قصيدة ملحمية من رمادٍ ينهض إلى النور
رانية مرجية

 

مطلع النشيد

أنا الفينيقُ…

لم أولد من رحمٍ ولا زمنٍ،

بل من صرخةِ قلبٍ احترقَ حتى صارَ ضوءًا.

أنا النارُ التي لا تُطفِئها الدموع،

والنورُ الذي لا يبهتُ في العواصف.

أنا الصدى الأولُ للوجع،

والنَفَسُ الأخيرُ للانبعاث.

النار التي علّمتني النور

في البدءِ كانَ الرمادُ…

وكانَ الخوفُ يزرعُ في صدري ليله الطويل.

ظننتُ أنني انتهيتُ،

لكنَّ داخلي كان يتهيأُ لولادةٍ لم يُدركها أحد.

كلُّ سقوطٍ كانَ معموديّةً بالنار،

كلُّ وجعٍ كانَ درسًا في الخلاص.

حينَ انهارتْ جدراني،

رأيتُ السماءَ بلا وسائط.

تحتَ الرمادِ، كانَ اللهُ يهمسُ لي:

“قُم… فالانطفاءُ ليس موتًا،

بل تهيئةٌ للضياءِ القادم.”

الرماد ليس مقبرة

حينَ انتهيتُ، بدأتُ.

وحينَ انكسرْتُ، اكتشفتُ شكلي الحقيقي.

كلُّ رمادٍ داخليٍّ كانَ وطنًا جديدًا.

لم أعدْ أخافُ النار،

فهي أمّي التي قسَتْ لأجلِ قيامتي.

علّمتني أن الألمَ نُورٌ على هيئةِ لهب،

وأنَّ من لم يَحترقْ،

لن يعرفَ طعمَ الضوء.

القيامة الداخلية

استيقظتُ ذاتَ فجرٍ،

وكانَ العالمُ كما هو،

لكنني لم أعدْ كما كنتُ.

رأيتُ في المرآةِ وجهي القديم،

لكنَّ في عينيَّ كانتْ ولادةٌ أخرى.

ابتسمتُ…

لا لأنَّ الحياةَ صارتْ سهلة،

بل لأنني أخيرًا فهمتُها.

القيامةُ لا تحدثُ في القبور،

بل في القلوب التي قررتْ أن تُحبَّ نفسها بعد أن كانتْ تكرهها.

أصدقُ من الضوء

أنا الفينيقُ…

لم أَعُدْ أطلبُ سعادةً بلا شوك،

ولا نصرًا بلا هزيمة.

أُريدُ حياةً كاملة،

بوجعِها، بضحكتِها، بضعفِها النبيل.

الذينَ لم يُكسروا لا يعرفونَ معنى الوقوف.

والذينَ لم يَغرقوا،

لن يفهموا ما معنى أن تتنفسَ هواءً جديدًا بعد الغرق.

في كلِّ ألمٍ لؤلؤة،

وفي كلِّ سقوطٍ نهوضٌ خفيٌّ ينتظرُ لحظةَ وعي.

نشيد النور

يا من تقرأُني الآن،

اعلمْ: لا أحدَ يُشفى بالنسيان،

بل بالذاكرةِ حينَ تُروَّضُ لتُحبَّ ما كان.

لا تُطاردْ فرحًا بلا حزن،

فهما توأمانِ في رحمِ الإنسان.

إنما الشفاءُ أن ترى النورَ في قلبِ النار،

وأن تكتشفَ في سقوطِك سببَ نهوضِك.

حوار مع الله

قلتُ له:

“يا ربّ، لماذا جعلتَ الطريقَ طويلًا؟”

فأجابني بلُطفٍ يشبهُ الغيم:

“لكي ترى جمالَ النورِ حينَ تصل،

ولكي تعرفَ أنك أنتَ النورُ كلّه.”

فبكيتُ…

لا من الألم، بل من الفهم.

عرفتُ أن كلَّ انكسارٍ كانَ صلاةً،

وأن كلَّ دمعةٍ كانتْ وضوءًا جديدًا للحياة.

النهضة

ها أنا الآن،

من رمادي صنعتُ أجنحتي،

ومن ناري نسجتُ ضيائي.

أمشي على الأرضِ بخفَّةِ العارف،

لا أطلبُ نسيانَ الماضي،

بل مصالحتَه.

لقد سامحتُ نفسي على ضعفِها،

وشكرتُها على نجاتِها.

وأقسمتُ أن أعيشَ،

لا كما يريدونَ،

بل كما يليقُ بفينيقٍ نجَا من احتراقِه.

النهاية التي ليست نهاية

أنا الفينيق…

أحملُ في صدري رمادي الأول،

وأغنّي بهِ للنور.

أموتُ كلَّ يومٍ لأُولدَ من جديد،

كأنَّ القيامةَ صارتْ عادةَ قلبي.

من قالَ إنَّ النهايةَ موت؟

إنّها بدايةُ الوعي،

بدايةُ الإنسانِ الذي عرفَ أنَّ اللهَ يسكنُ في وجعهِ أيضًا.

النشيد الختامي

يا أيُّها العالم،

أنا لم أعدْ أخافُ النار،

ولا أهابُ الرماد.

أنا الإنسانُ الذي خرجَ من نفسهِ،

حاملاً قلبًا لم يعدْ يخشى الانطفاء.

كلُّ ما فيَّ احترقَ،

إلا الإيمانُ بأنَّ النورَ الأخير

ينبعُ منّي أنا.

فأنا الفينيق،

وأنا النارُ،

وأنا النورُ،

وأنا القصيدةُ التي كتبتها الحياةُ بدموعِها،

ثم قرأتها وهي تبتسم.