اخر الاخبار:
اخبار المديرية العامة للدراسة السريانية - الأربعاء, 24 نيسان/أبريل 2024 18:10
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

• وصار العمر محطات!! -//- نضال عبد الكريم

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

نضال عبد الكريم*

وصار العمر محطات!!

صدفة كان لقاءنا في موسكو. كنت أبحث عن صديق أو صديقة يشاركونني سهرتي التي نويت أن أسهرها وتوجهت إلى الأكاديمية الزراعية فلم أجد أحداً غير مهدي(1) الضيف عند صديقنا جوشن، فسألته: هل لك بالسهر؟ أجاب: وأنا أبوه .. قلت فلنذهب إذن ! وبدأت السهرة ورحلة التعارف.

حدثني عن رحلته من بادية السماوة على ظهر الجمال هو وصديقه الشاعر كريم كاصد وكيف عانى في الكويت واحتجز هناك، ومن ثم رحلة انتقاله إلى اليمن وحياته فيها وعمله في جريدة الثوري وإرساله إلى كوبا كصحفي يمني لحضور مؤتمر الحزب الشيوعي الكوبي. وكان كلما يسألني: هل نرقص؟ أقول له: أريد أن أسمعك فحديثك فيه أشياء ممتعة لم اسمع مثلها من قبل .

كان يكف ويستمر في الحديث فحكى لي بأنه يحاول إكمال الدراسة في موسكو وأنه يعيش حياة تشرد ولا احد يتبناه. كنت أصغي إليه باهتمام وبين قصة وأخرى هناك سيل من النكات والتعليقات الساخرة.ودعته بعدها ومضى ... وبعد أيام عرفت بأنه سيغادر إلى سوريا وان هناك جمعة صغيرة لتوديعه عند احد الأصدقاء فذهبت لتوديعه وكتبت له عنواني في موسكو وسافر كما يسافر كل الأصدقاء !المدهش إني استلمت بعد أسبوع رسالة يشكرني فيها على تلك السهرة ويقول أنه يراسل كل الذين يعرفهم في البلد الذي يغادره ومن يريد التواصل معه فليستمر . واستمرت المراسلة و أحسست من خلالها بأني أمام إنسان جميل الروح والوقع على القلب وبدأت صداقتنا تتحول إلى شوق وشيء يشبه الحب.. وبما أني لم أكن أعرف أين سيكون مصيري بعد التخرج ولم يكن الأمر بيدي فلم أتسرع ولم أفصح بشيء . بعدها كتب قصيدة وأرسلها لي ؛

ذلك الأبيض الداكن

اّه يا نفسي

كيف أكرهتني؛ مرة أخرى

على دخول النعيم الرهيب

جحيم الحب المحبوب

كيف مضيت بي ثانية ؟!

أنا الذي ضرب على قفا كفيه

بعصا الحب

أنا القابع في ظل الوردة التي ضيعها الناس

أنا الضائع كالظلً في الظلام العتيق ؟!

آه يا نفسي

كم تدعين وتكابرين

وأنت لا تملك آثارٍ على قفا الكفين

من سعادة غابرة ؟!

آه يا نفسي

كيف تُقبلين على غدٍ ابيض

شديد الغموض ؟!

أنت يا نفسي

أيتها القابعة في ظل الوردة

الضائعة في الظلام العتيق

المغامرة في الرحيل نحو الجحيم المحبوب

أنتِ

أنتِ

أنتِ

__________________ دمشق 1984

وهكذا اتخذت قراري بالسفر إلى دمشق ودمشق فقط لأن عشق الرسائل أصبح ناضجاً وجاهزاً للقطاف!!!! سألني في رسالة أخرى كم وزنك يا نضال؟ قلت 45 كغم أجابني سوف أزنك في المطار فإذا كان وزنك اقل من خمسين فسوف ارجع البضاعة !!! ضحكت وقتها ولم اخذ كلامه مأخذ الجد. وجاء يوم السفر ووصلت إلى دمشق وكان يوما شتائياً مشمساً وجدت فيه مهدي مع باقة ورد كبيرة في انتظاري في المطار.سلمت عليه وعلى صديقه الفنان قاسم الساعدي وقلت لهما لقد رأيتكم ورأيت شمس دمشق وأنا سعيدة ولكني سأرجع لموسكو لان وزني اقل من خمسين.. باي !!! فشدني إليه وقال عمي قابل حتى لو اقل من خمسين... وانطلقنا الى بيت قاسم وفيه استقبلني آل بيته بكل الرحب والسعة. قلت له قاسم أبي ونبال أمي فإذا كان لديك طلب فاطلبه منهما! فلم يكذب خبراً :خطبني منهما واستأجرنا بيتاً مفروشاً تزوجنا فيه بحفل بسيط ضم اقرب أصدقاءه وبدون ثوب عرس أو بهرجة.

كان يعمل بمجلة الهدف الفلسطينية وكان أكثر من نصف الراتب يذهب للإيجار والباقي لا يكفي لسد الرمق... وبدأت محطة البحث عن عمل لي وكانت الإجابة دائماً هي عندنا فائض من المهندسين والقطاع العام يعتذر لأن مصانعه صغيرة ولا تحتاج إلى مهندس. كنا نحتال على الوجبات احتيالاً وكان يحزن علي باعتباري بنت عز فأقول له هون عليك فعندنا اليوم القليل من الرز سأطبخ تمن طماطة... و في اليوم التالي أجد كمشة من العدس فأطبخها ونأكل ونضحك ونقضي أوقاتا حلوة بين المكتبة الظاهرية وسينما الكندي والنادي السينمائي وفي البحث عن عمل مناسب لي دون جدوى. حملت بطفلي الأول وسارت الأمور بشكل عادي حياتياً ولكننا نزداد حباً وتمسكاً ببعض. كان صديقنا المترجم صالح علماني يقول دائماً "أراكما مثل عصفورين حنونين !!" ولكن حدث ما عكر صفو حياتنا إذ فقدت الطفل في شهري السابع من الحمل بسبب سوء التغذية وعدم الالتزام بالذهاب إلى الطبيب في المستشفى. حاولت التخفيف عنه فقلت لقاسم: "عندما تأتي غداً اجلب معك بلنكو وضعه في كيس المغذي و لن ينتبه عليك أحد" قالا لي "ملعونة تنكتين وأنت في حال يرثى لها". قلت لهما: "أنا هكذا دائماً صلبة أمام الصعاب". بعدها انتبهت إلى إني امتلك ستة أساور ذهب بيدي لبستها عند نجاحي في السادس الابتدائي وبقيت في يدي حتى تلك اللحظة. قلت له نحن نملك ثروة اذهب وبعها فذهب على مضض واتضح أن الصائغ الذي اشتراها هو نفس الصائغ العراقي الذي اشتراها منه أبي وعرفني بعدما سأل عن اسم أبي . كم صغيرة هي الدنيا. ورجعنا إلى حياتنا بين السينمات والمسارح والأمسيات الأدبية حتى ضاق بنا الحال أكثر فحزمنا أمتعتنا واستدنا مبلغاً من الحزب وغادرنا إلى ليبيا وهناك بدأت محطة اشد قسوة .فقد وصلنا بنغازي بعقد عمل لمهدي وعين فورا كمدرس في معهد إعداد المعلمات ولكن لم يكن لديهم سكن حينها وقالوا :" دبروا رؤوسكم يا جماعة".

تشردنا بين بيوت الناس والفنادق. وفي كل مرة يقول لي: "سأرجع لسوريا" فأقول له: "لا عودة إلى الوراء، اصبر". وفعلاً.. بعد فترة حز في نفس عراقي جميل حالنا فأفرغ غرفة بناته و أسكننا فيها فبقينا عندهم ستة أشهر ثم حصلنا على مستودع في بناء و مساحته كبيرة ، قسمناه بقواطع وعملنا منه بيتا جميلا ولكنه بيت لا تدخله شمس ولا ضوء. و عندها فكرت بالإنجاب من جديد ولكن مهدي رفض وقال لي: "انسي الموضوع وهذا موقفي. ليس لأني لا أحب الأطفال بل لأني أخاف من عدم قدرتي على تلبية حاجاتهم!!!" قلت له: "وضعنا الآن لا بأس به وهناك عناية جيدة بمريضات السكر الحوامل". ووافق أخيراً... و تمنيت أن تكون بنتاً هذه المرة وكان لي ما تمنيت. كنت ارقد في المستشفى كلما اضطرب السكر ويأتي هو لزيارتي يومياً فأطلب منه أن يحكي لي حلقة اليوم من مسلسل سوري للأطفال كنت أتابعه... فيجلس ويقصها علي حتى جاء موعد الولادة. وخاف علي كثيراً من العملية القيصرية ولكني كنت أقول له إنها عملية بسيطة وكل النساء يعملنها ولكنه كان لا ينام الليل من قلقه علي حتى جاءت ابنتنا بدون خسائر أو أضرار ولدت سليمة معافاة وجلسنا نتناقش بالاسم الذي سنختاره لها. طرح هو عدة أسماء وقلت أنا: "أطياف"... فصفن وقال لي: "فليكن أطياف كما تحبين" و أنشد وقتها يقول

سميتها أطياف بنتي الوحيدة ... علّي أرى في النوم عيشة سعيدة

وقال "وحيدة" لأنه كان متأكداً من أني لن أفكر بطفل ثان. والجميع قالوا: "طبعاً! تسمي كذا أسماء لأنك شاعر!" فيضحك ويقول: "إنه اختيار نضولتي!!"

عشنا في ليبيا ثلاث سنوات ونصف. بدأ مهدي يتضايق من القذافي وحكمه و التخلف الذي يلف البلاد... وبدأت هجرات العراقيين إلى الغرب فقلت له: "فلنسافر مثلنا مثل الآخرين إلى أوروبا" فقال: "لا. لا أريد الابتعاد... سأموت كشاعر إذا عشت هناك و إن كنت تودين السفر فسافري أنت و أطياف!" وضعني في اختبار عسير فقلت له: "لن أتركك مهما حدث". فقال: "نعود إلى سورية". قلت له : "أنسيت ما ذقناه من عذاب وجوع فيها؟" قال: "الآن الوضع مختلف فنحن نملك المال الذي يوفر لنا عيشة كريمة". وكان له ما يريد. عدنا إلى سورية مع أطيافنا و أطياف .

هذه واحدة من قصائده التي أحب أن يسمعني إياها كل فترة. كان يستحسن فيّ أنني عندما يقرأ الشعر أشعل له سيجارة كلما انطفأت سيجارته أو أسقيه رشفة مما يشرب فيحب هذا فيّ كثيراً...

حالة حب

يحدث أحياناً

أن أنظر إليك نظرة محددة

جانبية أو من فوق

فأحس بأنني موعود بك منذُ زمن بعيد

وتحسين بنظرتي فتبتسمين !

يحدث أحياناً

ونحن معاً نجلس في الباص

أو نسير متلازمين

يحدث أن اشتاق إليك

أو تشتاقين إلي

فنلتفت إلى بعضنا

ونبتسم دون حاجة إلى توضيح!

يحدث أحياناً

أن تمتد يدانا في لحظة واحدة

إلى الشيء نفسه

وللغرض نفسه!

يحدث كثيراً

أن ننظر لبعضنا نظرة محددة

جانبية أو من فوق

يحدث كثيراً

أن نشتاق إلى بعضنا ونحن متلازمان

يحدث أحياناً

يحدث كثيراً

يحدث دائماً دمشق 1985

في دمشق نصب علينا صديق سوري و أخذ كل ما جنيناه من ليبيا واختفى. تألم مهدي كثيراً... ليس على المال الذي يروح ويأتي بل على من كنا نسميه صديقاً. كانت قرصة مؤلمة لنا انتقلنا بعدها إلى حلب وسكنا في بيت صديقنا الذي آوانا في ليبيا وكان هو في لندن. عشنا في بيته 14 عاماً دون أن يطالبنا بإيجار أو مقابل. كانت سنيناً هنية وكان بيتنا ملتقى لكل من يحب السهر والموسيقى والشعر. سهرة الخميس كانت قائمة دون اتفاق. كان يتمشى لساعة كل صباح في حدائق حلب وكنت أفيق كل صباح وعند راسي كأس مملوءة بالياسمين أو أي من ورود الموسم وبقيت أصحي على ياسميناته لحين وفاته .

بعد ذلك انتقلنا إلى الأشرفية الى بيت صديقنا عدنان عاكف وبدأت أحوالي الصحية تسوء و أصبت بإعاقة لازمت فيها الفراش لـثلاث سنين فكان لي العون والحبيب والمساعد وظل يحمل إلي الزهور كل صباح ويقوم بواجبات البيت وتلبية طلباتي واستقبال المعالج الفيزيائي الذي كان يحاول أن يجعلني أقف فقط ولكن رجلاي لم تعودا تحملانني. كنت أصرخ صراخاً فظيعاً والمعالج يقول: "ليس هناك طريقة غير هذه وستمشين يا نضال وواثق من ذلك." كنت اطلب منه استراحة وأقول: ؟سيظن الجيران عندما يسمعون صراخي بان زوجي يضربني وإلا فلماذا هذا الصراخ كل يوم؟" كان يضحك ويقول: "لا عليك سوف أجعلك تمشين". ومهدي يعتصر قلبه ألماً عندما أتأوه و أبكي أحياناً وعندما قاربتُ الشفاء مرض مهدي بالكبد و عرفنا انه لن يعيش أكثر من سنتين... وكانت الفاجعة التي كسرت ظهري. فقد كانت صحته في تراجع سريع ودخل المستشفى وكانت أطياف قد انقسمت شطرين بيني وبينه ولكنه تحسن قليلاً وعادت به أطياف إلى البيت ومعه باقة ورد كبيرة وقال كل سنة وأنت سالمة اليوم عيد زواجنا. لم ينس هذا اليوم رغم مرضه... يا للرجل العظيم.

استمريت في علاجي إلى أن استطعت أن أخطو بضع خطوات باتجاه باب الغرفة وسط تهليل مهدي وصلواته على محمد و آل محمد. كنا نجلس كل في فراشه أمام التلفزيون وكان يطرب لسماع زهور حسين وداخل حسن وعزيز علي ويوسف عمر وحبيبه اليمني أبو بكر سالم... كانت عيونه تدمع ألماً ولوعة لفراق بصرته أو ربما لأنه يعرف بأنه سيموت ويدفن في حلب. كان يذوب أمام أعيننا رغم إرادته الجبارة والالتزام بالدواء والطعام دون ملح أو لحوم وأنا أين كنت؟ جالسة في فراشي لا استطيع أن أقدم له كاس ماء أو حبة دواء.... إلى أن جاء يوم فقد فيه الذاكرة والتواصل... أصبحت أحكي معه فلا يفهم ما أقول. شعرت بخطورة وضعه و اتصلت بأصدقاء شباب لنا وجاءت أطياف وعندما وضعوه على الكرسي لنقله الى المستشفى نظر الي نظرة ذات معنى وقال: "أنا ذاهب لأموت !!!! سأموت ..." ونقل إلى مستشفى خاص وعملوا له الإجراءات الاسعافية وأنا اجلس في البيت لا حول ولا قوة لي سوى الاتصال كل عشر دقائق. قالوا لي انه نقل إلى مستشفى حكومي ثم إلى العناية المشددة... وقتها عرفت أن لا أمل يرجى وفارق الحياة في الساعة السابعة صباحاً من 30_11_2011.

كان سريره في الغرفة مليئاً بالمعاجم والكتب والجرائد وقصاصات كان يكتبها بصعوبة إضافة الى القران الكريم الذي لم يكن يستغني عنه. قلت لأطياف: "أنت بطلة يا ماما.. فلندع الحزن جانباً ونخرجه في جنازة لائقة." وفعلا اتصلت بمكتب الحزب وبكل أصدقاءه وكلهم حضروا بسرعة وقلت لهم: "أريد ان أدفنه في قرية شيعية قريبة من حلب، فيكفي انه سيدفن خارج الوطن" وكان الوضع وقتها خطراً ولكنهم جازفوا ودفنوه في "نبّل" وأنا في البيت انتظر عودة المشيعين .

قال لي احد أصدقاءه: " لقد دفناه في نبّل كما طلب" قلت له: "ماذا؟" قال: "لقد أوصاني بأن يدفن في نبّل إذا مات". قلت :"الحمد لله". لقد نفذت وصيته دون أن أدري بها وهذا أيضاً من توارد الخواطر بيننا.

زرت القبر مرة واحدة قبل مغادرتي حلب وكان الريف معبئاً بالدبابات والرصاص... كانت مجازفة إذ أن اشتباكاً كان من الممكن أن يقع في أية لحظة. كان القبر على طرف مزرعة والعصافير تزقزق... قلت في نفسي: "لا بد أنك مسرور الآن فنم قرير العين يا حبيبي".

ودعته ومضيت. قريباً ستمر ذكراك السنوية الأولى فهل من يقول لي كيف أصل إلى نبّل و أبكيك و أضع وردة على قبرك ؟؟؟ هل يوجد أقسى من ذلك في هذه الحياة الفانية؟

ستظل في القلب أبا أطياف فنحن لن ننساك.

وداعاً ايها الحبيب الرائع والحنون والطيب والإنسان!!!

وداعاً.

دمشق 11-11-2012

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

*زوجة الشاعر مهدي محمد علي

(1) الشاعر مهدي محمد علي

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.