اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

• ملامحُ واتّجاهاتُ الأدبِ الفلسطينيِّ في إسرائيل! – القسم الثاني -

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 
 
آمال عوّاد رضوان

ملامحُ واتّجاهاتُ الأدبِ الفلسطينيِّ في إسرائيل! – 2 -

 

بتاريخ 10-5-2010 أقيمت ندوةٌ بعنوانِ ملامحُ واتّجاهاتُ الأدبِ الفلسطينيِّ في إسرائيل، فيكلّيّة القاسمي في مدينة باقة الغربيّة، وهي إحدى نشاطاتِ قسم اللّغةِ العربيّةِ الّذي يرأسُهُ د. فاروق مواسي، باستضافة عددٍ مِن المبدعين والأدباءِ المحلّيّين، د. بطرس دلّة، هيام قبلان، نزيه حسّون وآمال عوّاد رضوان، وبحضور إضمامةٍ طلاّبيّةٍ فوّاحةٍ مِن جنائنِ الكلّيّة، يُقاسمُهم الحضورَ البهيَّ د. ياسين كتاني، د. عائدة فحماوي، أ. جميل كتاني، أ. عبد الحكيم أبو مخ، أ. هيفاء عبد القادر، ومُعِدّة النّدوة سكرتيرة القسم سندس وتد، وقد استهلّ التّرحيب د. مواسي والتّعريف بضيوفِه، مُبيِّنًا أهمّيّةَ دراسة أدبنا المُعَبِّر عن أوجاعِنا وأحلامِنا، تلاهُ الضّيوفُ بالحديثِ عن الشّعرِ والقصّة والرّواية،

مشاركة د. بطرس دلّة عن القصّةِ القصيرةِ وتطوّرِها في الأدبِ المَحلّيّ

مشاركة هيام قبلان: الرّوايةُ في الأدبِ الفلسطينيِّ المَحلّيّ

مشاركة آمال عوّاد رضوان: مجْدُ حيفا ويافا وعَكّا حنينٌ محفورٌ على حافرِ مأساة!

مشاركة نزيه حسّون: الشِّعرُ الفلسطينيُّ المَحلّيُّ وتطوّرُه

واختمَ اللّقاءُ بقراءاتٍ شعريّة، وشكرِ د. مواسي للضّيوف والحضور.

 

 

الشِّعرُ الفلسطينيُّ المَحلّيُّ وتطوّرُه/ نزيه حسّون

"اللّغةُ تورَثُ كالأرض، "وإذا كانتِ الأرضُ تُجسّدُ هُويّةَ وجودِنا وسِرَّ بقائِنا، فاللّغةُ بدَوْرِها تُجسّدُ هُويّتَنا الثّقافيّةَ والفكريّة، وتطوّرُ اللّغةِ إنّما يُشيرُ بالتّالي إلى تطوّرِ الشّعوبِ الّتي تنطقُ بها، فاللّغةُ تورَثُ كالأرضِ كما قال شاعرُنا محمود درويش، ولنا أن نُضيفَ أيضًا، أنّها تتطوّرُ بتطوّرِ النّاطقينَ بها.

أسوقُ هذهِ المقدّمةَ القصيرةَ لأؤكّدَ بادئَ ذي بَدءٍ على أهمّيّةِ اللّغةِ في حياةِ الشّعوبِ، فهي إضافةً لكوْنِها أداة تَخاطُبٍ هامّة، تُمثّلُ وعاءً للأدبِ بشقّيْهِ النّثريِّ والشّعريّ، والشّعريِّ بالذّات، لِما لهُ عندَ العربِ من أهمّيّةٍ مميّزةٍ منذُ الجاهليّة حتّى يومِنا هذا، وليس عفوًا أنّه قيل: "الشِّعرُ ديوانُ العرب". والشِّعرُ الفلسطينيُّ بالتّالي هو أحدُ روافدِ الشّعرِ العربيِّ العامّ، وإذا ما انفردَ بميزاتٍ خاصّة، فإنّما تكونُ انعكاسًا للأحداثِ والتّطوّراتِ الّتي مرّتْ بالشّعبِ بشكلٍ خاصّ، وقد يفرضُ المكانُ أيضًا ميزاتٍ خاصّةً على هذا الأدب، ولكنّنا لا نستطيعُ أن ننظرَ إلى هذا الشِّعرِ بمَعزلٍ عن الشّعرِ العربيِّ كلِّهِ، فقد تأثّرَ بهِ وأثّرَ فيه.

وطالما موضوعُنا اليومَ ينحصرُ في مواضيعَ تطوّرِ الشّعرِ الفلسطينيِّ المحلّيِّ منذ عام 1948 حتّى يومنا هذا، ففي ذلك العام انشطرَ الوطنُ وانشطرَ الشّعب، وآل هذا الانشطارُ إلى نشوءِ حركةٍ شعريّةٍ خارجَ فلسطينَ الوطن، أمّا في الدّاخل هنا، فمثلما تشبّثْنا ببقائِنا في وطنِنا، تشبّثْنا أيضًا بهُويّتِنا ولغتِنا، واستطاعَ مبدعونا أن يخلقوا حركةً أدبيّةً راقيةً وهامّة، لفتتِ انتباهَ النّقّادِ في العالم العربيِّ وفي العالمِ كلِّهِ، واستطاعَ شعرُنا المَحلِّيُّ بالذّات أن يتجاوزَ المَحلّيّةَ والإقليميّةَ ليرقى إلى مشارفِ العالميّةِ، متمثّلاً بأشعار محمود درويش وسميح القاسم وغيرهم، وكانَ لهذا الشّعرِ حضورٌ عميقٌ ومميّزٌ في العالم العربيّ كلِّهِ، ولا سيّما شعرِ المقاومةِ منه، وكُتبتْ عنهُ دراساتٌ مِن قِبل خيرةِ النّقّادِ في مختلفِ أرجاءِ الوطن العربيّ، أمثال: غسّان كنفاني، فيصل الدّرّاج، ورجاء النّقّاش وغيرهم، وقد كانَ لهُ أثرٌ بالغٌ في نفوس الجماهيرِ العربيّة، لاسيّما أنّه بدأ يصلُ إلى العالم العربيّ، ويتوهّجُ في سمائِهِ مباشرةً بعدَ ليلِ النّكسةِ الّتي كان لها الوقعُ السّيّءُ والتّأثيرُ السّلبيّ، الّذي كادَ يصلُ بها إلى مرحلة يأسٍ كادَ يُسطيرُ على مزاج ووجدان الجماهيرِ العربيّة آنذاك، فجاءتْ أشعارُ المقاومةِ لتكونَ نبراسًا لإعادةِ الثّقة، وكانَ لها الدّوْرُ الأساسيُّ في زرْع الثّقةِ والتّحدّي في نفوس الجماهير، وإخراجِها مِن ليل النّكسةِ الدّامس، ولهذا أصبحتِ الجماهيرُ تُردّدُ هذهِ الأشعارَ عن ظهْرِ قلب، ونُشرتْ في كثير مِن الصّحفِ في كافّةِ أرجاءِ الوطنِ العربيّ، ولاقتِ التّبجيلَ والتّهليلَ الكبيرَينِ مِن النّقّادِ العرب، ممّا حدا بشاعرِنا محمود درويش أن يقول مقولتَهُ المشهورة "أنقذونا مِن هذا الحبّ".

أمّا بخصوصِ المواضيعِ الّتي تمحورَ حولَها هذا الشّعر، فقد تجسّدتْ في أربعِ نقاطٍ أساسيّة، طغتْ على شِعرِنا المَحلّيِّ عبْرَ كلِّ مراحلِهِ منذُ النّكبةِ حتّى اليوم:

المحورُ الأساسيُّ هو الأرض، بكلِّ ما تُمثّلُهُ الأرضُ مِن أبعادٍ وطنيّةٍ ووجوديّة، ولا أظنُّ أنّ هنالكَ شاعرًا مَحلّيًّا لم يتطرّقْ للأرض في قصائدِهِ، بل إنَّ الكثيرَ مِن شعرائِنا جعلوا الأرضَ جزءًا لا يتجزّأُ مِن ذواتِهم حتّى درجةِ التّجسّد، وكثيرًا ما استُعملتِ الأمُّ والمرأةُ بشكلٍ عامّ كرمز للأرض، والامثلةُ كثيرةٌ جدًّا، وأسوقُ مقطعًا قصيرًا مِن قصيدةِ إلى سحابة للشّاعر راشد حسين، لِما فيه مِن تجسيدٍ لهذا الالتحام بالأرض:

أنا الأرضُ/ لا تحرميني المطر/ أنا كلُّ ما ظلَّ منها/ لذا.. زرعتُ جبيني شجر/ وحوّلتُ شعري كرومًا/
وقمحًا.. ووردًا/ لكي تعرفيني، فجودي مطر/ أنا يا سحابةُ عمري.. جبالُ الجليل/ أنا صدرُ يافا/ وجبهةُ يافا/ فلا تهمسي.. مستحيل/ ألا تسمعينَ خطى طفلتي القادمة/ على عتباتِ فؤادِكِ/ ألا تبصرينَ عروقَ جبيني/ تحاولُ لثْمَ شفاهِكِ/ أنا في انتظارِكِ أصبحَ شعري ترابًا/ وصار حقولاً/ وأصبح قمحًا/ وأضحى شجر/ أنا كلُّ ما ظلَّ ممّا عشقتُ/ فجودي../ وجودي.. مطر.

وليسَ أروع مِن محمود درويش حين يقولُ في قصيدةِ الأرض:

أنا شاهدُ المذبحة/ وشهيدُ الخريطةِ/ أنا ولد الكلماتِ البسيطة/ رأيتُ الحصى أجنحة/ رأيتُ النّدى أسلحة/
عندما أغلقوا بابَ قلبي عليّا/ وأقاموا الحواجزَ فيّا/ ومنْعَ التّجوّلش/ صارَ قلبي حارةْ/ وضلوعي حجارةْ/ وأطلَّ القرنفل/ وأطلّ القرنفل

الأمثلةُ كثيرةٌ في هذا المجال، فهنالكَ شاعرٌ مِن الجيلِ الجديدِ يقولُ:

تبرعمَ لوزُكِ الزّهريُّ في جسدي/ وأمسى القلب أوراقًا مِنَ التّينِ/ أنا أرضٌ أنا شجرٌ أنا زرعٌ/ دمُ الزّيتونِ بعضٌ مِن شراييني/ فكيفَ تُصادرُ الشّريانَ مِن قلبي/ وكيفَ تَجُزُّ مِن جسدي بساتيني

أمّا المقاومةُ فهو المحورُ الثّاني مِن موضوعاتِ الشّعرِ المَحلّيِّ، ويرتبطُ ارتباطًا عضويًّا بالأرضِ والصّمودِ والتّشبّثِ بها، ولأنّ شعرَ المقاومةِ عبَّرَ عمّا يعتلجُ في وجدانِ الجماهيرِ، وعمّا يجيشُ في أعماقِها مِن مشاعرَ وطنيّةٍ ملتهبةٍ، فقد أصبحَ ولاسيّما في العقدِ السّادسِ والسّابع مِنَ القرنِ الماضي، بمثابةِ الهُويّةِ للشّعرِ الفلسطينيِّ المَحلّيِّ، فكانَ لهُ صدًى واسعٌ في العالم العربيِّ كلِّهِ، ولعلّ  راشد حسين وتوفيق زياد ومِن ثمّ محمود درويش وسميح القاسم، هم مِن أهمّ رموزِ شِعرِنا المقاوِم، ولعلّ قصيدة راشد حسين "سنُفهِمُ الصّخر"، وقصيدة محمود "سجّلْ أنا عربيّ"، وقصيدة "سأقاوم" لسميح القاسم، وقصيدة "أناديكم" لتوفيق زياد، هي نماذجُ حيّةٌ لقصائدِ المقاومةِ الّتي أصبحتْ تتردَّدُ على شفاهِ الجماهيرِ مَحلِّيًّا وفي العالم العربيِّ كلِّهِ، ومِن نماذجِ شعر المقاومةِ. يقولُ راشد حسين في قصيدتِهِ "الثّوّارُ ينشدون":

سنُفهمُ الصّخرَ إنْ لم يفهَمِ البَشرُ/ إنّ الشّعوبَ إذا هبّتْ ستنتصرُ/ مهما صنعتـم مِنَ الـنّيرانِ نُخمدُها/ ألَمْ تـرَوْا أنّنا مِن لـفْحِها سُمُرُ؟/ ولو قـضيتُم علـى الثـّوّارِ كلِّهمُ/ تمـرّدَ الـشّيخُ والـعكّازُ والحجرُ

أمّا توفيق زياد فيقولُ في قصيدتِهِ: أناديكم/ أناديكم/ أشدُّ على أياديكم/ أبوسُ الأرضَ تحتَ نعالكم/ وأقول: أفديكم/ وأهديكم ضيا عيني/ ودفءَ القلبِ أعطيكم/ فمأساتي الّتي أحيا/ نصيبي من مآسيكم/ أناديكم/ أشد على أياديكم/ أنا ما هُنتُ في وطني ولا صغّرتُ أكتافي/ وقفتُ بوجهِ ظُلاّمي/ يتيمًا عاريا حافي/ حملتُ دمي على كفّي/ وما نكّستُ أعلامي/ وصُنتُ العشبَ الأخضر/ فوقَ قبورِ أسلافي

يقول محمود درويش: سَجِّلْ أنا عربيّ/ سجِّلْ أنا عربيّ/ ورقمُبطاقتي خمسونَ ألف/ وأطفالي ثمانية/ وتاسعُهم سيأتي بعدَ صيف/ فهل تغضب/ سجِّلْأنا عربيّ/ وأعملُ مع رفاقِ الكدح في محجر/ وأطفالي ثمانية/ أسُلُّ لهم رغيفَ الخبزِوالأثوابَ والدّفتر/ مِنَ الصّخر/ ولا أتوسّلُ الصّدقاتِ مِن بابِك/ ولا أصغرُ أمامَ بلاطِأعتابِكَ/ فهل تغضب/ سجِّلْ أنا عربيّ/ أنا اسمٌ بلا لقب/ صبورٌ في بلادٍ كلُّ مافيها/ يعيشُ بفورةِ الغضب/ جذوري/ قبلَ ميلاد الزّمانِ رَسَتْ/ وقبلَ تفتُّحِالحقب/ وقبلَ السّرو والزّيتونِ/ وقبلَ ترعْرُعِ العشب/ أبي مِن أسرةِ المحراثِ لا مِنسادةِ نجب/ وجدّي كانَ فلاّحًا بلا حسب.. ولا نسب/ يُعلّمُني شموخَ الشّمسِ قبلَ قراءةِالكتب/ وبيتي كوخُ ناطورٍ مِنَ الأعوادِ والقصب/ فلا ترضيك منزلتي؟/ أنا اسمٌ بلالقب!/ سجِّلْ أنا عربيّ/ ولونُ الشّعرِ فحميّ/ ولونُ العينِ بنّي/ وميزاتي: على رأسيعقالٌ فوقَ كوفيّة/ وكفّي صلبةٌ كالصّخر.. تخمشُ مَن يُلامسُها/ وعنواني: أنا مِن خِربةٍ عزلاءَ منسيّة/ شوارعُها بلا أسماء/ وكلُّ رجالِها.. في الحقلِ والمحجر/ فهلتغضب؟/ سجِّلْ أنا عربيّ/ سُلبتْ كرومُ أجدادي وأرضًا كنتُ أفلحُها/ أنا وجميعُأولادي/ ولم تتركْ لنا ولكلِّ أحفادي/ سوى هذي الصّخور/ فهل ستأخذُهاحكومتكُم.. كما قيلا/ إذن!!/ سجِّلْ/ برأسِ الصّفحةِ الأولى
أنا لا أكرهُالنّاسَ/ ولا أسطو على أحد/ ولكنّي… إذا ما جعتُ/ آكلُ لحمَمغتصبي

أمّا شاعرُنا سميح القاسم والّذي لا يملكُ مِن ميراث أبيهِ وجدّهِ إلاّ أن يتحدّى، كما قالَ في قصيدةِ "أتحدّى"، ويقولُ أيضًا في قصيدتِهِ "سأقاوم":

ربّما أفقدُ - ما شئتَ – معاشي/ ربّما أعرضُ للبيع ثيابي وفراشي/ ربّما أعملُ حجّارًا وعتّالاً وكناسَ شوارع/ ربّما أبحثُ في روْثِ المواشي عن حبوب/ ربّما أخمد.. عريانا.. وجائع/ يا عدوَّ الشّمس .. لكن .. لن أُساوم/ وإلى آخِرِ نبضٍ في عروقي/ سأقاوم../ ربّما تسلبُني آخرَ شبرٍ مِن ترابي/ ربّما تُطعمُ للسّجنِ شبابي/ ربّما تسطو على ميراثِ جدي/ مِن إثاث.. وأوان وخواب/ ربّما تحرقُ أشعاري وكتبي/ ربما تطعم لحمي للكلاب/ ربّما تبقى على قريتِنا كابوس رعب/ يا عدوَّ الشّمس/ لكن.. لن أساوم/ وإلى آخِر نبضٍ في عروقي.. سأقاوم/

أمّا المحورُ الثّالثُ فهو الغزليّ أو الوجدانيّ، فقد احتلَّ حيّزًا واسعًا مِن شِعرِنا المَحلّيِّ، ولا مجالَ لذِكرِ الأمثلة.

والمحورُ الرّابعُ هو الإنسانيّ، والّذي تجلّى بشكلٍ راقٍ ورائعٍ لدى جميع شعرائِنا، رغمَ ظروفِ القمْعِ والاضطهادِ الّتي عانى منها شعبُنا. لقد بقيَ التزامُ شعرائِنا بالقضايا الإنسانيّةِ جليًّا وساطعًا، وليسَ عفوًا أن يُخاطِبُ الرّئيسُ عرفات الشّاعرَ محمود درويش قائلاً: "لولا أشعاركم لتحوَّلَتِ الثّورةُ إلى عصابةٍ ولتحوّلنا إلى قطّاعِ طرق"، فقد جسّدَ الشّعرُ الفلسطينيُّ البُعدَ الإنسانيَّ للثّورةِ الفلسطينيّةِ وللوجدانِ الفلسطينيِّ كلِّهِ.
يقولُ درويش: "أنا لا أكرهُ النّاس/ ولا أسطو على أحد/

ويقول توفيق زياد: وأعطي نصفَ عمري/ للّذي/ يجعلُ طفلاً باكيًا/ يضحك/ وأعطي نصفَهُ الثّاني/ لأحميَ  زهرةً خضراءَ أن تهلك/ وأمشي ألفَ عامٍ خلفَ أغنية/ وأقطعُ ألفَ وادٍ/ شائكِ المَسلك/ وأركبُ كلَّ بحرٍ هائجٍ/ حتّى ألمّ العطرَ/ عندَ شواطئِ اللّيلك/ أنا بشريّةٌ في حجم إنسانٍ/ فهل أرتاحُ/ والدّمُ الزّكيُّ يُسفَك!/أغنّي للحياة/ فللحياةِ وهبتُ كلَّ قصائدي/ وقصائدي/ هي كلُّ../ ما أملك!

يقول راشد حسين:ضدّ أن يجرح ثوّار بلادي سنبلة/ ضدّ أن يحملَ طفلٌ أيُّ طفلٍ قنبلة/ ضدّ أن تدرسَ أختي عضلاتِ البندقيّة/ ضدّ ما شئتم ولكن/ ما الّذي يصنعُهُ فينا نبيٌّ أو نبيّة/ حينما تشربُ عينيْهِ وعينيها/ خيولُ القتلة/

أمّا بالنّسبةِ لتطوّرِ البنيةِ الشّكليّةِ والبناءِ الفنّيِّ لدينا، فقد قطعَ شعرُنا المَحلّيُّ شوطًا بعيدًا في هذا المجال، فمِنَ القصيدةِ العموديّةِ الكلاسيكيّةِ في بداية الخمسينات، إلى قصيدةِ التّفعيلةِ، ومِن ثمّ إلى الشّعرِ الحُرّ، ومِنَ القصيدةِ المباشرة إلى الرّمز والغموض والإيحاء، ومِنَ المبنى والأسلوبِ الكلاسيكيّ، إلى الحداثةِ بكلِّ ما تعنيها هذه الكلمةُ مِن أبعاد، وقد تجسّدَ ذلك خاصّةً في دواوين محمود درويش الأخيرة، وتجدرُ الإشارة إلى أنّ هناكَ دراساتٌ هامّةٌ في هذا الموضوع، قامَ بها كلٌّ مِنَ الأدباءِ والنّقّادِ فهد أبو خضرة، د.فاروق مواسي، نبيه القاسم، ود. بطرس دلّة وغيرهم، ويبقى لنا أن نؤكّدَ على أهمّيّةِ القيام بإعدادِ دراسةٍ شاملة، فمعظمُ الدّراساتِ الّتي كُتبتْ بالصّحافةِ هامٌّ جدًّا توثيقها في دراسة شاملة، تكونُ بمثابةِ مرجع أساسيٍّ لهذا الموضوع.

 

 

مجْدُ حيفا ويافا وعَكّا حنينٌ محفورٌ على حافرِ مأساة!/ آمال عوّاد رضوان

لازالَ يافعًا يانعًا، لا تعرفُ أجنحتُهُ الوهّاجة ذبولاً، رغْم أنّهُ محاصرٌ بينَ قضبانِ الاحتراق، في مِرجلٍ تُزوبعُ به متاهاتُ الدّروب، وذلك؛ لِما تميّز بهِ مِن عذوبةِ موْسقتِهِ وشجنِهِ!

كمثلِ حاكورةٍ صغيرةٍ، ملآى بكلِّ أنواعِ الأشجارِ المثمرةِ وأشجارِ الزّينةِ بسياج صبّارِها؛

حاكورةٌ ترعرعتْ وسطَ غابةِ الاستبدادِ وأدغالِ الاحتلالِ وأحراشِ القهرِ!

حاكورةٌ نما في أحواضِها الوجعُ، وفي أحضانِها التحدّي، فدُمّرَ كثيرٌ من أعشاشِها، وهُجّر كثيرٌ من أطيارِها دون أرياشِها، في منافي الشّتاتِ والضّياع والفراغ، بلا أرض ولا سماءٍ وبلا هويّة!

إنّهُ الشّعرُ الفلسطينيُّ في الدّاخل؛ راسخُ الجذورِمنذ الجيلِ الأوّلِ، وقد اتّجهَ مؤشّرُ بوصلتِهِ صوْبَ مكانةٍ مرموقةٍ في الشّعرِ العربيّ والعالميِّ!

الشّاعرُ الفلسطينيُّ في الدّاخلِ امتطى صهوةَ ثقافتِهِ وما ترجّلَ عنها، رغمَ الاختناقِ وضيقِ التّنفّس، بل شنّ وعيَهُ وأدواتِهِ اللّغويّةَ اللاّهبةَ ضدّ مذابح الغزو، وضدّ حصْرِهِ في قواقعِ الطّائفيّةِ والأقليّةِ العربيّةِ في دولةٍ يهوديّةٍ، فعايشَ البيئةَ الجديدةَ وواكبَها بالمواجهةِ، وتصدّى لمحْوِ ذاكرتِهِ التّراثيّةِ وتاريخِ حضارتِهِ!

الشّاعرُ الفلسطينيُّ تفاعَلَ معَ العالم الخارجيِّ، ولم يكن رهينَ شعرِ المقاومةِ، كما أطلقَ الأديبُ غسّان كنفاني، ورغمَ المآسي التي يكابدُها، ما تنازلَ عن ثوابتِ وكواشينِ حواكيرِهِ، ولم يقتصرْ شعرُهُ على النّدبِ والشّجبِ فحسْب، إنّما أثمرتِ الحواكيرُ الفلسطينيّةُ ما لذَّ وطابَ مِن شعرٍ شعبيٍّ وفصيحٍ بليغٍ، يتحدّثُ فيهِ عن الحنينِ والغربةِ والمقاومةِ والتّحدّي، والحُبِّ والعِشقِ وجَمالِيات الحياةِ والمشاعرِ الإنسانيّةِ، وتعميقِ الحياةِ وتجميلِ الوجودِ وبناءِ المستقبل، من خلالِ مساحاتٍ فكريّةٍ شاسعةٍ، وانتماءاتٍ ثقافيّةٍ مختلفةٍ وبشتّى الرّؤى.

الشّاعرُ الفلسطينيُّ إنسانٌ اعترَكتْهُ الظّروفُ فعايشَ القهرَ، وتدرّبَ كيفَ يعتلي سُحُبَ الخيالِ والتّصوّر، ليُحلّقَ بأجنحةِ التّصويرِ والإبداعِ، كي يخلقَ عالمًا أجملَ مِن الحقيقة، لذا تفاعلَ معَ البيئةِ والحياةِ وظروفِها وتفاصيلِها اليوميّة بمنتهى الحساسيّةِ الإبداعيّة، وكانَ لشعرِ المقاومةِ أن يتصدّرَ المشهدَ الشّعريَّ مِن أجلِ التّحريرِ والحرّيّة المنشودَيْن، ففرَضَ نفسَهُ إعلاميًّا، وتجلّى بشكلٍ بارزٍ بما يتوافقُ والحالة الرّاهنة التي استمرّتْ واستدامتْ، وقد تُرجمَ كثيرٌ مِنَ الأشعارِ للعبريّةِ ولغاتٍ أخرى، ولوحِقَ بعضُ أصحابِها، لِما تحملُهُ مِن فِكرٍ وتحريضٍ يُعارضُ سياسةَ التّهويدِ المفروضة، وبسببِ الانتماءاتِ الحزبيّةِ، في ظلِّ غيابِ الوطنِ وسيادتِهِ الفلسطينيّة.

مِن شعرائِنا مَن سطعَ نجمُهُم وحضورُهُم في وسائلِ الإعلامِ الحزبيّة، وتركَ بصمةً زيتيّةً في الذاكرةِ الثقافيّة، وأثرًا محفورًا في سنديانِ المهرجاناتِ الثّوريّةِ والاحتفالاتِ الشّعريّةِ التّحميسيّةِ، ومنهم مَن خفَتَ نجمُهم حدَّ البصيص، وما عُرف قدْرُهم وما نالوا حقّهم، فقد توهّجَ بينَ سُحُبِ السّماءِ مَن توهّج، وناسَ بينَ الغيومِ مَن وشّحتْهُ بضبابِها، وقد حوكِم الإبداعُ الأدبيُّ حزبيًّا وسياسيًّا، وبكلِّ أسفٍ، ظلّتْ تخضعُ ثقافتُنا للامتحانِ وإثباتِ الوجودِ والحضورِ، وبقيتْ رهينةً تستعطفُ الودَّ العربيَّ حتّى اليوم، ويحاولُ فلسطينيّو إسرائيل أن ينفوا التّهمةَ المُوجَّهةَ إليهم، كي يُثبتوا أنّهم أبرياء مِن دمِ المبايعةِ أو التّسليمِ والاستسلام، وأنّهم عربٌ أقحاح ما تهوّدوا ولا تطبّعوا ولا تأسرلوا!

وفي ظلِّ التّهميشِ العربيِّ للمأساةِ المستديمةِ العليلةِ، غدا فلسطينيّو إسرائيل ضّحيّةً مفخّخةً موقوتةً، ومُعلّقةَ خارجَ الأحداثِ التّاريخيّةِ والخرائطِ الجغرافيّةِ، فهم الضّحيّةُ الموصومةُ بختمٍ إسرائيليٍّ ينبغي التخلّص منه أو تذويبه، وهكذا؛ بُتِرَ شعبُنا عن شقيقِهِ الآخر في الضّفّةِ وغزّة، واستُبعِدَ عن الأمّةِ العربيّةِ وسياساتِها في صُنعِ القرار، كأنّما توقّفتْ عجَلةُ التّاريخِ عند شرْخِ النّكْبةِ دونَ حَراكٍ عربيّ مُسانِد!

وكانَ للجيلِ الأوّلِ مهمّةٌ شاقّةٌ مِن خلالِ الإبداعِ الفلسطينيِّ، هو خلْق نموذج مقاومة، مِن خلال الكلمةِ الحادّةِ اللاّهبةِ، والنّاقرةِ على شريانِ وجعِ المنكوبِ ونبض معاناةِ الشّعب، إلاّ أنّ البعضَ دخلوا في مرحلةِ الاجترارِ والتقليدِ للنّموذجِ السّابق، والبعضَ لا زالَ قادرًا على تشكيلِ رؤًى فكريّةً ناضجةً مستحدثة، وإبداعيّةً متميّزة بفنّيّتِها، وبمستوًى عربيٍّ عالميٍّ، وتستمرُّ حربُ الحَرْف!

هل يجهلُ المحتلُّ ما للإعلام الوطنيّ بشتّى وسائلِهِ وتقنيّاتِهِ من دورٍ رئيسيّ هامٍّ في دعْمِ الهويّةِ الوطنيّةِ، ومن محاربةِ النّزعاتِ الطّائفيّةِ، ومن نَشْرِ الثّقافةِ المستقِلّةِ وتعزيزِ الثّقةِ والانتماءِ الوطنيِّ والقوميّ؟

وهل يخفى على المثقّفِ الواعي تأثيرُ الإعلام، وحضورُه الفعّالُ المباشرُ محليًّا وعربيًّا وعالميًّا، وفي إعطاءِ المبدعُ فرصَ تطويرِ إمكاناتِهِ الأدبيّةِ والإبداعيّةِ، دونَ الولاءِ لجهةٍ ما أو حزبٍ داعم؟

طبعا لا، إنّما حُكم القويّ السّائد الجائر حجّمَ وقلّصَ للشّعبِ الأعزل إمكاناته التقنيّة التثقيفيّة، لكنّه ما استطاع أن يثبط العزيمةَ والهمّة في النّضالِ الواعي، أو يحبطَ التصدّي العنيد، من أجلِ الحفاظِ على الكيانِ الفلسطينيِّ العربيِّ لغةً وحسًّا وانتماءً، دونَ تهجينٍ أو تذويب.

لكن؛ وبسبب توقّفَ الاهتمامُ والإعلامُ العربيُّ فقط عندَ أسماء محدودة مِن أدبائِنا، ونماذجَ قليلة مِن شعرائِنا، مَن بيعتْ وسُوّقتْ وتُرجمتْ وانتشرتْ كتبُهم في المكتباتِ العربيّة، ونالَ أصحابُها حصّةَ الأسدِ في تلقّي الدّعوات والمشاركةِ والانتشار عربيّا وعالميّا، وبسببِ غيابِ التّنظيماتِ الثّقافيّةِ والأدبيّةِ الوطنيّةِ المحَلّيّة المُحارَبة صهيونيًّا، فقد تولّدتْ أزمةُ غيابِ النّقدِ الحقيقيِّ الموضوعيِّ المَحلّيِّ والعربيّ، فهيّأتْ مناخًا تسودُهُ الشّلليّةُ المُتسلّقةُ البارزة، والّتي أركنتِ المواهبَ والتّجاربَ الأدبيّةَ المتميّزةَ في هوامشِ الإبداعِ، فكساها غبارُ الإهمالِ والإحباطِ دونَ تسويقٍ، بل عمدتْ على ترويجِ الرّديءِ بدلاً مِنَ الأجوَد.

وها هي واحةَ الشّعرِ الفلسطينيّةِ الزّاهيةِ لا زالتْ تزهرُ وتُثمرُ وتُظلّلُ، وتفوحُ أزاهيرُها في صحراءَ تكثرُ فيها الرّمالُ المتحرّكة لتبتلَعها، حيثُ تنعقَ فيها الأبواقُ المشبوهةُ والهِممُ الوصوليّةُ، الّتي تنعفُ الرّمالَ الحارّةَ في عيونِ المبدعينَ والمثقّفينَ والقرّاءِ والبسطاء.

إضافةً إلى الشّبكةِ العنكبوتيّةِ التي لعبتِ دوْرًا هامًّا في كسْرِ الحواجزِ الجغرافيّةِ والحدودِ السّياسيّةِ المفروضة، في السّنواتِ العشرِ الأخيرةِ، كما وساعدتْ في انتشارِ الثّقافةِ الرديئةِ والجيّدة، ولكن على مستوى فرديٍّ وليس جماعيٍّ ووطنيٍّ، وهذا شقٌّ آخر من المأساةِ التي توالتْ أكثرَ من ستّة عقود!

وتاريخيًّا؛ ابتدأتْ معاناةُ الوسطِ الثّقافيّ المَحلّيِّ منذ أحداثِ النّكبةِ، بعدَ إغلاقِ المؤسّساتِ الثّقافيّةِ الفلسطينيّةِ في حيفا ويافا، اللّتيْن كانتا محطّتيْنِ هامّتين أسوةً بالعواصم العربيّة، ففي حين استقطبتا أمّ كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش والكثيرَ مِن الأدباءِ والمثقفين، وزخرتا بالمقاهي الأدبيّةِ والفنادقِ والمطابع والصّحفِ والمسارحِ والنّشاطاتِ الثّقافيّةِ المختلفةِ، وعلى مستوى عربيٍّ يُضاهي بغدادَ والشّامَ والقاهرة ثقافيًّا وحضاريًّا وتجاريًّا، فقد هُجِّرَتْ نُخَبُ شعبِنا المقتدرينَ ثقافيًّا وماديًّا، وهُدّمتِ المراكزُ الثّقافيّة، واعترى البلادُ شللٌ مؤسّساتيّ ثقافيٌّ وتفكّكاتٌ تنظيميّة، فقد صارتْ بلادُنا عبارةً عن قرى صغيرةٍ وكبيرةٍ، تفتقدُ إلى معالم المُدنِ المدنيّةِ والإبداعيّة، وتفتقرُ إلى مؤسّساتٍ وطنيّةٍ ثقافيّةٍ متطوّرة! فهل يُعيدُ الفلسطينيّونَ مجْدَ حيفا العتيق ومناخ عكّا المائج وميناءَ يافا الغابر؟ كيف؟ متى؟ ومِن أيّةِ منطلَقاتٍ يمكن أن تتجاوزَ المِحنة؟

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.