اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

• الهروب عن اليسار الى اليسار في ( عرس الماي )

حامد كعيد الجبوري

 

 للذهاب الى صفحة الكاتب

الهروب عن اليسار الى اليسار في ( عرس الماي )

 

        أربعة وعشرون قصيدة يحتويها ديوان الإعلامي والشاعر المبدع كاظم غيلان ، كل قصائد ( عرس الماي ) كتبت فترة الظلام والقمع و الشوفينية والدكتاتورية المقيتة ، إلا قصيدة واحدة كتبت بعد سقوط الصنم ونظامه المقبور ( أسرار ) عام 2007 م ، وأقدم قصائد  عرس الماي ( ليل وعجد والهور ) كتبت عام 1982 م ، خمسة وعشرون سنة بين أقدم قصيدة وأحدثها ، كنت أتمنى أن أجد قصائد أخرى لكاظم غيلان مكتوبة بعد عام 1968 م عام الظلام الأول للعراق ، وصولا لتاريخ انهيار ما يسمى بالجبهة الوطنية ، واعتقال وتشريد الآلاف من قوى اليسار التقدمي العراقي ، لأفي موضوعتي حقها ولكي لا أبخس كاظم غيلان موقفا حقا أولا ، ولأنه شاهد حقيق متربص لصغائر الأمور وأكبرها ثانيا ، كاظم غيلان كغيره من الوطنيين مندفعا بكل طاقاته وإمكانياته الأدبية والسياسية لهدف سام ونبيل ، الوصول بالعراقيين وبالعراق صوب الرقي والتحضر والتمدن ، بكل ما تعني هذه المفردات من أطر جميلة نبيلة ، فانتمى لنفسه يساري الهوى والاعتناق ، لأن النفس هكذا تولد على الفطرة ، وكان شاهدا حقيقيا كما أسلفنا لسني الجبهة وإفرازاتها وتخرصاتها  ومنزلقاتها ، ورأى خُلص أصحابه وأصدقائه وأخوته قد غصت بهم زنزانات السجون البعثية قبل وبعد انهيار الجبهة الوطنية ، وآخرون هاجروا طوعا وكرها صوب المنافي العالمية ، أما هو فقد عاش حياة الحرمان والتشرد والضياع والسجون ، وكل هذه الأحداث المأساوية أثّـرت وأثرت سلبا و إيجابا بحياة كاظم غيلان الشخصية والإبداعية ، فأسلمته لليل وكؤوسه ، وللنهار ومشاقه ، وهنا وفي هذه المعاناة حصرا آخَذ كاظم نفسه لسلوكها نهجا قاده لما آلت إليه حياته وتشعباتها ، أين أستاذه ومعلمه ونبراسه الكبير ( النواب ) ، وأين توأم روحه وزميله ( النعماني ) ، وأين فلان وفلان ، صراعات وتساؤلات بلا إجابة ، وحينما يضع إصبعه على صابره متأملا يجد أنه لم يسلك إلا الصواب ، فيعود من هروبه عن اليسار ليجد نفسه في حدائق وآتون اليسار مرة أخرى ، ولنحاول أن نـدّعم دليلنا بما أزعم متصفحا بطون قصائده ، فلربما نجد قصيدة كاملة ناعيا فيها المواطن والوطن ، هاربا بها بهمومه ومعاناته وفطرته اليسارية ، ومرة أخرى وبقصيدة ثانية يعود مؤملا نفسه بحلم لا بد صائر ، وقصيدة ثالثة تحمل المتناقضين ، هروب وعودة ، وقصائد أخرى نجد مقطعا كاملا يؤل للهروب ومقطعا نقيضه  يؤل للعودة  في نفس القصيدة ، ونلاحظ في أكثر من قصيدة شطرا يئول للهروب وشطرا بعده يئول للعودة لليسار ، في قصيدة ( فرات يا صحوة القصيدة ) يبدأ هاربا فيقول ، ( أركض يا فرات وداعة الله / وعلى الله أتفض مصايبنه على الله ) ، لكنه سرعان ما يحيد عن هروبه لأنه يرى بنفسه شجرة حية تفرع بها الهموم وهي صامدة بوجه العواصف السوداء ( أسب الليل إذا طولها وياي / تجيني الريح شرسه وتصفن أهواي / وأمطر غيض من تغفه النواطير ) ، ولأن المطر مرهون بغفوة النواطير فذلك جلد للذات المعتنقة لما تهوى ، ونتلمس العودة ليساره بصورة أوضح لا لبس فيه ، ( غسل جرحه الحسين بمايك وهاي / لجلها أيهون كلشي وخلي اليصير ) .

           أنبل ما أنجبه نضال الشعب العراقي انتفاضة آذار 1991 م ، لأنها أتت هكذا كالبداهة ، فجرها البسطاء من أبناء الشعب العراقي وفقرائه ، بلا قيادات سياسية مزعومة ومدعية ، أوحت لكاظم غيلان القصيدة الديوان ( عرس الماي ) ، بالعودة ليساره الأحب وأرى أن إهدائها يفسر تشبثه بموروثه السياسي والمعرفي ، ( وكان لآذار عرسا مؤجلا في قامته الثائرة ) ، وشفيعي لما أذهب إليه ، ( يا الطولك منارة ونابته أبروحي / يا عرس / هذا الماي ) ، وربما أكثر من ذلك فهو مترقب للثورة وها هي الثورة بين يديه ، ( بهدومك أشمن ريحة القاسم ) ، في قصيدة ( الجدية ) والجدية ليس بمعنى التسول ، الجدية قرية التمرد والمعارضة التي قارعت النظام الصدامي وهي من جنوب القلب ( العمارة ) ، يبدأ هكذا هاربا ( أهناك بالجدية عثر جدم الصبح / فصل هدوم سود وطب درب مسدود ) ، ويقف تفكيره عاجزا حينما يرى أن ( بريسم ) المجنون بحب القرية !  يصبح ذا شأن كبير ، وكذا من هو على شاكلته من أزلام النظام ومتخلفيه ، ( هناك بالجدية يصير أبريسم أبكيفه وزير ) ، بعد هزئه هذا لا بد أن يرسم حالة طارئة سرعان ما تزول فيعود ليساره الأحب ، ( الجدية مفتاح المصير / أدفع شبابك فديه / يللي تحب الجديه ) ، ونجد في قصيدة ( ساحة الميدان 1 ) الهروب واضحا في كل محطات القصيدة ، ( تطلع روحي مذبوحه / تلا كيني عساكر من قهر وهموم ) ، وصولا لنهاية الهروب وقمته ، ( وأمي ترد وحدها / وتترك الحسرات والدمعات / صينية نذرها لباب المعظم ) ، في قصيدة ( ساحة الميدان 2) هروب وتفاخر بالعودة ، نحس هروبه معلنا عن نوم يساره والنوم لربما الموت ، ( والكاس اليشعل بكتاري الجرف النايم ) ، ويوضح ذلك بإهداء القصيدة التي يقول فيه ، ( متى يأتي العرس ؟ متى يأتي القاسم ؟ ) ، فيعيده الكأس الذي أوقد أكتاره لحضن يساره مجددا ، ( فزيت حسبالي تبت / ثاريني كلشي ولا توب ) ، وفي قصيدة ( سمير الليل ) عودة للفطرة اليسارية باعتداد بين وعتب أبين ، ( أنت أحلى وطيب أمدلي الضرير / وهاي أجمل أمنية وعندك تهون / برجوازي الليل وآنه أول فقير ) ، وفي قصيدة ( طير من الجنوب ) تجد العودة المشوبة بالحزن ماثلة واضحة ، فالطير حرية والحرية فطرة ، ( آنه طير من الجنوب / الشايل آذار بجبينه ) ، ويهرب ثانية في نفس القصيدة مستذكرا الأصدقاء ومنتظرا لهم ، ( آنه طير / وأصدقائي الرايحين / بلا زمان ولا مكان / أنتظر ) ، في نهاية القصيدة عودة مكللة بالفخار ، ( جدي يحفرلي كبر / ويكل للفلح / هذا أبن بنتي النهيته من المدح ) ، وفي قصيدة ( رسام الطيور ) عودة بكبرياء وتحدي ، ( كالولي تندم / كلت لا ما أندم ) ، ويتوج الكبرياء الفطرية ليقول ، ( كالولي تخسر كلت لا / لا ناكه عندي ولا جمل ) ، وهذه بزعمي يمكن أن تقرأ بشكل آخر لست بصدده هنا ، وصولا لقمة العنفوان والكبرياء الحقيقية ، ( الوطن هذا الوطن / من الفرات الكربلاء / الهور والحلاج والحر الرياحي ) ، في قصيدة ( سره الثورة ) المكتوبة عام 1996 م يبرهن كاظم غيلان عشقه ليساره الفطري ، فالعشق والطيبة فطرة ، ( يا سره الحفاي والعشاك والطيبين / صدكني سراك أحله سره / يا سرانه الهام بيك العمر كله / ومن عشكتك كلبي سويته قلم ) ، ونجده هنا قد أقر بأن كل القمم أحضرها سائرة بطريقه الأحب ، ( نزلت كل السطوح أتبوس دربك / أنت دربك حضره حلوه أمعطره ) ، ، فيتبادر له بأن هروبه عن يساره المنشود لذلك أيقن أن معشوقه الفطري قد أظهر له الجفاء والزعل ، ( ولو زعلت وياي خليني أفتح أيدي / أنت المعلم طكني بأغلظ مسطره ) ، وهذا دليل الشعور بالذنب والإقرار بالعقوبة صدقا وحقا يستحقها غيلان ، وفي قصيدة ( قفل ) المهداة للرمز العراقي الكبير ( النواب ) ، أعطي كامل الحق لكاظم بهروبه المبرر هذا ، ولا أريد أن أدخل في أبيات القصيدة لأن لها موضوعا وشأنا آخر ، سأكتفي هنا بما يدعم طرحي للهروب عن اليسار والعودة إليه بما أوردته من أمثلة حية في قصائد متعددة تناولها عرس الماي ، فالماء أصلا طبيعة والطبيعة فطرة ، وكل ما تناولته من أمثلة كانت قبل السقوط – التحرير – أيام المحنة والضياع والعتمة .

          قصيدة ( أسرار ) المكتوبة عام 2007 م أي بعد سقوط صنم الدكتاتورية تحديدا ، فلنرى ما بداخلها من هروب وعودة ، بعد أكثر من قراءة لأسرار أجد أن سره هو الحرية ، والحرية فطرة كما اليسار فطرة ، وبما أنه منح حريته كما الآخرون فإن الدنيا تنزل لحريته أن علت الدنيا ، وإن نزلت حريته فبرغبتها لتلامس القرنفل وتستمتع بالعصافير الحرة ، وجهان لمسمى واحد الحرية ، ( تنصه الدنيه من تعلين / والنرجس يطش روحه / من تنصين يمشي الياس جن زافوف ) ، ولكنه يصطدم بمن يريد أن يقيّد حريته ثانية لأسباب غير خافية ، كالاحتلال  وغيره من نفس الجبلة ، ( أحبس أنفاسي أريد أسمع عصافير الصبح ) ، فيؤكد لذاته العائدة بأن الطارئ يزول ، واللون الأسود سيندحر وينهار ، ( تطيح الوركه من الريح هلهوله / أفك شباج كلبي ويفلت أيلاكيج ) ، وأكثر من ذلك فمن المحتم أنه سيقف منتظرا لحريته المحلقة في سماء معاناته التي أراد لها أن تزول ، ( كل صباح يتلفت الطولج / يطرد حروب وحراميه / وعذاب إيجيبلج رف الحمام ) .

        من يعرف كاظم غيلان على حقيقته لا يمكنه إلا أن يقول عنه بأنه لا زال ملتزما بما أوصى به جده القرويين ، فقبره قد حفره له ذلك الجد إن مدح طاغوتا ما ، والطاغوت موجود أمس واليوم وغدا .

        هكذا قرأت ( عرس الماي ) ، بل قرأت ( كاظم غيلان ) ، تجربة وإبداعا وموقفا نبيلا ، وسأترك للقارئ أن يستنبط مواطن الهروب والعودة ، عن اليسار الى اليسار في ( عرس الماي ) بل بعرس الحرية الغيلانية .

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.