمن العامة وغيره.. صرنا نتابع الاخبار المتعلقة بمصير كل واحد منّا.. للأسف لم يكن انسحابنا منظماً على الرغم من وجود لجنة العمل التنظيمي في بغداد والتي تقوم بلملمة الخيوط المنقطعة وربطها بصلات وقتية للمحافظة عليها حتى تكون قريبة من قرارات الحزب وتوجيهاته بشكل عام وكان الشهيد أبو كريّم سكرتير محلية الناصرية يقوم بترتيب عدد من هذه الصلات بحكم عمله قريباً مع من تبقى من رفاق القيادة وهم قلّة للأسف حيث أن السكرتير الراحل عزيز محمد وآخرين كانوا السبّاقين للخروج من الداخل والنجاة بأنفسهم بينما ترك آلاف الشيوعيين ومعهم عبارة ..دبّر نفسك يا رفيق!!
في أحد الأيام زرت أخي في غرفته الصغيرة تلك وشاهدت عنده الشهيد أبو كريّم وكان يتحدث بألم عن أحد الرفاق الذي فهمت أنه عمل مقلباً مع رفاق الحزب وعرّض حياتهم للخطر ..! التفت نحوي الشهيد أبو كريّم وأمام الآخرين قال لي ..رفيق... إذا شاهدت الرفيق سين إبلغه أنه مطرود من الحزب لخيانته لحزبه ورفاقه.. !! وشرح لي بعض الأمور حول هذا القرار الحزبي... ودعتهم ومرت الأيام والأشهر والسنوات ولحد الآن لا أتذكر بأني التقيت بهذا الرفيق المطرود وهل بلغته بالقرار أم لا..! لكني تفاجئت بإمتشاقه لسلاح الحزب وبعمله ضمن فصائل الأنصار الشيوعيين! هناك أيضاً لم أتذكر هل بلّغته بالقرار ..حيث أن مكانه الجديد ومع رفاقه الأنصار يدل على كونه شيوعي وبهذا يكون الطرد قرار باطل وغير لائق في موقع غير مناسب لمثل هذه العقوبة ...إستمريت التقي بعدد من الرفاق في مقهى الشابندر أو في غيره وأحياناً أتمشى لوحدي منتعلاً شحاطة حيث كنت أفكر لو تمت ملاحقتي فسوف أتركها لهم وأجري مسرعاً في أزقة العاصمة...
ففي إحدى المرات كنت مع عدد من رفاقي نحتسي أكواب الشاي في إحدى المقاهي في الكرخ, كان المقهى يضج بالناس وبأحاديثهم المتنوعة فتكاد الأذن أن لا تلتقط شيئاً مفهوماً وكنّا نستمتع بنكات وأحاديث الشهيد أبو جميل صاحب ناصر الشيقة وكان صوته جهورياً طغى على البقية فكنّا نضحك ونتسامر رغم القلق والأحزان. . وبعد مضي ما يقارب الساعة دخل رجل أمن من الناصرية نعرفه جميعاً وتفحص في وجوهنا ثم عاد مسرعاً من حيث أتى ..! تحركت من مكاني لمعرفة وجهته ولاحظت أنه قصد سيارة الأمن لكي يخبر جماعته للإنقضاض علينا... وفوراً أخبرت الجماعة بالأمر وقفزنا بلحظة من أماكننا ووضع أحد منّا النقود على المنضدة دافعاً الحساب للجميع وهربنا من الباب الخلفي للمقهى ومن دروب الكرخ إنتقلنا للرصافة ومن هناك تفرقنا ولم تهدأ الضحكات والتعليقات الساخرة على النظام وأجهزته القمعية..
وفي إحدى المرات كنت لوحدي أتمشى في حدائق أبو نؤاس والوقت عند الظهيرة حيث أنني فكرت بأن أزلام الأمن لا تعتقد بأن شيوعيا يأتي الى هنا إلاّ إذا كان بطراناً .. كان الجو طيب الى حد ما من خلال الزهور وظلال الأشجار الوارفة..إنطلقت حنجرتي بأغنية شمس الأصيل لكوكب الشرق ..تعالى صوتي لما وصلت ل والناي على الشط غنى والقدود بتميل على هبوب الهوى لما يمر عليل... وفجأةً توقفت وإنقطع صوتي وخجلت من نفسي لما لمحت عشيقين يبدو أنهما من طلبة الجامعات...كانا مختفيين تحت ظلال إحدى الشجيرات في خلوة رومانسية جميلة ...صرخت بي البنت.. الله عليك أكمل ..ثم أردفت القول ..لماذا توقفت أن صوتك جميل والاغنية رائعة , إعتذرت منهما وواصلت السير الى حيث لا أدري ولكني أتممت بقية الاغنية بصوت خفيض..
وفي أحد الأيام قررت الذهاب لمقهى أم كلثوم الشهير للاستمتاع بإحدى أغانيها خاصة وأن فيها شاي طيب زائداً هواء المبردة المنعش في وقت بدأت فيه درجات الحرارة بالارتفاع , وبينما أنا في هذا الجو اللطيف دخل للمقهى ص.. سلّم عليّ بحرارة وجلس جنبي وطلب مني مساعدة مالية ..طبعاً لم أسمع مرة أنه قام بزيارة بغداد أو أن لديه صديق فيها..! كان وجهه مصفراً يعاني من الخوف والارتباك.. قدمت له ديناراً كمساعدة مني لكنه لم يقتنع به وأراد المزيد فأخرجت له كل نقودي المتبقية وهي دينار ونصف فقط فلم يخجل وكان يريدها هي أيضا..! تكلمنا في الأمور السياسية وعرفت أنه قد وقع على صك البراءة من الحزب بعد أن إنهار في التحقيق معه, كان هذا من رفاقي الذين كنت أقودهم في اللجان الطلابية بالمحافظة وكنت أعرف أنه ضعيف وسوف لن يصمد على عكس رفاقي الآخرين ومنهم أحمد والشهيدان علي وصباح.. قام بإستفزازي وكان وقحاً ليس كعادته فكان يسخر بي ويقول ..أنت لا تفهم شيئا من الحزب والماركسية وإذا إعتقلوك فسوف تنهار بسهولة!!.. ثم ضحك بسخرية قائلاً ...سوف ترى أدوات التعذيب معلقة على الحائط وتنهار وتعترف.. ثم اردف قائلاً ..لقد سألوا عنك فلان... وين تروح منهم..! قلت له ..هذا ليس شأنك وأنت إنهاريت فلا علاقة لك بي وبالآخرين.. علماً أنه تهرّب من الإجابة عن سبب زيارته لبغداد..! ثم خرج من المقهى منحرفا لليمين فخرجت خلفه بسرعة منعطفاً نحو اليسار بعد أن دفعت الحساب لمالك المقهى ..ومن حينها لم التقي به إلاّ بعد مرور 34 عاماً في مدينتنا الناصرية.
شهران كانا من أصعب ما يكون حيث إنقطاع الصلة بالأهل وعدم معرفتهم بوضعي وعدم معرفتي بوضع البعض منهم وحزني على إستشهاد عدد من رفاقنا ورفيقاتنا الذين أزهقت أرواحهم بالتعذيب وسقي بعضاً منهم سم الثاليوم القاتل وماتوا بعد أيام قلائل من إطلاق سراحهم ..أخبار مؤلمة تأتي عن رفاق طيبين لكنهم لم يستطيعوا تحمل التعذيب الهمجي فوقعوا على صكوك البراءة من الحزب وآخرين انهاروا ووشوا بأماكن رفاقهم بينما ظل عدد آخر يلفظ أنفاسه الأخيرة في المعتقل ولم يتفوه بكلمة تخص الحزب والرفاق وخضبوا بدمائهم أرض الوطن وصاروا خالدين في قلوب وضمائر رفاقهم للأبد ..تحية لهم وسلام وتحية للحزب الذي أنجب مثل هذه الكوكبة البارة من بنات وأبناء الشعب العراقي... في الشهر الأخير أي الخامس كنت أكثر حذراً وإمتنعت عن التجول في الأماكن المعروفة خاصة وأنني لمحت سيارة أمن الناصرية تسير قرب سينما سميراميس وفيها عدد من الوجوه الكالحة المعروفة لدى أبناء الناصرية وفي يوم 31 أيار إستطعت أن أغادر أرض وطني الحبيب المثخن بالجراح قاصداً بلاد الشام.
المتواجون الان
514 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع