اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

كتاب التوظيف السياسي للفكر الديني - الصفحة 2

 

 

حول مفهوم الإرهاب

 

مقدمة

 

بعد أحداث الحادي عشر من أيلول الماضي، ركز الخطاب السياسي الأمريكي، وأجهزة الإعلام وبعض مراكز الدراسات الغربية، على إطلاق مفاهيم، سبق وأن طرحت منذ نهاية الحرب الباردة، وسقوط الاتحاد السوفيتي، وذلك بشكل تجريدي.

 

لقد أصبحت بعض المصطلحات، كالإرهاب وصراع الحضارات، وتصادم الإسلام والمسيحية واليهودية، الشغل الشاغل للكثير من أجهزة الإعلام. وجرى الحديث أيضاً عن «الإسلام والعنف» و«العرب والإرهاب».

 

وانبرى العديد من حملة الفكر النيوليبرالي في المنطقة العربية، تقديم الخدمات لتلك الدوائر الغربية، عبر الحديث عن «العقلية الفاشية العربية ـ الإسلامية»، وكون العقلية العربية في «غياهب التاريخ»، ولا علاقة لها بالمعاصرة، أو أنها سقطت من القطار الحضاري، وهي تسبح ضد التيار الذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية بحضارتها الجديدة وإنجازاتها التاريخية.

 

وقد استغل هذا الخطاب، طروحات بعض الجهات السياسية المتطرفة، التي تتبنى الإيديولوجية الدينية، عبر فهمها السياسي الخاص للفكر الإسلامي، والتي تضفي المشروعية من خلاله على أفعال وجرائم إرهابية.

 

وجرى الخلط بين ما تمارسه تلك الجهات الإسلامية المتطرفة، من ممارسات، هي في جوهرها ممارسات سياسية مبنية على فهم بشري للفكر الديني، وبين عموم الفكر العربي الإسلامي، وفكر وممارسات الشعوب المناضلة ضد الهيمنة والتبعية، ومن أجل التحرر والتقدم الاجتماعي.

 

إن التساؤل الذي أحاول معالجته في هذه الورقة، هو هل لمفهوم الإرهاب تأسيس تاريخي في فكر شعوب المنطقة العربية ـ الإسلامية؟

 

وهل يمكن تقييم الممارسات التاريخية لقرون مضت، وفق القيم والمعايير الحالية، والتي وصل إليها المجتمع البشري، عبر سيرورة تاريخية؟

 

أولاً: الإرهاب لغة

 

يعني الفعل الثلاثي المجرد (رَهِبَ)، خاف. فيقال (رَهِبَ)، يَرْهَب ورَهبَةً ورُهْباً. أما كلمة «إرهاب» فهي مشتقة من الفعل المزيد [أرهب]. فيقال أرهَبَ فلاناً: أي خوَّفه وفزَّعه.

 

أما الفعل المزيد بالتاء والمقصود (ترَهَّبَ)، فيعني انقطع للعبادة في صومعته. ويشتق منه كلمة الراهب، الراهبة، الرهبنة والرهبانية.

 

وللمزيد من المعلومات حول الأصل اللغوي لكلمة الإرهاب، يمكن الرجوع إلى لسان العرب لابن منظور (الجزء الثالث)، وكذلك المعجم الوسيط (الجزء الأول).

 

ثانياً: الإرهاب في النصوص التأسيسية الإسلامية

 

وردت مشتقات كلمة (رهب) سبع مرات في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، لتدل على معنى الخوف والفزع(*):

 

1ـ الآية 40 من سورة البقرة: [يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمتُ عليكم وأوفوا بعهدي أوفي بعهدكم وإياي فارهبون].

 

«فارهبون» فخافوني في نقضكم العهد ولا تخافوا غيري وإنما حذفت الياء لأنها في رأس الآية.

 

2ـ الآية 116 من سورة الأعراف: [قال ألقوا فكلما ألقوا سحَروا أعين الناسُ واستَرهَبوهُم وجاءُوا بسحر عظيم].

 

استرهبوهم بمعنى خوّفوهم تخويفاً شديداً.

 

3ـ الآية 154 من سورة الأعراف: [ولما سكتَ عن موسى الغضبُ أخذ الألواحَ وفي نُسخَتها هُدىً ورحمةً للذين هُم لربِّهم يَرهَبُون].

 

أي سبب رحمة للذين يخافون ربهم.

 

4ـ الآية 60 من سورة الأنفال: [وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل تُرهبون به عَدوَّ الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يَعلَمهُمِ...].

 

وتكمل الآية 61 مضمون الآية 60: [وإن جنَحوا للسَّلمُ فاجنح لها وتوكّل على الله إنه هو السميع العليم].

 

وهنا تأتي كلمة ترهبون بمعنى تُخيفون.

 

5ـ الآية 51 من سورة النحل: [وقالَ الله لا تتخذوا إلَهَين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون].

 

فارهبون: أي خافوا عذابي.

 

6ـ الآية 90 من سورة الأنبياء: {فاستَجَبنا لهُ ووَهَبْنا لهُ يحيى وأصلَحنا له زَوجَهُ إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعونَنا رَغَبا ورَهَبا وكانوا لنا خاشعينِ}.

 

رَغبا ورهبا: بمعنى رجاءَ رحمتنا وخوفاً من عذابنا.

 

7ـ الآية 13 من سورة الحشر: [لأنْتُم أشدُّ رَهبةً في صدورهم من اللهِ ذلك بأنهمُ قومٌ لا يفقهون].

 

أشد رهبة: أشد تخويفاً.

 

8 ـ الآية 32 من سورة القصص: {واضمم اليك جناحك من الرهب..}. أي من الخوف.

 

كما وردت كلمة الرهبان بمعنى المنقطعين للعبادة من النصارى وذلك في الآيات التالية:

 

1ـ الآية 34 من سورة التوبة: [يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان لَيَأكلون أموال الناس بالباطل ويصُدّون عن سبيل الله والذين يَكنِزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم].

 

الرهبان: مُتنسّكي النصارى المنقطعين للعبادة.

 

2ـ الآية 31 من سورة التوبة: [اتخذوا أحبارَهم ورُهبانهم أرباباً من دون الله].

 

رهبانهم: نفس المعنى السابق.

 

3ـ الآية 82 من سورة المائدة: [... ولَتَجدَنَّ أقربَهم مودّةً للذين آمَنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قِسيسينَ ورُهبانا وأنّهم لا يستكبرون].

 

رهبانا: نفس المعنى السابق.

 

4ـ الآية 27 من سورة الحديد: [.. وجعلنا في قلوب الذين اتّبعوه رأفةً ورحمةً ورهبانيةً..].

 

رهبانية: مغالاةً في التعبد برفض النساء واتخاذ الصوامع.

 

ومما تقدم نجد نوعاً من التطابق في استخدام الكلمة ومشتقاتها في القرآن الكريم، وما تدل عليه الكلمة في اللغة العربية عموماً.

 

ونجد في القرآن الكريم وفي الأحاديث النبوية بعض الكلمات التي تتضمن معنى الإرهاب والعنف، بمعنى استخدام القوة أو التهديد لتحقيق أهداف معينة. ومن هذه الكلمات: القتل، العقاب، البغي، العدوان...

 

هل عرفت الحضارة العربية ـ الإسلامية، الإرهاب في مجال الفكر والممارسة؟

 

يتعلق مفهوم الإرهاب في الفكر والممارسة في الحضارة العربية ـ الإسلامية، لدى بعض المستشرقين، وفي ذهنية دعاة صدام الحضارات، بمشروعية استخدام القوة والعنف، وقتال الخصم وترويعهم من قبل المسلمين. ويتعامل هؤلاء مع النصوص الإسلامية المقدسة والمتعلقة بهذا الموضوع، ضمن سياق يجرد النص من الواقع التاريخي، كما يحكم ويحلل، ويضفي المشروعية من عدمها على حوادث، جرت قبل أكثر من أربعة عشر قرناً، بمعايير عالم اليوم.

 

ومثل هذا المنهج، إضافةً إلى عدم صحته ودقته من الناحية المعرفية، منهج الغرض منه النبش في الماضي من أجل الوصول إلى مسوغات، لتبرير الحاضر، أو إعطاء صورة مشوشة عن الآخر.

 

يتناغم هذا النهج النيوليبرالي لبعض المفكرين الغربيين في تحليل تاريخ المسلمين وتراثهم ومعتقداتهم، مع وجهة نظر خصومهم من بعض التنظيمات السياسية الإسلامية الذين يتبنون الإيديولوجية الدينية، ويستندون على فهمهم للدين الإسلامي على أسس ذرائعية مبنية على أفكار تجريدية دينية أو سياسية وتبسيطات وخرافات تعكس التشوش الفكري اللاعقلاني في فهم التاريخ. وتتحدث بعض هذه القوى باسم الإسلام، دون أن تكون مخولة بذلك من قبل الجماهير المسلمة. ولا يمكن وضع هذه التوجهات إلا ضمن سياق فهم بشري للنصوص الدينية وتأويلها، مبني على تجريد النص الديني من الظروف التي استوجبته.

 

من ناحية أخرى يمكن أن يجد الباحث في التاريخ الإسلامي وفي العقيدة الإسلامية، نصوصاً توصل إلى استنتاجات مغايرة لما يتوصل إليها دعاة التطرف الديني.

 

إن التعنت الديني ظاهرة تاريخية، وهي لا تشمل مجالاً محدداً، فنجد هذا التعنت في مجال التعامل مع الآخر من ناحية العقيدة، وفي مجال الفقه سواء في أحكام العبادات أو في أحكام المعاملات، وفي معرفة وتحديد العلاقات الدولية ضمن الفهم الإسلامي.

 

وفي مقابل التعنت الديني، هناك أيضاً التسامح الديني وتقبل الآخر والتساهل، واللجوء إلى الإقناع والجدل الذي هو أجدى وأحسن من الجبر والقسر والإكراه.

 

ويجد الباحث أو المرء عموماً من كلا الاتجاهين ضالته في النصوص الدينية المقدسة. وبالتالي فإن الأمر لا يعدو فهماً بشرياً لنصوص دينية، الهدف منها بالأساس، وعبر فهم الوظيفة الاجتماعية للدين تاريخياً،السعي عند البض تنظيم حياة الناس وإيجاد أشكال من السلم والتعامل الاجتماعي السويّ بين الناس، ومحاولة الآخرين للإستمرار في التسلط وإضفاء المشروعية على السلطة الحاكمة. ولكن دعاة صدام الحضارات، يتجاهلون النصوص المرنة السمحة، ويتجاهلون الجوانب الإيجابية المشرقة في الحضارة الإسلامية ومساهمتها في الحضارة الإنسانية.

 

لقد حدد المسلمون الأوائل بعض القواعد الفقهية التي رأوا فيها مصلحة الناس بل واعتبروا (حيثما تكون المصلحة العامة، حيثما تكون مصالح الناس، يكون شرع الله) ويرى الإسلاميون المتنورون بأن الأصل في الإسلام الإباحة والحرية والتي تعني حرية الاختيار الكامل في العقيدة وفي أمور الدين. ويشيرون إلى عدم وجود دعوات أساسية في الإسلام لإلغاء الآخر واستخدام العنف والإرهاب في فرض الأمر الواقع على المقابل الآخر. وهناك نصوص في القرآن تذهب في هذا المنحى.

 

جاء في الآية 108 من سورة يونس:

 

«قل يا أيها الناس قد جاءكم الحقُّ من ربكم، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلَّ فإنما يضِل عليها وما أنا عليكم بوكيل».

 

وتقول الآية 29 من سورة الكهف:

 

«وقلْ الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر».

 

فالآية رقم 99 من سورة يونس تقول [ولو شاء ربُّك لآمَنَ مَنْ في الأرضِ كُلُّهم جميعاً أفأنت تُكرِهُ الناس حتى يكونوا مؤمنين].

 

يؤكد المتنورون الإسلاميون ضمن قراءتهم للتاريخ الإسلامي بأن الرسول لم يبدأ دعوته للإسلام عن طريق استخدام العنف أو الإرهاب، بل حضّ القرآن على استخدام أسلوب قائم على أساس الجدل والإقناع.

 

كما لم يأذن القرآن الكريم بالقتال ولم يعط للمسلمين وللرسول حق استخدام العنف والإرهاب ضد مخالفيهم طوال العهد المكي. وعندما هاجر الرسول إلى المدينة عقد وثيقة المدينة مع المشركين ومع اليهود، مع علمه باختلافهم في الرأي والعقيدة.

 

والأكثر من ذلك لم يكن هناك لدى المسلمين وجهة لقتال مشركي قريش. فالتهديدات كانت تأتي من مشركي قريش. وقد أذن القرآن لمقاتلة مشركي قريش وفق الآية 39 من سورة الحج [أُذِنَ للذين يقاتلون بأنهم ظُلِموا وإنَّ الله على نصرهم لقدير].

 

وهنا تعني الآية (بأن يدافعوا عن أنفسهم ولو بالقتال)(*).

 

ويقول الواحدي النيسابوري المتوفى سنة 468هـ في أسباب النزول، بأن، قال المفسرون كان مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله (ص) فلايزالون يجيئون من مضروب ومشجوج. فشكوهم إلى رسول الله (ص)، فيقول لهم: اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال حتى هاجر رسول الله (ص) فأنزل الله تعالى هذه الآية(**).

 

لقد كان استخدام العنف والإذن بالقتال للرسول وللمسلمين محدداً وموجهاً بالأساس ضد مشركي قريش الذين قاموا بإيذاء المسلمين، ولم يكن هذا الإذن بالقتال موجهاً ضد المنافقين أو المشركين الأعراب في الجزيرة العربية، كما لم يكن موجهاً ضد اليهود والنصارى. ويرتبط هذا الإذن أيضاً بحق الدفاع عن النفس وارتباطاً بحماية دولة الرسول في المدينة.

 

ونجد هذه الوجهة في التعامل الإسلامي واضحاً في كافة الغزوات والسرايا قبل بدر وقبل فتح مكة وكذلك بعد فتح مكة، حيث أن معظم أعراب الجزيرة قد انضموا إلى الإسلام وفق عهود ومواثيق في عام الوفود.

 

ولا يمكن النظر إلى حروب الردة في زمن الخليفة الأول إلا عبر فهم ظاهرة الارتداد، كظاهرة سياسية لادينية وكونها تشكل خطراً على مستقبل دولة الرسول.

 

يستند دعاة التطرف الديني ضمن بعض القوى والتنظيمات السياسية الإسلامية إلى بعض النصوص والآيات التي تدعو إلى استخدام العنف والقوة ضد الخصوم، وهم يبنون فهمهم على إحلال هذه الآيات الواردة في سورة التوبة محل آيات الجدل والدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، في حين يعتبر دعاة التسامح الإسلامي، أن هذه الآيات استثناء وليست القاعدة.

 

تقول آية الجزية (الآية 29 من سورة التوبة):

 

[قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله وباليوم الآخر ولا يُحرّمون ما حرَّم الله ورسولُه ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون].

 

وتقول آية السيف (الآية 5 من سورة التوبة):

 

[فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم].

 

وبعد حركة الفتح الإسلامي وتطور الفقه الإسلامي وتنوع فروعه وبلورة أصول الفقه، نظم المسلمون الكثير من المبادئ التي تحدد التعامل مع الدولة غير الإسلامية في حالة الحرب وفي حالة السلم ويمكن للباحث أن يجد ضالته في كتب السير والذي هو بمثابة القانون الدولي العام والخاص في الفقه الإسلامي.

 

وتعتمد تلك المبادئ الأساسية على نهج مرن يضمن حقوق النساء والشيوخ والأطفال وحمايتهم أثناء الحرب ولا يبرر بأي شكل من الأشكال إرهاب الناس وارتكاب المجازر وغيرها من الأمور البشعة التي تقترفها مجامع من القوى السياسية الإسلامية المتطرفة في الوقت الحاضر استناداً إلى فهمهم المشوش لتلك المبادئ الفقهية.

 

إلا أن وجود مبادئ سمحة وفهمنا لها ضمن مرحلتها التاريخية وحساباتها التاريخية والاجتماعية والسياسية المعينة، لا يعني عدم ممارسة الإرهاب والعنف غير المبرر من قبل الحكام المسلمين ضد معارضيهم، فقد لجأ هؤلاء الحكام إلى حكم المسايفة لكي يسود الساحة العملية وبصفته الخيار الديني الأوحد، للتعامل مع الآخر، ووضع الآخر في خانة الكفر. إن الأعداد الكبيرة من المسلمين الذين اضطُهِدوا على يد الحكام المسلمين كانوا أكثر بكثير من عدد غير المسلمين سواء من أهل الذمة أو غيرهم من رعايا الدول غير الإسلامية. وقد مارس الكثير من الحكام ما يمكن أن نطلق عليه اليوم إرهاب الدولة المنظم.

 

لقد برر الأمويون بطشهم وإرهابهم استناداً إلى الفكر الجبري. فقد قال معاوية: «الأرض لله وأنا خليفة الله فما أخذتُ فلي وما تركته للناس فالفضل مني».

 

وترك الحجاج تاريخا حافلا بالبطش والقمع، حتى ان احد الفقهاء قال عنه لو أتت أمم العالم بأسوء ما لديهم، وأتينا نحن بالحجاج، لغلبنا امم العالم جميعا.

 

وسار الحكام العباسيون على نفس نهج الأمويين في التعامل مع الخصوم وإرهاب الناس من أجل تثبيت الحكم. ويشير السيوطي في تاريخ الخلفاء ما مفاده أن الدوانيقي وهو لقب أبو جعفر المنصور لبخله، (قتل خلقاً كثيراً حتى استقام ملكه).

 

وشمل الإرهاب لا المعارضين للسلطة خارج إطار العوائل الحاكمة، من الناس المنتفضين ضد الحكم، بل عناصر وأفراد من العائلة الحاكمة، سواء في العصرين الأموي والعباسي، أو في حكم السلاطين العثمانيين.

 

وفي بعض فترات حكم العثمانيين، تتالت الفتاوى لمباركة أعمال السلاطين، وبلغت الذرائعية حداً أجازت فيه قتل السلطان الجديد، عند اعتلائه العرش، إخوته وبعض أبنائه بحجة منع الفتن والتناحر.

 

وبلغ عدد الأمراء الذين قتلوا في يوم واحد، عند جلوس السلطان محمد الثاني (588هـ ـ 1456م) أربعين أميراً. وعندما توفي السلطان مراد الثالث (982هـ) وخلفه ابنه محمد خان الثالث، قتل بمجرد اعتلائه العرش 19 فرداً من إخوته، وعشر جوارٍ حاملات من أبيه، وقتل اثنين من أولاده. وظل الحديث عن هذا السلطان بأنه صالح عابد، يقيم الشعائر، ويذكر عنه كرد علي في خطط الشام «أنه جمع العلماء والعلماء المشايخ والقراء في الجامع الأموي، يقرأون القرآن، ويدعون لعساكر الإسلام بالنصر».

 

وخلال التاريخ الإسلامي الطويل، نجم عن الاحتراب الطائفي، وعند المنعطفات الكبيرة، في فترات تغيير الحكم، مئات الآلاف من القتلى من الناس المسالمين.

 

إن هذه الصفحات الدموية، هي تجسيد حي لصراعات سياسية اجتماعية، في فترة تاريخية معينة، من أجل السلطة، في إطار العلاقات الإقطاعية، التي ولّدت نظاماً إمبراطورياً، وجدت في الفكر الديني غايته، لتبرير حكمه وبطشه ومركزيته وقمعه وإرهابه. فالأمر يتعلق بمسألة كيفية استخدام الدين ووظيفته في المجتمع.

 

وهنا ينبغي أن نذكر، أن الفئات المسحوقة، وحركات المعارضة ضد البطش والإرهاب، لجأت هي الأخرى إلى التعاليم الدينية والفكر الديني بشكل عام، من أجل الدفاع عن نفسها ومناهضة الإرهاب أو حتى لتبرير استخدام القوة والعنف ضد الحكم الجائر. ويتهم بعض المؤرخين المسلمين الذين كتبوا التاريخ وفق أهواء الخلفاء والسلاطين، تلك الحركات بالغلو في الدين واقترافهم للآثام والجرائم ضد الإسلام.

 

وعندما كانت رحى هذه الصراعات الدامية، تدور في المنطقة العربية ـ الإسلامية، لم يكن وضع الغرب أحسن بكثير، فالصراعات الدامية والحروب، واللجوء إلى الإرهاب في التعامل مع الخصوم، كانت سمات تلك المرحلة التاريخية سواء في الشرق أو في الغرب.

 

الحضارة الغربية ومسألة الإرهاب

 

الإرهاب ظاهرة تاريخية قديمة، مرتبطة باستخدام العنف غير المحدود تجاه الخصوم. وكان الإرهاب والتعنت في التعامل مع الآخر، واستخدام العنف ضده، سمة من سمات الإمبراطوريات عبر التاريخ، وفي جميع أنحاء العالم.

 

لقد استخدم الإرهاب في الحضارات القديمة، سواء في بلاد الرافدين أو في الهند، أو في مصر، من قبل الحكام. واستخدم الرومان العنف ومصادرة الممتلكات، وقتل الخصوم وإعدامهم، كوسائل لإخضاع المعارضين.

 

إن محاكم التفتيش الدينية في العصر الوسيط الأوربي، إحدى مظاهر استخدام وممارسة الإرهاب بستار ديني في حين أن المسيحية، وفي نشأتها الأولى، دعت إلى التسامح والمحبة، ولم تتحول تعاليم المسيحية إلى تعاليم ونصوص مبررة للإرهاب، إلا بعد أن تحولت المسيحية من دين إلى سلطة، بعد قرون من وفاة السيد المسيح.

 

وأزعم هنا أن الاختلاف بين الإسلام والمسيحية يكمن في هذه النقطة، فالمسافة الزمنية بين تحول الإسلام من تعاليم دينية وأخلاقية إلى تعاليم سلطوية كانت قصيرة جداً، لأن الدولة الإسلامية نشأت في عهد الرسول، في حين أن هذه الفترة الزمنية طويلة واستمرت عدة قرون فيما يخص الديانة المسيحية.

 

لقد أقدمت محاكم التفتيش في إسبانيا عام 1483، على حرق ألفين من المواطنين بتهمة ممارسة السحر. ولم ينج المفكرون والفلاسفة من عقوبات محاكم التفتيش. فقد أحرقت جان دارك من قبل السلطات الإنكليزية. ويذكر ديورانت في قصة الحضارة بأن مجمع الكرادلة في جنيف أقدم على حرق 14 امرأة بتهمة تعاونهن مع الشيطان لجلب الطاعون للمدينة.

 

وإضافة إلى حرق المعارضين، نجد بعض النماذج الأخرى لتصفية الخصوم في الحضارة الغربية، ومنها شوي المعارضين والأعداء.

 

وعلى نفس شاكلة العباسيين الذين قاموا بشوي الأسرى من القرامطة والزنوج، قام الإقطاعيون عام 1514م بشوي قائد ثورة الفلاحين في هنغاريا. كما تم شوي قائد حركة الفلاحين الألمان جاكلين روبارخ، على نار هادئة، بعد أن تم ربطه بعمود. وقد أيد قادة حركة الإصلاح الديني في ألمانيا وعلى رأسهم (لوثر) هذا الأسلوب لتصفية حركة الفلاحين.

 

إلا أن الفكر الغربي، استخدم مصطلح الإرهاب لأول مرة بعد انتصار الثورة الفرنسية عام 1789، وبالأخص خلال الأعوام 1793 ـ 1794، حيث استخدم مصطلح الإرهاب Terrorism في الموسوعة البريطانية للدلالة على الحملة التي قام بها الثوار خلال الأعوام 1793 ـ 1794، ضد تحالف الملكيين والبرجوازيين المعادين للثورة. وقد أدت تلك الحملة إلى اعتقال 300 ألف مشتبه وإعدام 17 ألف شخص.

 

وتشير الموسوعة البريطانية (الأنسكلوبيديا)، إلى أن كلمة الإرهاب Terrorism هي في اللغة الإنكليزية العنف والرعب والهول.

 

وإذا كانت محاكم التفتيش، وما جرى خلال ما يسمى بمرحلة الإرهاب إبان الثورة الفرنسية، مع الفارق بين الأمرين، محطات قديمة، فإن الغرب شهد محطات إرهابية معاصرة. فالحربان العالميتان الأولى والثانية، والسياسة الاستعمارية للغرب في المستعمرات، وكل تلك الجرائم التي أودت بحياة الآلاف وأهدرت الكرامة البشرية وأرهبت عموم الناس، مظاهر معاصرة للإرهاب الغربي.

 

ولكن، ورغم تلك المحطات الإرهابية، لا يمكن إطلاق صفة الإرهاب على الحضارة الغربية عموماً، كما لا يمكن أن نطلقه على الحضارة العربية الإسلامية.

 

فالحضارات ظاهرة تاريخية ضمن إطار تاريخ المجتمع البشري، وهي تحمل الشيء ونقيضه.

 

إن الحضارة الإنسانية عموماً سيرورة تاريخية، متمخضة عن الصراع والنضال، وتحمل الحضارة الغربية محطات مشرقة عديدة، محطات تحمل إنجازات تاريخية كبيرة، ومساهمات عظيمة في التقدم البشري، بحيث تشكل رافداً أساسياً في الحضارة العالمية التي تواجه اليوم مهمة حمايتها وتعزيز كل ما هو إيجابي فيها، في ظرف حرج ، حيث التحدي الكبير لمواجهة الإرهاب ضمن لوحة شائكة وناتجة أساساً عن تحكم وإنفراد الولايات المتحدة الأمريكية في العالم، وسعيها لرسم قواعد المجتمع الدولي وفق معطيات قوانينها الداخلية في عالم ما بعد الحرب الباردة.

 

ولا ينفي هذا الأمر وجود منظمات إرهابية إسلامية وغير إسلامية تخلط بين أسباب الإرهاب وتبريرها.

 

وإذا كان بالإمكان تفهم أسباب الإرهاب كرد فعل غير عقلاني على السياسات الظالمة للولايات المتحدة الأمريكية، المبنية على أساس التلويح بالقوة العسكرية وإظهار نفسها كقوة إمبراطورية متحكمة في مصير العالم وحرصها على "العدالة" عن طريق فوهة البندقية، لا عن طريق تغيير صورتها في العالم، لكن لا يمكن قبول الذرائع وتبرير الإرهاب الذي تقوم به الحركات الإسلامية التي تريد فرض توجهاتها على الساحة الدولية وبالشكل الذي رأيناه في أحداث 11 سبتمبر. إن هذه الحركات جزعت من العمل السياسي الجماهيري والنفس الطويل في النضال، وبدلاً من ذلك تعطي لنفسها الحق لقتل وإبادة أعداد لا محدودة وغير معروفة من الجنس البشري، من أجل فرض بديل سياسي عن طريق العنف والإرهاب.

 

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.