اخر الاخبار:
اخبار المديرية العامة للدراسة السريانية - الأربعاء, 24 نيسان/أبريل 2024 18:10
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
"انتحارات القربان المرعبة" تعود إلى ذي قار - الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 11:16
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

• قطارات الأزمنة الرعناء ( قصة قصيرة )

حميد الهجام

 

    قطارات الأزمنة الرعناء

 

Je sais la force des mots

     La force des mots tocsin

   Maiakovski٭

 

فور هجت نار رغبتي في السفر، أجلت بصري عبر زاوايا الغرفة و فوق الرفوف إلى أن لمحته مختبئا بين مجلدي موسوعتي الإنجليزية، الرابع و الخامس عشر.نهضت ثم أمسكت بخناقه حتى كادت عيون حروفه تنخلع من محاجرها .في منتصف الطريق إلى محطة الانتظار مررت على شيكو بائع السجائر بالتقسيط و اقترضت منه جوج ماركيز٭,و هكذا كنت جاهزا للسفر.

مثل كل المحطات كانت المحطة ،قطارات و مسافرون و حقائب و آمال،و ضوضاء و ظلام و أحلام.بسرعة نزلنا الدرجات المبلطة بالرخام الإيطالي المفضية إلى الرصيف.كان الظلام دامسا في ذلك المساء،يتساقط سخاما على أرصفة الصفحات و لولا أنوار مصابيح النيون لما كان بإمكاننا رؤية فضاء المحطة. بينما في الخارج، كانت الريح تهب، من كل الجهات ،ريح زعزع، كانت تزمجر و تعول منذرة بشتى الاحتمالات ،أهونها كان احتمال عاصفة هوجاء.

فور توقف القطار اندفعت صاعدا درجات باب العربة و في الردهة المفضية إلى رواق المقصورات انبثق لا ادري من أين إحساس لعين بأني ربما أخطأت القطار...استغربت لانهمار مثل هذه الأفكار الخوافية٭ في لحظات السفر بالذات .ظلت واقفا في الردهة غير مبال بجلبة المسافرين و صفارات القطارات ،أحملق ببلاهة ميكروسكوبية في الأشكال الهندسية المرسومة على امتداد أرضية العربة .كانت أقدام ألاف الخلق قد تركت بصمات أوساخها ،هناك.بعد برهة غمرني دفء عابر يغري بركوب مغامرة ولوج رواق المقصورات و التجول عبر العربات, و كان القطار قد انطلق من أوستند على إيقاع موسيقى غراهام غرين٭ الآسرة...

 

"و بعد ذلك, حل الظلام, و لم يعد المسافرون يرون في النوافذ سوى انعكاس قسمات وجوههم الخاصة."٭

 

كما يحدث عادة في بداية كل الأسفار نتتحرك غريزة الرغبة في استكشاف الآخر ،المسافر الآخر . تحدث أشياء تهب السفر تلك النكهة الحميمة التي تجعل منه شيقا و رائعا و يعبر عن شوق الإنسان إلى الترحال و الانفتاح على المجهول، ترى وميضا غريبا يرتسم في عيون الخلق. جولة سريعة بين العربات كانت كافية لي حتى أتعرف على العديد من  "لوريون اكسبريس"٭.

في تلك الأثناء كانت مخالب ميات-اليهودي الماكر-مسافر الدرجة الأولى قد انقضت على قلب الحسناء الذابلة كورال موسكر إثر نوبة برد ألمت بها، وقد ألمح لي غرين باحتمال أنها تصنعتها-تجاذب الأقطاب ليس إلا- و في الآن ذاته تسللت، و بشكل كاريكاتوري، عاطفة الدكتور شتاين٭ إلى قلبها.

 كان الحديد ينهب الحديد و القطار سائر في اتجاه كولون آن داهمني من جديد ذلك الإحساس اللعين بأني ربما أخطأت القطار,و كان كأس القهوة قد ابترد, و سيجارة ماركيز تحترق "carpe diem"ها ٭مختنقة بين شفتي أناملي الصفراويين ،حين انتفى "لوريون إكسبريس"بركابه و عرباته و حل محله قطار آخر من نوع آخر، و إثر صعقة خيالية ومضت في ذهني رحت أصادف خلال تنقلي بين العربات كائنات من عالم آخر، من كون آخر.

في إحدى عربات الدرجة الثانية تحت الصفر نقرت على نافذة إحدى المقصورات .لم يجبني أحد. فتحت بابها و دلفت مباشرة  .

في الداخل قطبت حاجبي و تصنعت ملامح المسافر الشرس،خزروني حينها بسهام نظراتهم و حين لم يرف جفني أطرقوا رؤوسهم الواحد تلو الآخر ،و تزحزحوا مفسحين مساحة في المقعد المكسو بالجلد الأحمر.اقتعدت وكانت رائحة أنفاسهم تكاد تجعل التنفس مستحيلا .رحت أسكع عيني بين زوايا المقصورة،أنابيب الالومينيوم تحتضن الحقائب ،العالم خلف النافذة يركض الى الخلف،أجساد ناحلة و ملامح أبناء الحي الشرقي تبدت واضحة من خلال تطلع نظراتهم الباهتة إلى ما وراء الظلام،أدركت في تلك اللحظة أنهم كائنات وثبت عيونهم فوق جدران معاناتهم و لا يسعهم هروبا إلا التطلع إلى ما وراء المجهول.

قبالتي جلس كهلان.كانا مدثرين بمعطفين أثار حنقي تنافر لونيهما ،معطف أحمر فاقع  و الآخر كان أسود فاحما.كانا محط فضول جل الركاب .طبيعي و قد كانا بمعطفيهما الطويلين يبدوان كبهلاوين إضافة إلى أنهما كانا من ذلك النوع الذي تصفه ابنة خالتي كارمين ب٭"étiqu" يعني النوع المليء بتلك العادات المستهجنة،يغمزان دونما ضرورة،صاحب المعطف الاسود كان يحك حاجبه الايمن و يتمتم بشكل مبهم،أما الآخر فقد كان يهز منكبيه و يتأفف و لا تستقر نظراته على مكان محدد،كل الدلائل كانت تشير الى أنهما مقبلان على نوبة انهيار حادة،و هذا ما سيتأكد جليا فيما بعد إذ بعد برهة و كما لو أنهما أصيبا بمس من الجنون انتصبا وسط المقصورة و نزعا معطفيهما و بعد أن تبادلا النظرات تصافحا و عاودا الجلوس .استغرب جل ركاب  المقصورة إذ شرعت نظراتهم تتقاطع في اندهاش واضح.أنا بدوري لم أستسغ مغزى تلك المزحة السمجة فتساءلت في سري.

ما لذي يدفع شخصان يبدوان في كامل قواهم العقلية إلى مصافحة بعضهما بهذه الطريقة؟

الغريب هو ما حصل بعد ذلك،إذ راحا يتطلعان بصلف تجاه الآخرين ،و بعد هنيهة،لبسا معطفيهما وانتصب ذو المعطف الأسود وسط الفسحة بين جانبي المقصورة و راح يخطب وسط ركاب المقصورة مستعينا بيديه الاثنتين ..

-البرد قارس و الليل أليل و من لا يملك معطفا أسود لن يصمد في وجه العواصف الهوجاء...

شاب في العشرين من عمره كان يجلس لصقي، استبدت به نوبة من البكاء و النحيب،ارتمى في لحظة اهتياج على يد الخطيب اليمنى و أمسك بها و راح يلثمها بعنف حتى خلته سيلتهمها .ارتعب الخطيب في تلك اللحظة و اقتلع يده بصعوبة ثم أومأ إليه في اتجاه باب المقصورة.غاب الفتى و في تلك الأثناء انهمكنا نحن في تهدئة الخطيب الذي تمادى في جنونه و قد انشغلنا بمسح شدقيه مستعينين بأوراق كلينيكس٭.

 استنفذ الخطيب تلك الطاقة الجبارة و كان قد أغمي عليه حين عاد الشاب ذو العشرين ربيعا مرتديا معطفاً أسود ، كان رغم لونه الزاهي بارع التصميم إلا أذناه فقد كان طولهما يوحي بالغباوة ربما لأنهما كانا يشبهان أذني حمار وحشي فقد كانت ترقطهما خطوط بيضاء.حتى تلك اللحظة ظل ذو المعطف الأحمر رابضا في مكانه يراقب المشهد ببرود مريب بينما تحلق جل رواد المقصورة على ذو المعطف الأسود و الشاب الذي حدا حدوه و بصراحة فقد أعجب الجميع بأسلوب ثناء ذلك الشاب على معطفه  في الوقت الذي كان يصيح ووجهه يتضرج دما كلما دوت حنجرته بتهاليل النصر...بعد برهة اندفعوا مهرولين تباعا و كان لوقع خطواتهم على أرضية الكاوتشو ذلك الصوت الكتيم الأصم المتواتر الشبيه بصوت فرقعات طبول جوقة تمشي في احتفال تحت أرضي.لم يكد الوقت يكفي لخلاياي العصبية كي تستوعب خبايا ما يقع حولي حتى عادوا مرتدين معاطف سود و راحوا يتفحصونها بإعجاب يشبه إعجاب الأطفال بلعب عاشوراء.

عم الهرج أرجاء المقصورة و اصطف ذوي المعاطف السود في صف واحد إزاءنا و راحوا يهدرون دونما تنسيق و لا تنظيم حتى استحال كلامهم ضجيجا خانقا شبيها بضجيج الأسواق لحظة المزادات العلنية.

اشتد هيجانهم و بدوا و كأنهم أصيبوا بذلك الداء الذي أصيبت به الأبقار في بلاد العم هوكسلي٭ و الذي يسمونه  "جنون البقر", فقد راحوا ينزعون عنهم المعاطف و يتباهون بها على بعضهم البعض ثم نبتت لهم لحي و تجهمت وجوههم على نحو مفزع.في غمرة اختلاط الحابل بالنابل انتصب العجوز ذو المعطف الأحمر و صرخ بأعلى صوته مخرجا من تحت إبطه لافتة مكتوبة بالأحمر و مرقشة بصور آلات يستعملها الفلاحون و العمال.انبهر كل من كان في المقصورة و تدلت عيونهم حتى لامست صدورهم من فرط الانبهار.عم السكون و الكل كان ينتظر ما ود قوله ذلك الكهل.بعد مقدمة حماسية و بصوت شجي ينم عن قدرة لا تضاهى في فن الخطابة صاح فيهم.

-معاطفكم لا تساوي شروي نقير ،إذا اشتد البرد لن تكون بمدفئة لكم ،ثم التفت في اتجاهنا و قد كنا على يساره...

-المعاطف الحمراء ,وحدها دون غيرها ,أتبث الزمن قدرتها على مقاومة العواصف الهوجاء...ثم شمر عن صاعديه و تابع...من يريد اقتناءها فليتبعني.

غادروا المقصورة و قد كان بابها الزجاجي المزلاق قد انتلف و تدلى عل متكأ المقعد .لم أتذكر ما حصل في ذلك الوقت بالضبط إذ كنت شبه منوم،لكن أذكر أنهم توافدوا تباعا بعد ردح من الزمن يرتدون معاطف حمر طويلة على شاكلة معاطف عرابات آل كابون ذات أذان مصممة بعناية فائقة على أحدث تصميمات المودا على خلاف المعاطف السود .عمت الفوضى أرجاء المقصورة حيث انشبك الفريقان في عراك بالأيدي في بادئ الأمر ثم بالسلاح الأبيض و بعد حين لمحت رشاشات عوزي الإسرائيلية تقذف حمم الحقد من مواسيرها و تردي المئات قتلى،و الآلاف جرحى.

سألت أحد الركاب، كان يجلس إلى جانبي  و قد بدا أنه غير عابئ بما يحدث حوله من موت و دمار ...

-هل يوجد تخفيض في أثمنة المعاطف ..؟

-لا ،إنها توزع مجانا في الغرفة ألما قبل أخيرة..

حتى المعاطف السوداء؟...أضفت في اندهاش.-

أجل حتى المعاطف السوداء توزع مجانا ...تنافس بين مصنعين ..أظن.-

رغم جاكيتة جلد الجاموس التي كانت تغنيني عن المعطف استشعرت بردا،ربما توهمت ذلك فقط، فكرت في أن أحدو حدوهم و قد شجعت مخاطبي لكنه لم يبد حماسا للفكرة...غادرت المقصورة و رحت أتسكع عبر العربات مسألة أن أغير الجو فقط ,إذ سرعان ما صرفت النظر عن فكرة اقتناء المعطف ...لم أكن في الحقيقة في حاجة إليه فأنا ابن البراري و قد تسلقت الجبال الوعرة رفقة أبي و أنا لما أزل في دهشة الولادة ولم أنفزع من تقلبات مزاج الطبيعة في ذلك الزمن الذي يبدو الآن بعيدا بعد الثريا.

لوريون إكسبريس كان ينهب الحديد نهبا و رغم الشعور بالدفء الذي كانت توحي به زخارف الخشب الذي يكسو العربات و المقصورات و الموكيت و المصابيح ذوات الإطارات المذهبة و النقوش الصغيرة البارزة في مقابض الأبواب،كان الإحساس بالضياع و التيه طاغيا أكثر من أي وقت مضى ،الإحساس نفسه الذي يكبح أي رغبة في البحث عن معطف حين ينتفي المعنى عينه في أن يكون للمعطف نفسه معنى...

وجدت جوزيف شتاين أو جون في مقصورته يتأهب للنوم في سريره و لا أدري ذلك الانجذاب الغامض الذي كنت ضحية له في تلك اللحظة و السبب الذي جعلني أتعاطف مع الحالم بالثورة عوض الحالم بالثروة ميات اليهودي اللعين.في تلك اللحظة تبدت إلي جلية عظمة الفن .المسافة المتبقية حتى كولون طالت و استطالت.فكرت أنه الإطناب دون شك...

أبى القطار إلا أن يصل أو لنقل أنه امتنع عن الوصول أو لنقل بعبارة أكثر دقة أن الرغبة في الوصول هي التي تنزل بثقلها على الذهن لتوجه كل حواسه صوب الهدف المجهول ...كل ثانية تستنسخ إلى ثوان و الدقيقة إلى دقائق ... بقدرة قوة أجهل مصدرها انتفت الأروقة المنارة و الأرضية الممكتة و حل محلهم مرة أخرى ذلك الظلام المغبش بخيوط ضوء مختلس من ضوء قمر راكض إلى الخلف كمجنون...الوجوه نفسها، تدخن السجائر نفسها و تسعل السعلات نفسها و تنقد النادل نفسه و تغادر المقهى نفسه نحو البيت نفسه نحو الزنزانة نفسها.كان المنظر رتيبا و بدا لي و أنا في ذروة دواري أن السفر أرحم و لو في قطارات خيالية مثل قطارات غرين اللاهوتية...

حين هممت بولوج العربة الحمقاء، في الردهة، اصطدمت بوكيلي مصنعي المعاطف .كانا هناك، واحد على اليمين و الآخر على اليسار,و أمامهم المرحاض و بابا العربة المتقابلين .كان منظرهم مثيرا للسخرية حقا إذ كانا يصطنعان وجوها واجمة تخترقها ابتسامة الصلف تلك التي تعبر دون شك عن ذلك الشعور المرضي بأنهم أذكى من الآخرين و أن بإمكانهم أن يبيعوا "ايفري تينغ٭"إلى السذج معتمدين تقنيات الماركيتينغ٭ النظري...

تجاهلتهم متعمدا و ولجت المرحاض.بلت تمويها ،و لم أنس أن أضغط على مكبس معدني كان قبالتي ،لكن،و أنا انظر إلى أسفل كرسي المرحاض، لمحت الأرض تركض هي الأخرى في أسفل أنبوب المرحاض.استغربت جنون الأرض لكنني تداركت استغرابي في لمح البرق حين تذكرت أنه القطار المسافر هو الذي يركض و يوحي بأن...نيوتون و القطار...

حين غادرت المرحاض وجدت الوكيلين منهمكين في شغلهما و الردهة ضاجة بالركاب، بعضهم جاء بغرض اقتناء معطف و الآخر لاستبدال معطفه القديم.أثارا انتباهي شخصين كانا يقفان إلى جانب وكيلي المعاطف ،ظننتهما يساعدانهم.حين استفسرتهما و أجاباني كدت أموت من الضحك.واحد يريد استبدال معطفه الأحمر بالأسود و الآخر الأسود بالأحمر و ظلا واقفين ينظران ببلاهة ينتظران أن ينتبه اليهما وكيلي المعاطف. ظل صاحب المعطف الأسود يقف أمام وكيل المعاطف الحمراء و صاحب المعطف الأحمر أمام وكيل المعاطف السوداء.بدا الأمر ضربا من البلاهة و العبث المفرط في لاعقلانيته،خلتهما ضريرين و ارتعبت إثر مروق خاطر لعين هجس لي أن المعاطف المونوكروم٭ تصيب بالعمى.ارتبت فتوجهت إلى أقصرهم ملوحا بأصابعي.لا لم يكن ضريرا فحين سألته...

ـ تريد استبدال معطفك الأسود بالأحمر؟

أجابني بنبرة متلهفة..

-نعم ...أريد أحمر ...إنها فرصة..رباخاس٭...

اعطني معطفك...و أخذت منه المعطف

ناديت الأبله الأخر...

-تريد أنت أيضا أن تستبدل...

-نعم...أعطيته معطف صديقه و أعطيت صديقه معطفه...

اشتغلت وسيطا و أشرفت على عملية التبادل التي كللت بنجاح باهر إذ مضيا فرحين يهتزان كنوابض بعد أن أمطراني شكرا...

لا أتذكر المدة التي قضيتها هناك في تلك الردهة و لأنها كانت لحظات ممتعة مليئة بالحياة و الحركة فقد مرت بسرعة رغم كثرة الطرائف التي حدثت إذ ظللت استقبل الذين يعيدون المعاطف و أشرف على استبدالها فيما بينهم إلى أن لاح لي أحد الأصدقاء ,أحد شخوص "فضائح فوق كل الشبهات٭"كان غريب الأطوار في تلك اللحظة و جاء بهدف إعادة معطفه لم يفسر لي سبب رغبته في التخلص من معطفه قال فقط أنه سيرتاح دون معطف و أنه اتخذ قرارا مصيريا بأن لا يلبس معطفا ل..استمعت إليه و استلمت منه معطفه الأحمر الذي استحال أسود حالما لبسه أحد الركاب .استغربنا جميعنا أنا و الوكيلان الماكرين بيد أننا صرفنا النظر في الحال إذ كانت السوق رائجة .حين ألم بي التعب أخذت معطفين و رميتهما فوق كتفي و مضيت مزهوا بما أنجزته خاصة و أن الوكيلين توقفا عن البيع ليشكراني على مساعدتهما.على امتداد العربة كان ضجيج الركاب في المقصورات يتعالى...صراخ...نحيب ...بكاء...ضحك جنوني...بصعوبة شققت طريقي إثر التكدس و الاكتظاظ الناتج عن الشجارات و الاشتباكات بالأسلحة البيضاء...في مقصورتي و فيما كنت لصق النافذة رأيت انعكاس خشبة تلك الاركسترا و لا أدري أي فكرة مجنونة تلك التي دفعتني إلى استخراج ذلك المقص الصغير الذي كان يوجد دوما في حاملة مفاتيحي مع لواحق سكيني السويسري الأحمر ذي الصليب الوردي.رحت أتلهى بتقطيع رتقا من المعطف الأسود و أصوغ بوليغونات سداسية و خماسية و نجيمات و رحت أزركش المعطف الأحمر بمرح فقد قررت أن أرقش لونه الأحمر بالأسود و قطعت ياقتي قميصي الأبيض و ألصقتهما كما فصلت كذلك قبعة إيطالية و شالا ألمانيا و ساري هندي و عصابة تيبيتية و حزام صيني بعد أن نزعت بعدوانية فستان راكبة كانت في المقصورة و كان الفستان ذو لون فرمي  ...كل ذلك تم وسط تلك الزحمة و في تلك اللحظات اللامتناهية في الزمن ...

و كما  في لحظة برق اختفى القطار المجنون و حل محله لورين إكسبريس بكل بهائه و عظمته الغرينية.

وصل القطار إلى كولون و مثل جميع الركاب اندفعت مرتميا في أحضان محطة كولون و بداخلي رغبة في ارتشاف قهوة سوداء أخرى و تدخين سيجارة ماركيز أخرى قبل أن ينطلق بنا القطار إلى فيينا ...

فوق رصيف محطة كولون شربت قهوتي و دخنت سيجارتي و تذكرت و أنا أتأهب للعودة إلى غرفتي معطفي النظري المزركش و قد كان البرد قارسا .معطفي ثوبه الداخلي دمقسي و سميك أفضل مئة مرة من معطف ذلك اليهودي المدلل ميات ...استشعرت امتعاضا عابرا و أنا أحيي شيكو إذ تذكرت شخصية" فضائح فوق كل الشبهات" .سيموت المسكين من البرد و لا أدري ما الذي جعلني أتوقف أمام شيكو و أقرفص لأكتب في الصفحة الفارغة بين أستند و كولون ما يلي"ليس لديه خيار إلا خيار زينون الإيلي لا الرواقي٭  ...البرد لا أثر له و هذه المعانات مجرد وهم ... محض عدم...و يظل يحارب جيوش أوهامه..."

حميد الهجام

   شاعر و قاص و مترجم مغربي مقيم بسانغفورة  

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.