اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

كتاب التوظيف السياسي للفكر الديني - الصفحة 5

يتناول الدواني في كتابه (الفواكه) مصطلح الإمامة قائلاً بأن الإمامة "هي في اللغة مطلق التقدم. وأما في الشرع فتنقسم أربعة أقسام إمامة وحي أي حصلت بسبب الوحي وهي النبوة، وإمامة وراثة أي حصلت بسبب الإرث، لأن العلماء ورثة الأنبياء وهي العلم، وإمامة مصلحة وهي الخلافة العظمى ويقال لها الإمامة الكبرى. وإمامة عبادة وهي صفة حكيمة توجب لموصوفها كونه متبوعا لا تابعا. وكلها تحققت له صلى الله عليه وسلم".[25]

 

اعتبر الفقهاء المسلمون ومنهم الماوردي صاحب (الأحكام السلطانية) الإمامة فرض كفاية "فإذا قام بها من هو من أهلها، سقط فرضها على الكفاية وإن لم يقم بها أحد خرج من الناس فريقان : أحدهما أهل الاختيار حتى يختاروا إماما للأمة . والثاني أهل الإمامة حتى ينتصب أحدهم للإمامة ، وليس على من عدا هذين الفريقين من الأمة في تأخير الإمامة حرج ولا مأثم ".[26]

 

وتناول الماوردي الشروط الواجب توفرها في أهل الاختيار وهي على حد قوله ثلاثة. أحدها العدالة الجامعة لشروطها. والثاني : العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها . والثالث : الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح وبتدبير المصالح أقوم وأعرف ".[27]

 

كما يورد الماوردي وهو من الشافعية الشروط اللازمة توفرها في من يتنافس على منصب الإمام قائلاّ: وَأَمَّا أَهْلُ الإِمَامَةِ فالشروط المعتبرة فيهم سبعة: أحدها: العدالة على شروطها الجامعة. والثاني: العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام. والثالث سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معها مباشرة ما يدرك بها. والرابع : سلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض. والخامس: الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح. والسادس: الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو. والسابع : النسب وهو أن يكون من قريش لورود النص فيه وانعقاد الإجماع عليه، ولا اعتبار بضرار حين شذ فجوزها في جميع الناس ، لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه احتج يوم السقيفة على الأنصار في دفعهم عن الخلافة لما بايعوا سعد بن عبادة عليها بقول النبي صلى الله عليه وسلم { الأئمة من قريش } فأقلعوا عن التفرد بها ورجعوا عن المشاركة فيها حين قالوا منا أمير ومنكم أمير تسليما لروايته وتصديقا لخبره ورضوا بقوله : نحن الأمراء وأنتم الوزراء ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { قدموا قريشا ولا تقدموها } . وليس مع هذا النص المسلم شبهة لمنازع فيه ولا قول لمخالف له ".[28]

 

ولكن الشروط التي أوردها الماوردي لم تكن محل اتفاق جميع المذاهب الإسلامية، وخاصة الشروط المتعلقة بالعدالة ومفهومها والاجتهاد، والشرط المتعلق بالنسب القريشي.

 

فقد ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ العدالة والاجتهاد شرطا صحّةٍ ، فلا يجوز تقليد الفاسق أو المقلّد إلاّ عند فقد العادل والمجتهد .

 

وذهب الحنفيّة إلى أنّهما شرطا أولويّةٍ ، فيصحّ تقليد الفاسق والعامّيّ ، ولو عند وجود العدل والمجتهد.

 

وحول السّمع والبصر وسلامة اليدين والرّجلين، ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّها شروط انعقادٍ ، فلا تصحّ إمامة الأعمى والأصمّ ومقطوع اليدين والرّجلين ابتداءً ، وينعزل إذا طرأت عليه ، لأنّه غير قادرٍ على القيام بمصالح المسلمين ، ويخرج بها عن أهليّة الإمامة إذا طرأت عليه.

 

وذهب بعض الفقهاء إلى أنّه لا يشترط ذلك، فلا يضرّ الإمام عندهم أن يكون في خلقه عيب جسديّ أو مرض منفّر ، كالعمى والصّمم وقطع اليدين والرّجلين والجدع والجذام ، إذ لم يمنع ذلك قرآن ولا سنّة ولا إجماع .

 

أما حول النّسب فيشترط عند جمهور الفقهاء أن يكون الإمام قرشيّاً لحديث:«الأئمّة من قريشٍ». وخالف في ذلك بعض العلماء منهم أبو بكرٍ الباقلانيّ ، واحتجّوا بقول عمر :" لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لولّيته "، ولا يشترط أن يكون هاشميّاً ولا علويّاً باتّفاق فقهاء المذاهب الأربعة، لأنّ الثّلاثة الأول من الخلفاء الرّاشدين لم يكونوا من بني هاشمٍ، ولم يطعن أحد من الصّحابة في خلافتهم، فكان ذلك إجماعاً في عصر الصّحابة".[29]

 

يربط ابن خلدون في مسألة كون الإمام قرشياً بنظريته المبنية على العصبية. ويرىأن بعض الفقهاء الذين أجازوا أن تكون الإمامة في قريش قد تعاملوا مع الأمر الواقع بعد تدهور سلطة الخلافة في أواخر الدولة العباسية.

 

ومن هذا المنطلق يفسر ابن خلدون رأي القاضي أبو بكر الباقلاني المتوفي في بغداد سنة 403 هـ حول نفيه اشتراط القرشية لمنصب الخلافة. يقول ابن خلدون: أن الباقلاني "لما أدرك عليه عصبية قريش من التلاشي والإضمحلال واستبداد ملوك العجم على الخلفاء، فأسقط شرط القرشية، وإن كان موافقاً لرأي الخوارج، لما رأى عليه حال الخلفاء لعهده. وبقي الجمهور على القول باشتراطها وصحة الإمامة للقرشي، ولو كان عاجزاً عن القيام بأمور المسلمين. ورُدَّ عليهم سقوط شرط الكفاية التي يقوى بها على أمره، لأنه إذا ذهبت الشوكة بذهاب العصبية فقد ذهبت الكفاية، وإذا وقع الإخلال بشرط الكفاية تطرق ذلك أيضاً الى العلم والدين، وسقط إعتبار شروط هذا المنصب وهو خلاف الإجماع".[30]

 

كما نجد مسألة التعامل مع الأمر الواقع واضحاً عند الماوردي وبحثه في "إمارة الاستيلاء"، والذي يعتبر شكلاً من أشكال إضفاء الشرعية على ما موجود في الواقع بعكس رغبة الخليفة، بل وتجاوزاً على صلاحياته.

 

يقول الماوردي: " وأما إمارة الاستيلاء، التي تعقد عن اضطرار، فهي أن يستولي الأمير بالقوة على بلاد يقلده الخليفة أمارتها، ويفوض إليه تدبيرها وسياستها، فيكون الأمير باستيلائه مستبداً بالسياسة والتدبير، والخليفة بإذنه منفذاً لأحكام الدين، ليخرج من الفساد إلى الصحة ومن الحظر إلى الإباحة. وهذا وإن خرج عن عرف التقليد المطلق في شروطه وأحكامه فيه من حفظ القوانين الشرعية وحراسة الأحكام الدينية ما لا يجوز أن يترك مختلاً مدخولاً ولا فاسداً معلولاً، فجاز فيه مع الاستيلاء والاضطرار ما امتنع في تقليد الاستكفاء والاختيار لوقوع الفرق بين شروط المكنة والعجز".[31]

 

وإذا كانت حادثة السقيفة تمثل تأسيس البنية أو اللبنة الأولى من مفهوم الخلافة (الإمامة الكبرى)، فإن معركة صفين بين الخليفة الراشدي علي بن أبي طالب ووالي الشام معاوية بن أبي سفيان، الذي أعلن نفسه هو الآخر خليفةً للمسلمين، تمثل أحداثاً ومواقف عديدة تعتبر أساساً وبنيةً للتأسيس الفقهي اللاحق إضافة الى الآراء التي طرحت أثناء الحادثة.

 

فعلى أثر هذه الحادثة نشأ الخوارج وتطورت فرقهم بعد ذلك. وأعلن الخارجون الأوائل على علي بن أبي طالب، والذين سموا بـ "المُحَكَّمة الأولى" موقفهم من الإمامة. ويذكر الشهرستاني موقفهم بكونه بدعةً، قائلاً أنهم:

 

"جوزوا أن تكون الإمامة في غير قريش، وكل من ينصبونه برأيهم وعاشر الناس على ما مثلوا له من العدل واجتناب الجور كان إماماً، ومن خرج عليه يجب نصب القتال معه، وإن غيّر السيرة وعدل عن الحق، وجب عزله أو قتله. وهم أشد الناس قولاً بالقياس، وجوزوا أن لا يكون في العالم إمام أصلاّ، وإن أحتيج إليه فيجوز أن يكون عبداّ أو حراً أو نبطياً أو قرشياً."[32]

 

وتأتي تسميتهم بالمُحَكَّمة بعد رفضهم لنتائج التحكيم بين أبي موسى الأشعري ممثل علي بن أبي طالب، وبين عمرو بن العاص ممثل معاوية. و قالت هذه الفرقة قولتها الشهيرة لعلي بن أبي طالب بعد رفضهم التحكيم:"لم حكمت الرجال، لا حكم إلاّ لله".

 

ويرد ابن كثير والطبري أصل هذه التسمية كالتالي:

 

"إن عليّاَ بينما هو يخطب يوماً إذ قام إليه رجل من الخوارج فقال: يا علي أشركت في دين الله الرجال ولا حكم إلاّ لله، فتنادوا من كل جانب لا حكم إلاّ لله، لا حكم إلاّ لله. فقال علي: الله أكبر، كلمة حق يراد بها باطل أما أن لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا، لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولانمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدأونا، ثم رجع إلى مكانه الذي كان فيه خطبته".[33]

 

ولم يقف بعض فرق الخوارج عند هذا الحد، فقد تناولت إحدى هذه الفرق وهي (النجدات) نسبة الى نجدة بن عامر الحنفي، مسألة وجوب الإمام بحاجة الناس إليه. ويذكر الشهرستاني في هذا المجال موقف النجدات قائلاّ: " وأجمعت النجدات على أنه لا حاجة للناس إلى إمام قط، وإنما عليهم أن يتناصفوا فيما بينهم، فإن رأوا أن ذلك لا يتم إلا بإمام بحملهم عليه فأقاموه جاز".[34]

 

ويشير ابن خلدون الى أن بعض المعتزلة وبعض الخوارج دعوا الى عدم وجوب هذا المنصب بسبب سياسات الحكام المسلمين التعسفية، مشيرا الى أرضية ظهور هذا الرأي في مقدمته فائلاً:

 

" والذي حملهم على هذا المذهب إنما هو الفرار عن الملك ومذاهبه من الاستطالة والتغلب والاستمتاع بالدنيا، لما رأوا الشريعة ممتلئةً بذم ذلك، والنعي على أهله، ومرغِّبَةَ في رفضه".[35]

 

وفي رأينا إن الأمر عند المعتزلة لا ينحصر في مجرد ردود فعل على تصرفات الحكام، بل ينحو منحىً فكرياً وفلسفياً، ارتباطاً بتطور علم الكلام، وبالاقتران بآرائهم الفلسفية الأخرى ونظرتهم لمفهوم السلطة.

 

يوجز الماوردي في (الأحكام السلطانية) التجربة التاريخية الإسلامية لفترة أكثر من قرنين وما شهدته من حوادث جرى القياس عليها في مجال كيفية انعقاد الإمامة. وما يذكره الماوردي يمثل استنتاجات نابعة من تجربة الخلفاء الراشدين والدولة الأموية وفترةً من الدولة العباسية. وبهذا الصدد يقول:

 

" والإمامة تنعقد من جهتين: أحداهما باختيار أهل العقد والحل. والثاني بعهد الإمام من قبل: فآما انعقادها باختيار أهل الحل والعقد، فقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتى، فقالت طائفة لا تنعقد إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضاء به عاماً والتسليم لإمامته إجماعاً، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر رضي الله عنه على الخلافة باختيار من حضرها ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها. وقالت طائفة أخرى: أقل من تنعقد به منهم الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة استلالا بأمرين: أحدهما أن بيعة أبي بكر رضي الله عنه انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس فيها، وهم: عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وأسيد بن حضير وبشر بن سعد وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم. والثاني أن عمر رضي الله عنه جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة. وقال آخرون من علماء الكوفة تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكما وشاهدين، كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين. وقالت طائفة أخرى: تنعقد بواحد، لأن العباس قال لعلي رضوان الله عليه أمدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان، ولأنه حكم وحكم واحد نافذ".[36]

 

أدخلت تجربة الدولة الأموية طريقة أخرى لنقل السلطة، وهي طريقة ولاية العهد لابن الخليفة المتوفي. وهذه الطريقة في نقل السلطة ليست بعيدة عن الخلفية الثقافية العربية والنزعة القبلية السائدة أو حتى سيطرة عائلة معينة من القبيلة على كرسي السلطة في الدولة. وانتبه الفقهاء الى هذا الواقع الجديد، فظهر التأسيس الفقهي على اساس الأمر الواقع لإمكانية أو مشروعية نقل السلطة بهذه الطريقة، إضافةً الى طريقة أهل الحل والعقد التي مورست بشكل معين ومحدود في تجربة الخلفاء الراشدين في الحكم. ولم يقتصر تأثير ولاية العهد على الفقهاء الذين أعتبروها طريقة مشروعة خطّها معاوية بن أبي سفيان لأول مرة عندما عين إبنه يزيد وليّا للعهد، بل أثرت الفكرة على نظرية الإمامة الشيعية (الجعفرية الإثنى عشرية) المبنية أيضاً على أساس تحديد الإمام عن طريق التوارث العمودي لأبناء الحسين بن علي الذي ثار على يزيد، ونُكِّل به وبأفراد عائلته وصحبه بوحشية.

 

وحول ولاية العهد كأسلوب لإنتقال السلطة يشير الفقيه المالكي الدسوقي إلى:

 

أن " الإمامة العظمى تثبت بأحد أمور ثلاثة: إما بإيصاء الخليفة الأول لمتأهل لها، وإما بالتغلب على الناس، لأن من اشتدت وطأته بالتغلب وجبت طاعته، ولا يراعى في هذا شروط الإمامة إذ المدار على درء المفاسد وارتكاب أخف الضررين، وأما بيعة أهل الحل والعقد. وهم من اجتمع فيهم ثلاثة أمور: العلم بشروط الإمام والعدالة والرأي. وشروط الإمام الحرية والعدالة والفطانة وكونه قريشيا وكونه نجدة وكفاية في المعضلات".[37]

 

أجمل الفقهاء المسلمون من المذاهب السنية بشكل عام في عهود متأخرة، خلاصة تجربة الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين في مسألة نقل السلطة. وقد تأثروا بالأمر الواقع الذي طرحته الحياة ، لذا إعتبروا التغلب والقهر طريقةً لنقل السلطة. علماً أن المتغلب والمنتصر، في حالة إفتراض فشله، لا يمكن إلاّ أن يعتبر باغياً من قبل السلطة الإسلامية التي لم يستطع إزاحتها. وهذا ما يجعل مفهوم البغي وإستحقاقاته مناطاً بنتائج الصراعات على السلطة، فليس من قوة باستطاعتها محاسبة الباغي المنتصر والمتغلب على الحاكم العادل، وما على عامة المسلمين إلاّ تقبُّل الأمر الواقع بحجة "درء المفسدة، ووقوع الضرر" في حالة الخروج على المتغلب.

 

وخلاصة الأمر في تجربة نقل السلطة يشير الفقهاء المسلمون إلى شرعية تثبيت الإمامة بأربعة طرق:

 

1 ـ باختيار أهل الحل والعقد من العلماء والفقهاء وأرباب الحل والعقد. وذلك اعتماداً على ما جرى عند بيعة أبي بكر في السقيفة.

 

2 ـ اختيار الإمام السابق لمن يليه، اعتماداً على سنة أبي بكر في إختياره عمر بن الخطاب. وتطور الأمر إلى اختيار الخليفة ابنه كما هو الأمر في مسألة ولاية معاوية لابنه يزيد. وقد سار الخلفاء الأمويون والعباسيون على هذه السنة.

 

3 ـ أن يجعل الإمام السابق الأمر شورى في جماعة معينة يختارون الإمام الجديد من بينهم (طريقة اختيار الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان).

 

4 ـ بالتغلب والقهر عن طريق إستخدام القوة والتغلب على الإمام السابق مهما كانت مشروعيته.

 

يشير عبد القادر عودة في مؤلفه "التشريع الجنائي الإسلامي، مقارناً بالقانون الوضعي" إلى هذه الحالة قائلاً:

 

" يظهر المتغلب على الناس ويقهرهم حتى يذعنوا له ويدعونه إماماً، فتثبت إمامته وتجب طاعته على الرعية. ومثل ذلك ما حدث من عبد الملك بن مروان حين خرج على ابن الزبير فقتله، واستولى على البلاد وأهلها، حتى بايعوه طوعاً وكرهاً ودعوه إماماً. وإذا ثبتت الإمامة بإحدى هذه الطرق كان الخروج على الإمام بغياً. أما إذا لم تكن الإمامة ثابتة بإحدى هذه الطرق فلا يعتبر الخارج باغياً ولا الخروج بغياً".[38]

 

أن الطريقة الرابعة هي الطريقة التي وصل بها معظم حكام الدول العربية الإسلامية إلى السلطة، وهي بالتالي طريقة تضفي المشروعية الفقهية على الإنقلابات العسكرية التي حصلت في معظم الدول العربية الإسلامية في القرن الميلادي الماضي، دون إرادة عامة المسلمين ومواطني تلك الدول. ولا تزال آثار هذه الطريقة وتفاعلاتها السلبية شاخصة أمام أنظار عامة المسلمين.

 

إن التجربة التاريخية الإسلامية تطرح لنا واقعاً مفاده أن مسألة أختيار السلطة كانت خاضعةً لمعيار مصلحة النخبة المسيطرة تحت عنوان مصلحة الجماعة. ومصلحة الجماعة في هذا المضمار ليس مفهوماً مجرداً، بل كان خاضعاً لإعتبارات سياسية واجتماعية وتوازنات قبلية. وبتطور وتوسع الدولة الإسلامية والتصادم الحاصل نتيجة الصراعات، التي لم تعد بنية الجزيرة العربية قادرة على استيعابها أو التوافق بشأنها، أصبح معيار القوة أساساً لنظرية الحكم. ونجد إشارة الفقهاء الى هذا المفهوم في القرن الرابع الهجري، ولكن بصياغات تحمل معها الأثر الرجعي.

 

إذا نظرنا الى الصراع المحتدم حول قضية الخلافة بمختلف جوانبها وأطرافها، نرى أن هذا الصراع تمحور أساساً في نطاق مفهوم الحق الديني كشكل خارجي للصراع المحكوم أساساً بقيم المجتمع العربي السائدة في الجزيرة العربية والمحكومة بالتوافقات بين المكونات الإجتماعية القبلية بعد تشكيل نواتات الدولة والإتفاق على جعل الأمر في قريش من جهة، ويين أحقية هذا الجزء أو هذا القسم من قريش على أساس القرابة الوراثية من النبي من جهة أخرى. وأصبحت مهمة كل طرف في الصراع تطويع النص الديني لكي يتلاءم مع متطلبات الأحقية الشرعية بالسلطة.

 

وفي ظل أجواء هذه الصراعات نشأت اللبنات الأساسية لنظرية الإمامة الشيعية، عبر نشوء محور جديد للصراع يرتبط بتحديد المفهوم الإسلامي للخلافة واعتبارها حقاً إلهياً محضاً، على أساس اعتبار الخليفة إماماً للمسلمين ويكون اختياره بواسطة الوحي المنزل على النبي، وبالتالي يصبح واجباً على النبي تبليغ المسلمين باختياره. وعلى المسلمين الخضوع لهذا الاختيار كجزء من الإيمان بالعقيدة الإسلامية.

 

ولم تأت هذه الصياغات الفكرية والنظرية بعد وفاة النبي مباشرةَ، بل أن هذه المفاهيم بدأت بالتبلور والتطور الجنيني ابتداءً من وفاة النبي، واتخذت أشكالها المتعددة ارتباطاً بالمتغيرات في أوضاع المجتمع العربي الإسلامي، والصراع على السلطة، الذي اتخذ طابعاً دموياً منذ مقتل الخليفة الثالث، وتفاقمت بعد التخلي عن أشكال الشورى والتوافقات، لمصلحة ولاية العهد، والحكم الوراثي، بعد نشوء الدولة الأموية، وتولي يزيد بن معاوية منصب الخلافة، وسحق الحسين بن علي عام 61 هـ.

 

وعليه يمكن القول أن نظرية الإمامة الشيعية شهدت تطورات وتغيرات، لا بسبب صراعها مع نظرية الخلافة، وفكرة الشورى وتنوعاتها، أو فكرة ولاية العهد فحسب، بل أن هذه النظرية شهدت تغيرات بسبب الصراعات الداخلية، حول مشروعية تمثيل الشيعة، والأحقية بالإمامة ضمن هذا البيت.

 

ونجد هذه الحقيقة بعد وفاة الأمام الرابع الناجي من مذبحة كربلاء عام 61 هـ، علي بن الحسين الملقب بزين العابدين، حيث افترقت الشيعة على ثلاث فرق: الأمامية اتباع الأمام محمد الباقر بن زين العابدين، والزيدية أتباع زيد بن علي بن زين العابدين، والكيسانية وهم أتباع محمد بن الحنفية، وهو ابن علي بن أبي طالب مباشرة ونسب الى أمه الحنفية.

 

ومن جانب آخر أثرت بوادر تشكيل علم الكلام، وتعدد مدارسه على النظرية الشيعية في الإمامة، إرتباطاً بمسألة مسؤولية الفعل الإنساني وعلاقته بالفعل الإلهي.

 

تستند نظرية الإمامة الشيعية على عدة أركان وهي: عصمة الإمام، وضرورة النص عليه من الله كطريق لمعرفته. ثم بحصر الإمامة في علي بن أبي طالب والحسن والحسين وذرية الحسين. وهكذا جرى تحديد مفهوم أهل البيت ضمن هذا النطاق فقط.

 

يشير المؤرخ الإمامي سعد بن عبدالله القمي الأشعري في كتابه (المقالات والفرق) الى أن : "علي بن أبي طالب إمام ومفروض الطاعة من الله ورسوله بعد رسول الله (ص) .... وانه استحق الإمامة ومقام النبي، لعصمته وطهارة مولده وسبقه وعلمه وشجاعته وجهاده وسخائه وزهده وعدالته في رعيته. وان النبي (ص) نص عليه وأشار اليه باسمه ونسبه وعينه، وقلد الأمة إمامته، وأقامه ونصبه لهم علماً، وعقد عليهم أمرة المؤمنين، وجعله وصيه وخليفته ووزيره في مواطن كثيرة، وأعلمهم ان منزلته منه منزلة هارون من موسى، الا انه لا نبي بعده واذ جعله نظير نفسه في حياته، وإنه أولى بهم بعده...".[39]

 

استندت نظرية الإمامة على النص الديني المقدس لأثبات أحقية علي بالخلافة واعتمدت على حديث النبي في غدير خم، الذي يدعو فيه النبي الى موالاة علي. وحدث الجدال بعد قرن من الحديث حول المعنى الجلي والمعنى الخفي لنص الحديث.

 

تروي كتب الشيعة والسنة (حديث الغدير) أو (حديث الموالاة) بصيغ متعددة، مع المحافظة على مضمونه. ومضمون الحديث أن النبي بعد عودته من حجته الأخيرة، وقف في مكان من الطريق يدعى غدير خم، وكان معه جمع من الصحابة، فقام فيهم خطيباً، وقال في جملة ما قال:" ألست أولى منكم بأنفسكم؟" فأجابوا: اللهم نعم. وحينئذ أخذ بيد علي. ثم قال: "اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. وانصر من نصره، واخذل من خذله". فقام الصحابة يهنئون علياً، وبينهم عمر بن الخطاب. وقال له عمر:" بخ بخ لك يا علي، فقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة".[40]

 

وقد حدث الاختلاف بين الطرفين في فهم معنى المولى الذي فسره الشيعة بمعنى الولاية أي الحكم والسلطان، أو الإمامة. وهذا ما ورد على سبيل المثال في قول الشيخ المفيد في كتاب (الإفصاح في إمامة علي بن أبي طالب)، أن "الرسول أعطى للإمام علي في غدير خم حقيقة الولاية وكشف به عن ممثلته له في فرض الطاعة، والأمر لهم والنهي والتدبير والسياسة والرياسة".[41]

 

إلاّ أن السيد المرتضى في كتابه (الشافي في الإمامة) يقول: "أن أهم حديث نبوي حول النص بالإمامة وهو حديث غدير خم، هو نص خفي وليس بنص جلي، إذا حذفنا منه الزيادات المضافة".[42]

 

في حين يفسر أهل السنة معنى الولاء بمعنى الحب والمودة. وبهذا المعنى يفقد الحديث دلالته في النص على الإمامة.

 

يذكر ابن أبي الحديد خلاف الشيعة في قضية الأحقية بالإمامة داخل البيت الشيعي إرتباطاً بمسألة النسب.

 

ويذكر في ( شرح نهج البلاغة ):

 

"قد اختلف الناس في اشتراط النسب في الإمامة، فقال قوم من قدماء أصحابنا: إن النسب ليس بشرط فيها أصلاً، وإنها تصلح في القرشي وغير القرشي إذا كان فاضلاً مستجمعاً للشرائط المعتبرة، واجتمعت الكلمة عليه، وهو قول الخوارج. وقال أكثرأصحابنا وأكثر الناس: إن النسب شرط فيها، وإنها لا تصلح إلا في العرب خاصة، ومن العرب إلا قريش خاصة. وقال أكثرأصحابنا: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:

 

"الأئمة من قريش" إن القرشية لشرط إذا وجد في قريش من يصلح للإمامة، فإن لم يكن فيها من يصلح، فليست القرشية شرطاً فيها.

 

وقال بعض أصحابنا: معنى الخبرأنه لا تخلو قريش أبداً ممن يصلح للإمامة، فأوجبوا بهذا الخبر وجود من يصلح من قريش لها في كل عصر وزمان".[43]

 

وإذا كان الأمر في البداية ينصب في التأكيد على أحقية قريش بالخلافة، وبعده أحقية بني هاشم من قريش بهذه المهمة، أصبح تداول الأمر في أحفية هذا البطن أو ذاك من بني هاشم بتلك السلطة.

 

فعلى سبيل المثال، قال معظم الزيدية: "إنها في الفاطميين خاصة من الطالبيين، لا تصلح في غير البطنين، ولا تصح إلا بشرط أن يقوم بها ويدعو اليها فاضل زاهد عالم عادل شجاع سائس. وبعض الزيدية يجيز الإمامة في غير الفاطميين من ولد علي رضي الله عنه، وهو من أقوالهم الشاذة.

 

وأما الراوندية فإنهم خصصوها بالعباس رحمه الله وولده من بين بطون قريش كلها. وهذا القول هو الذي ظهر في أيام المنصور والمهدي. وأما الإمامية فإنهم جعلوها ساريةً في ولد الحسين رضي الله عنه في أشخاص مخصوصين، ولا تصلح عندهم لغيرهم.

 

وجعلها الكيسانية في محمد بن الحنفية وولده، ومنهم من نقلها منه الى ولد غيره".[44]

 

وفي رأينا أن الإشكالية الأساسية في مجال مشروعية السلطة في مختلف المذاهب الإسلامية شيعية كانت أو سنية، مغاليةَ كانت أو معتدلة، تكمن في وجود التناقض بين الممارسة الفعلية الناجمة عن التجربة التاريخية الإسلامية، المتأثرة بالتوازنات السياسية والاجتماعية السائدة، والنتائج العملية لتلك الصراعات من جهة، وبين نظرية المعرفة الإسلامية المبنية على الإيمان الديني والعودة الى المصدر الإلهي، والبحث عن مشروعية السلطة ضمن هذه النظرية. وفي المحصلة النهائية جرت المحاولات ضمن هذا النطاق من أجل تكييف النص الديني أو التفسير الفقهي مع النتائج العملية للصراعات على السلطة من قبل المنتصرين، أو لضرورات السعي من أجل الحصول على السلطة من قبل المعارضين. وهذا ما جعل مشروعية السلطة ومفهوم الإمام الحق موضع تساؤل طوال التاريخ الإسلامي.

 

 

اسم الكتاب/ التوظيف السياسي للفكر الديني

المؤلف/ هادي محمود

الناشر/ طريق الشعب

مطبعة دار الرواد المزدهرة ـ بغداد

 

(*) تفسير وبيان مع أسباب النزول للسيوطي ـ إعداد د. محمد حسن الحمصي.

 

(*) تفسير وبيان مع أسباب النزول للسيوطي ـ إعداد د. محمد حسن الحمصي، ص337.

 

(**) الواحدي النيسابوري ـ أسباب النزول، ص177.

 

[1] ابن قدامة المُغني ج 8 ص 364

 

[2] ابن تيمية الفتاوى ج15 ص 174

 

[3] ابن رشد بداية المجتهد ونهاية المقتصد ج1 ص 313

 

[4] الطبري تاريخ الطبري ج2 ص 233

 

[5] الطبري تاريخ الطبري ج 2 ص 233

 

[6] الطبري تاريخ الطبري ج2 ص 234

 

[7] المصدر السابق نفس الصفحة

 

[8] المصدر السابق ج 2 ص 235

 

[9] المصدر السايق نفس الصفحة.

 

[10] المصدر نفسه ج 6 ص 528

 

[11] المصدر السابق نفس الصفحة

 

[12] المصدر السابق نفس الصفحة

 

[13] ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة ج6 ص 527،528

 

[14] المصدر السابق ج6 ص 528

 

[15] جلال الدين عبد الرحمن السيوطي تاريخ الخلفاء ص 82

 

[16] ابن ابي الحديد شرح نهج البلاغة ج6 ص 48

 

[17] محمد باقر الصدر نشأة الشيعة والتشيع ص 35

 

[18] المصدر السابق نفس الصفحة

 

[19] محمد باقر الصدر نشأة التشيع والشيعة ص 36، يذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء حديث أبي بكر عن ثقته ب سالم وأبي عبيدة ص 136

 

[20] الشهرستاني الملل والنحل ج1 ص 13

 

[21] عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون مقدمة ابن خلدون ص 178 تحقيق درويش الجويدي

 

[22] الموسوعة الفقهية ج6 ص 190

 

[23] المصدر السابق نفس الصفحة

 

[24] عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون مقدمة ابن خلدون ص 178 تحقيق درويش الجويدي

 

[25] النفراوي الفواكه الدواني ج1 ص252

 

[26] الماوردي الأحكام السلطانية ص 16

 

[27] المصدر السابق نفس الصفحة

 

[28] المصدر السايق نفس الصفحة

 

[29] الموسوعة الفقهية الكويتية ج8 ص 192

 

[30] عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون مقدمة ابن خلدون تحقيق درويش الجويدي ص 183

 

[31] الماوردي الأحكام السلطانية والولايات الدينية ص 56

 

[32] الشهرستاني الملل والنحل ج1 ص 108

 

[33] ابن كثير البداية والنهاية ص181 ج7 ، الطبري تاريخ الطبري ص 41 ج6

 

[34] الشهرستاني الملل والنحل ج1 ص 119

 

[35] عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون مقدمة ابن خلدون ص 183 تحقيق درويش الجويدي

 

[36] الماوردي الأحكام السلطانية والولايات الدينية ص 16

 

[37] الدسوقي حاشية الدسوقي ج4 ص 298 تحقيق محمد عليش

 

[38] عبد القادر عودة التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي ج2 ص677

 

[39] الأشعري المقالات والفرق ص 17

 

[40] الشيخ المفيد المسائل الجارودية ص 6

 

[41] الشيخ المفيد المسائل الجارودية ص 6

 

[42] السيد المرتضى الشافي في الإمامة ج2 ص128

 

[43] ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة ج6 ص 240

 

[44] ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة ج6 ص 940

 

 

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.