اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

• زيور خطاب وصومعته الفكرية

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

جودت هوشيار

زيور خطاب وصومعته الفكرية

لا أجافي الحقيقة إن قلت، اننا قد لا نجد اليوم بين الجيل الجديد من المثقفين الكرد، من كرس جل حياته ومعظم وقته للفكر، كما كان شأن المثقفين الكرد الكبار دوما، ولعل الأستاذ زيور خطاب خير ممثل لهؤلاء الكبار، فقد  عاش متأملا فى حياة ومؤلفات عظماء العلم والفكر والأدب، الذين  أضحوا أنيسه وجليسه، لا يفارق عوالمهم  أبداً. هذا ما قلته للصديق الدكتور محسن محمد حسين - عضو الأكاديمية الكردية -  ونحن فى طريقنا الى صومعة زيور خطاب الفكرية، التي يحيا فيها وتحيا فيه طوال حياته..

يستقبلنا كعادته هاشاً باشاً، ثم  نصغي اليه ونحاوره حواراً شيقاً في آخر قراءاته وأفكاره ونجول معه في عالم آخر، رائع وجميل وممتع، ليس فيه سلطان غير سلطان  الفكر والقلم، آراؤه في ما يجري حوله وفي العالم من أحداث تنم عن عمق فكري قد لا نجده عند الآخرين من مثقفي هذا الزمان المادي، الذي لم يعد فيه مكان سوى للمصالح الشخصية الضيقة والإهتمامات اليومية الزائلة.

زيور خطاب شخصية لا يجود بها الزمان كثيرًا. ليس لمغريات الحياة المادية، أية قيمة حقيقية لديه، فقد زهد في المال والثروة والمنصب، وهو سليل الأغوات، وكان بإمكانه أن يتبوأ مناصب رفيعة لو شاء ذلك، ولكنه فضل عالم الفكر على عالم المال والسياسة والجاه والشهرة. وقصّر عمرهُ وجهدهُ فى القراءة والتأمل. يقول مخاطباً الراحل مسعود محمد: " نعيش دنيا نملكها والناس يعيشون دنيا تملكهم... ان كل المفكرين العظام كانوا متصوفة بمعنى من المعاني، يعيشون الحياة وفق مقاييسهم الخاصة."

يقول فى كتابه المعنون "سيرة فكرية" الصادر فى العام 2010م: " أنا أنطلق من تجربتي الخاصة، الا أن العظام دائما في ذهني وأمام ناظري، أنا لم أحقق شيئا الا عن طريق هؤلاء، أنا دائما عشت في أجواء العظام والقيم الرفيعة وكنت أنظر دائما الى السماء والى فوق، تجاوزت كثيرا من الأمور، التي تواضع عليها الناس وأستغنيت عن أمور كثيرة وشحذت ذهني للوصول الى الحقيقة، الا أنني أطمع في المزيد".

غير أن مصاحبة العظماء لم تنتزعه من الحياة اليومية للمجتمع الذي يعيش فيه، فهو يخالط الناس والمثقفين منهم على وجه الخصوص، الذين يزورونه في صومعته الفكرية. ويقول ايضاً: "بودي ان أنهي المسألة بضربة واحدة، أنا لا أريد أن أنهي المسألة بالإبتعاد عن الناس والإعتزال وتجميد نفسي وعقلي، بل أريد أن أكون مع الناس ولا أريد أن أنفصل عن الحياة. الحياة هي مادة الفكر، مادة العقل، العقل في الفراغ لا ينتج شيئا.

زيور خطاب قارئ نهم، ولكنه إنتقائي في قراءاته، فهو يفضل العيش في عوالم الخالدين من  الشعراء والكتاب والعلماء والمفكرين (الجواهري، طه حسين، كزانتزاكي، نهرو، تولستوي، أبو العلاء المعري، برتراند رسل وغيرهم).

القلم لا يفارق يده، عندما ينهمك في قراءة كتاب ما يسجل ملاحظاته على هوامشه. وهذا النوع من القراءة الجادة، مفيد لشحذ الذهن وللتأمل والتفكير الخصب، ويوحي بأفكار جديدة. وهو اسلوب يتبعه  كثير من المثقفين. وكتبه الخمسة الصادرة لحد الآن هي ثمرة قراءاته التأملية، وهو في نتاجاته، يسعى لأن يرتقي بالقارئ، ليدخله الى عالم أسمى من عالم المادة والمصالح الآنية الضيقة. ورغم انه كرس جل وقته للقراءة وللمعرفة والاجتهاد والتميّز ولكنه مقل في النشر، والقارىء ينتظر منه المزيد، لأن ما يدخره من أفكار أكثر بكثير مما نشره لحد الآن.

ان  من أغرب وأسوأ عاداتنا نحن الشرقيين، اننا لا نعرف قيمة رجال الفكر والثقافة في مجتمعنا الا بعد رحيلهم عن هذه الدنيا الفانية. وحتى بعد رحيلهم نفاضل بين هذا وذاك إعتماداً على معايير غير موضوعية. ويتجلى ذلك في الأسماء التي تطلق على المدارس والقاعات والشوارع والتركيز على إعادة طبع مؤلفات بعض رموزنا العلمية والثقافية دون البعض الآخر.

زيور خطاب رمز من رموز الثقافة في مدينة أربيل- العريقة الشامخة، التي أنجبت في الماضي جمهرة من العلماء والمؤرخين والمفكرين والأدباء والشعراء والفنانين –  هذه المدينة، التي تشع اليوم نورًا في الوسط العراقي الدامس. ولكن حتى في مدينة ثقافية بإمتياز وعريقة في الحضارة والتمدن  مثل أربيل، يظل زيور خطاب نجما لامعا يضئ ما حوله فكرا ونورا. معتزا  بنفسه دون غرور أو إدعاء. ويبدو لي، أنه يفضل البقاء خارج دائرة الأضواء والشهرة. وهو لحسن الحظ ليس من أصحاب الألقاب الأكاديمية، الذين غالباً ما تكون نتاجاتهم وإهتماماتهم محصورة ضمن نطاق تخصصاتهم الضيقة. أما صاحبنا، فإنه يحيا في عالم فسيح يتنفس نسيم الحرية بأوسع معانيها.

وثمة قول فلسفي بليغ -  ورد فى (الأهداء) الذي يتصدر كتابه الموسوم "في عالم الفكر،  ليست ذكريات" - هو خير تعبير عما سعى ويسعى اليه فى الحياة:

وكنت أعرف ان من واجبي

أن أعطي لرحلتي معنى

نعم، أن اعطي لرحلتي معنى، أليس هذا ما فكر فيه وعمل من اجله الفلاسفة والكتاب العظام فى كل مكان وزمان؟

يقول فى سيرته الذاتية: "في سنة 1948 كنت في الخامس الإعدادي وكان عدد الطلاب لا يتجاوز الأربعين وكانت الثانوية التي أدرس فيها، الثانوية الوحيدة في أربيل، وكانت تلك السنة، سنة الوثبة (27 كانون الثاني) وكان الطلاب في  المقدمة من تلك الوثبة وقد سقط منهم شهداء، وكانت سنة مثيرة وقلقة وحاسمة في حياتي- وقد أخترت كلية الحقوق، لأنها أقرب الى نفسي".

وخلال دراسته في الكلية كان يوزع وقته بين الدراسة وقراءة الكتب الفكرية والأدبية ومقهى (حسن العجمى) الذي كان ملتقى الأدباء والشعراء والصحفيين، منهم الجواهري. وقد جرب الكتابة فى هذه الفترة ونشر بعض كتاباته في الصحف ومنها جريدة (صوت الأحرار) البغدادية. ويقول أنه، بينما كان يعيش في هذا العالم الصغير ويفكر في الإنسان وما يليق بالإنسان وما يصون كرامة الإنسان، اذا به يلقي فى ظلمات المواقف والسجون. ومن حسن الحظ أن ذلك لم يدم طويلا حيث أفرج عنه بعد فترة وجيزة، وكانت تجربة أليمة ومفيدة له في آن. ورغم تخرجه في كلية الحقوق، الا أنه كما يقول: " يرى نفسه مرصودا لشيء ابعد مما يسعى اليه الآخرون واستمر في لعبته المفضلة، لعبة الفكر والكلمة ".

أسلوبه في الكتابة

يقول الكاتب الروسي العظيم أنطون تشيخوف:" الإيجاز صنو الموهبة" وقلما تجد بين كتاب اليوم من يكتب بإيجاز وتركيز مثل زيور خطاب، ففي مقال لا يزيد حجمه عن صفحة أو صفحتين، تراه يقدم لك أفكارا جديدة ومعمقة –وأشدد على كلمة الجديدة– وأرى أن هذا نتاج طول تأمل وإدامة نظر في الموضوع الذي يكتب عنه. قال أحد العظماء وأظنه انشتاين: "تسعة أعشار وقتي للتفكير والتأمل في المسألة التي تشغل بالي والعشر الباقي لإختيار الحل المناسب. أي أن التفكير طويلا في أي موضوع، هو الذي يفضي غالبا الى الأستنتاجات الصحيحة، وهذا ينطبق تماما على كتابات زيور خطاب.

مع الجواهري

زيور خطاب من عشاق شعر الجواهري، لا يمل ولا  يكل من ترديد قصائده الرائعة ويعتبره قمة شعرية شامخة لم تنجب العربية مثله منذ المتنبىء، وبلغ  من شدة إعجابه بشاعر العرب الأكبر، أن كرس أحد كتبه للإشادة بشاعرية الجواهري ونصاعة بيانه وفصاحة وجزالة لغته مع باقة من مختارات شعره .

وعلاقته بالجواهري وشعره  قديمة ويقول فى هذا الصدد: "منذ 1948 وأنا أتابع الجواهري الشاعر والصحفي والسياسي، أقرأ كل ما كتبه وكل ما كتب عنه... وأعتبره إمتدادا للشعر الجاهلي. و هو رأي، قد يكون مثيرا  للجدل.

مع مسعود محمد

إذا كانت علاقة زيور خطاب بالجواهري علاقة اعجاب وعشق قارىء لشعر شاعر عظيم، تتخللها أحيانا بعض الرسائل المتبادلة، فأن علاقته بالغائب الحاضر المفكرمسعود محمد، كانت علاقة عن قرب، إمتدت لأكثر من نصف قرن وكانا يلتقيان يوميا في اربيل في السنتين الأخيرتين من حياة مسعود محمد. إن ما يجمع بينهما هو الإعتزاز بالنفس والإيمان العميق بالمثل العليا والقيم الروحية الرفيعة وإعلاء شأن الإنسان وشأن الكلمة، بعيداً عن كل المغريات المادية، التي لا تضفي على الأنسان أية قيمة حقيقية، لأن قيمة الأنسان، وقيمة المفكر على وجه الخصوص تتجلى في السعي لخير المجتمع وتقدمه وتطوره ومن أجل حياة  حرة كريمة لأمته وللبشرية جمعاء.

جودت هوشيار

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.