اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

• إضاءة : الوفاء بالعهود .. ( أحميدي الشعار ) إنموذجا

حامد كعيد الجبوري

 

 

إضاءة :

 الوفاء بالعهود ..

 ( أحميدي الشعار ) إنموذجا

 

       بخمسينات القرن المنصرم وصولا لمنتصف عقد الستين كان في محافظة بابل شخصية غريبة ، رجل لا يختلف عن بقية الرجال بملبسه ، يرتدي العقال والكوفية – اليشماغ -الأبيض المنقط بالسواد ،وعباءة رجالية وسترة تحتها ما يسمى ( الصاية ) ، أراه يجلس في المقاهي الشعبية ، وهناك مقهى يرتادها طيلة أيام السنة ، إلا بشهري عاشور وصفر ، وشهر رمضان  لأن عمله بهذه الأشهر يؤجل للأشهر ما بعدها ، والرجل يجلس بهذه المقهى ليتخذها مقرا لعمله ، وعمله هو أحياء الحفلات لمن يرغب بها ، والحفلات تقام عادة بالزواج وختان الأطفال ، فمن يرغب بحفلة زواج أو ختان يذهب للمقهى التي يجلس فيها ( أحميدي ) للتعاقد معه على إحياء تلك الحفلة ، في اليوم المحدد لتلك الحفلة تأتي الفرقة الفنية ل ( أحميدي ) وهي تتكون من عازف للإيقاع – الطبلة - ، وعازف آخر لآلة ( الدف ) ، وفي بعض الأحيان آلة ( المطبك ) ، يجتمع الرجال بمكان محدد لهم والنساء كذلك ، والأطفال يتنقلون بين آبائهم وأمهاتهم ، في هذه اللحظات تخرج حسناء  مرتدية لباسا يشبه ملابس الغجريات ، ولها شعر طويل مسرح ، واضعة كامل زينتها على شفتيها ، وخدودها ، وعيناها ممتلئة بالكحل ، وهي تضع بين أصابعها شيئا يشبه ما تضعه النسوة على أصابعهن وهن يخطن الملابس ، وأعتقد أنها تسمى ( الكشتبان ) ، ولكن هذه الراقصة تضع بين أصابعها كما قلت شيئا مصنوعا من النحاس تسمى ( جنبارات ) ، ولا أعرف معناها ، ومنها تطلق أصوات تبعا لحركة أصابع تلك الراقصة ، كنت أعتقد أن هذه الراقصة امرأة حقا ، ولكن أبي أخبرني أن هذه الراقصة هي رجل تنكر بزي الراقصات ويدعى ( أحميدي الشعار ) ، وحين تنفض تلك الحفلة تخلع الراقصة ملابسها وتعود لتلبس ملابس الرجال ، ول( حميدي الشعار ) ذؤابتان طويلتان يسرحهما ويعقفهما ليضعهما تحت غطاء الرأس ( العرقجين ) ، وحميدي ليس له شارب إلا بشهر رمضان ومحرم وصفر ، لأن عمله يتوقف في الأشهر المذكورة سلفا فيطلق العنان لشاربه ، وسبب حلق الشارب ليوهم الآخرين على أنه أنثى  وليضع أحمر الشفاه على شفتيه أثناء أداء مهماته الراقصة ، في بعض الأحيان وعندما يعرف الأطفال حقيقة ( أحميدي ) يفعلون معه كما يصف الممثل المصري عادل إمام ،(العيال بتعمل حاكات غريبه وتكري) .

         إحتاج ( أحميدي الشعار ) لمبلغ من المال فماذا سيفعل وهو اللا يملك شيئا ، أقنع أخته – حمديه - المتزوجة في البصرة لبيع مسكن والدهما   ، وافقت الأخت لبيع الخربة التي يسكنها ( أحميدي ) ، وبيع الدار للمحسن الحاج حسان مرجان ، وهو خال  رئيس وزراء للعراق فترة الحكم الملكي المرحوم الأستاذ عبد الوهاب مرجان ، قبض أحميدي المبلغ كاملا  ستون دينارا عراقيا ، وكان ذلك بداية خمسينات القرن الماضي ، وستون دينارا آنذاك مبلغ لا يستهان به ، حينما قبض أحميدي المبلغ لم يخرج منها حصة أخته حمديه ، وتصرف بالمال لوحده وقضى على آخر دينار بجيبه والدار لا تزل باسميهما هو وأخته ، بعد مضي مدة ما أرسل الحاج حسان مرجان محاسبه وصديقه الوجيه ( هاتف الجبار الحساني ) مختار محلة الوردية ، أحدى مناطق الصوب الصغير للحلة الفيحاء ، ليأخذ موعدا من ( أحميدي الشعار )  لإجراء معاملة نقل ملكية الدار ، وحينما فوتح ( أحميدي ) بذلك أطرق مليا صوب الأرض وقال لهاتف الجبار ، ( عمي أبو عامر أنطيني مهلة شو جم شهر وآنه حاضر ) ، أعتقد هاتف الجبار أن ( أحميدي الشعار ) لديه لعبة ما بخصوص نقل الملكية وقال له ، ( عمي شو أنت كاعد عطال بطال وأنت قابض فلوسك شو تعال باجر للعقاري وخل أنسجل البيت لو أنت عندك لعبة) ، أجابه ( أحميدي ) ، ( على بختك عمي والله آني ما سويها ولا أنكر البيعة بس أفلوسي كلهن خلصن وما أنطيت أختي حمديه حكها الشرعي وهو 20 دينار ، كلت لما يجي موسم شغلنه أجمع الفلوس وأنطيهن لحمديه وأخلص ذمتي ، ويعمي أبو عامر حمديه بيتها بالبصره هم يريدلي فد خمس دنانير حتى أروح أجيبها وتعترف بالبيعة ألكم ، وتدري هي أختي خو مو تجي وتصرف على نفسها وآنه أخوها ، لازم أنه اللي أصرف عليها  ) ، عاد المرحوم هاتف الجبار لصديقه المرحوم حسان مرجان وأخبره بتفاصيل ما جرى ، والمعروف عن الراحل حسان مرجان سخائه الجنوني ، لذا قرر أن يدفع حصة ( حمدية ) مرة ثانية إضافة لمبلغ عشرة دنانير لحميدي لجلبها من البصرة ، وسلم المبلغ الى ( أحميدي ) الذي رفض بدوره أن يأخذ هذا المبلغ مصرحا بأن ذلك عار سيلحق به إن فعلها ، وتحت التأثير الوجاهوي لهاتف الجبار قبض أحميدي المبلغ وذهب الى البصرة وجاء بحمدية أخته وأجريت معاملة انتقال الملكية للحاج حسان مرجان ، بعد أن أنتهى موسم الركود بعمل أحميدي ، وبالمناسبة فأن أشهر الشتاء تعتبر من أشهر الركود إليه ،  لأن الأطفال لا يختنون بهذه الأشهر ، والقلة القليلة من المترفين يتزوجون أيام الشتاء ، والفقراء لا يتزوجون بالشتاء لأن مصاريفه أكثر من الصيف ، ومثلا لذلك من أين سيأتي بأسرة النوم لضيوفه من الأقارب وغيرهم وكما يقال ( الصيف فراش الفقير ) لذا فالفقراء لا يتزوجون شتاءا إلا ما ندر ، ناهيك عن أن موسم الركود بشهري محرم الحرام وصفر ومعروفة طقوسهما الدينية ، إضافة لشهر رمضان حيث تعطل كل المناسبات إلا الدينية منها ، وفي موسم عمل ( أحميدي ) جمع المبلغ الذي أعطاه له الحاج حسان مرجان وهو ثلاثون دينارا وذهب بالمبلغ إليه ، أستقبله الحاج حسان بوجهه المألوف مبتسما له وقائلا ل ( أحميدي ) ، ( آمر عمي أني حاضر شتريد ) ، أخرج ( أحميدي ) مبلغ الثلاثون دينارا وقدمها للحاج حسان مرجان ، قال له الرجل ( عمي هاي شنو ) ، أجابه أحميدي ( هاي القرضه اللي أنطيتنياها ) ، فقال له حسان رحمه الله أنا لم أعطك قرضة مالية وإنما هدية متواضعة لنبلك يا ( أحميدي ) ، أصر الرجل على دفع المبلغ وأصر الآخر على رفض استرجاع النقود لأن الحاج حسان لا يسترجع ما يعطي .

        قد يتبادر لذهن القارئ الكريم ما علاقتنا بهذه القصة التي قد نسجت من قبل كاتبها ، وأنا أقول بدوري أنها قصة حقيقية غير منسوجة ويعرفها الكثير من أهالي بابل الكرام ، وأقسم أن المرحوم هاتف الجبار قد رواها لي هكذا ، وربما يتبادر للذهن أيضا ما علاقتنا بقصة ( شعار ) ، وهنا أقول للجميع أن مثل هذا الرجل – الشعار - الذي يعد من قبل طبقات غير قليلة من الشعوب على أنهم لا يستحقوا الاحترام ولا ينجزوا وعدا أبرموه ، ودليل تخطيئهم ما رويت عن هذا الفنان – الشعار -  ، ولكن أقول هل أنجز لنا من أوعدونا بأن يصلحوا  حال العراق والعراقيين ، وواقع الأمر أنهم أصلحوا حالهم أيما إصلاح وتركوا ممن أوصلهم لكراسيهم يعانون الفقر والحرمان وقلة الخدمات ، بل انعدامها تقريبا ، ألا يجدر بهم أن يتخذوا من ( أحميدي الشعار ) قدوة ودرسا لهم ، للإضاءة ........ فقط .

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.