اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

كتاب التوظيف السياسي للفكر الديني - الصفحة 3

الفرق بين الإرهاب و جهاد الدفاع"الدفاع عن الوطن"

 

يمكن القول أن جهاد الدفاع يعني في النشريات السياسية المعاصرة حق المقاومة المشروعة في حالة تعرض البلد أو الوطن الى الغزو. فهو في الأساس فعالية سياسة تهدف درء المفسدة، و تحقيق مصلحة معينة. ولما كان الجهاد عموماً يعني بلوغ المشقة، وبذل الجهد، وقد يكون بالأموال والأنفس، فلا يجوز حصر جهاد الدفع بالقتال فقط. فإذا كان درء المفسدة وجلب المصلحة، والذي يعني إخراج المحتل وإستعادة السيادة، يتم بطرق أخرى، وخاصة في الظرف الحالي، كأن يكون هناك عصيان مدني أو إضراب عام، أو الحوار والتفاوض مع الآخر من أجل تحقيق الهدف أي جلب المصلحة للوطن وإخراج المحتل، فيجب خوض كل هذه الأساليب الجهادية العصرية.

 

أن القتال واستخدام السلاح أسلوب مشروع من أساليب جهاد الدفع، و هو ليس الأسلوب الأوحد. وينبغي توفير مستلزمات هذا الاسلوب من جهاد الدفع. وهذه المستلزمات تخضع لموازين القوى السائدة والقدرة الفنية على القتال، وخاصة في ظل التكنولوجيا العسكرية الحديثة واسلحة الدمار الجماعي، والتي يتفوق العدو على المسلمين فيها.

 

ولكي لا يؤدي القتال كأسلوب في ممارسة جهاد الدفع الى جلب المفاسد، بدل درئها، والقاء الناس في التهلكة، يجب أن يكون القرار باتخاذها صادراً من ولي أمر المسلمين. ولا يجوز لكل عالم أو مفتي أن يعلن القتال من جانبه، أو يدعو الناس الى القتال، لأن مستلزمات القتال وخوضه مسألة تتعلق بجوانب فنية وعسكرية، تخرج من اختصاص المفتي أو العالم الديني.

 

وتثار المشكلة في حالة عدم اتفاق المسلمين على ولي للأمر، في حالة وجود ضرورات جهاد الدفع. وفي مثل هذه الحالات يمارس المتغلب وهو المتولي، تدبير الأمور في البلاد، ودور ولي الأمر، الى أن تترسخ الشرعية من خلال إرادة المواطنين في البلد المعين. ويقابل مصطلح المتغلب في النشريات السياسية المعاصرة وفي القانون الدولي مصطلح حكم الأمر الواقع.

 

تختلف الأعمال القتالية في حالة جهاد الدفع، عن أعمال إرعاب الناس وإرهابهم وإخافتهم. فالقتال في حالة جهاد الدفع لا يعني القتل العشوائي للناس الآمنيين من نساء وشيوخ وأطفال. ولا يعني هدم البنى التحتية وهدر ثروات المواطنين، أو تفجير السيارات المفخخة، أو الأعمال الانتحارية. وتكون محصلته ونتائجه بقاء المحتل وتعريض الناس للقتل، وعدم الحصول على شيء. وقد أشار القرآن الكريم في الآية 195 من سورة البقرة {ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة}. كما أن العقل لا يسمح أيضاً بالتعامل مع هذه المسألة دون حسابات واقعية، تبعد الهلاك والمفاسد عن الناس، وتحقق المنفعة السياسية دون تكاليف باهضة في الأنفس. إن الاستعداد للشهادة عامل أساسي، وحافز للمسلمين لتحقيق الواجب الشرعي المتمثل بإخراج المحتل عن الوطن، ولكن يجب عدم هدر هذه الطاقات والاستعدادات، وعدم التعامل معها بشكل عدمي.

 

فالقتال في الوقت الحاضر ليس مجرد مبارزة بالسيف والرماح بين شخص وآخر. ودماء المسلمين ليست أرخص من دماء الناس الآخرين. وعلى ولي الأمر أن يحافظ على هذه الدماء الزكية. وإن كان لا بدّ من بذل الدماء وتقديم التضحيات، فلا بدّ أن يكون اتخاذ قرار القتال وفق حسابات دقيقة، مبنية على الحرص على كل قطرة دم من دماء المسلمين في جهادهم وسعيهم الى استعادة سيادة وطنهم. ولا ضير من تجريب أساليب أخرى تحقق المنفعة المطلوبة قبل اتخاذ قرار القتال.

 

وقد أشار القرآن الكريم في أكثر من آية الى مهمة ولي الأمر في هذا المجال.حيث يُشترط لصحة الجهاد وجود راية يُقاتَل من ورائها، يقودُها إمام المسلمين المبايع, أو مَن يُنيبه، أو المتغلب.

 

ومن الأدلة على ذلك ما يلي:

 

ـ {وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر مِنهم لعلمه الذين يستنبطونه مِنهم ولولا فضلُ الله عليكم ورحمته لاتبعتمُ الشيطانَ إلا قليلاً}. (الآية 83 من سورة النساء)

 

ففي هذه الآية: النصُّ على وجوب لزوم أولي الأمر في حال الأمن والخوف، ولا شكَّ أن الجهاد والغزو من أمور الأمن والخوف، التي ينبغي عندها الرجوع إلى أولي الأمر من الأمراء، وأصحاب الولاية من العلماء.

 

ـ {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال..} (الآية 65 من سورة الأنفال)

 

ففي هذه الآية: أمر من الله الى النبي بحَثِّ أتباعه من المؤمنين على القتال، ولم يأمر المؤمنين بحَثِّ بعضهم بعضاً، وإنما خصَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه هو ولي الأمر، فتبين بذلك أن التحريض على القتال مِن خصائص السلطان، وليس من خصائص غيره.

 

ـ أكد القرآن الكريم على لزوم طاعة ولي الأمر، ومَن ينيبه ولي الأمر لشؤون الغزو والجيوش، : {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}. ( الآية 59 من سورة النساء )

 

تناول الفقهاء موضوع مسؤولية ولي الأمر في حالة جهاد الدفع. وقد اشار ابن قدامة وهو من الحنابلة الى هذه المسؤولية في (المُغني) حيث قال: " أن النفير يعم جميع الناس ممن كان من أهل القتال، حين الحاجة إلى نفيرهم لمجيء العدو اليهم. ولا يجوز لأحد التخلف، إلاّ من يحتاج الى تخلفه لحفظ المكان والأهل والمال، ومن يمنعه الأمير من الخروج، أو من لا قدرة له على الخروج أو القتال. وذلك لقول الله تعالى { انفروا خفافاً وثقالاً}. وقول النبي صلى الله عليه وسلم(إذا استنفرتم فانفروا).

 

وقد ذمّ الله تعالى الذين أرادوا الرجوع الى منازلهم يوم الأحزاب. فقال تعالى:{ ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلاّ فرارا }. ولأنهم إذا جاء العدو صار الجهاد عليهم فرض عين فوجب على الجميع. فلم يجز لأحد التخلف عنه. فإذا ثبت هذا فإنهم لا يخرجون إلاّ بإذن الأمير. لأن أمر الحرب موكول اليه. وهو اعلم بكثرة العدو وقلتهم ومكامن العدو، وكيدهم. فينبغي ان يُرجع الى رأيه لأنه أحوط للمسلمين".[1]

 

ويمنع القتال كأسلوب في جهاد الدفع منه إذا لم تتحقق المصلحة منه. وتقييد الجهاد بالمصلحة هو ما قرره ابن تيمية حين قال (الفتاوى 15/174): "والمصلحة في ذلك تتنوع، فتارة تكون المصلحة الشرعية في القتال، وتارة تكون المصلحة في المهادنة، وتارة تكون المصلحة في الإمساك والاستعداد بلا مهادنة".[2]

 

أشار ابن رشد في (بداية المجتهد) الى معيار المصلحة كاساس لتحديد الموقف في التعامل مع العدو. وقد أجمل ابن رشد الآراء المتنوعة حول الموضوع وبين رأيه فيها، عبر التساؤل الذي طرحه حول موضوع المهادنة مع العدو.

 

يقول ابن رشد: " هل تجوز المهادنة؟.. فإن قوما أجازوها ابتداء من غير سبب، إذا رأى ذلك الإمام مصلحة للمسلمين. وقوم لم يجيزوها، إلا لمكان الضرورة الداعية لأهل الإسلام، من فتنة، أو غير ذلك، إما بشيء يأخذونه منهم لا على حكم الجزية، إذ كانت الجزية إنما شرطها أن تؤخذ منهم وهم بحيث تنفذ عليهم أحكام المسلمين. وإما بلا شيء يأخذونه منهم. وكان الأوزاعي يجيز أن يصالح الإمام الكفار، على شيء يدفعه المسلمون إلى الكفار، إذا دعت إلى ذلك ضرورة فتنة، أو غير ذلك من الضرورات. وقال الشافعي لا يعطي المسلمون الكفار شيئا، إلا أن يخافوا أن يصطلموا لكثرة العدو، وقلتهم، أو لمحنة نزلت بهم. وممن قال بإجازة الصلح إذا رأى الإمام ذلك مصلحةً، مالك والشافعي وأبو حنيفة. إلا أن الشافعي لا يجوز عنده الصلح لأكثر من المدة التي صالح عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الكفار عام الحديبية. وسبب اختلافهم في جواز الصلح من غير ضرورة، معارضة ظاهر قوله تعالى {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}، وقوله تعالى {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر}، لقوله تعالى {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله}. فمن رأى أن آية الأمر بالقتال حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ناسخة لآية الصلح. قال لا يجوز الصلح إلا من ضرورة. ومن رأى أن آية الصلح مخصصة لتلك. قال الصلح جائز، إذا رأى ذلك الإمام، وعضد تأويله، بفعله ذلك صلى الله عليه وسلم. وذلك أن صلحه صلى الله عليه وسلم عام الحديبية لم يكن لموضع الضرورة.[3]

 

وبرأينا أن قوله تعالى{وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله}، قول لا تخصيص ولا نسخ فيه.

 

أن القتال كشكل من أشكال جهاد الدفع كواجب شرعي، يستلزم توفير شروطها التي أشرنا إليها في المقتبسات التي اوردناها عن ابن قدامة، وعن ابن رشد الذي عرض آراء الفقهاء حول الموضوع.

 

استنتاجات

 

ـ الإرهاب ظاهرة تاريخية قديمة، مرتبطة باستخدام العنف غير المحدود تجاه الخصوم. وكان الإرهاب والتعنت في التعامل مع الآخر، واستخدام العنف ضده، سمة من سمات الإمبراطوريات عبر التاريخ، وفي جميع أنحاء العالم.

 

ـ أن القاعدة الأساسية في مجال جهاد الدفع هي أن اعداد القوة والاستعداد لملاقاة الأعداء يتعلق أساساً بالتخوف من غدر وخيانة الآخرين أي الكفار الذين عاهدوا المسلمين على عدم الغدر والخيانة. والاساس هنا أن المسلمين يلتزمون بالعهود التي قطعوها. ويتخذون الاجراءات اللازمة (اعداد القوة ورباط الخيل)، مخافة انتهاك هذه العقود والمواثيق من الجانب الآخر.

 

ولذا يؤكد الطبري أن الآية 61 من سورة الأنفال {وإن جنَحوا للسَّلمُ فاجنح لها وتوكّل على الله إنه هو السميع العليم}، غير منسوخة، بالآيات {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} و{قاتلوا المشركين كافة}.

 

ـ وحول مسألة الإرهاب في الفكر والممارسة الإسلامية، نستنتج من خلال ما ذكرناه في المبحث أن الغلو الديني ظاهرة تاريخية، وهي لا تشمل مجالاً محدداً، فنجد هذا الغلو في مجال التعامل مع الآخر من ناحية العقيدة، وفي مجال الفقه سواء في أحكام العبادات أو في أحكام المعاملات، وفي معرفة وتحديد العلاقات الدولية ضمن الفهم الإسلامي.

 

ـ أن الأساس الذي ينبغي أن تتعامل به السلطة والقوى السياسية في مجتمعاتنا الإسلامية في علاقاتها مع بعضها ومع الغير، هو عدم وضع الإسلام في تناقض مع حرية الفكر والإعتقاد. والاختلاف في الديانات سنة من سنن الكون. ولا يجوز الاستناد والتعامل بموجب دعوات دعاة الغلو والتطرف الديني في استخدام العنف والقوة ضد الخصوم، بناءً على نسخ الآيات التي تدعو الى الجدل والدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، بالآيات 5، و29 من سورة التوبة التي ذكرناها في المبحث الثاني، وهي تعتبر استثناءً وليست القاعدة.

 

وفي معرض حديثنا عن الإرهاب وجهاد الدفع، نستنتج أن القتال واستخدام السلاح أسلوب مشروع من أساليب جهاد الدفع لإنقاذ البلد من المحتل، وهو ليس الأسلوب الأوحد. وينبغي توفير مستلزماته، حتى يؤدي الى جلب المحاسن ودرء المفاسد. ولا يجوز لكل عالم أو مفتي أن يعلن القتال من جانبه، أو يدعو الناس الى القتال، لأن مستلزمات القتال وخوضه مسألة تتعلق بجوانب فنية وعسكرية، تخرج من اختصاص المفتي أو العالم الديني. كما أن جهاد الدفع لا يعني القتل العشوائي للناس الآمنيين من نساء وشيوخ وأطفال. ولا يعني هدم البنى التحتية وهدر ثروات المواطنين، أو تفجير السيارات المفخخة، أو الأعمال الإنتحارية. ويكون محصلته ونتائجه بقاء المحتل وتعريض الناس للقتل، وعدم الحصول على شيء.

 

ـ يشكل الإرهاب تهديداً مباشراً وخطيراً للمجتمع، وهو دعوة الى الفتنة. وليس عند الإرهابيين تأويل سائغ. وبالتالي فإن التكييف الفقهي لجريمة الإرهاب أقرب الى مسألة الإرعاب الذي يعتبر شكلاً من اشكال الحرابة. وقد يقوم الخارج في حالة الإرهاب بمجرد الإرعاب، أو القتل والسرقة أيضاً. ونرى عدم اشتراط البعد عن العمران كشرط للإرهاب، وخاصة في حالة ضعف سلطة الإمام الحاكم، لصعوبة توفير الأمن وإغاثة المستعين. وعليه فإن طبيعة الفعل الجرمي الذي يمارسه القائم بالإرهاب، تحدد عقوبته. غير أن الإرهاب (الإرعاب) في الوقت نفسه يختلف عن الحرابة. وبالتالي فأن السلطة الإسلامية مدعوة الى التكييف الفقهي لجريمة الإرهاب على أساس كونها من جرائم التعزيز، وبالتالي إيجاد الحكم القانوني لها، علماً أن اتخاذ عقوبة شديدة من جرائم الإرهاب في الوقت الحاضر في المجتمعات الإسلامية، أمر يحفظ هيبة الإسلام، وكرامة المسلمين.

 

إشكالية الأنا والآخر في القضية الطائفية

 

 

ثمة اشكاليات متنوعة في أسس وماهية الهوية الطائفية وأبعادها ومجالها التداولي، سواء على الصعيد الداخلي للطائفة والحديث عن وحدة مزعومة فيها، أو على الصعيد الخارجي فيما يخص علاقة الهوية الطائفية كشكل من أشكال الهويات الثقافية والخصوصيات المحلية بغيرها من هويات ثقافية اخرىمن جهة، وعلاقتها بالهوية الوطنية العامة من جهة أخرى، والتي تفترض أن تكون مبنية على أسس المواطنة وحقوق وواجبات المواطن الفرد بغض النظر عن انتماءاته القومية والطائفية والعرقية.

 

وفي حالة التخلخل وعدم التوازن بين الهوية الوطنية والهويات المحلية، نتيجة عوامل عديدة منها فقدان الإنتماء لروح المواطنة وعدم الحصول على الحماية من الدولة التي يفترض أن تحمي القيم المعياريية للكينونة الوطنية العامة بصفتها منظمِة للفسحة الجماعية والمجال الحيوي المشترك بين مجمل الهويات والخصوصيات المحلية، يكون انتماء الفرد في مثل هذه الحالة للهوية المحلية سعباً منه لإيجاد الحماية المطلوبة بديلاً عن الإنتماء للهوية الوطنية. ويحدث مثل هذا الأمر عندما تكون سياسة الدولة مبنية على القسر والإلغاء والقمع.

 

لقد خلقت سياسات الديكتاتورية الحاكمة منذ عقود حالةً من الإحساس الجماعي داخل طوائف ومجموعات عرقية وقومية ودينية، بكونها مستهدفة من قبل طائفة أخرى. وينجم عن الأمر احساس بالغبن والمظلومية. في حين ان جوهر هذه السياسات نابعة أساساً من تفرد طغمة أو مجموعة بالحكم، تمارس القمع والتنكيل باسم القومية السائدة والطائفة المعينة، دون أن تكون بالأساس مخولةً من قبل تلك الطائفة والقومية. والأكثر من هذا تخلق تلك الطغمة الحاكمة من انتمائها لتلك الطائفة أو القومية سياجاً واقياُ لتبرير سياساتها للمضي قدماُ في اقتراف الجرائم، وسلاحها الأساسي اذكاء النعرات الطائفية والمذهبية والقومية.

 

إن هذه السياسات التي تخلق لدى الآخر شعوراً بالغبن والمظلومية، يجري التعبير عنها أو الرد عليها بالحديث عن الوحدة الطائفية الموهومة والتقوقع داخل الهوية المحلية الطائفية عبر منطق التماثل والمطابقة والثبات والحفاظ على الجوهر الحقيقي والصفاء المرجعي للطائفة والمذهب.

 

وتخلق هذه الحالة أيضاً نوعاً من الشك والريبة تجاه الآخر والهويات المحلية الأخرى ضمن معسكر خصوم الديكتاتورية، وخاصة في بلد مثل العراق حيث يشمل هذا المعسكر طيفاً واسعاً، يعكس الى حد ما التنوع القومي والطائفي والديني والمذهبي الموجود تاريخياً في العراق. ومثل هذا الشك والريبة في التعامل مع الآخر عوامل معرقلة في توحيد الصف الوطني في النضالمن أجل الديمقراطية وترسيخها.

 

يجرى في كثير من الأحوال الخلط بين الوجود الطائفي وبين الوحدة الطائفية. وأزعم ان الوجود الطائفي لا يعني بالتالي وحدة الهوية الطائفية بمنطق التناسخ والمماثلة والتطابق. فالحديث عن وجود مثل هذه الوحدة الطائفية يعني الغاء المفهوم العلائقي والتعددي والتركيبي للهوية. ويعني أيضاً عدم النظر إلى الهوية بلغة التنوع والصيرورة والتحول والمغايرة، وكأن الأمور تجري وفق منطق ثابت وجامد.

 

وعليه أرى إن الإلتباسات الناجمة عن سياسات الديكتاتورية أساساً، لاتكون محصورة في إطار الخلاف او التنوع في الهوية بين المسلم والمسيحي وبين العربي والكردي وبين السني والشيعي وبين الكردي والتركماني. فالمشكلة غير محدودة بالتعدد الثقافي أو اللغوي، بل هناك اشكاليات داخل كل قومية وكل طائفة وأساساً بين أحزابها المتنازعة على النفوذ والسلطة، عبر ادعاء كل حزب منها كونها المرجع الحقيقي الممثل للنقاء والصفاء المذهبي والطائفي، وفي احتكار التعبير عن فكر الطائفة أوالدين المعني، أو الذود عن مقومات الأمن القومي لتلك القومية. والسلاح الأساسي في كل هذه الأمور هو امتلاك الحقيقة المطلقة في تفسير التاريخ وتفسير النصوص واعتبار الذات قيماً على تلك الأمور.

 

في حين ان القيم والنصوص الدينية والتعامل مع ما أضفي عليه الإنسان صفة القدسية تاريخياً، أمورٌ ذات طابع معرفي ومشاع للجميع، ولا يمكن بالتالي احتكارها من قبل فئة معينة داخل طائفة محددة تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة لتفسير النص ولتفسير المصلحة الطائفية أو المصلحة القومية.

 

إنطلاقاً من هذه النقطة، علينا أن نقوض أساساً القواعد التي تبنى عليها فتاوي تكفير الأفراد والجهات السياسية، بذريعة الإختلاف السياسي أو الفكري، أو بذريعة الإساءة إلى المؤسسات الدينية، أو تحت ستار التعبير عن الصفاء الحقيقي لفكر الطائفة. والبديل هنا هو حق كل فرد وكل مجموعة ذات خصوصيات ثقافية وكل جهة سياسية في التعبير عن إيمانه على طريقته وحسب معتقداته وقناعاته، ضمن احترام قواعد وأسس الحوار الديمقراطي العقلاني، وفي هذه النقطة تكمن جوهر حرية الإعتقاد.

 

ان المفهوم الإنغلاقي في التعامل مع الهوية الطائفية يكون عاملاً للتفجير والإصطدام لا مع الطوائف والهويات المحلية الأخرى، بل في داخل الطائفة الواحدة أوالقومية الواحدة. وعلى هذا الأساس يمكننا تفسير وتوقع الصراعات الدموية داخل الطائفة الواحدة والقومية الواحدة بين أحزابها السياسية والتي تدعي كل واحدة منها تمثيلها الحقيقي لمصالح المجموعة، أو تطرح نقسها كمرجعية دينية وفكرية فيها.

 

ففي البلدان التي تشهد صراعات طائفية أو تعاني من مشاكل ناجمة عن الخصوصيات المحلية، تتشظى الأمور لتصل الى حد الإقتتال بين أحزاب الطائفة الواحدة كالقتال الدموي الذي حصل بين حزب الله ومنظمة أمل داخل المعسكر الشيعي اللبناني، وبين القوات اللبنانية والكتائب وحزب الأحرار في المعسكر المسيحي الماروني. وكذلك الأقتتال الدموي بين الديمقراطي الكردستاني والإتحاد الوطني في معسكر الحركة التحررية الكردية في العراق.

 

إذن فالمشكلة تكمن في الداخل أيضاً، في داخل القومية الواحدة والطائفة الواحدة كما في الخارج أيضاً مع الهويات الثقافية الأخرى، دون أن ننسى في كل الحالات مسؤولية السلطة الحاكمة في خلق أرضية للإستبداد في إطار الوطن ككل.

 

والإشكاليات الناجمة عن العلاقة مع الآخر على الصعيد الخارجي، لا يمكن تفسيرها بشكل سطحي وعلى أساس تقسيم البلد إلى طوائف ومجموعات اجتماعية وعرقية متناحرة ومتناقضة المصالح. ونكون بالتالي أمام خيارين، إما التناحر والإصطدام بين الطوائف والمجموعات الإجتماعية ذات الخصوصيات المحلية، وإما التقسيم الطائفي للسلطة بين تلك المجموعات والتي لا توفر على صعيد المستقبل الأمن الوطني والحماية للمواطن الفرد.

 

ان العلاقة مع الآخر في العراق ملتبسة ومعقدة وضرورية في الوقت نفسه. فالفرد بحاجة دوماً إلى الآخر من أجل التواصل والتداول ولا يمكن تحقيق ذلك دون العلاقة والتعامل مع الآخر. ومن الصعوبة أن يكون هناك وعياً حقيقياً بالذات دون أن يكون هناك وعياً بالآخر في طروحاته وهمومه ونظرته للظواهر الإجتماعية، وما نواجهه سوياً من مصير مشترك.

 

من هنا تأتي ضرورة الحوار المبني على قبول الآخر بوصفه شبيهاً ومشتركاً معنا في أمور معينة، ومختلفاً في الوقت نفسه في أمور أخرى،وضمن آلية الحق في اختلاف وجهات النظر والمساواة في الحقوق في الوقت نفسه.

 

إن ثنائية الأنا والآخر تتطلب الفصل بين الفكر واحتكار الحقيقة, فيجب أن تفهم الحقائق في ضوء نسبيتها واعادة خلقها وانتاجها وتجديدها واغناءها المستمر. في حين تنتج عن القراءة الأحادية المبينية على منطق التطابق والمماثلة والإستنساخ نفي الآخر ومنع اشراكه في اقرار القضايا المصيرية، وبالتتابع لا يمكن سوى توقع المزيد من القمع والإستئصال. وفي هذه النقطة الجوهرية تكمن جوهرالديكتاتورية الحاكمة وحقيقة أزمتها الخانقة.

 

إن إحدى الإشكاليات الأساسية المطروحة في ساحة المعارضة العراقية في الوقت الحاضر، هي إشكالية الهويات المحلية {الهويات الطائفية والمذهبية والدينية} وعلاقة تلك الهويات بالهوية الوطنية العراقية.

 

وتتجدد الأسئلة حول هذه الإشكاليات مع طرح الأسئلة حول مستقبل الوحدة الوطنية العراقية بفعل المؤثرات الداخلية والخارجية، ومستجدات القضية العراقية. ولذا نرى انشغال السياسيين ورجال الدين والمرجعيات الدينية وقادة الأحزاب الدينية والطوائف المختلفة والمثقفين من دعاة العلمانية والمجتمع المدني بطرح ومناقشة المشاريع المختلفة التي تخص مستقبل الوطن. كما نجد انحياز البعض والولاء للهوية الطائفية باطارها الإنغلاقي عبر التفكير في الحصول على ضمانات ومكاسب لطائفة معينة، وتغليف تلك المطالب بشعارات تحديثية معاصرة تنبذ الطائفية من حيث الشكل، في حين تقوم بتكريسها في الجوهر. وبالتالي ستخلق مثل تلك المشاريع مستقبلاً أفخاخاً طائفية وقنابل موقوتة وتكون استمراراً ـ بشكل آخر ـ للأفخاخ التي وضعتها الديكتاتورية بسبب سياساتها الطائفية.

 

ويبدو ان البعض من رجال الدين والمرجعيات الفقهية والمثقفين والسياسيين ممن يعتبرون أنفسهم حماةً للهويات والخصوصيات المذهبية والطائفية، وفي إطار ولائهم الأساسي لتلك الخصوصية، يكَرِّسون الأنقسامات والخلاقات، وتصبح الساحة الثقافية آنئذِ ميداناً للإصطدامات ولآليات رفض الآخر وتكفيره.

 

وفي مثل هذه الحالة لا يمكن سوى توقع انتاج هوية مغلقة مولدة للتعصب والإنغلاق على الذات. وتتحول علاقة الفرد بهويته الطائقية إلى سجن فكري مسيًّج بالفتاوي وفرمانات التكفير.

 

وتخطئة هذه الوجهة لا يعني القفز على الخصوصيات الطائفية وعدم مراعاة التنوع الطائفي والمذهبي والقومي والديني الموجود في العراق، أو معالجة القضية الطائفية عبر الغاء الوجود أو الكينونة الطائفية أو الخصوصية المحلية. لكن المسارات المطروحة تجعلنا أمام منعطف تاريخي ولا بُدَّ أن نختار بين طريقين.

 

فأمامنا حل طائفي للقضية الطائفية في العراق. وأمامنا أيضاًَ حل ديمقراطي للقضية الطائفية.

 

والحل الديمقراطي لا يعني إلغاء الخصوصية الطائفية، بل البحث عبر الحوار عن حلول وسط تداولي وطني مبني على الشراكة والمسؤولية الجماعية، وبما يؤمن فسحة كبيرة اسمها الوطن الموحد للتعايش السلمي والسلام الإجتماعي المدني والتفاعل الخلاق ضمن أسس الحوار الديمقراطي العقلاني.

 

ومن مستلزمات الحل الديمقراطي النظر الى مفهوم الهوية ببعدها الإتفتاحي والتعددي والعلائفي وبلغة التنوع والمغايرة والصيرورة.

 

أما الحل الطائفي فإنه يُكَرِّس الخلاف والفرقة. وتكون اقتسام الكعكة دستورياً بديلاً عن فكرة الشراكة والمسؤولية الجماعية دستورياً. والوحدة الوطنية المبنية على حلول طائفية ـ إن تحققت ـ ستكون وحدةً ملغومةً قابلةً للتفجير ولا تصمد أمام الهزَّات.

 

إن الحل الديمقراطي الذي يضمن الخصوصية الطائفية لمجموعة معينة على قدر المساواة والتكافؤ مع خصوصيات الآخرين، بإمكانه إنشاء مؤسسات إتحادية ناجحة وفعالة، ومن خلال ممارسة الفرد هويته كمغايرة وتواصل مع الآخر. ولن تكون الوحدة آنئذ تجميعاً كمياً لطوائف وخصوصيات ثقافيتة متباينة، بل إطاراً لتفاعل أفراد ومجموعات فاعلة تمارس خصوصياتها وقادرة على إدارة خلافاتها بشكل عقلاني تواصلي.

 

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.