اخر الاخبار:
قاضٍ أمريكي يُغرّم ترامب ويهدده بالسجن - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 20:36
مصدر: صفقة «حماس» وإسرائيل قد تتم «خلال أيام» - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 11:00
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

رصيف رقم سبعة: قصة قصيرة// عبد الرزاق اسطيطو

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

اقرأ ايضا للكاتب

رصيف رقم سبعة: قصة قصيرة

عبد الرزاق اسطيطو

 

"أنا لا أسألك الرحمة، ولا الشفقة، ولا المواساة، ولا التعاطف ...فقط أريد أن تقنعني بأنك عادل"

من رواية"كرة الثلج " عبدالرحيم جيران

 

كنت أنزل الدرج من قمة جبل درسة، المطل بغابته الصغيرة على مدينة تطوان، وعلى بحر مرتيل، كفراش قزحي في شهرإبريل، يحط بنشوة على الزهر، ليحلق من جديد، خفيفا في السماء، مستمتعا بالزرقة الصافية، والهواء العليل، وبمنظرأطلال القلعة العسكرية، وهي تطل من كل الجوانب على المدينة العتيقة.

كان جبل درسة بشارعه الوحيد، الذي يفضي بك إلى سينما أبيندا، مارا بالقرب من السجن القديم بطلعة الباريو، والأحياء الشعبية التي إن لم تكن خبيرا بها تضيع بين زقاقها الضيقة والملتوية، وإن كنت محظوظا وولدت يوم السعد، أو يوم العيد، فقد تجد نفسك في نهاية المطاف وسط شرفة تطل على حديقة الشلال، تضللها أشجار باسقة، وورود ملونة، تعيدك بشوق إلى زمن الأندلس.

لم أكن زائراغريبا عن هذا الجبل الرائع، لأنني أحسبني كما لو أني ولدت، وترعرعت، ودرست هنا، مذ كنت طفلا نشأ بيني وبينه عشق خفي وذكريات كالوشم لا تنمحي، وازدادت جذوة هذا العشق، حين سلمتني خالتي رقية مفتاح بيت جدي لأمي وهي تشير إلى صورته وهي تزين صدر البيت، قائلة بفخر " هذاجدك كان ضابطا خيالا بالقلعة الحصينة" وجمح بي الخيال دفعة واحدة وعبق الزمن يدغذغ روحي، كيف عاش هناوكيف حارب مع الإسبان ولماذا؟ .

كان لا يفوتني عند نهاية المساء مع بداية نزول ظلام الليل على المقبرة والغابة الصغيرة، أن استمتع بعزف ثلاثي جبران، وتطوان تزف بشموع متلئلئة في عرس بهي إلى بحر مرتيل، ومع الفجر أتسلل بخفة الأطفال لأستمتع بهدوء المدينة وسحر التاريخ الأندلسي ، وبمنظر ساحرلتلميذات وهن ذاهبات لمدارسهن أووهن عائدات منها بوجه كالورد المتفتح ، وبشعر أشقر غجري يتطاير في السماء كالأفراس السابحة، يرتدين تنورات وقمصان بنية اللون ، كما لو أنها جداول رقراقة يمضي بها الهوى بود إلى البحر. ولرائحة البحر سحر الحب الأولي .

كل مافي جبل درسة يجعلك تحمل أحلامك ، وآمالك وطيشك وأغانيك وجرحك وعشقك وشعرك وصباك وذكراك، لتعود إليه كما تعود السنونوفي شهر إبريل .هكذا نبعت علاقتي بهذا المكان الآسر، وببيت جدي المطل بشرفته الوحيدة على أشجاروقلعة ومقبرة وبيوت هذا الجبل، وعلى امتداد زرقة بحر مرتيل وهكذا توطدت .

كان الوقت مساء ، والمساء في جبل درسة مثله مثل الصباح ، ومثل كل الأوقات هنا، له سحر صوفي، يصعد بالروح والعقل إلى مدارج الكمال والتوحد، وكان أول أيام عطلة الصيف ، لما وصلت إلى المحطة الجديدة القابعة أسفل جبل غرغيز، مارا بحديقة الشلال ورياض العشاق، وجدتها تشبه خلية النحل أزيزا وحركة ، مكتظة عن آخرها بالمسافرين وجلهم من الطلبة والطالبات، ولم يكن الأمر بجديد علي ، مثلهم كنت، فمن هنا مررت، وبهذه المدينة درست واجتهدت وتخرجت، فنحن السابقون إلى عداد الموتى وهم اللاحقون.

قصدت مكاتب التذاكر فكان الرد بتجهم دائما "والو التذاكر""مكاينش البلايص ""عامر الكار ""سمحنا.." وكلما منيت بفشل في الحصول على تذكرة للعودة إلى مدينتي القصر الكبير، أمكث بالمحطة ساعة أو ساعتين، ليس أملا في الحصول على تذكرة وإنما أملا في الحصول على قصة عابرة كما علمني تيشخوف.

جلست على مصطبة اسمنتية وسحبت من حقيبتي السوداء رواية "عالم بلا خرائط" وكنت أعيد قراءتها للمرة العاشرة ، وبدأت أكمل من حيث انتهيت ، كانت تسرقني بطلتها نجوى العامري بجمالها وجسارتها وأنوثتها كما فعلت بالبطل علاء سلوم، وأحيانا يعيدني صوت" الكريسونات "إلى ضخب المحطة من جديد "طنجة.. طنجة ..الرباط.. الدارالبيضاء" فأعود لتأمل البشر والشجر والجبل والحافلات من جديد.

قبالتي كانت تجلس فتاة في مقتبل العمر، جعلت من وجهها وجسدها وغنجها لوحة تشكيلية لفنان مبتدئ، وكان كل من يمر بالقرب منها يطيل النظر فيها، منبهرا من عريها ، وهي تدخن سيجارتها غيرعابئة بمن حولها ، المرأة القروية التي كانت تشاركني المصطبة كانت أحيانا تلعنها جهرا" يالطيف من هذا المنكر" كان دخان الحافلات وهدير المحركات وملاسنات المسافرين ،وأصوات مساعدي الحافلات تفسد علي القراءة ومتعة الشرود، مما غيب معه صوت المرأة التي وقفت ملتصقة بكتفي طالبة مني شيئا. ولأنني لم أسمع ماقالته ، كررت قولها للمرة الثانية وبصوت عال، ظانا منها أنني قليل السمع ربما أوكأطرش في زفة، وقد وضعت بين رجلي الممدودتين على رصيف رقم سبعة، كرتونتين واحدة معبأة بشكولاطة ماروخا ، والأخرى ببسكويت ماريا، وبين يدي وأنا أنظر إليها، ألقت بمجموعة من البيجمات الملونة، بسرعة قالت" الله يرحم الوالدين رد البال معك للسلعة غدي نجيب غير شي سخرة ونرجع " لم تترك لي فرصة الرد " ذهبت ..وبسرعة البرق عادت من جديد ، محملة بعدد من فوطات البحر، وبعد أن وضعت الفوطات على الأرض جلست بالقرب مني، لترتاح من تعب السفر، وتمسح بفوطة صغيرة ما يتصبب من جبينها من عرق، وبعد قليل وهي تجوب ببصرها الفضاء، بحثا عن حافلة تقلها إلى وجهتها التي سوف أعلم بها فيما بعد ، التفتت إلي سائلة"إينا مدينة غدي أنت "فأجبت بلطف "القصر الكبير"وتوالت الأسئلة التي تنم عن ارتياحها للكلام معي "قطعت الورقة "فقلت لها بحركة من رأسي" لم أجدها بعد" وأضفت " إذا لم أحصل عليها سوف أعود لجبل درسة لأستمتع بليله من جديد " فعادت للقول وهي تبتسم في وجهي ، كاشفة عن أسنان بيضاء لامعة ومتراصة، بدت وأنا أقيس عمرها بالكاد تجاوزت الثلاثين، متوسطة القامة مكتنزة وجميلة لولا التعب وقسوة الزمن لبدت أكثر جمالا،" الزمن غدار" قلت لنفسي.

بعينيها الواسعتين الخضراوين، والشعر الملفوف في فولار أزرق والجلباب الأخضر الغامق، نهضت من جديد وهي تقول "لا عليك سوف أتدبر أمرالتذكرتين، مساعد الحافلة يعرفني هنا" ، اللغة والخطاب الآن يدلان على أن المرأة ذات مستوى علمي عال، والناس مقامات كما يقول صاحبنا الجاحظ، ولكل مقام مقال، لذلك غيرت المرأة لغتها من العامية للفصحى مفصحة عن نفسها ، كما لو أنها تريد القول ،أنا مثلك لدي مستوى لولا سوء الحظ وغدر الوقت ، هكذا قلت لنفسي مرة أخرى" بعد نصف ساعة عادت وهي تلوح في الهواء بالتذكرتين كما لو أنها حققت نصرا على البرتقيز واسبانيول في معركة" واد المخازن" كما يقول والدي ، عندما يخرج ويجد جمهور فريق البارصا في الشارع يحتفل بانتصاره على فريق الريال مدريد، أغلقت الرواية بعد أن علمت على صفحتها وأنا أقول هذه المرأة الجميلة لا بد وأن تحمل معها حكاية جديرة بالكتابة عنها، فحقيقة عرفت كيف تسرقني من نجوى العامري بطلة رواية"عالم بلا خرائط" ، وعادت لتسألني من جديد "كتقرا هنا أولا خدام هنا" قلت لنفسي ستقلب علي المواجع من جديد فقلت لها "ماخدام ماردام، معطل ، وأضفت حكومات التناوب قالت لنايفتح الله" بحسها المرهف شعرت بتضايقي من سؤالها "فندت عنها ضحكة خفيفة تخفي الجرح والهم ، وهي تقول "حتى أنا مثلك حاصلة على الإجازة في الآداب و وفي الأخير ها أنت كما ترى كنهرب السلعة من سبتة والفنيدق وحتى الحركة ماتت كل شيء مات وفقد طعمه، الحياة والتجارة والعشرة والشواهد صارت مرة، كل شيء أفسدوه"، وقلت لنفسي ما قاله غسان كنفاني لغادة السمان" دائما نأتي متأخرين ياغادة" وأضافت الله يفرجها وصافي "ثم ترجتني بأن أحمل معها بضاعتها إلى الحافلة، فوافقت حملت معها البضاعة وبصعوبة وجدنا مقعدين كانا فوق محرك الحافلة مباشرة، قرب نافذة كسر زجاجها وتم ترقيعها بكرتونة زيت لوسيور.

لما جلسنا بصعوبةأخذت مني ثمن التذكرة ، هي تقسم وأنا أقسم، وفي الأخيروافقت، قلت لها رصيف رقم سبعة مرة أخرى فضحكت قائلة "السدراوي " فقلت لها "رحمة الله عليه" ، وتذكرت ناديه بحينا وهو يعلم الصغار القراءة والكتابة ويعلم فتيات الحي الطرز والخياطة قلت لها" رحمة الله عليه، كان رجل بروإحسان "فضحكت وهي تقول لي" والله العظيم حتى أناتعلمت نكتب في نفس النادي"" فقلت لها أما أنافشبعت عصا من عند الفقيه بالجامع" فقهقت بصوت عال وسرت بجوارحي ضحكتها فشاركتها الضحك .

لما صمتت التفتت إلي ومثلما كانت توصني أمي وأنا صغير أوصتني قائلة" إذا ما فتش الدرك أوالديوانة الحافلة وسألوا عن صاحب البضاعة فقل لهم إنها لك" فأجبت "وحتى التي بين يديك والتي تحت رجليك وفوق رأسك كل ذلك لي" فضحكت مرة أخرى قائلة" كل البضاعة يا سيدي هي لك" فأصابتنا عدوى الضحك معا ، وهي تمد لي قنينة سيدي علي وعلبة شكولاطة وبسكويت ماريا .وهكذا أشركتني في رزقها من غير رأس مال ولاجهد، وبعد إلحاح منها أفرغت الماء في جوفي دفعة واحدة لشدة عطشي ، فالجو صار حارا وقاتلا، بعد ساعة من الإنتظار واحتجاج المسافرين بسبب الحر والضجيج، وكان يزيده اختناقابكاء الأطفال وروائح البيض المسلوق، والعطور الرخيصة، وأصوات الأغاني السوقية المنبعثة من الهواتف النقالة، كما لوأنك في سوق الأحد، ينقصهم فقط العبيدي بائع مبيدات الحشرات "ها العبيدي جاكم هادواكم هادوا البرغوت هاد دوا الفيران"وأحيانا كثيرة تعلو أصوات فوق أصوات الجميع وهي تتحدث في الهواتف "آلو مات "آلو ولدت "آلو طلقو "آلو راني في الطريق "وبعد أن تهدهم الحافلة المنهوكة هدا، يغرق الجميع في نوم عميق، كانت المرأة التي تجاورني صاحبة البضاعة مازالت مسترسلة في الحديث بمتعة عن زمن جامعة عبدالملك السعدي والحلقيات والأنشطة الثقافية والربيووهو يتقدم صفوف المظاهرات وأسماء بعض الأساتذة ، وماطال الجامعة من تجديد وتغيير، وعن حبها الأول هناك، وزوجها المعطل الذي وجد نفسه في الأخيرعلى الرصيف يبيع السجائروالحلوى للصغار، لم تتوقف عن الحديث إلا عندما توقفت الحافلة عند حاجز للدرك ، وكان الظلام قد عم المكان وزادته الغابة المحيطة بنا غربة وظلمة.

نظرت من النافذة تحت أضواء مصابيح الحافلة فرأيت مساعد سائق الحافلة "الكريسون" يتحدث إلى الدركي، لما رفع الدركي رأسه قليلا رمقني أنظرإليه كما لو أنني آراه لأول مرة، صعد إلى الحافلة مباشرة، وقبل أن يصل إلى مقعدينا بالخلف، سمعت المرأة التي بجاوري تقول لي" وشى بي ولد الحرام حيت مدبرتش عليه"، وفي الحقيقة هذا ماحصل فقد ترك الكل وقصدنا كمجرمين خطيرين " نظر إلي مليا، كما لو أنني سوابق في عالم الإجرام ، وملامح وجهي تكشف عن ذلك بشكل مفضوح كما يقول العلماء ، سألني وهو يشير إلى الكرتونتين والبيجامات "هذه البضاعة لك "فأجبت "نعم إنها لي "وانتصب قبالة عيني محمود درويش وهو يحتج بصوته الشاعري على العالم "هذا البحر لي، هذا الهواء الرطب لي وما عليه من خطاي لي.."وعدت لنفسي وهو يتملاني ويفتش يبديه الغليظتين المزغبتين ويقلب ما بين الكراسي، لكن المرأة صاحبة البضاعة كانت داهية ، بخلاف إلياس نخلة مهرب الملابس في" رواية "الأشجار واغتيال مرزوق "عرفت كيف تخرج منها، وتتخلص بدهاء من وشاية "الكريسون" وتفتيش الدركي ، فبرقتها وجمالهاغيبت عقلي عن حقيقة مرعبة، وهي أن تكون بالكرتونتين حشيشاأو أقراصا مهلوسة، والكل كان يلومني دائما عن سذاجتي، ونيتي، وطيبتي الزائدة ، قلت لنفسي لكي أعيد لها ثقتها بالعالم والناس، لم تكن يوما ما هذه الطريق لتهريب المخدرات، عاد صوت الدركي من جديد ليوقف علي شرودي قائلا " هذه ممنوعات "فقلت لنفسي" لقد تأكد أنها ممنوعات ،إذن سجن الوطيطة في انتظاري، وعند الدخول والخروج من كل زيارة ،سيصرخون في وجهي، حيد السروال ،حيد الحزام حيد السليب، وسيكون علي أن أدافع بشراسة اسبرطي عن شبرمن زليج الزنزانة لكي أنام عليه وأن أتعود على طعام ونظام السجون، نم، استيقظ، سر، قف، وأنا كالنورس عاشق للمطلق والزرقة ورائحة البحر هي دمي ونبضي وروحي، لا محالة سوف أموت في نفس الليلة التي سوف أسجن فيها، قلت لنفسي يأخذونني حتى إلى جزيرة "غويان" الفرنسية التي سجنوا فيها لوبابيون في رواية "الفراشة" ،المهم عندي الحكايات المسكوت عنها، والتي لا يفصح عنها إلا في الزنازين الرطبة والمظلمة ، من غير ذلك لا توجد رواية ولا قصة ممتعة .

ما يقوله الدركي صحيح ممنوعات والقانون لا يرحم المغفلين ، والمرأة كما تصفها خالتي رقية كلما رأتني معها أتجول بحديقة رياض العشاق داهية، أكثر من الشيطان ، الشيطان نفسه تقول خالتي عندما يتعب من شيطنته يجلس ليتعلم منها، قلت لنفسي" لعنة الله على الظروف والفقر والقهر".

في الحافلة ساد صمت رهيب، كصمت مقبرة النصارى في بلعباس التي كنت أراجع بين قبورها دروس الفلسفة، لأفلسف الحياة في علاقتها بالموت فوق رؤوس الموتى.

الكل ينصت للحدث العظيم، وهناك من يعرفني حق المعرفة ، منهم "الكريسون " وسائق الحافلة وولد الزين البقال ،إذن الخبر وصل وثم نشره وإذاعته ، والهواتف الخلوية وجدت شغلا مهما لها، ينظرإلي الدركي آمرا "بطاقتك" ، ليحقق في هويتي وفي صورتي وفي جذوري منحته إياها، قلبها وهو يحدق في، وعاد للسؤال من جديد" مهنتك "كاتب " فابتسم بخبث في وجهي وبسخرية قال "كاتب عمومي "بسخرية أجبت" أديب وفنان "فأضاف" ومهرب ممنوعات "قلت لك" ليس بها حشيش ولا هروين "لنفتحها ونتأكد مما تقول "فتح الكرطونتين أمام الملأ وبدأ يبعثر محتوياتهاعلى الممرالضيق للحافلة، فتشهما بدقة ، كان ينقصه فقط كلبا بوليسيايتشممها، لما تأكد أنه ليس بها محرمات دولية وهو عارف بذلك ارتحت قبله، عاد من جديد ليقلب البيجامات قلت له " لقداشتريتها من محلا ت مرخص لها بتطوان"،الرجل الدركي "مصر على حجز بضاعة المرأة بأي شكل من الأشكال باعتبارها مهربة، وهو بفطنته وخبرته، يعرف أنها ليست لي، وقد وشى بها "الكريسون" مساعد سائق الحافلةلأنها لم تدفع الحلاوة وتسمسيرة.

بدأت أطرافها تتحرك وتتوتر، وملامح وجهها تتغيروتحتقن بسرعة، يكاد الدم ينز منها، فأنا مصرعلى حقي في تلك البضاعة والدركي مصر على الحجزعليها وكلما زادت حدة النقاش بيننا، كلما دب السخط أكثر في جسدها وروحها وعقلها ،وصدرها يعلو ويهبط مع دقات قلبها كالموج، فالكلمات الجارحة ، وطريقة التفتيش، وبعثرة رزقها بذاك الشكل المهين، كل ذلك كان يعنيها هي كشكل من أشكال الإنتقام منها، وليس مني، فدب السخط في نفسها ، كما تدب النار في البراكين النائمة ، التي تبدأ في الدفع برمادها ودخانها إلى السماء معلنة بداية الثورة الحقيقية لسيلان نارها الملتهبة، انتفضت في وجهه دفعة واحدة، لم يرهبها جسده الضخم ولاسلطته ولا السجن ، بانفعال شديد وبصوت الرعود الغاضبة، التي تحول الأشجار رمادا، وتخطف الأبصار والأروح من الأجساد المتعبة الخائفة، قالت له بصوت المرأة القصرية حين يركبها عفريت الغضب والسخط ، بسبب إهانة مست كرامتها وعفتها"هذه السلعة لي وبعد " ، ثم عاد من جديد صوت محمود درويش لينتصب على منبرروحي صارخا محتجا "هذا البحر لي ، هذا الهواء الرطب لي وما عليه لي .وهذا الس..وهذا.." فعادت تكررها على مسامع الملأ ويكررها درويش على نغمات ثلاثي جبران أمام الملأ وأمامي، صار صوتها وصوت درويش متلازمين، وماذا يعنيها العالم، فقد تخلى عنها الكل تركوها للبهدلة وللقمة العيش المرة وأهملوها مثلما تهمل الأشياء البالية على الطرقات" "وماذا تريدني أن أفعل أسرق أم أتسول الناس في الطرقات ولا نمشي نفسد ، راني كنجري على ولادي بالحلال ماشي بالحرام " فرد عليها الدركي القانون ،قانون" ،هزت رأسها بانفعال شديد والعرق يتصبب من وجهها، القااانون قال قااانون " كما لو أنها تعزف الكلمة على آلة القانون ، حقيقة كل واحد فيناصارا فأرايبحث عن أي ثغرة في هذاالقانون ليفلث بجلده ومصلحته، وأحيانا كثيرة يخدرونه، مثل الكلاب التي تحرس القطيع لكي يسهل على اللصوص سرقتها ، أو يتحايلون عليه بدهاء السحرة ومنا من يقفز عليه بالزانة، والقانون لا يحمي المغفلين السدج مثلي، الذين لامال ولا جاه ولا منصب لهم ولا هم يحزنون، المرأة بسخط تضيف "لوكان القانون قانون ماكنش زوجي خريج جامعة القانون يبيع الديطاي على الرصيف وهذه البضاعة في الأسواق وفي الشواطئ، وما كنت أنا خريجة كلية الآداب كنمتهن التهريب" قل لي أش نديربكتب القانون التي تملأ بيتي ومطبخي وغرفة نومي" ومر بمخيلتي" شريط تلك المرأة التونسية وهي تصرخ على شاشة التلفاز، محتجة على الخلق وعلى العالم " وين العدالة وين هاد الحرية وين الكرامة" فكلما احتجت المرأة بنت حينا، كلما صرخت كل أصوات نساء العرب بداخلي ، وكلما أصابني الدواروتملكني الإحساس بالسخط والقيء ، صورة تلك المرأة السورية وهي على الحدود ، تتسول اللقمة من الجيران ، أووهي تمشي على أربع كالحيوانات بحثا عن حشائش تطعم بها صغارها كانت جارحة ودامية للقلب. وعادت المرأة بهستيرية للصراخ من جديد" مالي شفتيني كنهرب الحشيش ولاالهروين، جوج بيجامات وبكية ديال مرية هما اللي غدي يخربوا اقتصاد البلاد" القانون قال" بصعوبة أجلسناهامقعدها وهي ترتعش وصدرها يعلو ويهبط كموج بحرالهييضة.

الدركي الطويل العريض الأسمر اللون دي الوجه المكتنزوالحليق لم يجد لها جوابا ولا ردا فصمت ، فأي ملح سيضيفه على جراح المرأة قد يقع مالا يحمد عقباه، لذلك تركها لحالها وانسحب، أغلق "الكريسون" باب الحافلة بعنف حتى ارتجت ، صارخا "زيييييد" وانطلقت الحافلة من جديد.

طوال ماتبقي من زمن الرحلة، والحافلة تطوي الوجوه والمنازل والأشجارطيا، كنت أحاول التخفيف عن المرأة، منحتها قنينة الماء فرفضت ، منحتها كلينكس فرفضت ، كان كل مافيها يرتجف كمن به نزلة برد شديدة في عز الحر، ملامح وجهها شفتيها، أصابع يديها كل قطعة لحم فيها تنتفض، خفت عليها من غيبوبة مفاجئة أو موت بالسكتة القلبية ، والدموع مثل الجداول تنساب من عينيها ، عند مدخل محطة العرائش ومن غير أن أكمل الرحلة إلى القصر الكبير، ودعتها، لكنها لم ترد على كلماتي ولا هي شعرت بي أصلا، وماعساها تقول الآن فكما خانها الحظ و معهما الزمن والأهل خانتها اللغة ، فالصمت أبلغ من الكلام في مثل هاته المواقف المحزنة.

 

طلقت الحافلة والعالم ، وقصدت دروب سوق الصغير، لأجدني مرة أخرى غريبا قبالة البحر.

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.