اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

همس القش- الترنيمة العاشرة// سميرة الوردي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

سميرة الوردي

 

همس القش- الترنيمة العاشرة

سميرة الوردي

 

القدّاس

لم تكن تربط (زوجي) بهم أي رابطة لا من بعيدٍ ولا من قريب، إنما الفراغ والبطالة جمعتهم للجلوس على الدكات الكونكريتية، التي أقامتها البلدية قبيل الحرب... وأحاطت بالأشجار لتعطي منظراً متناسقاً وجميلا للشارع، فأصبحت منتجعاً للرجال الهاربين من سعير أخبار الحرب واجترار الماضي... تحليلاتهم أصبحت متنفساً لما يعانوه من كبت الحاضر... محاولين فك أزماتهم السياسية والاقتصادية الخانقة... بعيداً عن أعين السلطة... تخطوا سن الشباب، الشيب والصلع يرسم خطوطه الواضحة على رؤوسهم وذقونهم وفي خطواتهم التي أنهكها طول الانتظار...... تُعرف أسماءُ جدد ... تزداد كؤوس الشاي التي أعدُها لهم كل مساء، فقد استمرأوا الجلوس على المربع الكونكريتي قرب بيتنا ... تزداد أعدادهم كل يوم فأصبح تواجدهم ملفةً لرجال الأمن والمخابرات أو ممن يتطوع برفع التقارير لهم ... تقلصت الأعداد حتى أصبحت جلستهم في مدخل حديقتنا.

 

كان (جون) واحداً منهم... لكنه محسود من أصدقائه... فالكنيسة حلت جزءا من احتياجاته التي أفرزتها الحرب والحصار... بعضهم لا يخفي حسده علنا وبسخريته من الحرب وما جرته على البلاد والعباد... حصته من المؤونة تصله شهرياً من الكنيسة، بالإضافة لما يتسلمه من مواد الحصة التموينية كالتي يتسلموها من الدولة والتي لا تسد أربعين بالمئة من احتياجاتهم... بالرغم من كل هذا فهو يتطلع الى الهجرة هرباً من الحرب وبحثاً عن الحرية وعن مستقبل أفضل له ولعائلته.

 

بمرور الوقت انحسرت العلاقات هذه، بابتعاد البعض خوفاً من عيون الرقباء، واستطاع البعض الهجرة رغم صعوبتها، بحثاً عن ملجئٍ آمن وفرصة عمل تسد الحاجة ... تفرق شملهم وبقي القليل منهم يتزاورون في البيوت خلسة عن الأعين.

 

صار (جون) واحداً منا، فزياراته السريعة وشبه اليومية، وحلم السفر الذي أصاب الجميع قربته لنا، كل أحاديثه المفضلة تدور عن السفر والخلاص، انصبت أحلامه وأمانيه على (أمه) التي هاجرت قبل عشر سنوات ... تجاوز الخمسين من العمر، وله أربع فتيات جميلات حرص عليهن مما يجري من أحداث غير طبيعية في المجتمع، فإفرازات الحرب بدا تأثيرها مما يُروى من أحداث لم تكن تحصل في السابق كاختطاف الفتيات وسرقات وجرائم لم يكن المجتمع يعرفها من قبل، فلم تقتصر الأحداث على استشهاد العديد من خيرة الشباب، وحرمان الجميع من  الضروريات بل امتدت الى قيام بعض الجرائم الأخلاقية بين الحين والآخر مما دفعه لإدخال بناته لمدرسة راهبات بغية الحفاظ عليهن بالرغم من معارضتهن.

 

أعوام تمر، صار اللقاء بـ(جون) ضرورياً فهو يأتينا محملا بأخبار بعضها صادق والبعض الآخر أوهام وأحلام تدور همساً بين الناس... جاءنا صباح أحد الأيام فرحاً كصبي كسب يانصيبا ضخماً، أبلغنا عن قرب انفراج في السياسة الدولية والاقتصادية... سمع أخباراً مؤكدة عبر هاتف من (امه) وأخواته الثلاث المهاجرات، أكدها له صاحب عمله القريب من السلطة ، عن قُرْبِ رفع الحصار عن البلاد وانفراج في الأزمة التي عانى منها الوطن ... يلاطف كلبتنا التي تواصل هز ذيلها جنبه كلما جلس متفيئاً تحت شجرة النارنج ، يوعدها بإطعامها  شكولاتة وعظمة من أول نقود يتسلمها من امه بعد الحصار.

 

في أحد الأيام اصطحب ابنته الوسطى لأول مرة، بالرغم من طول علاقته بنا، لغرض تدريسها لأن أمها لا تستطيع مساعدتها وهو مشغول بعمله، بعد أن درست ابنته ولعبت مع الأولاد مما شجعه الى اصطحابها واصطحاب اختها الصغرى معه والتي أبت الرجوع محاولة البقاء أكثر ... كل أحاديثه خلال السنوات دارت حول الوضع السياسي والاقتصادي وما يستجد في عمله ...

 

حدث مرعب مر به، أُعدم صاحب عمله... وهو شخصية هامة ومؤثرة في حياة البلد، مما جعله في حالة رعب وانتظار خوفاً على حياته وحياة عائلته ... مما زاد همه فلم يطق صدره بسره الذي كبته كل هذه السنوات، فاضت أعصابه به معلناً عن يأسه من تغير أي شيء في حياته التي دمرتها الحرب، فزوجته أصيبت بجنون لم يعرف الأطباء أسبابه، الا أنهم حذروه وخوفوه على بناتها منها، ولم يستطيعوا التوصل ما إذا كان جنونها وراثياً أم نتيجة لتعرضها لهستيريا الحرب الأولى والثانية ، نزلت دموعه رغماً عنه، لم يجد أحرص منا على سره ... صدمنا بمأساته التي الهتنا الحياة عنها وبقدرته على تحمل العناء وحده ...  فهي بحاجة دائمة الى تعاطي دواء غالي الثمن يستنزف الكثير مما يجتمع لديه من عمله وما يأتيه من المهاجرات والكنيسة، لكن حالتها تزداد سوءاً... أوراق سفره تعد له وكل أمله أن يرحل بها لينقذها، لكن وفاة (امه) حطم معنوياته، هي الوحيدة التي تستطيع سحبه من دوامته ومساعدته مساعدة فعلية ... فالقوانين في بلد الغربة يُعطى للأم فقط حق دعوة أبنائها، أخرج منديله وجفف دمعه وعرقه وواصل حديثه عما حدث لزوجته قبل أكثر من عشر سنوات أيام الحرب الأولى:

الظلام دامس وقصف الصواريخ متواصل، كنت في عملي عندما سمعت أن انفجاراً حدث قرب بيتي، رجعت مسرعاً، بصعوبة دخلت البيت، دخان كثيف في المنطقة ملأ البيوت، بحثت عن بناتي وجدتهن فوق فراشهن وقد جمدهن الخوف حتى لم يجبن على ندائي، لم أجد أمهن ظننتها خارج البيت، بقيت أبحث عنها يومين متتاليين، فوجدتها مختبئة تحت سرير قديم في غرفة مهجورة خلف الدار، ومنذ ذلك اليوم وأنا أتنقل بها من طبيب لطبيب.

 

غاب (جون) ولم يأتِ لزيارتنا كعادته، حاولنا الاتصال به في بيته فلم نجده وليس لدينا وسيلة للاتصال غيرها... كنت أنظف الحديقة عندما طرق (جون) الباب بعد غياب أكثر من شهرين، ما أن فتحت الباب مستغربة من قطيعته حتى بادرني مصافحاً بيد والأخرى يحمل بها عصاً يتكئ عليها ... أخبرته أن زوجي استطاع الرحيل وكان يتمنى توديعه ... سألته عما حدث له وهو القوي بين صحبه الذين جمعتهم المحن وفرقتهم!!!

 

قال لي: 

اضطررتُ الى حمل زوجتي طابقين على سلالم المستشفى لانقطاع التيار الكهربائي، وكانت حالتها جداً صعبة، فقد حصلت عندها اختلاطات مرضية لا أول لها ولا آخر، ولكن أخطرهن إصابة رئتها بمرض خبيث...

 

لم يكمل حديثه، ابتسر كلماته مختنقاً... حياني منصرفاً ملوحاً بيده وكأنه يهرب من نفسه ... ناديت عليه بأعلى صوتي الا أنه كرر التحية دون أن يلتفت... كررت ندائي خلفه متسائلةً عن اسم المستشفى الذي ترقد فيه زوجته، لكنه رفع يده مبتعداً وهو يكرر التحية ولم يجب!

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.