اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

• الرحيل المبرمج

حامد كعيد الجبوري

الرحيل المبرمج

 

     استيقظت من قيلولتي الخامسة والنصف وبعد أن احتسيت الشاي وأنهيت سيكارتي فتحت الهاتف النقال لأتحقق في ما كان أحد قد إتصل بي ، وفعلا وجدت عبر المكالمات التي لم يرد عليها أسم رؤوف  سعيد الطاهر ، ولأني أعرف أنه مقعد بداره بسبب عجز قلبه عن أداء مهامه ، لذا قررت أن لا أهاتفه بل أذهب لزيارته وقضاء ما تبقى من ذلك المساء برفقته ، دخلت له بصومعته التي تشرف على كل منافذ داره كي لا يحرم نفسه من التزود والتحدث لأحفاده المحيطين به ، رحب بقدومي أجمل ترحيب تخلله عتبه الشفيف عن سبب عدم زيارته ، علما أننا نلتقي صبيحة كل خميس بكازينو الجنائن ، قلت له

لماذا اتصلت بي ؟ ، حدق بي وضغط على صدغيه ليستذكر سبب مهاتفتي ، قال لي أني تعب جدا وخاصة هذه الأيام التي ألهبتنا حرا دون وجود يذكر للطاقة الكهربائية ، قلت له لأول مرة أرى ذقنك قد طال شعره لهذا الحد ؟ ، قال مبتسما أنا بانتظار ساعة الرحيل ، ثم ما جدوى بقائي حيا وأنا بهذه الحال المتعبة لي ولأهلي فأنت ترى أني جالس بقرب أسطوانة  غاز الأوكسجين ، منامي بقربها ، لا أستخدم الفراش للنوم بل لأجلس عليه فقط وحينما تأتيني الغفوة أخذها وأنا جالس ممد يدي عل هذه الطاولة ، أبتسم بوجهي وقال الآن تذكرت لماذا اتصلت بك ، لقد عرضت فضائية الحرية برنامجا

خاصا يتحدث عن الفنان العراقي الملحن الراحل كمال السيد طالب ، وأنا أعرف مدى حبك وتتبعك لصديقنا كمال ، قلت له رغم أني لم أشاهد الحلقة إياها ولكني حصلت على خمسة أغاني بصوت الراحل كمال السيد طالب أهداني إياها الصديق المغترب رحيم الحلي مشكورا ، قال لي أنا بحاجة ماسة لها ، أجبته أعتبرها بين يديك وسنآتيك بها يوم غد بإذن الله ، لم يدر بخلدي أن هذا المساء الأثنين 21 / 6 / 2010 م كنت آخر صديق يزور الصديق الراحل رؤوف سعيد الطاهر ، ففي مساء الثلاثاء الساعة الخامسة عصرا غادرنا الى حيث لا عودة الصديق رؤوف الطاهر ، وحين التحدث بهذه العجالة عن صديق

راحل لا بد وأن نتتبع مجريات حياته بشئ من الدقة والتركيز ، ولد الراحل عام 1940 م بمحلة المهدية من الصوب الكبير للحلة الفيحاء والصوب الكبير يضم سبعة أطراف يفصلها عن الصوب الصغير شط الحلة المتشعب من نهر الفرات المعطاء ،ومحلة المهدية أنجبت الأعلام الأدبية للعراق ومنهم الدكتور البصير والدكتور علي جواد الطاهر وهو خال للراحل رؤوف الطاهر ، أكمل رؤوف الطاهر دراسته الإعدادية في محافظة بابل وسرعان ما انتمى لحزب الفقراء الحزب الشيوعي العراقي ، ولم يكن رؤوف الطاهر فقيرا فوالده تاجر معروف في الحلة ، أنتقل بعائلته لبغداد منطقة الكرادة

وأشترى له بيتا فارها وعمل في أسواق الشورجة كمورد لمادة الشاي للعراق ،ساعد رؤوف والده بعمله وكان لوالده اليد اليمنى التي حرمت من متابعة الدراسة الجامعية ، بعد وفاة والده واستحداث ما يسمى الشركة العامة للاستيراد العراقية بدأت محلات الشورجة بالضمور فترك رؤوف عمله لأخيه باسم ، وغادر بداية الستينات من القرن المنصرم بغداد ليفتتح له أستوديو للتصوير في مركز محافظة الناصرية أسماه أستوديو بغداد وسرعان ما طبقت سمعته وسلوكه مدينة الناصرية ، فاحتضنته عائلاتها كمصور شخصي مؤتمن لهذه العوائل ، ومن خلال أستودياه تعرف على الملحن كمال السيد

والملحن طالب القرغولي والفنان حسين نعمه وفتاح حمدان وعازف الإيقاع الراحل أحمد كنو  والشاعر جبار الغزي وكاظم الركابي وزامل سعيد فتاح ، ومن خلاله عرّف أصدقائه وأنا منهم بهؤلاء المبدعين ، بداية الثمانينات عاد رؤوف الطاهر للحلة الفيحاء ليفتتح محلا لبيع المعدات الكهربائية ، لم تنقطع علاقة رؤوف بأصدقائه الحليين  أبدا كالراحل جعفر هجول والصديق جاسم الصكر وجاسم هجول وناجي ديكان ود عدنان العوادي ، والبروفيسور عبد الإله الصائغ ، الذي أستأجر دارا لاتبعد سوى خطوات عن دار الطاهر رؤوف ونشأت بينهما علاقة ثلاثية رائعة  ، الطاهر ، هجول ،

والصائغ ، لم يعد عمله هذا ذو مردود مجزي ، وبما أن ولده البكر حيدر أكمل دراسته بكلية الفنون الجميلة قسم السيراميك ، ولأن الطاهر فنان فطري فبدأ مع ولده مشوار عمله الفني ، بنى فرنا للتزجيج وأصبح بيته أكاديمية للفنون الجميلة ، فطلاب حيدر يطبقون دروسهم العملية في هذا المشغل الذي أفتتح أكثر من معرض للسيراميك موزعا على المحافظات العراقية وعواصم الدول العربية ، لازم رؤوف مشغله فمنامه فيه ، وسهراته الحميمية فيه ، والصديق الذي يريد قتل فراغ مثمر يؤم هذا المشغل الذي أصبح حياة رؤوف بكاملها ، للرجل مواهب متعددة ، و ميزات نادرة ، فمن مواهبه

التصوير ،والسفر ، وجمع النفائس من الأغاني العراقية القديمة ، والاحتفاظ بتسجيلات نادرة لمطربين فطريين يبحث عنهم بلا كلل أو تعب ، ومن ميزاته الصدق والأمانة والأخوة والأبوة النادرة ، أوصل ولده البكر حيدر للمراحل الأخيرة من الدكتوراه / قسم السيراميك ، وولده الآخر سعد ماجستير هندسة ميكانيكية ،وبنتاه خريجتان جامعيتان ، وزوجته مدرسة للفنون الجميلة ، سأختم حديثي المقتضب عن هذه الشخصية الوطنية الرائعة بهذه الطرفة الحقيقة ، دخل سعد رؤوف الطاهر لغرفته باكيا وهو عائد للتو من مدرسته الثانوية ، تبعه والده للغرفة مستفسرا عن سبب بكائه ،

أجهش الشاب بالبكاء أكثر وهو يحاول الرد على أبيه ، بدأ الوالد يهدأ روع ولده رويدا رويدا ، قال الولد لأبيه حضر اليوم مسؤول حزبي بعثي يريد منا أن نشترك بما يسمى قواطع الجيش الشعبي الطلابي - فترة الحرب العراقية الإيرانية -، قال لنا من يريد المشاركة فليرفع يده ، رفع جميع الطلاب أياديهم للمشاركة بالقاطع إلا سعد رؤوف الطاهر ، قال له المسؤول ألبعثي ، لماذا لا تشارك يا أبن ال.....شيوعي ، أجابه الطالب سعد بكل برود وهدوء ، لأني جبان أخاف الحرب والدماء ، قال البعثي للتلاميذ رددوا معي ، نحن نكره الجبناء ، أحتضن رؤوف ولده وقال له هذا لا يبكيك بل

يجب أن يفرحك ، أنت أشجع جبان عرفته في العراق .

رحم الله الطاهر رؤوف وعوض العراق برجال وطنيين مخلصين أمثاله .

 

ملاحظة مهمة : السيدة منى سعيد الطاهر شقيقة رؤوف الطاهر وتلميذته ، متزوجة من الشيوعي الشهيد سامي العتابي الذي أعدمه البعث ونظامه ،  وكانت محطة سامي الأخيرة في دار  الطاهر رؤوف الذي ما أن وصله سامي ومنى أركبهم بسيارته مقدما لهم النصيحة للوصول الى البصرة ومنها الى حيث الدنيا ، بعد عودته فوجئ رؤوف بأزلام الأمن ليستفسروا عن سامي ، أخبرهم بأن سامي وزوجته هما ألآن بطريقهم الى الناصرية ، ولكن سامي رحمه الله نزل من سيارة البصرة وركب الى بغداد وهناك ألقي القبض عليه وأعدم . 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.