الاشوريون في التاريخ- الحلقة 12
يعكوب ابونا
الاشوريون بركة في الارض … النبي اشعيا 19 : 24
استمر الملك تغلا تبلاسر الاول، بحروبه وتوسعاته، خاصة في المنطقة الشماليه من اشورـ مدفوعا بامرين احدهما تامين حدود الدولة وتوسيع جغرافية اشور، بالاستيلاء على الاراضي وتهجير شعوبها المهزومه، وثانيا وهو الاهم العامل الاقتصادي، فاقتصاديات الدولة تشكل عاملا مهما في ترسيخ قوة الدولة وسلطتها، وبقراءة بسيطة للتاريخ، نجد بان الحروب والغزواة كانت وسيلة متاحه للاقوياء لبسط نفوذهم وتامين احتاجاتهم الاقتصادية، بدليل اهمية العامل الاقتصادي ما يوليه الملك الاشوري للغنائم والضرائب التي كان يجبيها من انتصاراته على الاعداء، ففي حولياته اليومية نجده يدون اعماله وانجازاته ، واهم ما يذهب الى تدوينه تفاصيل الغنائم التي جابها على شكل أوان نحاسية وبرونزية والجزية التي كان يفرضها، وكانت تتصل احيانا الى الاف من الخيول والدواب وقطعان الحمير والثيران ، ونقرأ في احدى مخطوطاته التي تشير بشكل واضح الى الاهتمام الكبير بالناحية الاقتصادية، “1” (كل اراضي اشور زودتها بمحارث، مما جعل مخازن الحبوب تزيد عما كانت عليه زمن اجدادي وكونت قطعاناً من الدواب والاغنام ..)
اتجهت انظار تغلات بلاسر الاول نحو سوريا، بعد ان حقق انتصاراته على مجموعة “المشيكي” في شمال اشور وهاجمهم وعزز سيطرته على المناطق الشمالية والشمالية الغربية والشمالية الشرقية ،لدولة اشور، حتى وصل الى اسيا الصغرى، وبعدها وجد نفسه بانه في وضع يمكنه من من التوجه غرباً الى الشاطئ السوري حيث غابات الارز والسرو والصنوبر في الجبال الساحلية، كانت اعمال البناء تتطلب الحاجة لتلك الاشجار ـ وخاصة لبناء المعابد والقصور،
كانت شهرته العسكرية وبطشه قد سبقه فقدمت له مدن جبيل وصيدا وارودا فروض الطاعة دون قتال ودفعت الجزية، “2 ” ولكن الاتصالات مع سوريا كانت مهددة دائما من قبل قبائل الارامية التي تتجول في المنطقة ، لذلك يذكر تغلات بلاسر انه قطع الفرات ثمان وعشرين مرة من اجل القضاء عليهم، اذ يقول: ،
” بناء على امر انو وادد الالهة الكبرى سادتي، سرت الى جبال لبنان وقطعت دعائم من خشب الارز لمعبد انو وادد الالهة سادتي، واخذتها معي ، وتابعت المسير الى امورو، وفتحت امورو باكملها ، وتلقيت جزية من جبيل وصيدا وارودا ، وسرت في سفن من ارواد في امورو ثلاثة مراحل مضاعفة ” نحو 30 كم ” من ارواد الواقعة في وسط البحر حتى صيمورا في امورو انجزت كل شئ بنجاح ” .. ونجد تدوينه كزينة على بوابة القصر ” 3 ” لقد صنعت من البازلت تصويراً لل ” نخيرو ” او نهيرو ، الذي يسمونه ” حصان البحر”. ومعه حربون من صنع يدي انا ، به قتلت نخيرو ” في البحر ببلاد امورو وبامر من .. الالهة اسيادي ” ..
بعدها توجه الى بلاد السوهي ومن ثم صعد في الفرات ودمر ارام النهرين التي تحصنت فيها القبائل الاهلامية ، ” 4″ ثم بلغ مدينة قرقميش ” جرابيس ” معقل الحثيين على الفرات ، ومن هناك اجتاز النهر واستولى على بلاد الامورو ، فادخل الساحل في طاعة اشور، هذه الاعمال والانتصارات سمحت لتغلات بلاسر ان يفتخر بانه استولى على اثنين واربعيين شعبا وملكاً ،.
واستمر بزحفه حتى انتهاءه الى المتوسط فهناك نقش صورته على الصخرة بقرب ينابيع دجلة ، بعد الانتهاء من تاديب اعداء اشور المحيطين بالشمال من حدودها ، وعندما سمع ملك مصر بقوة وجبروت الملك تغلات بلاسر فاراد التودد والتقرب اليه فارسل له هدية وهي تمساح حي ” 5″ . وهذا التودد كان بسبب ما اصاب قلب رمسيس فرعون مصر بالخوف والرعب ، فارسل له هدايا كثيرة ونفيسة لم يكن التمساح فقط ، بل كان من جملتها تماسيح وحصن بحرية ، واستغرب الاثوريون من هذه الوحوش التي لم يكن قد راوها من قبل ابداً ، ” 6 ” .وعند وصول تغلات بلاسر الى نهر الكلب في لبنان نقش صورته على الضفة الجنوبية وذلك تذكارا لانتصاره هذا ، والصفحة التي تتضمن صورته مع الكتابه المسمارية حفظت في ” مجلة المشرق سنة 1898 ص 1089 ” ..
ويضيف ادي شير ص 53 و54 ، بالقول كما توغل في جبال ارمينية وافتتح اربعا وعشرين مدينة واحرقها كلها ، ثم رجع مسرعاً الى البلاد شرقي اشور عند الزاب الاصغر وحدود لولوما ، لمقاومته امارتا مورداش وسردوش ، فقاتل الاعداء بشدة وشجاعة لامزيد عليها اذ دخل معسكرهم مستلا بيده السيف وهو يضرب ويقتل يمينا وشمالا ، فاخضعهم وفرض عليهم الجزية ، ولكن فتنة حدثة في كورخي جبرته ان يرجع سريعا الى ارمينية لان قبيلة سوكي جمعت نحو ستة الاف مقاتل وتحصنوا في جبل خيريخا ، فحمل عليهم وكسرهم وافتتح مدنهم واخذ منهم ستة وعشرين تمثالا لالهتهم وارسلها الى اثور لتتوزع على هياكل بيليت واداد وايسارا . كان تغلات بلاسر الاول يتفاخر انه بعد خمس سنوات من تملكه استولى على اثنين واربعين شعبا مع ملوكهم .” 7 ” ..
وجاء بالكتاب المقدس سفر الملوك الثاني الاصحاح 15 : 27 – 29 “
- في السنة الثانية والخمسين لعزريا ملك يهوذا ملك فقح بن رمليا على اسرائيل في السامرة عشرين سنة. و عمل الشر في عيني الرب لم يحد عن خطايا يربعام بن نباط الذي جعل اسرائيل يخطئ. – في ايام فقح ملك اسرائيل جاء تغلث فلاسر ملك اشور و اخذ عيون وابل بيت معكة و يانوح و قادش و حاصور و جلعاد و الجليل كل ارض نفتالي و سباهم الى اشور..”
- احدى مدونات تغلات بلاسر الاول ” تشير ولاول مرة الى ال (احلامو – اراميين) (احلامي – ارمايا) ومن هذا التاريخ فصاعدا، “8” يختفي اسم الاحلاميين من حوليات الاشورية لتستبدل بالاراميين (ارامي، اريمي) وتعمل الكلمة “ارمايا” في النص المذكور انفا عمل الصفة المضافة ، ويمكن ترجمتها عبارة “احلامي – ارمايا” كما يلي: (اولئك الذين من الاحلاميين والذين هم اراميون)). سواء كانوا يعملون تجارا او فلاحين، رعاة ام عسكريين، او خارجين عن القانون ، الا ان اصلهم كلهم كان واحد يعود الى البدو الاجلاف الذين لم يساهموا باضافة اي انجاز الى الحضارة الشرق الادني العريق ، ولا توجد لهم اية اسهامات اصلية في ميدان الفنون ، غير ان الفضل انما يعود لاولئك البرابرة انفسهم ( يقصد الاراميون ) في فرض لغتهم على كل الشرق الادنى ، واستخدامهم الالفباء الفينيقية بعد تحويورها بدلا من الخط المسماري ، وان الخط العربي مشتق من احد انماط الخط الارامي المتصل ، ومثله ايضا كافة الابجديات التي استخدمت وتستخدم في اسيا الغربية ، ))…
- كما استطاع دفع الاراميين بعيدا عن وادي الفرات ولحقهم في عقر دارهم معقل ” جبل بشري ” غرب دير الزور ، ولكن بادية الشام كانت تعج بقوات هؤلاء :
- لذلك نجد تغلات بلاسر الاول يذكر لقد “نازلت الاحلامو – اراميين في ثمان وعشرين معركة ، وفي احدى حملاتي عبرت الفرات مرتين في غضون عام واحد ، ولقد هزمتهم في كل مكان من تدمر الكائنة في بلد امورو ، وانات الواقعة في بلد سوهو ، حتى رابيقوم التي تقع في كاردونياش ” بابل” 9 ” وجلبت ممتلكاتهم اسلابا الى مدينتي اشور . ” وخلال هذه الحملة وصل الساحل الفينيقي وفرض الجزية على ارفاد وبيبلووس وسيدون. الا ان سورية بقيت مهددة من قبل القبائل الارامية التي كانت تتجول في المنطقة ، فيقول لذلك تطلب الامر ان اقطع الفرات ثمان وعشرين مرة من اجل القضاء عليهم ، ويذكر باحدى كتاباته ، “بناء على امر انو وادد الاله الكبرى سادتي ، سرت الى الجبال لبنان وقطعت دعائم من الخشب الارز لمعبد انو وادد الالهة اكبرى سادتي واخذتها معي ، وتابعت المسير الى امرور وفتحت امورو باكملها ، وتلقيت جزية من جبيل وصيدا وارواد الواقعة في وسط البحر حتى صيمورا في امورو انجزت كل شئ بنجاح . ” .. وبطريق عودتي اخضعت بلاد الحثيين ” كركميش ” بكامها ، وفرضت على اني تيشوب ملك الحثين رهائن وجزية وضرائب ودعائم من خشب الارز، ” 10″ وعبرت الفرات خلف الاحلامو الاراميين حتى بلاد الحثيين ، مرتين في سنة واحدة، من سفوح لبنان ومن تدمر في امورو ومن انات سوخو “منطقة على الفرات الاوسط ” حتى رابيقو ” بالقرب من رمادي ” في كاردونياش ” الحقت بهم الهزيمة واخذت غنائمهم وممتلكاتهم الى مدينتي اشور، لقد قام بترميم هياكل المملكة والقصور الملكية فيها، واعاد بناء اسوار المدن، واستورد من البلاد التي استولى عليها الخيول والحمير والمواشي والماعز البري لتكون صيدا له ، وارسل في طلب البذور والاغراس التي لا تنبت في اشور ، لبستنتها في الحدائق العامة والعقارات الاميرية.
واخيرا الحرب ضد بابل:
كان احد ملوك بابل قد استطاع في الجنوب الاستيلاء على ” اكالاتا ” موسعا حدود مملكته لتبلغ الزاب الاسفل على مبعدة عشرين ميلا فقط عن مدينة اشور ، فابتدا تغلات بلاسر ، بالموشكيين اولا فحمل عليهم وذبحهم مع حلفائهم ، وصعد اعالي التلال وقمم الجبال الشديدة الانحدار ” ، في بلاد ” بايري ،” وتوغل في عمق ارمينا واقام نصبا له في “ملازكيرد” الكائنة خلف بحيرة وان ، بينما قامت احدى جيوشه بتطهير اراضي موسوي “وكوماني” في جبال زاكروس من الجيوب المعادية . وجرى دفع الاراميين بعيدا عن وادي الفرات ولوحقوا حتى عقر دارهم معقل ” جبل بشرى ” غرب ديرالزور،
فبعد انتصاراته هذه كان لابد ان يتوجه صوب الجنوب الى بابل المدينة الاكثر اهمية ومكانه لديه وتم له ما اراد ، واستولى عليها ، ولكي يثبت بانه حقق انتصاراته عليها كما حققها على الاخرين ، فاعلن اتخاذه فيها لقب ملك اكاد وشومير – ابنيته ، يقول ” حملت على كاردونيياش … فاخذت قصور بابل التي تعود لمردوخ -نادين – اخا ملك كاردونياش واشعلت النيران فيها ونقلت اثاث قصره معي ، وفي المرة الثانية جردت نسقا من عربات الحرب ضد مردوخ -نادين -اخا ملك كاردونياش فاصبت منه مقتلاً .”11″ ..
كان تغلات بلاسر الاول بالاضافة لنشاطه العسكري الواسع والكبير ، له نشاطات عمراني الكبير فقد اتم بناء معبد- انو – ادد – في اشور ومعبد عشتار في نينوى ، ويفتخر ببناء احد الاسوار ، وبصنع محراث جديد للزراعة ، ومحاولة ادخال زراعة النباتات الغربية الى بلاده ومنها القطن ، الذي لم يكن معروفا في اشور قبل هذا التاريخ . “12 ” كما كان صيادا مشهورا، اذ في السنوات الخمسة الاولى من ملوكيته قتل مائة وعشرين اسدا واربعة ارام ذكر في سهول متاني واتى بجلدها وقورنها الى اشور ، وفي ارض حران وعلى سواحل خابور صاد اربعة عشر فيلا واتى باربعة منها الى اشور وهي حية ” 13 “
كما شرع مجموع من القوانيين والاحكام القضائية التي تعالج قضايا اجتماعية ، وخاصة قضايا الزواج واالخيانة الزوجية والاغتصاب والسرقة ، وقضايا ملكية الاراضي الزراعية ، وقد عثر على تلك القوانين جمعية الشرق الالمانية خلال حفرياتها في اشور ” قلعة شرقاط ” ما بين ” عام 1903 – 1918 م ” مكتوبة على تسعة رقيم طيني ، وتتميز القوانين بفرض عقوبات جسدية قاسية بحق مخالفيها كقطع الاذن او ثقبها او قطع الشفة السفلى او الاصابع ، والخصي وتشوه الوجه بصب الاسفلت الحار عليه وغير ذلك من العقوبات الجسدية الرادعة “.. 14 “
كان تغلات بلاسر افضل ملوك اثور ، اذ جعل مملكته في مصف الدول العظمة ، ولكن تلك الانتصارات والامجاد لم تدم طويلاً لبلاد اشور ، فبعد ان “اغتيل ” انتهت فترة حكمه المزدهرة ، لانه اعقبها فترة ضعف اخرى في حياة الدولة الاشورية ، ودامت الفترة المظلمة زهاء 166 عام ، اي منذ موت تغلات بلاسرالاول 1077 – حتى الى بداية حكم الملك ” ادد – نيراري – الثاني 911 قبل الميلاد ..” 15 ” .
لقد اختلفت الروايات بموت تغلات بلاسر الاول ، كما لاحظنا طه باقر وكذلك جورج روص 376 بن اغتيال تغلات بلاسر وضع نهاية لعهد حكمه المجيد . ولكن لم يقدما اي توضيح او اشارات عن الكيفية التي تمت عملية الاغتيال ومن تفذها ؟
كل ذلك اصابه الغموض في طرحمها ، ؟ لذلك الغالبية تذهب الى انه مات موتا طبيعيا ،وهناك من الروايات تذكربانه كتب مكتبته الالواح الطينية سقطت عليه وقتلته ، كل هذا بدون معطيات بل مجرد اجتهادات ، ولكن بكل احوال بموته خسرت المملكة الاشورية احد ملوكها العظام ، ..
بعد وفاة تغلات بلاسرالاول 1077 ق . م ملك بعده ابنه ” اشور- بيل كالا – 1074 – 1057 ” حارب البابلين ولكن عقد الصلح معهم ، وتزوج من ابنة ملكها ،”ادد- بلادان” .. ثم خلفه ملوك ضعفاء مهم ” شمشي – ادد الثالث ” واشور ناصر بال الثاني ، الذي بعهده ساءت الاحوال كثيرا ً، اذ انفصلت اجزاء كثيرة كانت تحت الحكم والنفوذ الاشوري ، لا بل في معركة كركميش انهزم الجيش الاشوري في المعركة التي دارت مع الحثيين ، بعده ملك ” اريا- ادد – واشور – ناد نحا ونغلات – بلاسر الثاني الذي مات سنة 934 ق . م ، بزمنه تقلصت حدود مملكة اشور كثيرا” 16 “
وبداءت القبائل الارامية تقترب من حدود البلاد وانتشرت حول مدينة نصيبين وجوانب نهرالفرات ، ولكن في بداية القرن الحادي عشر ق . م يعتبر بحق فترة قتال وحروب مستمرة خاضها الاشوريون ضد القبائل الارمية ، واخذ الاشوريون يتنفسون الصعداء قليلا في القرن العاشر وما ان جاء القرن التاسع حتى اصبحوا اكبر قوة ضاربة في بلاد الشرق وانقلبت الكفة على قبائل الارامية المتواجدة في مناطق فرات الاوسط وعلى الدولات الارامية الصغيرة المنتشرة في بلاد الشام ” 17 “
والى الحلقة القادمة الى : عصر الامبراطورية الاشورية او (العهد الاشوري الحديث من سنة ( 911 – 612 ) قبل الميلاد ….
يعكوب ابونا ……………………….. 5 /10 /2025
_______المصادر_________
1-هنري ساغس جبروت اشور ص95
2-دكتور عيد مرعي تاريخ بلاد الرافدين ص 109
3-هنري ساغس جبروت اشور ص97
4-ل. دولابورت بلاد ما بين النهرين ص 295- 296
5- عظمة بابل هنري ساغس ص 92
6-ادي شير كلدوواثور ص 55
7-ل. دولابورت ص 265
8-جورج رو ص 369 العراق القديم
9- الاشوريون عزيزبخو ص22
10-دكتور عيد مرعي ص 109 –
11 جورج رو ص375و376
12-عيد مرعي ص111
13-ادي شير ص ص56
14- فورزي رشيد الشرائع العراقية القديمة ص180 ومابعدها
15 طه باقر ص 540
16- عزيزبرخو ص 22 و23
17- طه باقر مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ص 179