اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

العراق بين الهوية والوجود// د. عبد علي سفيح

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

 

العراق بين الهوية والوجود

أ. د. عبد علي سفيح

بروفيسور.. مستشار وباحث لوزارة التربية والتعليم الفرنسية

 

فكرة هذا الموضوع ولدت من مكالمة تلفونية بين سماحة السيد علي الحكيم ( 1 ) وبيني وحينها كنا نتكلم عن الزيارة الاربيعينية للامام الحسين في كربلاء، رغم الظروف الأمنية الصعبة، والازمة الاقتصادية وتعددية المجتمع العراقي والتي هي سمة انسانية وهي التعددية القومية والدينية والمذهبية والعشائرية والثقافية والتي تؤدي الى اختلاف العادات والتقاليد والخصائص المحلية، الا ان مشروع الاربعينية ساهم  بتحويل هذه التعددية الى تنوع، وجعل العلاقة بين هذا التنوع علاقة تعارف وتعاون، وفجر كل الطاقات والقيم الخيرة عند العراقيين ، وصحح مفاهيم تاريخية قديمة. هذا المشروع جسد الآية الكريمة  ٌ وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ٌ.

 

حينها طرأ على بالنا سؤال: هل ممكن عمل مشروع حضاري يجمع ويلف جميع العراقيين ويفجر طاقاتهم وقيمهم الانسانية الرفيعة في بناء مدينة العراق الفاضلة على مدار السنة؟

 

بحثت جادا هذا الموضوع لا لغياب الفكر البناء، ولا لغياب الهمة والعزيمة للتغير والبناء، ولا لقلة الشهداء، ولا لجاهلية الحركات السياسية، بل اخترته لغياب التشخيص الدقيق لازمة هذه الأمة.

 

المشروع هو جواب لأسئلة يثيرها عامة الناس بمختلف مستوياتهم ومنذ اكثر من قرن ولم يجدوا لها حلول حقيقية.

 

منذ حوالي قرن من الزمن لم يولد مشروع متكامل سواء اكان اسلامي او عربي او علماني يساهم في بناء أمة حضرية ذات قيم انسانية رفيعة. من هذه الاسئلة المفروض يعالجها المشروع بصورة دقيقة هي:

1.لماذا فشل ما كان ازدهر قبل 13 قرنا ؟ ولماذا انسحب ممارسة العقل عن الساحة العلمية بعد أن فتحت آفاق أمام البشرية ؟

 

2.لماذا تحولت أمة عريقة ذات تجربة طويلة من دولة أمة الى دولة وطن وأخيرا الى دولة مدينة ( الدولة الاسلامية في رقة والموصل) بينما العالم الغربي تحول من دولة مدينة الى دولة وطنية واليوم تحول الى دولة أمة أوربية وغدا يتحول الى دولة عالمية ؟

 

حاول كثير من من الاصلاحيين والمفكرين والسياسيين العرب والمسلمين انشاء مشروع نهضة على غرار المشروع الحداثي الاوربي. وقد أختلف الرواد الأوائل بالاجابة على هذه الأسئلة، فظهر رجال وآراء وتيارات ومدارس، امثال جمال الدين الأفغاني ( 2 ) ، محمد عبدة ( 3 ) ، محمد اقبال (4 ) ، الكواكبي ( 5 ) ، ابو الأعلى المودودي ( 6 ) ، حسن البنا ( 7 )، طه حسين ( 8 ) ، أحمد أمين ( 9 ) ، صادق جلال العظم في كتابه ٌ نقد الفكر الديني ٌ ( 10 ) ، محمد الجابري في كتابه ٌ نقد الفكر العربي  ( 11 )ٌ ، ومحمد اركون في كتابه ٌ نقد العقل الاسلامي ٌ( 12 ). جميع هؤلاء يتفقون على ان  العلم والمعرفة  اساس الحداثة وبناء الامة العصرية، وان الاشكالية الرئيسية توجد في الحكم اي في الرأس وليس في المجتمع الذي هو جسد الأمة. يكفي وجود حكومة رشيدة أو وطنية  تقود الأمة الى سفينة النجاة وتجيب على معضلاتها.

 

أخفقوا جميعا ولحد يومنا هذا، وسبب الاخفاق يعود الى جملة عوامل، اهمها:

1.جهلهم باساس المشكلة  والقوى الخفية التي تحرك الأمة.

 

2.يعتقدون معظمهم يكفي باستخدام نفس آليات التطور الغربي، تعطي نفس النتائج.

 

3.أصحاب صياغة ودراسة واعداد هذه المشاريع هم من اختصاصات علمية وليسوا من اختصاصات انسانية واجتماعية. نرى ان اخوان المسلمين كلفوا المهندس الشاطر بادارة فريق العمل لمشروع اسلامي نهضوي الذي بدأ عمل الفرق من عام 2004 مع 16 لجنة استشارية متخصصة وبمشاركة حوالي 1000 عالم وخبير ومعضهم من غير الاخوان.

 

4.المشروع المقترح ما هو الا نتيجة رد فعل للمشروع الاوربي. تأثر معظمهم بالعالم الغربي بدون ان يعيشوا ويساهموا في بناء الدول الاوربية وحتى محمد اركون عمل دراسته الدكتوراة على القرن الرابع الهجري الاسلامي. وليس على الاوربي.

 

5.البعض يعالج المشكلة على اساس انها  فقط  ظاهرة دينية، وآخر على اساس انها ظاهرة سياسية وبعضهم على اساس انها ظاهرة اجتماعية وكثير منهم يعتبرها صنيعة خارجية.

 

من الضروري طرح مثل هذه الاسئلة، وكذلك من الضروري ان لا نكتفي بأجوبة سهلة وسطحية.

 

في هذه الورقة أود أن أنقل خبرتي وتجربتي الفردية عسى وان تجيب على الأسئلة المطروحة والتي بالنتيجة تسهل كتابة مشروع حضاري انساني يخاطب المشاعر والعقول والقلوب و يلتف حوله كل الاطياف في المنطقة.

 

في فرنسا هناك ثلاثة فرق. الأول هو فريق بناء وحداثة الدولة. الثاني هو فريق قيادة الدولة. أما الثالث هو فريق ادالرة وصيانة الدولة. بما انني اشتغل في التعليم اكثر من 30 عاما فأنا اكون ضمن الفريق الأول.هذا البناء المدني والحضاري والانساني الذي نراه من الخارج سواء لفرنسا او اوربا او امريكا ، مستند على اساس قوي يحمل كل هذا البناء. الاساس لم نراه لانه مدفون تحت الارض. الاساس الذي بني عليه هذا البناء الشاهق هو: الهوية والوجود. هذا هو المفتاح الذي يفتح كل ابواب الحلول.

 

الحلم الذي كان وما يزال يراود الانسانية هو ، كيفية بناء مدينة فاضلة يعيش فيها الناس باختلاف اجناسهم ومعتقداتهم واعمارهم  بعزة وامان وسلام. أي وجودات مختلفة ضمن هوية جامعة للجميع. أربع شعوب أكثر من أربعة قرون حكموا العالم وبنوا المدنية والحداثة الحالية ونظام الحياة العصرية من الكهرباء والطائرة والتلفون والثلاجة و.... كل ما نستخدمه في المدنية اليوم. هذه الشعوب هم: الشعب الانكليزي سواء بريطلني او امريكي، والشعب الجيرماني وهم الالمان، والشعب الفرنسي والشعب الروسي. الذي حدث هو نشوب حروب طاحنة بينهم مما أدى الى قتل أكثر من 100مليون قتيل خلال قرنين مع تدمير مدن. أرادت هذه الشعوب أن تجد مفتاحا يجد حل لكل مشاكلها. فعملوا في فرنسا وألمانيا عام 1905 مدرسة الحوليات أو ما تسمى بالمدرسة الوثائقية دعوا كل الاختصاصات لبحث جذور المشكلة ووجدوا باستخدام طريقة البحث التي تسمى بالجينيالوجيا، وجدوا المفتاح السحري وهو ٌ  الهوية والوجود ٌ.تذوب الأوطان وتدمر البلدان ويهاجر الولدان وتنشأ الحروب عندما تختزل الهوية الى انتماء أو وجود واحد. حينها يصبح الوجود والانتماء هوية وتلغي كل الوجودات الأخرى يتحول في حينها الانسان والمجتمع الى العزلة والمذهبية والعنصرية ويبرز روح التغالب وبعض الاحيان تصبح هوية انتحارية. مثال على ذلك:

1.الحرب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت في فرنسا والتي دامت أكثر من 30 عاما من 1562 الى 1596. هذه الحرب الاهلية اندلعت عندما اراد الوجود الكاثوليك يعتبر نفسه هوية فرنسا وليس وجودا فيها مما حاول الغاء الوجود البروتستانتي. اندلعت حرب أهلية مما سهل تدخل القوى الخارجية من بريطانيا بدعمها للبروتستانت واسبانيا بدعمها للكاثوليك. واستمرار هذه الحرب ادى الى احتلال جزء من فرنسا من قبل بريطاني واسبانيا.

 

2.ألمانيا الهتلرية عندما غلبت الوجود الآري وجعلته هوية ألمانيا مما ادى الى حرب اهلية ثم اندلاع حرب عالمية واخيرا احتلال المانيا من قبل الحلفاء.

 

3.لبنان: عندما تغلب الوجود المسيحي واضعف الوجود الاسلامي الشيعي، ادى الى حرب أهلية ومن ثم الى احتلال لبنان.

 

4.العراق: عندما تغلب الوجود العربي السني واضعف الوجود الكردي والشيعي ادى الى حرب اهلية ثم بعدها الى حرب مع الجوار واخيرا احتلال العراق من قبل امريكا.

 

كلما تعدد وتنوع الوجود كلما أغتنت وقاومت الهوية. الوجود الاسلامي الشيعي في لبنان هو الذي نقذ لبنان من الانهيار ككيان، وكذلك الوجود الاسلامي الشيعي والكردي في العراق هما الذان أنقذى العراق من الذوبان.

 

الهوية تتغير مع الزمن، لأن الوجودات وتتوسع وتنقبض. فرنسا لحد منتصف القرن العشرين كان الوجود العربي الاسلامي غير موجود. اما بعدها لهذا الوجود أصبح له حضورا كبيرا حتى وصل الى ان يكون ثاني وجود عرقي وديني في فرنسا. الدولة تحاول ان تجعله موازيا ومتساويا مع الوجودات الاخرى..

 

الدولة دورها هو مرافقة الحداثة بحيث لا تلغي الهوية لذا تفضل هذه الدول ان تكون الحداثة نابعة منها وليست داخلة لها من الخارج ، لان في هذه الحالة تحتاج الهوية الى مراقبة شديدة ومتابعة مستمرة. مثال على ذلك:

1.ايران: الثوراة عادة تحدث عندما تكون هناك ازمات اقتصادية او نتيجة ضعف الدولة واحتلال البلد. كل هذا لم يحدث في ايران. بالعكس من 1973 الى 1979 شهدت ايران ثورة في التنمية والحداثة وقلة البطالة وسعة التعليم وقوة الدولة. الذي سبب الثورة هو شعور الهوية بالخطر نتيجة الحداثة السريعة جدا. فالمجتمع قاوم هذه الحداثة ولذلك تجد اتحاد كل الوجودات ضد هذه الحداثة. اجتمع الوجود الديني بقيادة الامام الخميني، مع الوجود الالحادي الحزب الشيوعي ومع الوجود القومي العلماني جماعة مصدق اضافة الى الوجودات العرقية والدينية الأخرى.

 

2.في فرنسا الرئيس السابق فرانسوا ميتران قاوم السماح لمطعم الاكل السريع ماك دونالد و الى والت دزني.، خشيته من غزو فرنسا من قبل الثقافة الامريكية فعملت فرنسا مع بلجيكا كويك مقابل ماك دونالد، وايرودزني بدل والت دزني ، اي اعطوها صبغة اوربية.

 

الدولة كذلك تمنع وتعيق تحويل الدين من مشروع اجتماعي الى مشروع سياسي. أي تحول تحويل الدين من وجود الى هوية.

 

ونجد في العراق ان السيد السيستاني يطرح الدين كمشروع اجتماعي وليس مشروع دولة اي سياسي. لذلك في العراق بقى الدين كوجود لا هوية، بينما في ايران جعل الامام الخميني الدين كمشروع دولة اي سياسي اي هوية وليس وجود، الا انه قوى من الهوية الثقافية الفارسية عندما ألغى الحزب الجمهوري.

 

أما دور التعليم، والذي هو اختصاصي  هو:

أولا: تحويل التاريخ الى ذاكرة حية لتعزيز الهوية الوطنية. مثال على ذلك:

الثورة الفرنسية في عام 1789. احياء ذكراها كل سنة في 14 تموز لتحويلها الى ذاكرة حية. كذلك تسمية الشوارع والمدارس والجسور بأسماء العظماء والعلماء امثال، نابليون، ديغول، سارتر، فولتير. وعمل مقبرة للعظماء الذين تركوا أثر كبير في بناء فرنسا مثل فولتير ومونتسكيو وهيجو وروسو. بعد عام 1982، توجه التعليم الى بناء الهوية الأوربية لبناء مواطن أوربي، فسميت المدارس والمسارح والشوارع باسماء اوربية مثل: تشرشل، مونتكمري، نيتشة، تولستوي...بعد عام 2010، توجه التعليم لبناء هوية عالمية وبناء المواطن العالمي.

 

بنى التعليم بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945، المدرسة الوطنية لادارة الدولة. والسبب هو، اعداد جيل من الشباب المتمرن حتى يؤثر على  السلطة ولم تؤثر السلطة عليه وتحول بالتالي الدولة الى سلطة. تخرج من هذه المدرسة كل من الرئيس جيسكار ، شيراك وهولند. اما رءساء الوزارات هم ، فابيوس،جوسبان ،ددفيل با و روكارد.

 

نرجع الى المفتاح الرئيسي وهو الهوية والوجود. عند العرب يتغلب الوجود على الهوية. في العراق اليوم يتغلب الوجود الكردي على الهوية الوطنية ، ونفس الشيء في حالة الشيعة والسنة. السؤال هو: لماذا عند العرب الوجود يتغلب على الهوية؟

 

الجواب هو : الهوية الوطنية حديثة اي من عام 1920. وهذه الهوية ساعدت في بناء دول عصرية حديثة بخطوات سريعة الا انها بقت بدون رموز وطنية بل رموزها رموز الوجود. الأعياد هي دينية. الرموز الشيعية قوية اقوى من الرموز الوطنية. هذه الدول الفتية جابهت قوتين خارجة عنها وهي:

 الأولى، وهي  الاستعمار الاوربي وخاصة الفرنسي الذي حاول مسح الهوية الثقافية ومن ثم ضياعها في الحرب الباردة والتجاذبات  التي أضعفت هويتها الوطنية الفتية.

 

أما الثانية وهي الأهم وهي زحف الثقافة البدوية على المدن مما ادى الى اضعافها لأن البداوة تتعارض مع الحضارة. قوة زحف رمال ثقافة الجزيرة والصحراء على المدن موجودة منذ الأزل وليست وليدة اليوم. سوف أقف عند هذا السبب وأتعمق فيه بحثا وذلك بأخذ ظاهرة داعش كمادة للبحث. الخطاب الذي يتبناه الناس يعتمد على تحليلهم وتفسيرهم لهذه الظاهرة. البعض يعتبرها ظاهرة دينية بحتة ، فيجدون الجواب من المساحة الدينية. والأجوبة متضاربة. البعض يجد العيب في الدين الاسلامي، ورواد هذا الرأي هم الغرب والعلمانيون العرب، والبعض الآخر يجد العيب في الوهابية وآل سعود، وآخرين يجدون العيب في القوى الخارجية المحركة لهذه الازمة المصطنعة. هنا الخطاب يتجه نحو الغرب واسرائيل وتركيا وايران والسعودية وقطر. وآخرون يعتبرون داعش ظاهرة سياسية، أي الاسلام السياسي، وهنا الخطاب موجه الى جماعة اخوان المسلمين والى الأحزاب الاسلامية الشيعية وعلى رأسها حزب الله اللبناني هذه التفاسير المتشعبة مع خطابات متنوعة ومتضاربة تؤدي الى الانقسام واعلان الحرب وعدم امكانية بناء مشروع حقيقي لنهضة الأمة.

 

دعنا ندرس هذه الظاهرة دراسة علمية بحتة باستخدام الوسائل العلمية الحديثة التي بواسطتها استطاعت أوربا ايقاف نزيف الحروب ومنذ عام 1945 لم تشهد أوربا حربا .الوسيلة التي اتبعوها الباحثون في اوربا لايجاد جذر المشكلة هي الجينيالوجيا. أي باختصار تعني: يختفي وراء كل حدث قناع. ووراء كل قناع قناع. لذا يجب نزع جميع الأقنعة حتى نصل الى الوجه الحقيقي للمشكلة.

 

الوطن العربي ومن ضمنه المغرب العربي مساحته حوالي 14 مليون كم مربع. أما الصحراء تمثل ما يقارب80 /  من المساحة الكلية، أما السهول فتمثل 6 / من المساحة الكلية.

 

  هذه البيئة الوعرة تركت آثارها على سلوك الناس. مصادر العيش قليلة لا تكفي لمجاميع كبيرة ولذلك كان البدو يسيرون بمجاميع صغيرة مما ولد عندهم طبائع الحيوانات المفترسة المتوحشة التي تسير بمجاميع صغيرة ولم تقبل سيطرة الآخر عليها على عكس المدينة التي يعيش فيها مجاميع كبيرة من الناس ، ولد عندهم طباع الحيوانات الأليفة التي تعيش سوية وبطاعة كبيرهم. انتقال البدو من مكان الى آخر طلبا الكلأ ، أصبح المكان عندهم غير مهم ولا مقدس. على عكس الفلاح أو التاجر ، الأرض هي مصدر رزقه ومكان ولادته ومكان موته. أي المكان له تاريخ . لذلك أهل المدن يعظمون قبورهم وأمواتهم لأنهم يمثلون الذاكرة الحية للتاريخ. أما البدوي، عندما يموت عندهم شخص، يدفنوه في الرمال ويتركون حجرة بدون اسم. البداوة حياة رتيبة متكررة، ويعتبرها المؤرخ الانكليزي توينبي ( 13 )،  بانها حضارة جامدة. وعندما درس العالم الفرنسي شتراوس ( 14 ) المجتمعات البدائية، وجد أن الفرق بين الانسان ودرجة تطوره وبين الحيوان هو تعظيم الانسان للقبور لأنها ذاكرة الأجيال السابقة. أما الحيوانات ليس لديها قبور.

 

هذه السطور القليلة تجيب على اكبر سؤال هو لماذا داعش أو المذهب الوهابي الاصولي يهدم القبور وأضرحة الأولياء والأنبياء والأئمة. هذه السطور أجابت على سؤال الدكتور سعيد الشهابي عندما سأل في أحدى مقالاته في مجلة أمة الاسلام العلمية: لماذا تستهدف المساجد ودور العبادة الأخرى في النزاعات المسلحة؟ مثال: 1924، أزال الملك عبد العزيز بن سعود مقبرة المعلى التي تضم قبر السيدة خديجة زوجة الرسول ( ًص )، وقبر أبي طالب. بعد عامين أي 1926 قام بهدم مقبرة البقيع والمساجد السبعة في المدينة، مسجد أبي بكر وعمر وعلي وسلمان والقبلتين.

ولو تفحصنا اسماء أولاد عائلة آل سعود ، يتجاوز عدد الذكور 38  ذكرا فقط لعبد العزيز بن سعود، اما أحفاده من الذكور. يتجاوزوا ال150 ذكرا ولا يوجد ولد اسمه ابو بكر او عمر او عثمان او علي او طلحة او الزبير .

 

تجد: تركي، فيصل، سعود، مساعد ، بندر ، فهد ، مشاعل ، سلمان ، سطام ، ماجد ، خالد ، نليف ، مشعل ,احمد ومحمد. مما يدل على عدم تعظيمهم للتاريخ لأن لا تاريخ لهم. ممكن قائل يقول ، الآن السعودية عامرة والبداوة لا تشكل نسبة عالية ، أقول ممكن ان يتغير الفرد ابتداءا من الجيل الثالث، أما المجتمع يحتاج له قرون. هل تعلم في عام 1960 كان نفوس الرياض وهي العاصمة واكبر مدينة في السعودية وبعد 40 عام من اكتشاف النفط، كان نفوسها 150 ألف نسمة وسكان السعودية الرسمي كان 4 ملايين نسمة . أي حتى 1960 كان أكثر من 3 ملايين ونصف هم بدو رحل. بينما في نفس السنة كان سكان بغداد 1.5 مليون ونصف وسكان العراق 5 ملايين ، أما القاهرة كان نفوسها 3.5 ثلاث ملايين ونصف.

 

هذه الأرقام تؤكد بأن حالة هؤلاء الناس وان تحضروا واستقروا وأقاموا، وتركوا الحياة الاعرابية، الا أنهم بقوا رغم ذلك على مذهب أهل الوبر ودينهم  في التمسك بالانتساب الى الجد الاعلى والسجايا البدوية.وممكن القول ، بان الثقافة البدوية هي التي تحرك المجتمع السعودي بكافة شرائحه.

الرياض تقع في وسط الصحراء. اختارها بن سعود له عاصمة. ولحد يومنا هذا لم يعملوا برلمان ولا دولة حديثة. عندما احتل بن سعود الحجاز وهي ذات ثقافة مدنية وليست بدوية، واجبر الشريف بن الحسين الرحيل ، فعمل ابنه عبد الله دولة حديثة وبرلمانية في الاردن والضفة، وابنه الثاني فيصل بنى دولة حديثة وعصرية في العراق. بن سعود وليد الثقافة البدوية ، اما الشريف بن الحسين، وليد الثقافة المدنية.

 

أما ابن خلدون يقول : التنافس على الرئاسة شائعة في البداوة. وهذه من الأسباب التي جعلت البدو غير صالحين لحكم بلاد متحضرة. اذ هي تؤدي الى تعدد الحكام والأمراء ( 15 ).

 

منطقة الجزيرة مقسمة الى 12 مملكة وامارة وسلطنة. الكويت، الامارات ( ابو ظبي، دبي ، الشارقة ، رأس الخيمة ، الفجيرة ، عجمان ، القيويين ) ، المملكة العربية السعودية ، قطر ، البحرين ، سلطنة عمان. وكلما ذهبت ابعد من الجزيرة كلما قل التقسيم. اليمن الى جنوبي وشمالي، العراق الى كردستان وعربستان. بينما لا تجد تقسيم في سوريا او مصر او المغرب العربي.

 

بما أن الثقافة البدوية ثقافة تكرار وجامدة لا تتغير، تجد الاسماء في الجزيرة هي نفسها من قبل ألف سنة. آل أمية ، وآل البيت ,بني أبو وابن وبني ، اليوم نجد آل سعود ، آل الصباح في الكويت ، وآل خليفة في البحرين ، آل مهيان في الامارات ، بن حمد وبن سعود . وهذا يفسر لماذا يتعصب أهل الجزيرة الى الخلفاء الاربعة والصحابة ولم يتعصبوا الى هارون الرشيد والمأمون وعبد الملك بن مروان وعبد الرحمن الداخل مؤسس الاندلس. لأن الصحابة ولدوا في الجزيرة. وكلما ابتعت من مركز الجزيرة كلما قل تأثير الثقافة البدوية، حيث تتحول الاسماء من الانتماء الى البيوت الى الانتماء الى العشيرة ، ففي العراق نجد في المناطق المحاذية للجزيرة اسماء مثل ، االجبوري ، الشمري ، الجنابي والطائي، وكلما ابتعدت يتحول الانتماء الى العشيرة الى الانتماء الى المنطقة. السامرائي ، العاني ، الموصلي ، البغدادي ، الحلبي ، الطرابلسي .

 

الثقافة البدوية لا تعطي أولوية للعلم ولا للعمران. لم تجد ولا عالم مسلم في النحو والتاريخ والحديث والتفسير والكيمياء والرياضيات والفلك والفلسفة و...من الجزيرة. جلهم من خارج الجزيرة..حتى المذاهب الاربعة عدى مالك بن الأنس صاحب المذهب المالكي الذي ولد ومات في المدينة. والمدارس الفكرية من المعتزلة والأشاعرة ظهرت في العراق. والعجيب أن بن تيمية ولد في تركيا ومات في مصر أخذ ه محمد بن عبد الوهاب كأساس للمذهب الوهابي ولم يأخذ مالك بن أنس صاحب المذهب المالكي اساسا للوهابية. يدل على التناغم بين الثقافة البدوية وفكر بن تيمية،لان فكر ابن تيمية لم يلق قبول من قبل المدن والحضر ، بينما محمد ابن عبد الوهاب لقى قبول واسع لفكره عند البدو ولكن لقى  مقاومة عنيفة من الحضر .

 

كذلك لم تجد أية عمارة في الجزيرة وكلما ابتعدت من المركز كلما زادت العمارة مثل ، الملوية في سامراء، اصفهان في ايران ، تاج محل في الهند ، المسجد الأموي في دمشق ، وقرطبة والحمراء في الأندلس والأزهر في القاهرة و..الآن نتعمق أكثر في البحث للوصول الى الطبقات السفلى لأصل المشكلة ، وهو الدين الاسلامي في الجزيرة..

 

الهدف الذي تسعى اليه البداوة هو على نقيض مما تسعى اليه الحضارة .فهم ابعد الناس عن الصنائع ( 16  ) ففي البداوة يكون سعي المجتمع نحو النفرة من الدولة لتحل العصبية القبلية محلها ولتقوم بوظيفة الدولة ، أي الأهمية يعطوها للولاء لا للكفاءة. أما في الحضارة يسعى المجتمع الى اقامة الدولة والنظام والخضوع التام للحكومة والقانون. ومن خصائص الطابع الثقافي للمجتمع الحضاري المدني هو انتشار الفنون والثقافات وتطور البناء والعمران.

 

الملخص

مشروع حضاري ومدني يبغي بناء مدينة فاضلة يعيش الناس فيها بسلام وعزة وأمان، عليه أن يتجاوز عقبتين مهمتين والا سوف يكون مشروعا ناقصا ولم يكتب له النجاح .

 

التحدي الأول هو، الواقع الجغرافي للمنطقة. المنطقة العربية 80 بالمئة من مساحتها صحراء. المدن العامرة مثلما تعاني من التصحر البيئي ، كذلك تعاني من التصحر الثقافي وزحفه على المدن مما يؤدي الى اضعاف الحاضرة وهدم المدنية.

 

اما التحدي الثاني فهو الدين. اذا أخذنا الاسلام في مفهومه الاصطلاحي الحالي كهوية ، فسوف تكون هوية قاتلة لاتها تقصي الاديان الاخرى. أما اذا أخذنا الاسلام كهوية في مفهومه اللغوي أي أن اليهودية ملة والمسيحية ملة ونحن ملة محمدية ، هنا سوف تكون الملل وجودات داخل هوية دينية عالمية تحوي جميع الملل. هذه الهوية تكون بناءة كما كانت قبل 13 قرن. علما ان القرآن الكريم لا يطلق دين الا على الاسلام. وكل ما وجد ما هي الا شرائع والاسلام والمسلمين موجود قبل القرآن بآلاف السنين.

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 

المصادر

 

1.السيد علي الحكيم: أمين عام مؤسسة الامام الحكيم.

2.جمال الدين الأفغاني ( ت 1897 ) : هو محمد جمال الدين ، وأحد الأعلام البارزين في النهضة المصرية ، ومن أعلام الفكر الاسلامي بانسبة للتجديد.

3.محمد عبده ( ت 1905 ) :عالم دين وفقيه ومجدد اسلامي مصري، يعد أحد رموز التجديد في الفقه الاسلامي ومن دعاة النهضة والاصلاح في العالم العربي الاسلامي.

4.محمد اقبال ( ت 1938 ) :شاعر الهند العظيم وهو أديب وفيلسوف ومجدد للفكر الديني في الاسلام.

5.الكواكبي ( ت 1902 ): وه غبد الرحمن أحمد محمد الكواكبي. وهو من أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي.

6.أبو الأعلى المودودي ( ت 1979 ): أحد أبرز قادة التيار الاسلامي ومؤسس الجماعة الاسلامية احد أكبر الجماعات الدينية بعد جماعة اخوان المسلمين.

7.حسن البنا ( ت 1949 ): وهو مؤسس حركة اخوان المسلمين في مصر عام 1928، والمرشد الأول لها.

8.طه حسين ( ت1973 ): أديب وناقد مصري لقب بعميد الأدب العربي.

9.أحمد أمين ( ت 1954 ): أديب ومفكر ومؤرخ وكاتب مصري.

10.صادق جلال العظم : مفكر واستاذ فخري في جامعة دمشق في الفلسفة الأوربية الحديثة.

11.محمد الجابري ( ت2010 ): مفكر وفيلسوف عربي من المغرب. له 30 مؤلفا في خفايا الفكر المعاصر وأبرزها نقد العقل العربي.

12.محمد أركون ( ت 2010 ): مفكر وباحث أكاديمي ومؤرخ جزائري.

13.توينبي ( ت 1975 ): وهو ارنولد توينبي وهو من أشهر المؤرخين الانكليز في القرن العشرين.

14.شتراوس ( ت 2009 )ك وهو كلود ليفي شتراوس، عالم الانثروبولوجي فرنسي.

15.ابن خلدون المقدمة ص224.

16.نفس المصدر السابق.

 

 

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.