اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

كتاب التوظيف السياسي للفكر الديني - الصفحة 4

الخلفية التاريخية لمفهوم مشروعية السلطة في الإسلام

 

لابد لنا في هذا المضمار أن نتناول التجربة التاريخية الإسلامية في مجال قضية الخلافة، والعلاقة بين هذه التجربة التاريخية والنصوص الفقهية التأسيسية التي تعتبر موضوع التأويل في هذه المسألة.

 

لقد انبثقت مشكلة الخلافة في المجتمع الإسلامي بوفاة الرسول الذي لم يترك للمسلمين نظرية للحكم. ومن هنا انقسم الصحابة الى فريقين: فريق المهاجرين أي المكيين، وفريق الأنصار أي أهل المدينة. وصار كل فريق يريد أن يكون له أمر الخلافة بعد النبي. وبموازاة هذا الإنقسام لم يكن فريق الأنصار متحدين في موقفهم، بسبب آثار العلاقة السابقة للإسلام بين الأوس والخزرج. كما ان المهاجرين كانوا منقسمين بين بني هاشم الذي ينتمي اليهم النبي، وصهره وابن عمه علي بن أبي طالب من جانب، وبني عبد شمس وتيم وأمية وغيرهم، الذين ينتمي اليهم سائر المهاجرين ومنهم أبو بكر وعمر بن الخطاب من جانب آخر.

 

بدأ الصراع على الخلافة في سقيفة بني ساعدة، دون تأسيسات فقهية وقبل نشوء المذاهب الفقهية أو الاعتقادية، أو مذاهب علم الكلام أساساً. وكانت الدوافع السياسية والاجتماعية في الصراع على هذا المنصب غير مخفية. كما لم تحسم من خلال التسويغات الدينية، على الرغم من ورودها في بعض حجج المتصارعين على السلطة. واتخذ الصراع شكله الديني وقالبه الفقهي بعد مرور سنين عديدة، وبعد تطور الدولة الإسلامية، التي أصبحت امبراطورية مترامية الأطراف. وذلك لأن الفكر الديني أصبح بمثابة الوعاء الذي استوعب وجسُّد الصراعات الكامنة في المجتمع.

 

تحدث كل من الطبري، وابن أبي الحديد كل حسب رأيه عن أحداث السقيفة. ومن خلال نقل كل واحد منهما لتلك الأحداث، نستبعد الطابع الديني للخلافات والآراء المطروحة في السقيفة، حول الأحقية بالخلافة. ولسرد تلك الحادثة برواية الطرفين (الطبري، وابن أبي الحديد) أهمية كبيرة، بسبب اختلاف ميول الطرفين من الناحية السياسية. وهذا يعكس الجانب السياسي الدنيوي في مسألة الصراع على الخلافة.

 

وقد نقل الطبري هذا الصراع الجنيني على الخلافة في سقيفة بني ساعدة، كالتالي:

 

" اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح، فقال ما هذا فقالوا منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر منا الأمراء ومنكم الوزراء. ثم قال أبو بكر إني قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر أو أبا عبيدة. إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه قوم فقالوا أمينا، فقال لأبعثن معكم أمينا حق أمين فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح. وأنا أرضى لكم أبا عبيدة، فقام عمر فقال أيكم تطيب نفسه أن يخلف قدمين قدمهما النبي صلى الله عليه وسلم، فبايعه عمر وبايعه الناس، فقالت الأنصار أو بعض الأنصار لا نبايع إلا عليا".[4]

 

أما حول الخلاف بين بني هاشم وبين غيرهم من قريش فيذكر الطبري ""حدثنا ابن حميد قال حدثنا جرير عن مغيرة عن زياد بن كليب قال أتى عمر بيت علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال والله لأحرقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة فخرج عليه الزبير مصلتاً السيف، فعثر، فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه، فأخذوه"[5]

 

ويذكر الطبري حديث عمر بن الخطاب أثناء توليه الخلافة بعد وفاة أبي بكر حول ما جرى قبل ذهابه الى السفيقة كالتالي:

 

" إنه بلغني أن قائلا منكم يقول لو قد مات أمير المؤمنين بايعت فلانا. فلا يغرن امرءاً أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة. فقد كانت كذلك، غير أن الله وقى شرها. وليس منكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر! وإنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن عليا والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة. وتخلفت عنا الأنصار بأسرها، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار. فانطلقنا نؤمهم، فلقينا رجلان صالحان قد شهدا بدرا. فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار. قالا: فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم، فقلنا والله لنأتينهم".[6]

 

وفي السقيفة بدأت النقاشات والسجالات بين الأنصار وزعيمهم سعد بن عبادة من جهة ، وبين المهاجرين الذين تحدث عنهم أبو بكر الصديق، وعاونه في ذلك عمر بن الخطاب.

 

يذكر الطبري نقلاً عن خطبة عمر بن الخطاب تلك النقاشات الحامية، حيث قال "فأتيناهم ( ويقصد هو وأبو بكر)، وهم مجتمعون (أي الأنصار) في سقيفة بني ساعدة. قال وإذا بين أظهرهم رجل مزمل. قال قلت من هذا قالوا سعد بن عبادة فقلت ما شأنه قالوا: وجع. فقام رجل منهم فحمد الله وقال: أما بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام. وأنتم يا معشر قريش رهط رآه وقد دفت إلينا من قومكم دافة".[7]

 

بيّن عمر بن الخطاب في خطبته، كما ينقلها لنا الطبري، التنسيق وتبادل الأدوار بينه وبين أبي بكر الصديق، في مواجهة الطلب الذي أبداه الأنصار وزعيمهم سعد بن عبادة. ويذكر في هذا الصدد دور السجايا والسمات الشخصية لأبي بكر الصديق وكونه أكثر حلماً منه.

 

وبهذا الصدد يذكر الطبري نقلاً عن خطبة عمر بن الخطاب أثناء خلافته ما فعلوه لمواجهة مطالب الأنصار. قال ( والحديث لعمر بن الخطاب): فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، ويغصبونا الأمر. وقد كنت زورت في نفسي مقالة أقدمها بين يدي أبي بكر. وقد كنت أداري منه بعض الحد. وكان هو أوقر مني وأحلم. فلما أردت أن أتكلم قال فكرهت أن أعصيه. فقام فحمد الله وأثنى عليه فما ترك شيئا كنت زورت في نفسي أن أتكلم به لو تكلمت إلا قد جاء به أو بأحسن منه. وقال أما بعد يا معشر الأنصار فإنكم لا تذكرون منكم فضلا إلا وأنتم له أهل. وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش. وهم أوسط العرب دارا ونسبا. ولكن قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح. وإني والله ما كرهت من كلامه هذه الكلمة إن كنت لأقدم فتضرب عنقي فيما لا يقربني إلى إثم أحب إلي من أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر. فلما قضى أبو بكر كلامه، قام منهم رجل، فقال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب. منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش. قال فارتفعت الأصوات، وكثر اللغط. فلما أشفقت الاختلاف، قلت لأبي بكر ابسط يدك أبايعك، فبسط يده، فبايعته، وبايعه المهاجرون، وبايعه الأنصار .... قال قائلهم قتلتم سعد بن عبادة فقلت قتل الله سعدا وإنا والله ما وجدنا أمرا هو أقوى من مبايعة أبي بكر. خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما أن نتابعهم على ما نرضى أو نخالفهم فيكون فساد".[8]

 

ويذكر ابن أبي الحديد حادثة السقيفة في شرح (نهج البلاغة)، ويتحدث عن طبيعة الصراع بين الأنصار والمهاجرين على منصب الخلافة وكيفية حسمه، وتأثير الخلافات القديمة بين الأوس والخزرج على تخلي الخزرج عن سعد بن عبادة واصطفافهم الى جانب المهاجرين. كما أن هناك إشارة الى المخاطر المترافقة بعملية إختيار أبي بكر وإحتمال حدوث الفتنة، بشكل واضح في النص الوارد في شرح نهج البلاغة.

 

وحول استعدادات الأنصار وتحركاتهم بعد وفاة النبي، ورد في شرح (نهج البلاغة): ان المهاجرين والأنصار "ترادوا الكلام بينهم، فقالوا: إن أبت مهاجرة قريش فقالوا: نحن المهاجرون، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولون؛ ونحن عشيرته وأولياؤه، فعلام تنازعوننا هذا الأمر من بعده! فقالت طائفة منهم: إذاً نقول: منا أمير ومنكم أمير، لن نرضى بدون هذا منهم أبداً، لنا في الإيواء والنصرة ما لهم في الهجرة، ولنا في كتاب الله ما لهم، فليسوا يعدون شيئاً إلا ونعد مثله، وليس من رأينا الاستئثار عليهم، فمنا أمير ومنهم أمير؛ فقال سعد بن عبادة: هذا أول الوهن!".[9]

 

أكد أبو بكر في حديثه في السقيفة على كون المهاجرين يمثلون عشيرة الرسول، وأول الملبين لدعوته. كما تحدث عن دور قريش في أوساط العرب وتأثيره على القبائل الأخرى. ويخلو حديث الصديق من الإستشهاد بأية آية قرآنية أو حديث نبوي لتثبيت وبرهان أحقية فريش بالخلافة. علماً أنه لم يتحدث عن أحقيته، بل أحقية قبيلته.

 

ونستطيع ان نثبت هذا الإستنتاج من خلال رواية ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة)، وهي رواية لا تختلف عمّا أورده الطبري في تاريخه.يقول ابن أبي الحديد أن أبا بكر قال: "إن الله جل ثناؤه بعث محمداً بالهدى ودين الحق، فدعا إلى الإسلام، فأخذ الله بقلوبنا ونواصينا إلى ما دعانا إليه، وكنا - معاشر المسلمين المهاجرين- أول الناس إسلاماً، والناس لنا في ذلك تبع. ونحن عشيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوسط العرب أنساباً، ليس من قبائل العرب إلا ولقريش فيها ولادة. وأنتم أنصار الله، وأنتم نصرتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أنتم وزراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإخواننا في كتاب الله وشركاؤنا في الدين. وفيما كنا فيه من خير، فأنتم أحب الناس إلينا، وأكرمهم علينا، وأحق الناس بالرضا بقضاء الله، والتسليم لما ساق الله إلى إخوانكم من المهاجرين، وأحق الناس ألا تحسدوهم، فأنتم المؤثرون على أنفسهم حين الخصاصة، وأحق الناس ألا يكون انتقاص هذا الدين واختلاطه على أيديكم، وأنا أدعوكم إلى أبي عبيدة وعمر؛ فكلاهما قد رضيت لهذا الأمر، وكلاهما أراه له أهلاً".[10]

 

لم يكن أبو بكر وحده في دعوته لكي تكون الخلافة في قريش. وكان يعلم أن أبا عبيدة الجراح وعمر بن الخطاب يؤيدانه في هذا المسعى. ويمثل كل منهما مركزاً من مراكز القوى في العوائل والأفخاذ التي تتكون منها قريش. وقد أثرت دعوته في تليين موقف بعض الأنصار واستعدادهم للتوافق وتقاسم السلطة. وفي هذه اللحظة من الصراعات برز دور عمر وأبي عبيدة، ليكملا ما بدأه أبو بكر الصديق. وهذا ما نلمسه في حديثهما، المذكور عند الطبري وعند ابن أبي الحديد.

 

قال عمر وأبو عبيدة: "ما ينبغي لأحد من الناس أن يكون فوقك، أنت صاحب الغار، ثاني اثنين، وأمرك رسول الله بالصلاة، فأنت أحق الناس بهذا الأمر.

 

وتكررت الدعوات بالتقاسم في السلطة بين المهاجرين والأنصار. ووصل النزاع الى حد حصول احتمال التصادم بين المهاجرين والأنصار، غير أن المهاجرين كانوا قد حسموا أمرهم في أن تكون الخلافة لهم. وضمن السجال الدائر والدعوة الى تقاسم السلطة، "قام الحباب بن المنذر بن الجموح، فقال: يا معشر الأنصار؛ املكوا عليكم أيديكم، إنما الناس في فيّكم وظلكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولا يصدر الناس إلا عن أمركم، أنتم أهل الإيواء والنصرة، وإليكم كانت الهجرة، وأنتم أصحاب الدار والإيمان؛ والله ما عُبِّدَ الله علانية إلا عندكم وفي بلادكم، ولا جُمعت الصلاة إلا في مساجدكم، ولا عُرف الإيمان إلا من أسيافكم، فاملكوا عليكم أمركم، فإن أبى هؤلاء فمنا أمير ومنهم أمير".[11]

 

غير أن هذا المقترح المطروح للتوافق عبر التشارك بين الطرفين في السلطة، لم يكن مقبولاً من جانب المهاجرين. ولذا نجد عمر بن الخطاب يقول: "هيهات! لا يجتمع سيفان في غمد. إن العرب لا ترضى أن تؤمركم ونبيها من غيركم. وليس تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم، وأولو الأمر منهم. لنا بذلك الحجة الظاهرة على من خالفنا، والسلطان المبين على من نازعنا، من ذا يخاصمنا في سلطان محمد وميراثه، ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة! فقام الحباب، وقال: يا معشر الأنصار، لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من الأمر، فإن أبوا عليكم ما أعطيتموهم فأجلوهم عن بلادكم، وتولوا هذا الأمر عليهم، فأنتم أولى الناس بهذا الأمر، إنه دان لهذا الأمر بأسيافكم من لم يكن يدين له. أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، إن شئتم لنعيدنها جذعة، والله لا يرد أحد علي ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف".[12]

 

غير أن معسكر الأنصار لم يكن موحدأ. فآثار الصراعات الدائرة بين الأوس والخزرج، لم تزل باقية في نفوس البعض منهم. وكان للأوس وزعيمهم سعد بن عبادة فقط الفرصة لتولي السلطة في حالة حسم النزاع والنقاش لصالح الأنصار. ولم يكن هذا الأمر يروق للخزرج.

 

يشير العديد من المؤرخين الى هذه الحالة، والى موقف بشير بن سعد الخزرجي، قائلين: "لما رأى بشير بن سعد الخزرجي ما اجتمعت عليه الأنصار من تأمير سعد بن عبادة ـ وكان حاسداً له، وكان من سادة الخزرج ـ قام فقال: أيها الأنصار، إنا وإن كنا ذوي سابقة، فإنا لم نرد بجهادنا وإسلامنا إلا رضا ربنا وطاعة نبينا، ولا ينبغي لنا أن نستطيل بذلك على الناس، ولا نبتغي به عوضاً من الدنيا، إن محمداً صلى الله عليه وسلم رجل من قريش؛ وقومه أحق بميراث أمره، وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر؛ فاتقوا الله ولا تنازعوهم ولا تخالفوهم.

 

فقام أبو بكر، وقال: هذا عمر وأبو عبيدة، بايعوا أيهما شئتم؛ فقالا: والله لا نتولى هذا الأمر عليك؛ وأنت أفضل المهاجرين، وثاني اثنين، وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصلاة؛ والصلاة أفضل الدين. أبسط يدك نبايعك. فلما بسط يده، وذهبا يبايعانه، سبقهما بشير بن سعد، فبايعه، فناداه الحباب بن المنذر: يا بشير، عقك عقاق؛ والله ما اضطرك إلى هذا الأمر إلا الحسد لابن عمك.

 

ولما رأت الأوس أن رئيساً من رؤساء الخزرج قد بايع، قام أسيد بن حضير- وهو رئيس الأوس- فبايع حسداً لسعد أيضاً، ومنافسة له أن يلي الأمر، فبايعت الأوس كلها لما بايع أسيد، وحمل سعد بن عبادة وهو مريض، فأدخل إلى منزله، فامتنع من البيعة في ذلك اليوم وفيما بعده، وأراد عمر أن يكرهه عليها، فأشير عليه ألا يفعل، وأنه لا يبايع حتى يقتل، وأنه لا يقتل حتى يقتل أهله، ولا يقتل أهله حتى يقتل الخزرج؛ وإن حوربت الخزرج كانت الأوس معها". [13]

 

إن الحوار الذي جرى بين الأنصار والمهاجرين لا يعكس المنظور الديني في مسألة حسم قضية الخلافة التي أثيرت في السقيفة. ولا نجد في حوار الفرقاء في السقيفة ما يشير في حديث أي منهم الى آيات من القرآن، أو نصوص من الحديث النبوي. وجرى الحديث حول اختيار ومبايعة الزعيم أو الأمير ضمن القيم العشائرية والموروث القبلي السائد، في وقت لم تكن لهذه القبائل تجربة سابقة في ميدان تأسيس الدولة، واختيار رئيس لها. فالمهاجرون رأوا بأن لهم الحق في الخلافة لأنه بدون تضحياتهم، ومن ضمنها هجرتهم لم يكن الإسلام يصل الى ما وصل إليه في الجزيرة العربية. وقالوا وكان المعبر عنهم بشكل واضح أبو بكر الصديق: بأن العرب لن تقبل إلاّ أن يكون هذا الأمر في قريش. وهكذا نرى إن الحديث قد جرى حول التقاليد العربية الراسخة وإمكانية القبول العربي، وفي هذه النقطة يبرز دور "هذا الحي من قريش" كما جاء في قول الخليفة الأول. وقد وصف الخليفة الثاني بأن ما جرى كان فلتةً أو فتنةً وقى الله شرها، كما برز العامل القبلي بشكل واضح في إنحياز الخزرج الى المهاجرين، بسبب خلافهم القديم مع الأوس. ولم يتكرر ما جرى في السقيفة لاختيار الخلفاء الراشدين الثلاثة الآخرين، حيث تختلف طريقة وصول كل منهم للخلافة عن الآخر.

 

أما الجانب الآخر من الصراع في معسكر المهاجرين فيتجلى في الخلاف بين بني هاشم الذي ينتمي اليهم النبي، وصهره وابن عمه علي بن أبي طالب من جانب، وبني عبد شمس وتيم وأمية وغيرهم، الذين ينتمي اليهم سائر المهاجرين ومنهم أبو بكر وعمر بن الخطاب من جانب آخر.

 

ينقل لنا ابن أبي الحديد في ( شرح نهج البلاغة ) هذا الجانب من الصراع بعد اجتماع بني هاشم إلى بيت علي بن أبي طالب، ومعهم الزبير، وكان يعد نفسه رجلاً من بني هاشم. واجتماع بني أمية إلى عثمان بن عفان، واجتماع بني زهرة إلى سعد وعبد الرحمن، ودعوة عمر بن الخطاب، وأبي عبيدة بن الجراح للطرفين الأخيرين لمبايعة أبي بكر، بعد حسم الصراع الأولي في السقيفة لصالح أبي بكر الصديق. فقام عثمان ومن معه، وقام سعد وعبد الرحمن ومن معهما، فبايعوا أبا بكر.

 

وفي هذا الصدد يقول ابن أبي الحديد : "ذهب عمر ومعه عصابة إلى بيت فاطمة، منهم أسيد بن حضير وسلمة بن أسلم؛ فقال لهم: انطلقوا فبايعوا، فأبوا عليه؛ وخرج إليهم الزبير بسيفه، فقال عمر: عليكم الكلب، فوثب عليه سلمة بن أسلم، فأخذ السيف من يده فضرب به الجدار، ثم انطلقوا به وبعلي ومعهما بنو هاشم، وعلي يقول: أنا عبد الله وأخو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى انتهوا له إلى أبي بكر، فقيل له: بايع، فقال: أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله، فأعطوكم المقادة، وسلموا إليكم الإمارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار. فأنصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم، واعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفت الأنصار لكم، وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون".[14]

 

غير أن عمر بن الخطاب الذي قاد الدعوة لمبايعة أبي بكر، وكسب المعركة في السقيفة، وأحرز عليه موافقة بني أمية وبني زهرة، فضلاً على كونه من بني تيم، كان يريد فرض الأمر على بني هاشم أيضاً. ولهذا كان يلح حسب ما يشير اليه المؤرخون على علي بالبيعة لأبي بكر.

 

وقد جرى اختيار الخليفة الثاني عن طريق الوصية، بعد تشاور أبي بكر الصديق مع بعض الصحابة، فرادى، ومنهم عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وسعيد بن زيد وأسيد بن حضير، حسب روايات واردة في كتب السيرة وتاريخ الخلفاء. وبالتالي نجد أن الخليفة الأول قد أوصى بالخلافة الى عمر بن الخطاب حسب وجهة نظره واجتهاده، دون ان يشير الى نص ديني وآية قرآنية لتثبيت موقفه في صحة تلك الوصية، واستحقاق الخليفة الثاني للمنصب من منظور ديني. وهذا منا نجده في وصيته التالية:

 

" بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آلُ الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً، فإن عَدَلَ فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بَدًل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم بالغيب..".[15]

 

كما جرى اختيار عثمان بن عفان عن طريق لجنة شكلها عمر بن الخطاب وراعى فيها الاعتبارات القبلية. وجرى اختيار الخليفة الرابع بعد الأحداث التي نجمت عن قتل الخليفة الثالث.

 

يذكر ابن أبي الحديد دور وتأثير الإعتبارات القبلية في إختيار الخليفة الثالث، ويبدو أن ما يطرحه أمر منطقي إرتباطاً بواقع الجزيرة العربية والتركيبة الإجتماعية السائدة فيها. ويمكن القول وحسب الرواية أدناه بأن العامل القبلي كان حاسماً في حسم تلك القضية.

 

يقول إبن أبي الحديد:

 

"لما دفن عمر، جمعهم أبو طلحة، ووقف على باب البيت بالسيف في خمسين من الأنصار، حاملي سيوفهم، ثم تكلم القوم وتنازعوا، فأول ما عمل طلحة أنه أشهدهم على نفسه أنه قد وهب حقه من الشورى لعثمان. وذلك لعلمه أن الناس لا يعدلون به علياً وعثمان، وأن الخلافة لا تخلص له وهذان موجودان، فأراد تقوية أمر عثمان وإضعاف جانب علي عليه السلام، بهبة أمر لا انتفاع له به، ولا تمكن له منه.

 

فقال الزبير في معارضته: وأنا أشهدكم على نفسي أني قد وهبت حقي من الشورى لعلي، وإنما فعل ذلك لأنه لما رأى علياً قد ضعف وانخذل بهبة طلحة حقه لعثمان، ودخلت حمية النسب، لأنه ابن عمة أمير المؤمنين عليه السلام، وهي صفية بنت عبد المطلب، وأبو طالب خاله. وإنما مال طلحة إلى عثمان لانحرافه عن علي عليه السلام، باعتبار أنه تيمي، وابن عم أبي بكر الصديق، وقد كان حصل في نفوس بني هاشم من تيم حنق شديد لأجل الخلافة، وكذلك صار في صدور تيم على بني هاشم، وهذا أمر مركون في طبيعة البشر، وخصوصاً طينة العرب وطباعها، والتجربة إلى الآن تحقق ذلك، فبقي من الستة أربعة.

 

فقال سعد بن أبي وقاص: وأنا قد وهبت حقي من الشورى لابن عمي عبد الرحمن - وذلك لأنهما من بني زهرة، ولعلم سعد، أن الأمر لا يتم له - فلما لم يبق إلا الثلاثة. قال عبد الرحمن لعلي وعثمان: أيكما يخرج نفسه عن الخلافة، ويكون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين؟ فلم يتكلم منهما أحد، فقال عبد الرحمن: أشهدكم أنني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدهما، فأمسكا. فبدأ بعلي عليه السلام، وقال له: أبايعك على كتاب الله، وسنة رسول الله، وسيرة الشيخين: أبي بكر وعمر. فقال: بل على كتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأيي. فعدل عنه إلى عثمان، فعرض ذلك عليه، فقال: نعم، فعاد إلى علي عليه السلام، فأعاد قوله؛ فعل ذلك عبد الرحمن ثلاثاً، فلما رأى أن علياً غير راجع عما قاله، وأن عثمان ينعم له بالإجابة، صفق على يد عثمان، وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فيقال: إن علياً عليه السلام قال له: والله ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه، دق الله بينكما عطر منشم".[16]

 

هذه اللوحة التاريخية للأحداث ـ رغم الإقتباسات المطولة التي أراها ضرورية ـ تعتبر تجربة تاريخية ساهمت فيما بعد وبأثر رجعي في بلورة وصياغة نصوص فقهية تتمتع بأشكال من القدسية في مجتمعاتنا في الوقت الحاضر.

 

وتستبعد هذه القراءة وجود نظرية خاصة بالخلافة في القرآن والسنة النبوية، أو الإعتماد على نظرية الشورى كأساس لأختيار الحاكم. وعلاوةً على ذلك لا نجد في النصوص الأصولية (القرآن والسنة) ما يشير بشكل صريح الى كون الشورى مبدءأً تشريعياً صريحاُ لاختيار الخليفة. كما أن نص الآية 28 من سورة الشورى {وأمرهم شورى بينهم} جاء في سياق الحديث عن سلوك المؤمنين وأخلاقيتهم، ويخلو من الدلالة على كونه نصاً خاصاً بنظام الحكم.

 

لم يقم النبي بعملية توعية، أو الدعوة إلى نظام الشورى، كما لم يبين حدوده وتفاصيله ، ولم يعطه طابعا دينيا مقدسا. فقد تكون المجتمع الاسلامي الأول من مجموعة من العشائر ، لم تكن قد عاشت - قبل الاسلام - وضعا سياسيا على أساس الشورى، وإنما كانت تعيش، في الغالب، وضع زعامات قبلية وعشائرية تتحكم فيها القوة والثروة وعامل الوراثة إلى حد كبير.

 

وبهذا الصدد كتب محمد باقر الصدر وهو من المراجع الشيعية المعاصرة في العراق قائلاً:

 

"...نستطيع بسهولة أن ندرك أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يمارس عملية التوعية على نظام الشورى، وتفاصيله التشريعية، ومفاهيمه الفكرية، لأن هذه العملية لو كانت قد أنجزت، لكان من الطبيعي أن تنعكس وتتجسد في الاحاديث المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وفي ذهنية الامة، أو على الاقل في ذهنية الجيل الطليعي منها ، الذي يضم المهاجرين والانصار بوصفه هو المكلف بتطبيق نظام الشورى مع أننا لانجد في الاحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) أي صورة تشريعية محددة لنظام الشورى".[17]

 

على الرغم من أن الأفكار والآراء المتعلقة بالسلطة ومشروعيتها، وكيفية تداولها، لم تكن متبلورة ومتجذرة حسب رأينا، بشكل تكوِّن نواتات لإتجاهات واضحة تؤسس مستقبلاً لنظرية الخلافة أو الإمامة، وإنما تداولت القضية في سياق القيم والتقاليد القبلية السائدة، إلاّ أن المرجع الشيعي العراقي المعاصر محمد باقر الصدر يرى في ذلك الصراع القبلي تأسيساً لإتجاهين رئيسيين في موضوع السلطة.

 

وبهذا الصدد يذكر محمد باقر الصدر أن في ذهنية الأمة أو في " ذهنية الجيل الطليعي منها فلا نجد فيها أي ملامح أو انعكاسات محددة لتوعية من ذلك القبيل.. وهذا الجيل كان يحتوى على اتجاهين، أحدهما الاتجاه الذي يتزعمه أهل البيت، والآخر الاتجاه الذي تمثله السقيفة والخلافة التي قامت فعلا بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ). فأما الاتجاه الاول : فمن الواضح أنه كان يؤمن بالوصاية والامامة ، ويؤكد على القرابة، ولم ينعكس منه الايمان بفكرة الشورى. وأما الاتجاه الثاني : فكل الأرقام والشواهد في حياته وتطبيقه العملي تدل بصورة لا تقبل الشك على أنه لم يكن يؤمن بالشورى، ولم يبن ممارساته الفعلية على أساسها ، والشئ نفسه نجده في سائر قطاعات ذلك الجيل الذي عاصر وفاة الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) من المسلمين وتلاحظ بهذا الصدد للتأكد من ذلك ، أن أبا بكر - حينما اشتدت به العلة - عهد الى عمر بن الخطاب ، فأمر عثمان أن يكتب عهده ، وكتب " بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد به أبو بكر خليفة رسول الله ، الى المؤمنين والمسلمين : سلام عليكم فإني أحمد الله اليكم . أما بعد : فإني قد استعملت عليكم عمر بن الخطاب ، فاسمعوا وأطيعوا ". ودخل عبد الرحمن بن عوف فقال : كيف أصبحت يا خليفة رسول الله ؟ فقال : أصبحت موليا ، وقد زدتموني علي ما بي ، إذ رأيتموني استعملت رجلا منكم ، فكلكم قد أصبح ورما انفه ، وكل يطلبها لنفسه ".[18]

 

يستنتج الصدر من وصية الخليفة الأول، أن الخليفة لم يكن يفكر بعقلية نظام الشورى. وكان يرى أن من حقه تعين من يستخلفه من هذا الاستخلاف، "وأن هذا التعيين يفرض على المسلمين الطاعة ، ولهذا أمرهم بالسمع والطاعة ، فليس هو مجرد ترشيح أو تنبيه ، بل هو إلزام ونصب . ونلاحظ أيضا أن عمر رأى هو الآخر، أيضا، أن من حقه فرض الخليفة على المسلمين، ففرضه في نطاق ستة أشخاص، و أوكل أمر التعيين إلى الستة أنفسهم دون أن يجعل لسائر المسلمين أي دور حقيقي في الانتخاب، وهذا يعني أيضاَ ، أن عقلية نظام الشورى لم تتمثل في طريقة الاستخلاف التي انتهجها عمر ، كما لم تتمثل ، من قبل ، في الطريقة التي سلكها الخليفة الاول . وقد قال عمر ـ حين طلب منه الناس الاستخلاف ـ : " لو أدركني احد رجلين فجعلت هذا الامر إليه لوثقت به : سالم مولى أبي حذيفة، وأبي عبيدة بن الجراح ، ولو كان سالم حيا ما جعلتها شورى".[19]

 

لقد جاء مبدأ الشورى عاماً ومطلقاً وغير محدد لطريقة اختيار الإمام أو الخليفة أو طابع نظام الحكم. ولانجد حتى في كتابات الداعين لهذا المفهوم ما يشير الى كون الإسلام قد حقق طريقةً لتحقيق الشورى.

 

خلال الفترة من خلافة الخليفة الأول وحتى مقتل الخليفة الثالث على يد منتفضين على حكمه، لا نجد في ذلك الدور الفقهي الى ما يشير الى جريمة البغي "الخروج عن طاعة الإمام الحق مغالبةً بتأويل". فالتوازنات القبلية السائدة استطاعت أن تخفف وطأة النزاعات الكامنة التي لم تصل الى استخدام القوة من قبل المتصارعين على الحكم. إلاّ أن الأمر سرعان ما انفجر مع أحداث ما يسمى "أحداث الفتنة".

 

على أثر الإنقسام الجديد حول مفهوم الخلافة وأحقية كل طرف بذلك بدأت النواتات الأساسية لما سميّ مؤخراً بنظرية الخلافة في مذاهب السنة، ونظرية الإمامة في مذاهب الشيعة.

 

وعلى حد قول الشهرستاني فإن " أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلَّ على الإمامة في كل مكان".[20]

 

وارتباطاً بالصراع المسلح على السلطة، الذي وجد كل طرف شرعيته في ايجاد الحجج الفقهية والشرعية لأحقيته بالسلطة، وتزامناً مع استخدام القوة في تلك الصراعات، تبلور مفهوم البغي وأركانه وبشكل تجاوز نص الآية من سورة الحجرات. ووجد الفقهاء في الأدوار الفقهية الأخرى فيما جرى من أحداث، خلال هذه الفترة، أساساً لبلورة وصياغة تصوراتهم وفهمهم للبغي وأركانه وللآثار المترتبة عليه. واستخدموا الى حد معين القياس الفقهي في الموقف من الآثار والحالات الجديدة، في ظل واقع جديد في البلدان الإسلامية، حيث صار الحديث فيها عن وجود فعلي لأكثر من خليفة في الأمصار الإسلامية، وسيطرة المنتفضين على سلطة الخلافة لسنوات عديدة. مما أدى الى آثار اقتصادية واجتماعية، ونتائج متباينة في فقه المعاملات، بين الناس الخاضعين لسلطة المناطق الخارجة عن سلطة الخلافة المركزية.

 

إن مفهوم الإمام الحق مفهوم متغير حسب المذاهب الفقهية والعقائدية التي تطورت بعد احداث الفتنة الأولى. ولا بد من استعراض هذا المفهوم لدى المدارس الفقهية والاعتقادية الأساسية، لأن البغي يترتب أساساً على هذا الأمر. وفي هذا المجال نجد أن الفقهاء المسلمين، في القرون الاسلامية المختلفة، ميَّزوا بين عدة مصطلحات تتعلق بمفهوم شرعية السلطة أو الحكم، ومنها الخلافة أو الإمامة الكبرى، والامارة والسلطة والحكم.

 

وعلى ضوء التجربة التاريخية الإسلامية، سمّي من يخلف الرّسول في إجراء الأحكام الشّرعيّة ورئاسة المسلمين في أمور الدّين والدّنيا خليفةً ، ويسمّى المنصب خلافةً وإمامةً .

 

أمّا مصطلح الخلافة في الاصطلاح الشّرعيّ فإنه يرادف الإمامة ، وقد عرّفها ابن خلدونٍ بقوله : "هي حمل الكافّة على مقتضى النّظر الشّرعيّ ، في مصالحهم الأخرويّة ، والدّنيويّة الرّاجعة إليها" ، ثمّ فسّر هذا التّعريف بقوله : "فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشّرع في حراسة الدّين والدّنيا".[21]

 

وتداول الفقهاء مصطلح الإمارة التي تعني لغةً: الولاية، والولاية إمّا أن تكون عامّةً، فهي الخلافة أو الإمامة العظمى، وإمّا أن تكون خاصّةً على ناحيةٍ كأن ينال أمر مصرٍ ونحوه، أو على عملٍ خاصٍّ من شئون الدّولة كإمارة الجيش وإمارة الصّدقات، وتطلق على منصبٍ أمير.[22]

 

أما السّلطة فهي: السّيطرة والتّمكّن والقهر والتّحكّم، ومنه السّلطان. وهو من له ولاية التّحكّم والسّيطرة في الدّولة. فإن كانت سلطته قاصرةً على ناحيةٍ خاصّةٍ فليس بخليفةٍ ، وإن كانت عامّةً فهو الخليفة. وقد وجدت في العصور الإسلاميّة المختلفة خلافة بلا سلطةٍ ، كما وقع في أواخر العبّاسيّين، وسلطة بلا خلافةٍ كما كان الحال في عهد المماليك. أما الحكم فهو في اللّغة: القضاء، يقال: حكم له وعليه وحكم بينهما، فالحاكم هو القاضي في عرف اللّغة والشّرع. وقد تعارف النّاس في العصر الحاضر على إطلاقه على من يتولّى السّلطة العامّة.[23]

 

يميز ابن خلدون في مقدمته بين المصطلحات الواردة أعلاه بشكل جلي، ويقول: " أن الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة. والسياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار. والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع الى إعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به".[24]

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.