اخر الاخبار:
قاضٍ أمريكي يُغرّم ترامب ويهدده بالسجن - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 20:36
مصدر: صفقة «حماس» وإسرائيل قد تتم «خلال أيام» - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 11:00
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

صدام حسين: شهادة أخيرة// إبراهيم الزبيدي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

إبراهيم الزبيدي

 

عرض صفحة الكاتب 

صدام حسين: شهادة أخيرة

إبراهيم الزبيدي

 

ما يحدث دائما لأي حاكم استثنائي في أية دولة من دول العالم وفي أية مرحلة من مراحل التاريخ حدثَ لصدام حسين.

فقد كُتبت، وسوف تظل تكتب، عنه وعن سيرته السابقة واللاحقة أطنانٌ من الدراسات والمقالات والشهادات، ولكنَّ كثيرا منها صحيح وكثيراً منها، أيضا، ملفَّق ومؤسَّس، مُسبقا، ومدسوس بدوافع ثأرية، أو لأهداف حزبية أو طائفية أو عنصرية مختلفة.

نعم، إن صدام حسين استثنائي، ومن نوع فريد. فمن آخر الصفوف، ومن بيئة اليتم والفقر والإهمال والضياع أجاد الصعود إلى حيث يحكم دولة بحجم العراق، وفي أغنى مراحل تاريخها، مالا وشعبا وثروة. فبعقريته الأمنية التآمرية المبتكرة المتجددة تمكن من أن يُكوّر حزب البعث العربي الإشتراكي ويضعه خاتما في إصبعه، ويجعله جهاز مخابراته، وأداة حمايته وحماية أسرته ونظامه، والمؤيدَ والمبارك والمشرّع لسياساته وقراراته، صائبة كانت أو خاطئة، عادلة أو ظالمة، عاقلة أو حمقاء، الأمر الذي مكنه من أن يجعل كل ما يبذله أعداؤه الخارجيون، إيرانيين وسوريين وخليجيين، لإسقاطه يسّاقطُ جهدا بعد جهد، ويوما بعد يوم، ويجبر معارضيه العراقيين على الهرب والاختباء في دول اللجوء، أو الاقتناع بأن سقوطه لا يمكن تحقيقه إلا بدولة كبرى بوزن أمريكا تغزو العراق، وتجتاحه بجيوشها الجرارة لإسقاطه وشنقه في النهاية. وهذا هو الذي كان.

نعم، إن الحديث عن صدام حسين أصبح مملا ومكررا ولا جديد فيه. ولكن، لكثرة ما لحق بتاريخه الشخصي والأسري والعشائري والسياسي من أخبار وقصص وحكايات غير أمينة أو غير عادلة وجدت من واجبي أن أدلي بهذه الشهادة الأخيرة، وأغلق هذا الملف، ولن أعود إليه.

 

أصله وفصله:

العشائر الرئيسية الكبيرة التي سكنت تكريت ثلاث، التكارتة ويسكنون في شمالها، والحديثيون في غربها، وألبو ناصر في شرقها المواجه لقرية العوجا التي تبعد 11 كيلو متر عن تكريت.

وعشيرة ألبو ناصر تتفرع إلى، ألبو عمر، ألبو خطاب، ألبو مُسْلُط، ألبو عبد الغفور، وألبو بكر، ألبو مجيد، ألبو سلطان، ألبو عبد المنعم ومنهم آل الرشيد. وصدام حسين من فخذ آل المجيد المتفرع من ألبو ناصر، وأغلب أبنائه بقي في قرية العوجا التي تبعد عن تكريت، جنوبا، أحد عشر كيلو مترا، وكان بعضهم يمتهن  الزراعة، ومنهم إبراهيم الحسن زوج صبحة طلفاح، وبعضهم الآخر أضطر لامتهان الإغارة على منازل مدينة تكريت وسرقة دجاجها بسبب الفقر والجهل وقسوة الطباع.

بالمقابل كانت الأفخاذ الأخرى المتفرعة من ألبو ناصر الساكنة في تكريت أكثر تمدنا ومسالمة وتحضرا ومكانة، ولم يعرف عنها العنف والشدة والعداء، خلافا لما كانت عليه طباع ألبو عْمَرّ، وخاصة ألبو مُسْلُط، (خير الله وصبحة وليلى وبدرة طلفاح)، وألبو مجيد، (حسن المجيد وحسين المجيد).

في بيئة من هذا النوع ولد صدام حسين 1937 بعد وفاة والده حسين المجيد. والثابت تاريخيا أن العلاقة بين ألبو مجيد وألبو عبد الغفور وباقي ألبو ناصر والعشائر الأخرى الساكنة في تكريت وضواحيها لم تكن علاقة عمودة وتراحم وثق، بل كانت تتملكها كراهية متبادلة وصلت في بعض حالاتها إلى القتل والقتل المقابل. بل كان القتل والاغتيال والكيد والغدر يحدث بين أبناء الفخذ الواحد، وهناك أدلة وأسماء وأحداث معروفة ومتداولة بين أهالي تكريت.

 

صدام ثلاثة في واحد

للقيادي البعثي التكريتي المعروف، صلاح عمر العلي، توصيف لشخصية صدام حسين صائب ودقيق. فقد أكد أنه شخصان في شخص واحد. فحينا ترى فيه ذلك الشخص اللطيف المهذب الذي يحترم محدثيه ويستمع إليهم بود، وحينا آخر تجد فيه العنيف القاسي المستعد لقتل خصمه دون تردد.

أما أنا فبحكم رفقتي الطويلة أجعله ثلاث شخصيات لا تشبه الواحدة منها الأخرى. الأولى شخصية الريفي العراقي البسيط الممتليء بالنخوة والكرم والشهامة. والثانية شخصية المتدين العروبي المتعصب المعبأ بقصص خاله خير الله طلفاح عن تراث الأجداد العرب الأشداء الأوائل، وعن الرجولة والشجاعة ورد الظلم، وأخذ الثأر، والانتقام. أما الثالثة فهي شخصية السياسي الطموح الذي اكتشف أن طريقه إلى الصدارة في الحزب يتطلب المزج المتقن بين النعومة والشدة، وبين الحب والكره. وبعد أن أصبح الساعد الأيمن لقريبه رئيس الجمهورية وأمين سر القيادة القطرية لحزب البعث ورئيس مجلس قيادة الثورة، بعد الانقلاب السهل الناجح على نظام عبد الرحمن محمد عارف في1968، وجد أنه محتاج لشعرة معاوية، فيدٌ تحمل صرة مال، والأخرى تمسك بمسدس جاهز للاستعمال.

وحين تولى منصب نائب رئيس مجلس قيادة الثورة في العام 1974 أصبح في النهار يستقبل مكالمات المواطنين، ويستمع لشكاواهم، ويلبي طلباتهم، ويزور منازل الفقراء ويعطف عليهم، وفي الليل يدبر ويخطط وينفذ حملات تسقيط الخصوم، وأعداء الحزب والثورة، ثم بعد ذلك أعداء القبيلة، ثم الأسرة الحاكمة. ومن ضحاياه كان رفاقُه في الحزب ومجلس قيادة الثورة المعارضون لصعوده السريع إلى القمة في الحزب والسلطة.

 

بين تكريت والعوجا:

لكثرة ما كنتُ أتردد على منزل خير الله طلفاح في تكريت، وما تسببه ثرثراتنا، نحن الثلاثة، عدنان وصدام وأنا، من إزعاج لأهل الدار، فقد اقترح علينا خير الله أن نبني غرفة لنا في باحة المنزل الواسعة. وتم قبول اقتراحه على الفور،  بشرط أن نقوم نحن ببنائها وبأقل التكاليف. كنا، صدام وأنا، البنّاءيْن، نقف على أعلى الجدار نتلقى من عدنان ومن ساجدة الطين والِلبِن (الآجر الطيني المجفف).

وحين كبرنا قليلا صرنا نسافر معا إلى قرية العوجا مرة كل أسبوع، في شهور الصيف فقط، حين يعود عدنان من بغداد، لزيارة صبحة والدة صدام، بزورق صغير ينساب في الذهاب مع مجرى نهر دجلة في رحلة جميلة ساحرة. لكنه في العودة يصبح مهمة شاقة ثقيلة كريهة يحاول كل منا التهرب منها. إذ كان علينا سحبه عكس تيار الماء بجهج جهيد، مسافة عشرة كيلومترات. وكنا نتناوب على سحبه بالتساوي.

وفي إحدى تلك الزيارات تعرفت على (دْهام) الذي كان شهيراً يومها بأنه (البطل).  قيل لي إنه قتل أحد أعمامه، ومكث في القرية دون أن يختفي، ودون أن يجرؤ شرطي من التكارتة على إلقاء القبض عليه خوفا من انتقامه. ودهام هو ابن إبراهيم الحسن (أحد أبناء عمومة حسين المجيد والد صدام)، وهو أيضا الأخ الأكبر لبرزان وسبعاوي ووطبان، من أم غير (صبحة) والدة صدام، وهو الذي جعلني أمسك بالبندقية لأطلق منها الرصاصة اليتيمة في كل حياتي، فقد كرهتها حين رجّتني وكادت أن تلقي بي على الأرض، وسط ضحك دهام وصدام وعدنان.

 

الوالدة:

صبحة طلفاح إمرأة فاضلة بمقاييس التقاليد القروية والعشائرية المتزمتة، وكل من افترى عليها كذبا، وحاول الإساءة إلى عفتها وشرفها آثمٌ وظالم ومزور تاريخ.

إبراهيم الحسن:

فلاح بسيط يعمل أجيرا لدى خير الله طلفاح شقيق زوجته الذي استولى على أرض في العوجا ونصب فيها مضخة ماء ليقوم صهره وزوجته وأولاده بزراعتها بالخضراوات العادية البسيطة التي كانت تصدر إلى مدينة تكريت.

أما دار إبراهيم الحسن في العوجا فلم تكن داراً كما تُعرف الدور. فهي غرفة واحدة لكل احتياجات الأسرة، غرفة النوم والطعام والضيوف. وفي الليل، وكنا في فصل الصيف، ننام على حصيرة خارج المنزل، صدام وعدنان وبرزان - وكان صغيراً – وأنا.

وخلافا لما تداوله مؤرخون وكتاب كثيرون لم يكن إبراهيم الحسن قاسيا على إبن زوجته صبحة، صدام حسين، إلى درجة أنه كان يضربه بالعصا، ويُحمّله ما لا طاقة له به من الأعمال والمهمات الشاقة.

وفيما يخص هذه المسألة كان الأمر الذي لم أفهمه من تلك الزيارات هو نفور إبراهيم الحسن من إبن زوجته من  المتوفى حسين المجيد. كان يتلقانا (عدنان وأنا)  ببشاشة وود كبيرين، لكنه لم يكن يمنح صدام شيئا من تلك البشاشة.

أما الوالدة صبحة فقد كانت تبدو لي كأنها تتعمد عدم إظهار حبها لولدها صدام، ربما مجاملة لزوجها، ولعدم إثارة حنقه عليها وعلى صدام.

وربما كان هذا هو السبب الذي دفع بالأخير إلى الهجرة إلى تكريت للسكن في منزل خاله خير الله في الصيف، ومنزل خالته ليلى في الشتاء حين يعود خير الله إلى بغداد، خلافا لقصص وحكايات مفبركة تقول بأن طموحه للدراسة كان هو السبب في هروبه من العوجا والتجائه لمنزل خاله خير الله في تكريت.

 

السمك:

كانت هوايتنا الوحيدة صيد السمك. أمه صبحة كانت تشجعنا كثيراً على ذلك.  خصوصاً وأن لصدام خبرة مبكرة في تركيب قنبلةٍ خاصة ترمى في النهر لتقتل السمك الذي يطفو على سطح الماء بعد انفجارها. كان يشتري عجينتها من مكان، وفتيلتها من مكان آخر. كان ينزل إلى النهر، ويذهب، بجرأة عجيبة، إلى مدى بعيد ثم يشعل الفتيلة  وينتظر ويتأملها طويلا، وهو ينظر إلينا ليثبت لنا شجاعته، ثم يرميها. وما هي إلا لحظات حتى يهتز الشاطيء ويتدفق الماء ويطفو السمك فنتسابق مع تيار الماء لالتقاطه.

 

صدام والغناء:

من تلك الأيام أتذكر أن عدنان كان معجباً جداً بأغنية لفايزة أحمد كانت تذاع كثيراً من الإذاعة هي أغنية (أسهر وانشغل أنا)، وكان يغنيها بصوته كثيرا، فيردعه صدام وهو غاضب بنوع من الاستصغار والاستهجان، صارخاً بوجه عدنان بأن الغناء ميوعة وشيء معيب. كما أتذكره كيف كان يسخر من عدنان ومني حين نتحدث عن الحب والفتيات الجميلات.

 

في بغداد:

في العام 1957 كان صدام وعدنان قد سبقاني إلى ثانوية الكرخ الواقعة إلى جانب جسر السراي الذي سمي فيما بعد بجسر الشهداء، وكان خير الله طلفاح مديراً لدار المعلمين الابتدائية في أبو غريب ويسكن في الجعيفر.  ولأنني من دون أقارب في العاصمة فقد سكنت في فندق (التيسير)  القريب من الثانوية. وفي اليوم التالي لوصولي إلى بغداد أخذني خير الله طلفاح إلى مدير ثانوية الكرخ، يونس محمد أمين، وتوسط لي، فقبلت ونسبت لشعبة الخامس (أ) أدبي الشهير بقيادة التظاهرات الطلابية، حيث عدنان خير الله وسامي مهدي والقاص الراحل موفق خضر ومثنى حمدان العزاوي الذي قتل في الهجوم على وزارة الدفاع في انقلاب1963، وآخرون، أما صدام فكان في الصف الرابع – علمي في الثانوية نفسها.

 

محمد فاضل الجمالي:

في عام 1957 أكملت كتابة ديوان شعري صغير باسم (في سبيل الوطن).  ولأني لم أكن أملك ثمن طباعة الديوان فقد تطوع خير الله طلفاح وعبر معي بزورق من الجعيفر إلى سوق السراي ليكفلني عند صاحب مطبعة أسعد، على أن أسدد ثمن الطباعة من عوائد المباع.

وبهدف الترويج للديوان كان علي أن أزور الصحف لإهداء نسخ منه للمحررين المسؤولين عن الصفحات الثقافية فيها.

رافقني صدام إلى جريدة العمل التي يصدرها رئيس الوزراء السابق الدكتور فاضل الجمالي رئيس حزب العمل. دخلت على الصحفي محمود الجندي الذي كنت أتعرف إليه لأول مرة، وعرضت عليه النسخة ورجوته الكتابة عن الديوان. لكنه نهض ودخل غرفة مجاورة وعاد ليطلب مني مقابلة (الدكتور). مكث صدام في غرفة محمود. وحين دخلت وجدت فاضل الجمالي مبتسما وفي يده الديوان، ويمازحني قائلا "يا حرامي".  خفت وخجلت من هذه التهمة. فبادرني قائلا: كيف تثبت لي أنك كاتب هذا الشعر؟ هدأت قليلا، وطلبت منه أن يسألني عن أية قصيدة من قصائد الديوان،  بحرها، موضوعها، مناسبتها – مثلاً – لأثبت له أنني كاتب هذا الديوان. قال: لا، أريدك أن تكتب بيتين عن جريدة العمل. وأعطاني ورقة وقلما. هممت بالكتابة، لكنني قلت له إن الشاعر المحترم يا دكتور لا يكتب شعره حسب الطلب، فهذا ما كان يفعله المتكسبون في العصر الجاهلي فابتسم وصدّق أنني صاحب هذا الديوان، وتمنى لي التوفيق، ونادى محمود الجندي وطلب منه الاهتمام بالكتاب.

كان صدام قد أحس بالملل والقلق بعد أن طالت جلستي في مكتب الدكتور. ونحن هابطان على السلم الضيق المظلم في طريقنا إلى شارع المتنبي سألت صدام:

هل تعلم من هو الدكتور الذي قابلته؟

قال:  لا، من؟

قلت: هو  الدكتور فاضل الجمالي.

سألني:  كيف كان معك؟

قلت: كان لطيفاً وراقياً وكريماً جداً. أخبرته بحكاية الاختبار الذي خضته. فجأة توقف صدام وقال:

تعال لنعود إليه لأطلب منه أن يقبلني في حزبه.

ضحكت وقلت، ولماذا تريد الانضمام إلى حزبه؟

قال:  لأن في إمكانه أن يساعدني ويأمر بتعييني في الأمن.

ضحكت من الفكرة، وواصلت سيري في شارع المتنبي وهو يتبعني ويلح علي.

 

اغتيال الحاج سعدون الناصري:

في منتصف تموز 1958 كنت في بغداد حين حدثت الثورة، ورأيت حملة إسقاط تمثال (مود) القائد البريطاني الذي احتل بغداد وهزم العثمانيين، والمظاهرات الصاخبة التي عمت بغداد تأييداً للثورة. وزرت خير الله طلفاح في منزله ورأيته متحمساً في ثنائه على بعض قادة الثورة.  لكن صدام لم يخبرني بأنه عازم على المجيء إلى تكريت خلال عطلة الصيف.

بعدها بشهرين تلقيت رسالة سارة مفاجئة من ناشر في بغداد اسمه خالد العاني يعرض علي فيها إعادة طباعة الديوان، للاستفادة من أمر صادر من وزارة المعارف لجميع إدارات المدارس يوصي باقتنائه.

وفي الأيام التي كنت أرتب فيها أموري للسفر إلى بغداد فاجأني صدام بزيارة في تكريت، وأبلغني أنه وصل تواً من بغداد في زيارة شوق لأهله، ولن يمكث طويلا. فاتفقنا على أن نسافر معاً إلى العاصمة. كان الوقت أول ساعات المساء.  طلب مني مرافقته في جولة في المدينة، نسهر بعدها كعادتنا القديمة في إحدى المقاهي. وقمنا بجولة ممتعة على مقاهي تكريت كلها. ثم استقر بنا المطاف في مقهى تقع على الطريق العام المعبد الوحيد في تكريت الذي يربط بغداد بالموصل والشهير باسم (المبلط) فهب صاحب المقهى (عبد)، وهو من قرية العوجا ومعروف بأنه شيوعي، ليستقبل صدام بالأحضان. وكان شائعاً عن تلك المقهى أنها مقهى الشيوعيين، وأن أغلب روادها الدائمين من الشيوعيين وأبناء العوجا، وأشهرُهم نائب الضابط المتقاعد في القوة الجوية الحاج سعدون الناصري، وكان يقال إنه من قادة التنظيم الشيوعي في تكريت. نهض بحماسة أهل العوجا واحتضن صدام بحرارة، وأصر على أن نشاركه الطاولة ونُمضي معه السهرة.

في تلك الجلسة سأل صدام سعدون إن كان يحمل مالا، فبادر سعدون وأخرج كيس نقوده، فاختار صدام منها دينارين فقط على مرأى ومسمع من الجميع. غادرنا المقهى في حوالي العاشرة ليلا، وبقي سعدون يكمل السهرة. ورحنا، صدام وأنا، نتجول في أزقة تكريت. وهنا ينبغي إيضاح شيء مهم في هذا الخصوص. إن الأزقة التي تؤدي إلى دارنا ودار ليلى طلفاح (خالة صدام) والتي كان ينوي المبيت فيها تلك الليلة، كانت ضيقة جداً ومظلمة تماماً. وصلتُ إلى دارنا أنا أولاً، وودعني وأكمل سيره إلى منزل خالته.

وفي الصباح الباكر صحوت على صوت والدتي وهي ترتجف من الخوف وتسألني:  ماذا فعلت؟ وتخبرني بأن الشرطة في الباب يسألون عني. نزلت على عجل، فوجدت شرطيين أخذاني معهما إلى مركز الشرطة، وكل ما قالاه لي في الطريق هو أن الحاج سعدون قُتل وأنني الشاهد الوحيد. ثم علمت بأن سعدون نطق باسم صدام قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.  لم تنفع شهادتي أحداً، لا السلطة ولا الشيوعيين ولا صدام حسين. فالذي رأيته ورويته عن السهرة وعن الدينارين اللذين استلفهما صدام من سعدون، وتأكيدي أنني دخلت منزلنا أولا ثم واصل هو سيره، لم ينفع في نفي التهمة عنه أو تأكيدها. وألقي القبض على صدام في اليوم نفسه، وتم ترحيله إلى بغداد بعد يومين. ثم علمت بأن خير الله ولطيف طلفاح وعدنان قد ألقي القبض عليهم أيضا وأودعوا موقف السراي.

كانت هناك قناعة لدى كثيرين من التكارتة بأن صدام هو القاتل. وعلمت بعد ذلك بمدة طويلة، من أحد أفراد العائلة أن القتيل كان قد رفع مذكرة حزبية يلتمس فيها طرد خير الله طلفاح من مديرية المعارف، باعتباره أحد الرجعيين أعداء الثورة والزعيم. وكانت ثورة تموز قد عينت خير الله مديراً لمعارف لواء بغـداد (تربية محافظة بغداد) بعد توحيد مديريتي معارف الكرخ والرصافة، ولم يمكث في الوظيفة سوى شهرين أو أقل، أحيل بعدهما على التقاعد. وتمكن خير الله من الحصول من أحد أقاربه المنتمين إلى التنظيم الشيوعي في تكريت على مضمون المذكرة التي رفعها ابن عمومته سعدون.  وفي نظر خير الله والعشيرة أن الثأر أمر لازم، حتى لو كان من ابن عم، ومن العشيرة  نفسها.

ولقناعة الشيوعيين بهوية القاتل، ولعدم وجود شاهد عيان نافع واحد أو دليل يثبت الجريمة على صدام، لجأوا إلى تكليف اثنين من التكارتة المتعاطفين معهم للإدلاء بالشهادة زوراً في المحكمة، رغم أنهما لم يشاهدا شيئاً على الإطلاق. وأذكر منهما واحداً يقال له (ملوكي)  ومعروف أن شاهد الزور يناقض نفسه حين يخوض في التفاصيل الدقيقة، خصوصاً إذا كان في مواجهة محامٍ شاطر يتقن الإيقاع به. وهكذا كان، وثبت تناقض الشاهدين أمام المحكمة بفعل هجوم هيئة الدفاع الضخمة التي كان يرأسها المحامي القومي الشهير عبد المحسن الدوري. وأذكر أن صدام هتف في المحكمة عند النطق بالحكم ببراءته: (ظهر الحق وزهق الباطل).

لا أعلم ما إذا كانت محكمة الشعب قد طلبت إحالة القضية إليها بعد ذلك. لكن الذي أذكره أن العقيد فاضل عباس المهداوي رئيس المحكمة الخاصة أشاد بـ (الشهيد) سعدون، وهاجم القاتل المجرم صدام التكريتي. لقد كانت هذه الشتيمة مفتاح الحظ لصدام. فقد أبرزت اسمه كثيرا، وجعلت حزب البعث يستدل على مقاتل ينفع في مواجهة أعداء الحزب، فسعى إلى ضمه إليه في محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم الفاشلة في 1959.

وتكشف شهادة الملازم فالح الناصري (شقيق المغدور الحاج سعدون) في محكمة الشعب، المنشورة ضمن الجزء الخامس من محاضر جلسات المحكمة، في الصفحات 407 - 410 جانباً من الخلافات بين ذوي القتيل سعدون الناصري، وبين خير الله طلفاح وابن شقيقته صدام، حيث يقول فالح في شهادته، إن شقيقه الحاج سعدون التكريتي كان من المناوئين للمرشح الحكومي لمجلس النواب في العهد الملكي، عن مدينة تكريت، علاء الدين الوسواسي المحسوب على خليل كنة أحد مساعدي نوري السعيد. وخلال آخر انتخابات نيابية جرت قبل ثورة 14 تموز كان خير الله طلفاح يدعو إلى انتخاب الوسواسي وحصلت بينه وبين قريبه سعدون الناصري مشادة كلامية وسوء تفاهم وشجار.

ويمضي فالح الناصري في شهادته أمام محكمة الشعب، فيقول: بعد 14 تموز عين خير الله مديراً لمعارف لواء بغداد، وبعد فترة قصيرة نقل إلى التفتيش فاعتقد بأن سعدون الناصري وعلي حسن الرشيد معاون دار المعلمين الابتدائية في أبوغريب، قدما إخبارية للحزب الشيوعي عن علاقة خير الله القديمة بالوسواسي، فأرسل يوم 14 تشرين الأول 1958 ابن أخته الذي تبرأ منه أعمامه براءة رسمية، ورباه خاله منذ كان طفلاً بعد وفاة والده فضرب أخي وقتله، وأحب أن أذكر أن جميع المحامين لم يقبلوا بالدفاع عن خير الله طلفاح، إلا عبد الرحيم الراوي وهزاع عمر التكريتي وعبد المحسن الدوري وعبد الوهاب الخطيب.

ويسأل رئيس المحكمة العقيد فاضل المهداوي، الشاهد الملازم فالح الناصري، من الذي عين طلفاح في منصب مدير المعارف، فيجيب الناصري إنه وزير المعارف (وكان جابر عمر)، ويتدخل المدعي العام العقيد الركن ماجد محمد أمين ويقدم مرافعة بهذا الخصوص، يقول فيها: بالنظر لهذه المعلومات كما حصلت لي معلومات أخرى تربط بين هذه الحادثة، فإن هذه الإخبارية التي أشار إليها الشاهد وصلت إلى الأمن وعن طريق الأمن وصلت إلى خير الله، وقام بالعمل الشنيع، وهو الذي أرسل الشخص وقتل الشهيد (انتهت الشهادة).

وبعد سنوات، وتحديداً في عام 1974، دعا الرئيس أحمد حسن البكر، إلى مجلس عشائري حضره نائبه صدام، وخاله خير الله ونجله عدنان وزوج أمه إبراهيم الحسن وأولاده برزان ووطبان وسبعاوي وأولاد عمومة صدام، كما حضره أشقاء سعدون الناصري ووولداه، وسويت قضية مقتل الحاج سعدون عن طريق الفصل العشائري، وقيل إن صدام دفع (دية) رمزية كما تقتضي التقاليد العشائرية.

 

كاكا عزيز

ونحن في مرحلة الدراسة المتوسطة نُقل إلى ثانويتنا في تكريت مدرس كردي اسمه كاكا عزيز،  ومعه شقيقه بهزاد وهو في مثل أعمارنا.  كان عزيز شاباً وسيماً ولكن شديد البأس، متوسط القامة يتمتع بجسد قوي. وكان من عادته، لإظهار حزمه وشدته، أن يختار أحدنا قبل أن يباشر درسه، فينهال عليه ضرباً، حتى لو لم يكن هناك سبب كافٍ للعقاب.

وفي أحد الأيامضحك صدام وسمعه عزيز، فسارع إليه ولطمه على وجهه لطمتين بكفه، وعلى ظهره لسعتين من عصا يحملها معه باستمرار.  تحمل صدام الضربات بصمت. وسار الدرس بعد ذلك بهدوء، إلى أن دق جرس الاستراحة، ف تجمعنا ساخرين حول صدام، هازئين منه ومن صمته على ما ناله من المدرس عزيز.  لكنه ظل صامتا ولم يجب بشيء.

وعلم مدير الثانوية،  وهو من أهالي تكريت ويعرف أهلها خير المعرفة، فخاف من العاقبة. وشرح للمدرس عزيز خطورة أهل العوجا، ورجاه أن يتدارك الأمر بسرعة. وبالفعل  استقدم المدير صدامحسين  ولاطفـه وحـاول ترطيب الأجـواء، ورجاه أن يعتذر للمدرس، حتى وهو غير مذنب، إكراما للمدير ،ولكي ينتهي الموضوع. وبالفعل أقبل صدام على عزيز معتذراً بأدب جم، وظن الجميع أن الأمر قد انتهى عند هذا الحد.

كان عزيز يسكن مع أخيه في منزل متواضع يقع على آخر أطراف المدينة، في مواجهة الثانوية. وكانت المنطقة غير آهلة ومظلمة في الليل.

وفي اليوم التالي علمنا أن أحداً جاء راكباً على فرس وطرق باب منزل كاكا عزيز. وحين فتح أخوه بهزاد الباب أطلق الطارق عليه عياراً نارياً وهرب.  وعلمنا أيضا أن الرصاصة أصابته في ساقه. حمل كاكا عزيز أخاه إلى المستوصف لإسعافه، ثم ذهب إلى الشرطة واتهم صدام بالجريمة. وحين وصل أفراد الشرطة إلى منزل ليلى الطلفاح، حيث كان صدام يقيم في تلك الأيام، لم يجدوا الفرس ولا البندقية، وكان صدام نائما في سلام. كان المنزل يقع، كما أسلفت، في حي قديم ذي أزقة ضيقة لا تتسع لفرس بأي حال من الأحوال، فسُجلت القضية ضد مجهول وحزم كاكا عزيز حقائبه ورحل.

 

تدخل على طريقته

في أحد أيام صيف 1957 أرادت ليلى الطلفاح أن تجعل باحة المنزل الصغيرة إسمنتية لتتخلص من التراب والغبار ولتبدو دارها أكثر فخامة. فطلبت من صدام وعدنان ومني أن نقوم بمهمة تعبيد الباحة بالإسمنت.

تولى الصغير دحام تدبير كيسين من الإسمنت تمكن من سرقتهما بسهولة. فقد اختارت شركة (زبلن)  الألمانية التي كانت تقوم بشق وتعبيد الطريق العام بين بغداد والموصل، مدينةَ تكريت لتكون محطة وسطية لها بين بغداد والموصل وأقامت لمعداتها وجميع لوازم العمل مستودعات ضخمة في ضواحي المدينة. واختارت واحداً من أهل العوجا ليكون حاميها وحراميها في الوقت نفسه. وصادف في تلك الفترة أن قدم من الموصل صائغ اسمه محمد، واتخذ من دكان صغير مواجه لمنزل ليلى الطلفاح معرضاً ومعملاً لتصليح الذهب وصياغته .  أعطته ليلى قطعة من الذهب مع بعض المال لصياغة قطعة مختلفة. لكن محمد الصائغ لم يف بوعده.. ظل يماطلها أشهراً، ولا يعيد إليها قطعتها القديمة ولا الجديدة حتى طفح بها الكيل.  وبعد أن انتهينا من تعبيد باحة المنزل نادتني إلى داخل الغرفة، وبهمس، لئلا يسمع صدام، أخبرتني بالحكاية وكلفتني بالذهاب إلى الصائغ والتفاهم معه ومنحه مهلة ثلاثة أيام قبل أن تلجأ إلى القوة. أدرك صدام أن في الأمر سراً لا تريده خالته أن يعرفه. وحين خرجت لحق بي وحاول استدراجي لأخبره بالحقيقة. فأخبرته، لكنني رجوته أن يمنحني الفرصة لحل الموضوع سلماً، فإن عجزت فله أن يتدخل على طريقت. وافق على الشرط وواصلت سيري وهو إلى جانب. وما إن وصلنا باب الدكان حتى غافلني واندفع بسرعة البرق إلى الداخل وأغلق الباب وراءه. فلم اسمع سوى صراخ محمد وتوسلاته، منادياً أهل الغيرة، صائحا: الحقوني، سيقتلني. ولم تمض دقائق حتى خرج صدام وبيده حفنة من الذهب.

 

صدام يخسر أولى معاركه الحربية

يتذكر التكارتة أن القبّ (ويلفظ بالجيم المصرية) الواسع والطويل على نهر دجلة والذي جعله الله بالمصادفة برا من الحصى المتنوع، بجميع الاحجام والاوزان والألوان والاشكال، على امتداد اكثر من كيلومتر، يزدحم كل صيف بالمتفرجين المشجعين، رجالا ونساء، صغاراً وكباراً، وهم يشاهدون حروب (داحس وغبراء) تكريتية بين جيشين من الأولاد الغزاة المسلحين بأنواع وأحجام والوان مختلفة من المقلاع  المحجال) الذي توضع في طاسته حصاة واحدة او اكثر منقاة بعناية وبخبرة فائقتين، يُفضل منها الذي ما إن يسقط على الهدف حتى يتكسر ويصبح مئات من الشظايا المتناثرة التي تصيب (العدو) في اكثر من جزء من جسده. والمقاتل الماهر هو الذي يجعل قنابله (الحصوية) تسقط في المكان المحدد لها أمام العدو أو خلفه او الى جانبه. وكان المقاتلون يُعدون مقاليعهم بعناية وفن قبل وقت كافٍ من بدء القتال. وكان البعض منهم، وخاصة قادة الجيشين، يفاخرون بمتانة المقلاع وبطوله وضخامة (طاسته) التي تحمل ما يعجز الآخرون على حشره فيها.

الجيش الأول هو جيش أبناء قرية العوجا، والجيش المقابل هو الجيش الذي تآلف فيه التكارتة من أبناء ألبو خشمان والحديثيين.والشيايشة.

 ولم تكن المواجهات بين هذين الجيشين مقتصرة فقط على الأولاد، بل إن الآباء والأمهات والاخوة الكبار كانوا يتجمعون، غالبا، في مناطق آمنة ولكن مشرفة على ساحة القتال، وينخرطون في العصبيات المريرة التي تتطور أحيانا لتصبح اشتباكات دامية بالأيدي والارجل، وأحيانا أخرى بالسكاكين وبالمكاوير (عصي في رؤوسها كتل من القار الصلب)، تحزبا لهذا الجيش او لذاك. ولا أحد كان يعرف سر تلك الحروب وأهدافها ودوافعها. وعادة ما كان يقود الجيشين أصلبُ المقاتلين وأشدهم قسوة وأكثرهم عنادا واندفاعا ودهاء، وحماقة أيضا.

كان جيش أهل العوجا يتمترس شمال شاطئ دجلة، من ناحية حي الحارّة (الساخنة)  لحماية ظهره بمنازل الأهل والاقارب المطلة على شاطئ دجلة من أعلى جبل جعله الله وكأن أحدا قطع سفحه بسكين، في حين يتموضع الجيش المقابل في الفسحة الواقعة ناحية جهة (القلعة) التي يسكنها التكارتة، والتي لا يجرؤ أحد من أهل العوجا على السكن فيها، كرها أو خوفا من الغربة القاتلة. وكثيرا ما كانت تسبق مواجهات النهار مؤامراتٌ واستحكامات وتحالفات سرية تجري تحت جنح الظلام، استعدادا لكسر العدو، وايقاع الهزيمة الحاسمة به، وإخراجه من ساحة المعركة أياما وأسابيع.

في ذات صيف  آلت قيادة جيش التكارتة الى خالد فارس الخشماني، وهو أحد ابناء زعماء ألبو خشمان، فيما آلت قيادة جيش أهل العوجا الى صدام حسين، يساعده واحد من أبناء عمومته، هو هزاع فيزي الهزاع.

لجأ قائد التكارتة الى الخديعة. فقد اختبأ خلف خطوط العدو، مبكرا ومن الليلة السابقة، فوزع عددا من أفضل مقاتليه على خرائب منتشرة في حي الحارة نفسه، ومطلة من أعلى الجبل على ساحة المعركة، بعدما أخذوا معهم ما يحتاجون اليه من أكل وشرب.

وحين ابتدأ النزال في اليوم التالي شاهد القائد صدام حسين جيش عدوه قليل العدد والعدة، ومُبعثر الصفوف وقد غاب عنه أفضل مقاتليه الأشاوس، فطمع، وظن أن الحظ قد ابتسم له اخيرا وأصبح في إمكانه أن يُنزل بجيش عدوه ضربته القاضية.

 لكن مساعده الأكثر واقعية، هزاع فيزي الهزاع، شك في الأمر وتوقع أن تكون في الأمر خدعة، وحذر رئيسه من الإنجرار الى الوهم، ونصحه بعدم تجاوز الخط الأحمر المتمثل في سور حديقة مقهى حسن الفرحان الذي كان من يتجاوزه إنما يدخل عش الدبابير ويُعد مارقا يستحق العقاب لا على أيدي الأولاد وحسب بل الآباء كذلك. لكن القائد غلبته أطماعه وأوهامه، فلم ينتصح، وسخر من مساعده واعتبر نصائحه نوعا من الجبن وعدم النضوج، فاندفع وراء عدوه فدحره بسهولة وتابعه بحماس، لكنه لم يكد يصل الى الخط الأحمر، وهو سور حديقة مقهى العم حسن الفرحان، حتى حدث ما لم يكن يخطر على بال. فقد هبط على جيشه من الخلف جيش آخر من اشد المقاتلين التكارتة واعتاهم واكثرهم اندفاعا وبسالة. في تلك اللحظة ذاتها استدار جيش التكارتة، وقد تراجع عن خبث وتكتيك، وهجم على جيش العوجة ليشكل الفك الآخر من الكماشة التي أحاطت بجيش صدام من خلفه ومن أمامه، فتُـنزل به هزيمة مدوية ظلت مقاهي تكريت ومنازلهم تتحدث عنها أسابيع، تقرر على أثرها خلع القائد المهزوم، وتنصيب مساعده هزاع فيزي الهزاع قائدا جديدا لجيش أهل العوجة الجديد.

 

ملاحظات:

-    لم يكن ابراهيم الحسن يحب صدام، نعم، ولكن مسألة ضربه بالعصا مشكوك.

-    خير الله لم يكن، كما يشاع،  يولي صدام الحب والاحترام، بل  كان يسخر منه دائما أمامنا، وحين كنا نعود من المدرسة كان يضحك ويسأله ساخرا: هل مطّيت رجليك اليوم؟ ومرة قال لعدنان ولصدام، (تظلون زمايل واللي يصير براسه خير هو ابراهيم) لاني كنت أتردد على المكتبة العامة وأخبره بما قرأت

-    تغيرت معاملة خير الله لصدام بعد اغتيال الحاج سعدون الناصري وكنت الوحيد تقريبا من التكارتة على حد علمي الذي كان يأخذ لهم ملابس نظيفة وبعض الطعام من تكريت الى الموقف العام في القشلة وكان يتوسط لي لزيارتهم ضابط شرطة مدير شرطة بغداد نعمان عبد اللطيف الصميدعي، وكنت المس تغيرأسلوب خير الله في معاملة صدام.

 

نعمان  الصميدعي:

في أعقاب اغتيال الحاج سعدون الناصري وتم اعتقال خير الله وصدام وعدنان ولطيف طفاح كانت ليلى الطلفاح تكلفني بنقل ملابس نظيفة والعودة بالملابس المتسخة في رحلات شاقة بالقطار، وكان الذي توسط لي واستحصل لي موافقة على دخولي موقف السراي ضابط الشرطة التكريتي نعمان عبد اللطيف الصميدعي الذي أصبح مدير شرطة بغداد بعد ذلك.

وفي الأشهر الأولى التي أعقبت نجاح أهل العوجا في اقتناص الحكم، دخلت على مدير مكتب الحاج خير الله طلفاح، محافظ  بغداد، فهب على الفور رجل نعمان عبد اللطيف الصميدعي، نفسه، ليصافحني ويطلب مساعدتي في التوسط له بمقابلة الحاج لأمر هام جدا. كان نعمان - حسب علمي - مديراً لشرطة العاصمة، وله أخ آخر اسمه عبد الموجود يعمل مديراً لشرطة النجدة، وأخ ثالث اسمه عبد المالك يعمل بائع قماش في تكريت.

وكان الإخوة الثلاثة، أبناء الحاج عبد اللطيف الصميدعي من أشراف التكارتة وأطيبهم وأكثرهم تقوى ومخافة من الله. لم يسمع عنهم التكارتة إلا الخير والذكر الحسن. أخبرني نعمان، على عجل وباختصار، أنه وأخاه عبد الموجود طردا من الخدمة فجأة دون أية أسباب. وبعد مدة علما بأن الطرد جاء بأمر من الحاج خير الله طلفاح نفسه. لذا جاء ليقابله ويلتمس منه العدل، رحمة بأسرتيهما. وعلمت أن الدافع إلى قرار الطرد هو أن بلدية تكريت فرزت قبل انقلاب 17 - 30 تموز مجموعة من قطع الأراضي السكنية في شمال المدينة، لإنشاء حي جديد، وأعلنت عن بيع تلك القطع. فبيعت كلها ما عدا واحدة حجزها صدام حسين دون أن يدفع ثمنها وينجز الإجراءات الرسمية اللازمة لتسجيلها، حسب ما كان متعارفاً عليه. ثم اختفى نهائياً ولا أحد يعرف شيئاً عن مصيره. فعادت بلدية تكريت وأعلنت من جديد عن رغبتها في بيع القطعة المتبقية. ويشاء الحظ العاثر أن يذهب الأخ الثالث (عبد الملك) ويشتري قطعة الأرض (المشؤومة) من البلدية.

دخلت على الحاج وأخبرته بأن نعمان ينتظر السماح بلقائه منذ ثلاث ساعات. فقال: أعلم، وأنا الذي طلبت من مدير مكتبي أن يتركه (مركوناً) إلى أن أطلبه. وحين رجوته بالسماح له بالدخول أمر بإدخاله، وكنت أظن أنه سيستمع إليه ويفهم الحكاية فيأمر بإلغاء قرار الطرد. لكنه فور دخوله انهال عليه بالإهانات من كل نوع ومن كل وزن، زاعماً أنهم من أراذل أهالي تكريت وجبنائها، طالباً مني أن اشهد وأن أؤيد شتائمه، وأنا العارف تماماً أنه يفتري. تماسك نعمان، وراح يقص على الحاج حكاية الأرض، وهو واقف، لم يسمح له بالجلوس. قال له: يا حاج، إن قطعة الأرض التي اشتراها أخي لم تكن ملكاً لأحد، ولم يكن معروفاً من الذي حجزها أو أراد شراءها. ثم إن البلدية أعلنت عن الرغبة في بيعها فاشتراها أخي. هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى فإنني وأخي عبد الموجود نعمل ونقيم في بغداد ولا نعلم بما يفعله أخونا في تكريت. فلماذا لا تذهبون وتسترجعون منه الأرض وتتركونا مع أسرنا نعيش في سلام، أو على الأقل أحيلونا على التقاعد لنحصل على راتب تقاعدي نستطيع به أن نعيل أولادنا. لم تنفع المرافعة، بل زادت شتائم الحاج وسخريته الجارحة. فما كان من نعمان إلا أن تعوذ بالله من الشيطان ولاذ بالصمت وخرج مكسور الخاطر، وأنا ساكت لا أدري ماذا أفعل.

 

بداية علاقة صدام بالحزب

صدام لم يكن في وارد التفكير بالانتماء إلى الحزب قبل عام 1959. فقد كان لغاية عام 1958 يضيق بنا، نبيل نجم وعدنان خير الله ونزار الناصري وأنا، حين نتحدث عن الحزب والسياسة وهمومها. وأستطيع أيضا أن أحدد بدقة تاريخ دخوله إليه في أوائل عام 1959، وهو ابن الثالثة والعشرين، نصيراً متدرباً. ثم كُلف، حتى قبل أن يصل إلى درجة نصير، بأن يشارك في أخطر عملية مصيرية يقدم عليها الحزب، وهي محاولة اغتيال الحاكم الأوحد عبد الكريم قاسم. وعملية خطيرة من هذا النوع تفترض السرية الكاملة، وأن يكون القائمون بها على درجة عالية جداً من الثقة بالحزب، ومن ثقة الحزب بهم كذلك.

وفجأة وجد (النصير المتدرب)  صدام حسين نفسه بين أعضاء أعلى قيادةٍ حزبية، يجالسهم، يأكل معهم، يقتسم معهم شقة صغيرة، فيسمعهم ويراهم ويتأملهم عن قرب، وقد تحلل الواحد منهم من قناع القيادة وتبسط وتصرف بتلقائية، فظهرت عيوبه الإنسانية، خصوصاً حين يكون يافعاً لم يتجاوز العشرينيات إلا بقليل.

في تلك الأيام القليلة، وفي الأيام التي تلت فَشَل خطة الاغتيال والهرب إلى سوريا والإقامة فيها في شقق حزبية مع القياديين أنفسهم الذين عاش معهم أيام التحضير للعملية، ومع قياديين آخرين هربوا خوفا من العقاب، كان طبيعياً أن يطلع صدام على خلافات هؤلاء وصراعاتهم. هنا أدرك صدام هشاشة أغلب أولئك القادة وانحراف أخلاق بعضهم وجبن بعضهم الآخر.

لكنه أدرك أهمية هذه الرفقة، باعتبارها الفرصة الذهبية الوحيدة التي تنعش إيمانه بقيمته وأهميته وبخطأ خاله خير الله طلفاح الذي اعتبره فاشلاً لا يصلح لشيء أكثر من الخدمة في منزل الخال، ورعاية النساء في غيابه. لقد حسبها صدام بوضوح: ماذا لو تمكن حزب البعث من أن يقتنص السلطة في العراق؟ إنه بكل تأكيد سيحصل على مركز مرموق في الدولة. وما ضاعف في خياله الأمل أن أعضاء القيادة الذين أصبحوا رفاقه وأصحابه، سيحكمون العراق ذات يوم، الأمر الذي يضمن له مقعداً في الحكومة، وهو أقصى ما يحلم به، بعد أن ترك دراسته ويئس من الحصول على الوظيفة بالطرق الاعتيادية المألوفة.

وفي عام 1963، تمكن أعضاء القيادة القطرية الجديدة من اقتناص السلطة.  وكان المؤتمر القطري الذي تمخضت عنه هذه القيادة قد دان عملية الاغتيال في آب/ أغسطس 1960، واعتبرها خرقا لعقيدة الحزب. فلم يجد صدام، العائد من القاهرة في آذار1963، التعويض الذي كان يحلم به من الرفاق الذين يعتبرهم أدنى منه شجاعة، وأقل أحقية في تبوّء المراكز المهمة في الحزب والسلطة. فقد أهملوه وأهملوا معه رفيقه أحمد طه العزوز، إذ تم تعيينهما عضوين في المكتب الفلاحي التابع للحزب، في شقة صغيرة ضيقة في مبنى بسيط مقابل مبنى الإذاعة. وهي وظيفة تافهة وهامشية إلى أقصى حد. وكان صدام يشكو من ذلك ويعلن عداءه للقيادة الجديدة ونقمته عليها.

كانت تلك الفترة من أكثر الفترات التي كنا نلتقي فيها.  كان ينتظرني في مكتب الجمعيات الفلاحية إلى أن أنتهي من عملي في الإذاعة ثم نلتقي.  فنبقى في الشقة نفسها ونطلب غداءنا أو عشاءنا أو نذهب إلى أي مكان آخر. كنت أستطيع أن أتدبر له إذنا بدخول الإذاعة لزيارتي وانتظاري إلى أن أنتهي من العمل، لكنه كان يتفادى ذلك، خصوصاً وأن علي صالح السعدي (أمين سر الحزب ونائب رئيس الوزراء ووزير الإعلام)  كان يتردد أحيانا على الإذاعة، وصدام يكره الالتقاء به.

 

في قاعة الخلد:

 حضرت ذات مرة لقاءً ساخناً بينهما بالمصادفة. ففي حفل كان مقاماً على قاعة مسرح الخلد ببغداد برعاية أمين سر القيادة القطرية نائب رئيس الوزراء وزير الإعلام علي صالح السعدي، كنت المذيع المكلف بنقل فقراته إذاعياً وتلفزيونياً وعريفه أيضاً. وبعد أن قدمت مطربا، توقعت أن لا ينتهي قبل ساعة على أقل تقدير، أردت أن أستريح وأن أتمشى قليلاً في حدائق القاعة. فوجئت بصدام وأحمد طه العزوز يقفان على جانب سلم مدخل القاعة، يتسكعان ويتفرجان على الداخلين والخارجين. وقفت أسلم عليهما وأتبادل معهما الحديث، فإذا بعلي صالح السعدي يخرج من القاعة في تلك اللحظة مغادراً قبل انتهاء الحفل الذي يرعاه. وحين شاهَدنا استدار واقترب منا مؤنباً ومعنفاً ومتهماً إيانا بقلة الأدب والتحرش بالنساء. أما أنا فقد اعتذرت منه، وهممت بالعودة إلى داخل القاعة، أما صدام فقد تصدى بهدوء بالغ لأمين عام حزبه علي السعدي وفاجأه متحديا: ذا لم تخرس وتنقلع من هنا فسوف أهينك على مرأىً من حراسك وبقية الناس. ورغم ما كان معروفا عن صلابة السعدي وعنفه فقد صمت بضع ثوان أظنه حسبها مع نفسه ففضل تلافي الفضيحة، ثم استدار وغادر المكان دون كلام. بعدها عاتبت صدام لأنه أشركني في موقف التحدي والمشاكسة وعرضني للفصل من وظيفتي. فرد علي ساخراً مني ومن القادة (لجبناء) الذين أخشى أذاهم. وكان لا يتوقف عن السخرية من علي السعدي ومن أعضاء آخرين في القيادة وينعتهم بالجبن والنفاق.

ردة تشرين 1963:

كان طبيعياً ومنطقياً أن ينخرط صدام في أي عمل ينال من تلك القيادة التي أهملته ونسيت بطولاته وتضحياته النادرة.

 فقد شارك بفاعلية وحماس في الانقلاب الذي ما يزال البعثيون يعتبرونه عملاً خيانياً ويطلقون عليه اسم (ردة تشرين)، الذي قام به عبد السلام عارف والعسكريون البعثيون،  طاهر يحيى ورشيد مصلح وأحمد حسن البكر وحردان التكريتي، ضد قيادة الحزب والحرس القومي.

بلغ الصراع درجة عالية من التوتر، وبدأت عناصر حزبية وعسكرية تتسلل ليلاً إلى القصر الجمهوري للاجتماع بالبكر وعارف وطاهر يحيى وتنقل لهم ما كان يدور في الاجتماعات والمؤتمرات الحزبية وما تطالب به قواعد الحزب وقياداته الدنيا "وكان في رأس قائمة هؤلاء المخبرين صدام حسين التكريتي وطه العزوز وطارق عزيز وحسن الحاج ودّاي العطية وآخرون"(26).

وبتاريخ 15 تشرين الأول1963، تم اعتقال أعضاء المكتب الفلاحيي، وصدام أحدهم - كما أسلفت - باعتبارهم أعداء الحرس القومي. وبعد ثلاثة أيام، أي في 18 تشرين الثاني1963، عنسّبه حردان التكريتي مشرفاً سياسياً على الإذاعة، كما عين ابن خاله عدنان خير الله طلفاح آمراً لقوة حماية الإذاعة.

وبعد أن سيطرت قوات الانقلابيين على دار الإذاعة بدأ صدام التكريتي وطارق عزيز يوجهان البرامج ويذيعان النداءات باسم القيادة القومية مطالبين البعثييـن بالكـف عـن المقاومة، والتعاون مع الحكم الجديد.

كان يزورني هو وعدنان خير الله في غرفة المذيعين، يومياً، ويقضيان معنا ساعات تعرّفا خلالها إلى بعض المذيعين وأسلوب عملهم. وكان صدام يتطوع فيطلب الطعام للموجودين من مطعم قريب من الإذاعة.  إلا أنه لم يمكث طويلا في الإذاعة. فجأة غاب هو، وانقطع عدنان عن الزيارة اليومية للمذيعين، ثم علمنا بعد ذلك بأن عبد السلام عارف قد انقلب على حردان وأحمد حسن البكر وطردهما من السلطة، الأمر الذي لم يترك لصدام خياراً سوى الهرب والاختباء. أما عدنان فقد نقل إلى موقع آخر.

 

بعد 30 تموز 1968

حين حدث انقلاب 17 تموز، كنت في مهمة إذاعية خارج العراق. وحين عدت بعد ذلك بأسابيع وجدت أن هاتف منزل خير الله طلفاح قد تغير، وعلمت أيضاً أن صدام يعمل في القصر الجمهوري، ولكن لا أعلم ماذا يفعل.  وكل ما توقعته أن يكون في أمن الرئيس أو أحد أفراد حمايته.

هاتفت القصر الجمهوري وطلبت الحديث مع صدام حسين التكريتي، فرد علي بسرعة وحرارة وأريحية أكثر من ذي قبل. وفسرت ذلك بحالة السرور التي أدخلها عليه موقعه الجديد.  وكان كل ما كنت أطلبه منه هو رقم الهاتف الجديد لمنزل الخال. وبالفعل سارع إلى البحث عنه وإملائه علي.

بعد ذلك بمدة غير طويلة طلبني الصحاف إلى مكتبه وقال: انتظر مكالمة هاتفية خاصة. دقائق ودق جرس الهاتف، وحين رفعت السماعة جاءني صوته، فقلت:

أهلا أبو عدي . ففوجئ وقال: من؟

قلت:  إبراهيم.

فسأل مرة أخرى: إبراهيمنا؟

قلت: هو ذاته.

فطلب مني أن أتعرف على شخص يريد رؤيتي اسمه سعدون شاكر.  وحدد هو الموعد في مقهى في شارع السعدون، وأعطاني أوصافه، والعلامة كانت أنه سيدخل وهو يداعب سلسلة مفاتيح. وفي الموعد تم لقائي بسعدون شاكر. سألني عن تفاصيل أخرى عن التقرير. فاستغربت وسألته عن أي تقرير يتحدث؟ فقال: التقرير عن الدبابات والأكراد. سألته مرة أخرى: هل تقبلون تقريراً حزبياً من غير واحد غير حزبي؟ فصعق وقال: هل أنت غير حزبي؟ قلت: نعم. قال: إذن ما سر علاقتك الحميمة بأبو عدي؟ قلت:  تلك حكاية طويلة.  وانتهى اللقاء، ولم يكلمني بهذا الموضوع ثانية لا هو ولا أبو عدي.

 

"عزيزي المستمع"

من المسلمات الثابتة في العمل الإذاعي أن المادة الكلامية هي المادة التي تحظى بأقل نسبة مستمعين بين باقي ألوان العمل الإذاعي. وتختلف نسب ارتفاع أو انخفاض عدد مستمعي كل لون من البرامج الإذاعية، من بلد إلى بلد ومن زمن إلى زمن ومن ظرف إلى ظرف. لكن لكل قاعدة استثناء. وأعترف أن برنامج (عزيزي المستمع)  لم يكن شيئاً خارقا. لكنه كان يدهش المواطنين بما يثيره من هموم وأفكار ومشاكل يحبسونها ولكنهم لم يتعودوا على سماع من يجرؤ على التصريح بها في الإذاعة.

حاولت أن أستخدم لغة سهلة بسيطة صادقة ساخنة. كانت كل حلقة تثير موجة عاصفة من الردود.  فيصب بعضهم علي  حقده وغضبه، ويتوهم بعضهم الآخر أنني بطل مغوار تخطى حدود المسموح به من السلطة. والحقيقة هي غير ذلك. فكل الحكاية أن النظام الحاكم، وهو جديد في السلطة، كان في حاجة يومها إلى بالونات توفر له تحقيق نوع من التفريغ لدى المواطنين..

بدأت بتقديم (عزيزي المستمع)  بعد نكسة حزيران 1967، ولم يتوقف لغاية عام1973 ، وقد تكرمت عليّ إذاعة إسرائيل وإذاعة الشاه من الأهواز أكثر من مرة بشتائم احتفظتُ بتسجيلات منها إلى أمد قريب. كما تلقيت عشرات من رسائل التهديد من مجهولين. وأذكر أنني سخرت ذات مرة من إحدى تلك الرسائل التهديدية، فاتصل بي صدام حسين (شخصياً (وكان نائباً للرئيس،  وطلب مني عدم الإشارة إلى أي تهديد،  وقال: إننا نتلقى كل يوم مئات من الرسائل ومن المكالمات الهاتفية التي تحمل تهديدات الناس لنا بالموت،  ولا نرد.

 

السيد النائب:

بعد مدة زارنا صدام حسين واجتمع برؤساء أقسام الإذاعة والتلفزيون في الصالة الكبرى الواقعة فوق الكافيتريا. كان ما يزال في أول السلم ولا يفقه شيئاً من أمر الاجتماعات وغير معروف من أغلب الناس. لكنه كان عازماً على مباشرة طريق صعوده نحو القمة. كان يشغله آنذاك أمران:  الأول حمل الناس على اعتباره الرئيس القادم، ومعاملته بما يليق بهيبة الرئيس، وهذا لا يأتي إلا بالمزيد من الجدية والصرامة والعبوس وتصنع الوقار. والثاني عكس ذلك تماما. إغراء الناس بحبه والتعلق به كمنقذ ومخلص طيب القلب يعطف على الصغير قبل الكبير، ويساعد الضعيف قبل القوي.

بدأ الاجتماع بطلب منه بأن ينطلق الحاضرون في عرض مشاكل الإعلام والعقبات التي تحول دون انطلاق مسيرة إعلامية مزدهرة ناشطة. وألح على ألا نتهيَّب أو نتردد في المصارحة، باعتبارنا خبراء وصناع القرار في مجال الإعلام - على حد قوله -.فنهض رمضان قاطع، وكان يومها رئيساً لقسم الريف في الإذاعة، وبعثياً، مستجدا فخاطب صدام قائلاً،: أبو عدي. فرد عليه صدام بغضب: لستهنا ( أبو عدي).  فقال له: رفيق صدام. فرد عليه بضيق: لسنا في اجتماع حزبي لتناديني بـ(رفيق) فاحتار رمضان وقال له: أستاذ صدام. فرد عليه: أنا لست أستاذا.  وازداد ارتباكه وحيرته، وهنا بادره محمد سعيد الصحاف قائلا: قل السيد النائب، فقال رمضان: سيادة النائب. ، وهنا رد صدام بابتسامة خفية: تفضل.

 

اللقاء الأخير

في شتاء عام 1973، طلبني الصحاف لأمر هام، وحين ذهبت لأراه وجدت على مدخل مكتبه رجالا مدججين بالسلاح لا تستقر عيونهم على مكان، يراقبون كل شيء. ف فهمت على الفور أن مسؤولا غير عادي يقوم بزيارتنا ذلك اليوم.  دخلت عليه كعادتي فإذا بي وجهاً لوجه وعيناً بعين مع صدام حسين.  تراجعت وأردت أن أغلق الباب ورائي، لكنه دعاني إلى الدخول.  وأنا في طريقي إليه كنت أفكر بالصيغة التي أسلم بها عليه. هل أناديه (أبو عدي) ؟، قد لا يحب أن أظهر أمام الصحاف تلك الألفة التي كانت بيننا.  هل أناديه (السيد النائب)؟ قد يظنني أنافقه. هل أناديه:  أستاذ صدام؟ ربما سيظن أنني أتهرب من مناداته بـ (سيدي) ترفعاً وكبرياء؟ كل هذا دار في رأسي في تلك الثواني القليلة وأنا في طريقي من باب مكتب الصحاف إلى حيث صدام يقف ويمد يده استعداداً للمصافحة. ألهمني الله أن أسلم عليه بصيغة وسط لا تغضبه ولا تحرجني.  قلت: السلام عليكم. فصافحني وجلس وجلست.  راح يسألني عن الحال والعمل والأولاد والأهل في تكريت. كان يحادثني وعيناه تدوران يميناً وشمالا. وكلما التقتا بعينيَّ يبعدهما بسرعة. لقد كانت دقائق ثقيلة مملة طويلة. نهضت واستأذنت بالانصراف بحجة أنني لا أريد أن أشغله أكثر، وقد يكون لديه حديث خاص مع الصحاف، وخرجت.

كنت في غاية الارتباك. فقد أحسست بما لا يقبل الشك أنه لا يطيقني ولا يريد رؤيتي. ثم تداعت في نفسي ذكريات الماضي كلها. أيام  الشقاوة والجوع والفراغ والشقاء. وتأكدت من أنه لا يريد أن يلتقي بواحد من رفاق طفولته يذكره بحكاياته الكثيرة التي لا تليق بمن أصبح ثاني رجل في الدولة،  ويخطط ليصبح الأول والوحيد.

في تلك الساعة بالذات قررت أن أرحل عن العراق،  بأي ثمن وعن أي طريق. وهكذا كان.

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.