اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

• كيفَ التقيتُ بربعي المدهون؟

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

نمر سعدي

كيفَ التقيتُ بربعي المدهون؟

 

صباح الخميس الموافق 2010/5/20 أصعدُ جبلَ حيفا الأشمَّ الكرملَ. أتجوَّلُ.. أقرأُ كثيراً عن الأمسيات الثقافيَّةِ التي تقامُ على شرفِ زيارةِ الروائيِّ الفلسطينيِّ المغتربِ في لندن ربعي المدهون. أقرأُ عن روايتهِ الهامَّةِ " السيِّدة من تل أبيبْ "

في صفحاتِ جوجل وأنفذُ إلى بعضِ المناقشاتِ التي يتناولُ بعضُ النقَّادِ العربِ الروايةَ بها. لا بدَّ أنَّها رواية ممتعةٌ وهامَّةٌ جداً وسأضعها على أعلى درجاتِ سلَّمِ قراءاتي الروائيَّةِ التي كنتُ مقصِّراً فيها هذا العام.ولا زالت بعض رواياتِ سراماغو البرتغالي وهمنغواي الأمريكيِّ تنتظرني تحتَ أشجار غودو.

 

السيدة من تل أبيب رواية رائعة تتناولُ موضوعاً إشكاليَّاً يمسُّ العلاقة التي تربطُ فلسطينيَّاً بإسرائيليَّةٍ رغم كلِّ هذا الضباب التاريخي والقومي والواقعي الذي يلفُّ المشهدَ المعيشيَّ الراهنَ في هذهِ البقعةِ.. ويسربلها بالحزنِ الوراثيِّ.

هذهِ الرواية وصلت هيَ وخمس روايات عربيَّة أخرى إلى اللائحة النهائيَّة لجائزةِ البوكر للروايةِ العربيَّةِ.. وقد أثارت صدى واسعاً في الساحةِ العربيَّةِ على الرغمِ من ذهابِ الجائزةِ إلى روايةِ "ترمي بشرر" للسعودي عبده خال الذي أعتبرهُ مثيراً للجدلِ وعميقاً في بعضِ رواياتهِ مثل روايةِ "فسوق".

 

كأنَّ المدهون قد بنى مجدهُ على هذه الروايةِ اليتيمةِ التي جاءت بعدما اكتهلَ صاحبها وعركَ الحياةَ وعركتهُ.. أقرأُ عن أمسيَّةٍ أُقيمت في بيت الكرمةِ في حيفا بالتعاونِ مع مكتبةِ "كل شيء".. وعن أمسيَّةٍ ثقافيةٍ أخرى أقيمت البارحة في مكتبةِ أبو سلمى في الناصرة وعن أخرى ستقامُ أيضاً مساءَ هذا اليومِ في مدينةِ أمِّ الفحم بمشاركةِ العديدِ من الأدباءِ والفنانين.

 

أهبطُ الكرملَ في ساعاتِ ما بعدَ الظهرِ .. أصلُ إلى "دوَّارِ باريس" في حيفا القديمةِ.. أتناولُ شيئاً لأسدَّ بهِ جوعي.. أتمشَّى بضعَ خطواتٍ غرباً وتقعُ أغربُ المصادفاتِ في حياتي.. فجأةً وإذ بي أمامَ ربعي المدهونِ وجهاً لوجهْ الروائيِّ المتميِّز بدمهِ ولحمهِ بشحمهِ وعظمهِ.. يبدو أنَّهُ أصغر من عمرهِ بكثير ربَّما بنحوِ عشرينَ سنة أي أنَّه يبدو في نحوِ الخامسةِ والأربعينَ ولا حسدْ.. قامةٌ تميلُ إلى النحولِ وعينانِ حادَّتانِ ونظارَّةٌ طبيَّةٌ وقميصٌ أظنُّهُ أبيضَ اللونِ ووقارٌ لا أعرفُ كيفَ أصفهُ... وهيبةٌ جليلةٌ تهبطُ على وجههِ النحيل الجديِّ القسماتْ.كأنَّها ريشةٌُ على رأسِ حفيدٍ مدلَّلٍ لبعلٍ وعناة.

 

أستغربُ من سخريَّةِ القدرِ بي.. كنتُ قبلَ لحظات أفكِّرُ بهِ وبسرِّ نجاحهِ الأدبي وها هو الآن أمامَ عيني.. أنشغلُ بهِ كلَّ يومي ولا أفلتُ من سطوةِ مليونِ دانا أهوفا ملءَ الطريقِ وملءَ الحياةِ.. يتقمَّصني شبحُ وليد دهمان الذي لم أستطعْ الفكاكَ منهُ رغم فلسفةِ حبِّي الأفلاطونيَّة ورغمَ جذوري الممتدَّةِ في رمادِ المأساةِ كجذور سروةٍ عظيمةٍ.. أهبطُ من جحيمِ الحبِّ العلويِّ.. وكلُّ حبٍّ جحيمٌ.. أهبطُ من فتنةِ الكرملِ وقسوةِ صعودهِ وذكرياتهِ... أخلعُ عنِّي بعضَ أمراضِ العاطفةِ ولو للحظاتٍ معدودات.. لأجدَ المدهونَ أمامي بابتسامةٍ خضراء وأقحوانةٍ غيرِ مرئيَّةٍ ترفرفُ فوقَ نظراتهِ الحادةِّ كنظراتِ الصقور.

أسلِّمُ عليهِ بحرارة بالغة وأسألهُ عن أحوالهِ.. أعتذرُ لهُ عن عدمِ حضوري أمسيتهُ الأحدَ الفائتَ في بيت الكرمة لخيانةِ سيَّارتي لي.. وأعدهُ وعداً حميميَّاً بقراءةِ رائعتهِ التي أظنُّ أنَّها تمسُّ وجعَ كلِّ واحدٍ منَّا بشكلٍ خاص.. نحنُ الفلسطينييِّن في الداخل. اللذينَ انصهرنا في البوتقةِ شئنا أم أبينا.. اعترفنا بذلكَ أم أنكرنا.

يبتسمُ الأستاذ ربعي بأريحيَّةِ ويحثُّني على قرائتها.. ونمضي كلٌّ في جهةٍ.. أنا أواصلُ غرباً وهو يمضي لشأنهِ برفقةِ مديرِ مكتبةِ كل شيء.

 

أمشي بضعَ خطواتٍ وأفكِّرُ مليَّاً بربعي.. بالكاتب الذي نجحَ بعدَ بلوغهِ الخامسةِ والستِّين من العمرِ.. كم خطَّطَ لروايتهِ السيَّدة من تل أبيب؟ خلال كم من الوقتِ أنجزها..؟كيفَ اهتدى إلى المعادلةِ الصحيحة التي جعلت كتابهُ يطبعُ أربع طبعات ويترجم إلى عدَّةِ لغات..؟ حتَّى أني شاهدتُ على شاشة النيل الثقافية مؤخرَّا مترجمةً ايطاليةً جميلة وموهوبةً وشابةًّ تعتزمُ على ترجمتهِ للإيطالية.

ما هو سرُّ ربعي المدهون هذا الطالعِ علينا من سدفِ الضبابِ في لندن بأجملِ روايةٍ فلسطينيَّةٍ؟ ما سرُّ نجاحهِ؟ ما سرُّ لغتهِ؟ ولماذا لا نتعلَّمُ منهُ نحنُ الشباب؟

لماذا لا نصبرُ ونعملُ في الظلِّ؟ لماذا لا نتعلَّلُ بالأملِ؟ نحنُ هنا نعيش بعقليَّةٍ شرقيَّةٍ حتَّى في مجال الكتابةِ.. دائماً نريدُ كلَّ شيء بينَ عشيَّةٍ وضحاها.

 

يتلاشى الضبابُ أمامي.. ضبابُ الحياةِ وضبابُ البشرِ وضبابُ الأدب.. ويبقى المدهونُ الكاتبُ الستينيُّ الشامخُ بابتسامتهِ الوديعةِ كحمامةٍ جليليَّةٍ واليانعةِ كحبقٍ حيفاويٍّ.. يبقى مطلاًّ من حدائقِ الشمالِ عالياً زاهياً راسخاً شامخاً فكراً وروحاً لغةً وعاطفةً.. فيزدادُ رهبةً في نفسي.. في خضَّمِ هذا الاهتمامِ النقدي العربيِّ والإجماعِ على علوِّ قامتهِ الروائيِّةِ... أخفضُ رأسي وقلبي لريحانِ يديهِ.. وأبعثُ لهُ من ضفافِ حيفا التي يحبُّ ومن أعالي روحِ الكرملِ الأخضرِ ألفَ قبلة. 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.