اخر الاخبار:
قاضٍ أمريكي يُغرّم ترامب ويهدده بالسجن - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 20:36
مصدر: صفقة «حماس» وإسرائيل قد تتم «خلال أيام» - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 11:00
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

قراءة في ديوان (قصائد مهرجانية)// آدم دانيال هومه

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

آدم دانيال هومه

 

عرض صفحة الكاتب 

قراءة في ديوان (قصائد مهرجانية)

آدم دانيال هومه

 

يُذكّرك الشاعر والأديب [ميخائيل ممو] بالنسور حيناً، وبالنوارس حيناً آخر، ويضعك في مهب رفيف القبّرات على الدروب الترابية ليأخذك على جناح شاعرية لها خصوصيتها، انطلقت محلّقة من الحبانية1  إلى بغداد ثم إلى السويد حيث العطاء الغزير على امتداد سنوات، ولم يزل النسر يحلق في آفاق الشعر والأدب عالياً على الرغم من الشدائد والمحن التي تعرض لها في السنوات الأخيرة.

ليس من العسير على من يقرأ قصائد الشاعر ميخائيل ممو، حسب تتابعها الزمني، أن يلمح فيها صورة من التدرج الواعي المتعمد نحو واقعية صلبة مشمولة بمزيد من البساطة ومزيد من الوضوح، كأنما كان يحاول أن يقترب من الهدف الذي وضعه لنفسه، في دور مبكر، وهو أـن تكون قصيدته واقعية مغلفة بالغموض، وبنفس الوقت تعطي شعوراً بأن وراء الكلمات ما وراءها. وهو يدرك جيداً، كما قال نزار قباني،: (بأن وظيفة الشعر هي أن يعطيك بطاقة السفر دون أن يتدخل في تفاصيل الرحلة، ومواعيد القطارات التي ستستقلها، وأسماء الفنادق التي ستنزل فيها. وأن اللفظة الشعرية تؤدي عمل جهاز الإضاءة (الفلاش). ويصبح الشعر إضاءة خاطفة عمرها أقل من جزء من الثانية. اللفظة الشعرية برق ورفة جفن، والتماعة سيف. إنها طيران عصفور).

يبدأ الشاعر ديوانه بقصيدة (عدتُ لا أطيق عتمة القبر):

(أحبائي

هلموا ارحلوا وعالم شعري

بساتين، ثمار تنضج، تساوم أمري

يرحل نهار وآخر، ويضجر سري

ويهتف الإلهام:

أنا الأمس

أنا اليأس

عدتُ لا أطيق رحلة اليأس

عدت لا أطيق عتمة القبر).

یبدأ الشاعر بإیقاع متزن /هلموا ارحلوا/، ثم يهتف /أنا اليأس/ عدت لا أطيق عتمة القبر/واليأس ھو الحزن، وموقع الحزن ھو الدَّاخل النفسي، ودلالته في التعبیر عن القلب كونه موقع العواطف والأحاسیس في التعبیر الأدبي، وموقع الحیاة، والدیمومة في الوجود الجسمي المادي. أما اليأس، ومفاعیله في اللغة واللسان فقد أودى إلى الصمت. والصمت لغة الخوف والانبھار، والمفاجأة. وقد یذھب الصمت إلى التأمل والمراجعة، والاستحضار أیضاً. فللصَّمت عوالمه، وفضاءاته، وتأملاته الساحرة بألوانھا، وما تفتحه من خیالاتٍ، ومشاھد، وكشفٍ له رونقه، وسحره. والصمت ینتمي لعالم التفكیر، والاسترسال، وعرض الصور، والخیالات. إنه صمت الحزن، والتأمل، والتفكر بما آل إلیه وجود الإنسان الآشوري، وما اعترى الطبیعة الآشورية من الركود والجمود اللذين هما أشبه بعتمة القبر.

وإن الشاعر الموجود في النص، والذي یتحرك على مساحة واسعة من آفاق الداخل والخارج، في عملیة مقصودة، لم یَعْنِ، لا من قریب ولا بعید، أنّ خروجه، ومن معه، ومن كان مثله، من (العراق) یشبه ذلك الخروج إلاّ من باب مغادرة السجن الكبير الذي كان فیه. لأنّ حركة النص، وتنامیه، وإیحاءاته، والحركة الملحوظة في السطح عبر الإیقاعیة التي فیه. وأخيراً، ھذه الحركة بكلّ ما فیھا من إشراق وشحوب، وتعدّد للمعاني، وإحالات واقعیة.

ويقول في القصيدة ذاتها:

(ويصرخ من فوقي الرعد

أنا الماضي

أنا التراث

عدتُ لا أطيق رحلة اللهاث

عدت لا أطيق عتمة القبر).

في اشتغال الشاعر /ميخائيل ممو/ على موضوعاته یعني بتفاصیل الموضوع الواحد، ویدخل في جزئیات ولم المشھد الوصفي لیقدم لوحات جدیدة فیھا الحركة، والدقة، والتفاصیل، ونفاذ البصیرة في المشاھدة، والإضاءة، والالتقاط، وحسن الرَّسم والتصویر.

يقول الشاعر في قصيدة (قراءة في وجه التاريخ):

(أرغب أن أتلوث بهيروشيما الديار المحظورة

أرغب في أن أمزق وأنثر تاريخ السورة

أرغب أن أُسجن فن ثغري تأثيرات الأقوال المأثورة

كغانية مأجورة

تلهو

في أوضاع

في أشكال

متفاوتة الصورة)2 .

هنا تطرق الشاعر إلى قضية غاية في الأهمية ربما لم يتطرق إليها أحد قبله في ذلك الوقت ألا وهو الإسلام السياسي الذي سيطر، ولا زال يسيطر على مجمل الخطابات السياسية في جميع الدول العربية والإسلامية. وبدأ يتوغّل في أدق التفاصيل بما يرتديه من أقنعة دينية مموّهة، فاقتحم على خصوصيات الناس، ودخل بين الإنسان وخالقه. وتدخّل في خصوصيات الأسرة وأسرارها، وفرض عليها القيود التي يرتأيها، وأوجب عليها الالتزام بما جاء في أدبياته بدون سؤال أو اعتراض. وفرض على الناس نوعية اللباس، ولغة التخاطب، وكيفية إلقاء التحية، وأسلوب الألكل، ونوع الطعام، وطريقة دخول المرحاض، وإلزام الزوجين بما عليهما فعله أو ممارسته حتى في الفراش. وأصبحت توجيهاتهم كتاباً منزلا ينبغي الالتزام بكل ما ورد فيه بدون تذمر أو اعتراض. وكل من يخالفه يُعاقب عقاباً شديدا، أما من ينفذها بحذافيرها فيُثاب. ناهيك عن العجائب والغرائب في فتاوى الشيوخ ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر.

1.   [الأغاني نوع من الدعارة، ومن يسمعها لأهله ديوث]. فتوى غريبة أثارت جدلاً وغضباً قالها الشيخ [أسامة عسكر] الداعية الإسلامى، حيث قال: [إن الأغانى والمعازف حرام شرعاً والأئمة الأربعة نهوا عنها]، مطالباً كل المقبلين على الزواج بألا يبدأوا حياتهم بالمعاصي عن طريق تشغيل الأغاني فى الأفراح. وأضاف: (إن المعازف وضعت بين المحرمات من الزنا والخمر، وهى أمور لا جدال فيها وإثم كبير، خاصة أن الأغاني اليوم أصبحت تدعو إلى الفسق والفجور)3 .

2.   أصدر شيخ سعودي فتوى تمنع النساء من مشاهدة مباريات كرة القدم، مدعياً أن هذه العادة تتيح للنساء النظر إلى أفخاذ الرجال المكشوفة. قال الشيخ أيضاً: (إن النساء لا يكترثن بمن يلعب المباراة ولا بالفريق الفائز أو الخاسر، بل يتابعنها فقط من أجل النظر إلى أفخاذ الرجال. قائمة على آية (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن).

3.   أصدرت منظمة إسلامية مقرها كالكوتا في الهند فتوى خاصة بحق لاعبة التنس الهندية (سانيا ميرزا) عام 2005، حذرتها من مخاطر ارتداء ملابس غير محتشمة أثناء اللعب لأنها تفسد جيل الشباب، وإذا لم تلتزم بالفتوى فستُحرم من اللعب. قامت هذه الفتوى على حجة مفادها أن ملابس (ميرزا) الرياضية  الفاضحة تخرّب عقول الشباب.

4.   أصدر الشيخ رشاد حسن خليل، عميد جامعة الأزهر في القاهرة، فتوى تفيد بإبطال وإلغاء الزواج بين زوجين إذا مارسا العلاقة الحميمية وهما عاريان. لكن يجب عليهما ممارسة الجنس بعد التدثر بالغطاء أو تحت غطاء السرير، وإلا بطل زواجهما.

5.   قال الشيخ عزت عطية رئيس قسم الحديث في جامعة الأزهر أن على الرجل أن يرضع من زميلته في العمل، بالتقام الثدي مباشرة، إذا أراد تجنب الخلوة غير الشرعية معها. دعى الرجل النساء إلى إرضاع زملائهن خمس مرات في اليوم على الأقل، لتأسيس علاقة أسرية معهم، وتفادي الفتنة والشهوة الجنسية.

6.   حرّم أحد الشيوخ في دولة أجنبية أكل الموز بدون تقطيعه يُعتبر حراماً، والهدف من التحريم هو ألا تخطر ببال المرأة صور وإيحاءات جنسية، كعضو الرجل الذكري مثلاً.

والمبكي المضحك أن الكثير من المسلمين في أرجاء العالم يلتزمون بهذه الفتاوي المضحكة وغيرها باعتبارها واردة في الأحاديث النبوية الشريفة لرسول الإسلام، ومن لا يتقيد بها مصيره نار جهنم خالدٌ مخلّدٌ فيها.

كما يقول في قصيدة (أغنية للوطن المحكم بالآغتصاب):

(وصية قديمة

موغلة في قدم الصمود

على مشارف دروب الرافدين.

وذات مرّة

على أطراف من النأي الكئيب

هبت الريح عاتية وبصوت مهيب

أنتم أبنائي النجباء

أصحاب ملك

أصحاب حق).

تتجلى الوجدانیة القومية في النصوص السابقة، كما تظھر الرَّھافة العاطفیة، وإحساسھا النبیل، (على أطراف من النأي الكئيب). فالشاعر هنا مندمج مع لوحاته إحساساً وتفاعلاً. وما تعابیر النأي الكئيب، وهبت الريح عاتية إلا التعبير عن الإیقاعات الرومانسیة، وتجاوز الواضح الصوري، إلى العمق التأثیري الغائب داخل النفس. والأھم من كل ذلك قوله: (أنتم أبنائي النجباء، أصحاب ملك، أصحاب حق). فهو يخاطب الإنسان الآشوري النجيب بأن لا يتملكه اليأس من الواقع المرير الذي يعيشه داخل الوطن الآشوري السليب، وفي المغتربات حيث التيه والضياع.

وفي القصيدة ذاتها يقول:

(تجهشون بالبكاء

تنقلون الحزن

عبر أسفار الشجن

تحملون الثقل

من أطنان المحن

تمخرون عباب البحر كالمسيح

وقاموسكم مصدر حق صريح).

كان فضاء النص، في هذا المقطع الشعري، فضاءً حزیناً، والرؤیة فیه رؤیة ذاتیة لكنھا إنسانیة وشاملة، وفیھا التأمل بالمصیر، والمآل. كان النص ببعده العام قراءةً كونیة للحیاة، والاغتراب، والتشرد، والذوبان رويداً رويداً في جرن معمودية الغرباء. لقد حفل النص بالومض الفلسفي: تنقلون الحزن عبر أسفار الشجن، تمخرون عباب البحر كالمسيح.

جمع الشاعر ميخائيل ممو مستویات جمالیة في شعره. جمع بین إنسیابیة النص، وعفویته وصدق مشاعره وأحاسيسه، وبین الاشتغال الفني في تركیب صوره، واختيار مفرداته. جمع بین النحت والاختیار، جمع بین التأني البنائي والاشتغال القاموسي الشخصي لمفرداته. اشتغل كثیراً على تفاصیل المكان وإیقاعه، وامتزج لدیه الذاتي بالموضوعي شأن جمیع الشعراء الكبار.

يقول الشاعر في قصيدته (هكذا يخبرني الزمن):

(حشرات هذا الزمان تتباحث سراً

تعكس الأضواء لتجعل قفاها للمفسدين ترنيمة

ومن عمقها لوحة لايفقه فحواها المترجلون

من الحضر، أو من قصبات لم تتمدن

في عصر يبغض أي تطاول أحمق).

في هذا المقطع المضمخ بالرمز هناك علاقات متداخلة حركية بين الأرض- الوطن- من جهة، وبين التيه- الإنسان الآشوري المشرد، من جهة ثانية. وكذلك بين الأسير، الآشوري المقموع داخل الوطن، وبين الأعداء المحيطين به من كل صوب. ثم يتجسّد الصراع الأخير في المقابلة الجدلية بين الأرض- الوطن- وبين الأعداء المغتصبين لهذه الأرض.

يقول في قصيدة (يا ابن آشور):

(يا ابن آشور

يا شعلة من نور

ماضيكم

كقرص الشمس في عتمة الديجور

كطلعة نيسان بين الزهور

حاضركم كالقمر الخجول

يرنو لظاهرة الذبول والأفول).

أخال أن الشاعر في هذه القصيدة معلق ما بين الأرض والسماء، يتلو شعره على شكل صلوات وتراتيل هي أقرب ما تكون إلى رؤيا يوحنا اللاهوتي. يحمل بداخله أحاسيس الأنبياء. وقد سيطرت فكرة الخلاص القومي على مجمل قصائده. ولكن هذا الأمر لم يمنع من أن تتفتح في جسد القصيدة أزهار عاطفية تذكرنا بالشوق والشغف الآشوري بتراب وطنه المقدس. إضافة إلى أن القدرة الفائقة في مزج العقلانية بالعاطفية قد أينعت، في نهاية الأمر، عن علاقة درامية رائعة التكوين.

 لذلك فإن شاعراً حقیقیاً وأصیلاً  كميخائيل ممو لا یمكن أن یتواطأ على یقینه، مثلما لا یمكن لنص حقیقي وأصیلٍ أن يغرد خارج سربه.

ولابد، قبل كل هذا، أن ننوه بأن لميخائيل ممو معاناة شخصية وقومية أليمة قد عبر عنها في جميع قصائده بإخلاص فني مرهف. فنحن لا نلمح زيفاً أو تصنّعاً في تحويل التجربة الواقعية إلى صنيع جمالي، بل نتفاجأ بعفوية مسيجة بالأسلاك الفنية. ولا شك أن التجربة الأليمة التي مر بها الشاعر برحيل فلذة كبده وهو في ريعان شبابه هو الذي أسبغ، في الآونة الأخيرة، على شعره هذه القشعريرة الرومانتيكية الأسيانة إذ لعبت في قصائده كإنسان ممزّق وضائع وقلق دوراً كبيرا فأغنته بفيض من المشاعر الكئيبة والأحاسيس المرهفة. ولا بد من القول: إذا كانت مسالك الشعراء والأدباء مسالك مختلفة ومتعددة يحددها ما يكون من ظواهر خصائصهم وملامح تفرّدهم، فقد كان نصيب الشاعر والأديب ميخائيل ممو من هذه المسالك نصيباً كبيرا نستطيع أن نتبينه إذا نحن نظرنا إلى مكانته في الحياة الأدبية على الساحتين الآشورية والعربية وأثره فيهما.

وأول ما يمكن ملاحظته من هذه الخصائص في حياة ميخائيل ممو هو هذا النموذج المتميز الذي يعبّر عن حرية حركة المثقف، وانفساح الأفق أمامه ليتكون على النحو الذي يشاء. لا تحكمه فكرة معينة، ولا ينصاع لنظرية سابقة. ولا تقف البرامج الضيقة دون تفتحه وازدهاره، وإنما هي القراءات الحرة، والاكتساب العفوي، والتزود الذاتي من حيث يحلو للنفس أن تتزود على نحو يتحقق معه التفتح والازدهار في كثير من الحرية، وكثير من الوعي الذي يلجم هذه الحرية حتى لاتنفلت من عقالها.

وفي بداية الختام لابد أن نقف طويلا أمام قصيدته الأخيرة في الديوان تحت عنوان (محاضر استجواب متبعثرة) حيث يقول فيها:

(بين رؤيا الفجر وعيوني

أصوات شوقٍ...

متاخمة

حدود اليأس

حدود البأس

تتماوج بين الحين والآخر

تركن في باب الاشمئزاز

رقيباً

تصرخ بي

أكتبها

دوّنها

وأعلنها

حياة الأمس... روح اليوم).

هذه القصيدة تتألف من تسع صفحات، والقصيدة الطويلة تملك من القدرة على الحركة والانتقال لما يكفي للتعرف على المساحات التي يسبح فيها الشاعر. ويمكن أن تكون كذلك تأريخاً للحياة البشرية التي يمارسها، وهذا ما تحققه قصيدة (محاضر استجواب متبعثرة).

ففي هذه القصيدة تخرج شخصية الشاعر من الماضي لتأخذ ملامح جديدة هي مزيج من شخصية الإنسان الآشوري العادي الذي يحكي باسم التاريخ بكل فخر واعتزاز. ثم تحكي الشخصية قصتها بطريقة المقاطع الشعرية المتلاحقة التي يتزاوج فيها الماضي بالحاضر، والتذكّر والتداعي. وهذا النوع من الشعر يتحقق إذا توافرت له الشروط، مستوى عالياً، إذ تتسرب من خلاله المعرفة الكامنة أو اللاشعورية.

وفي قوله: (ما بالك؟

ألا تعلم

بأن سأم السأم

وهج الألم).

يحاول أن يصحح الأخطاء المتراكمة، ويستقصي جذورها وامتداداتها. ويرفض أن يكون مجرد إنسان يركن لليأس وخيبة الأمل، كما لا يريد أن تكون حياته بكائية ينام على أصدائها الفكر الآشوري النابغ. وهو إذ يستنكر الظلم الذي لحق بشعبه، فإنه لا ينكر انتماءه إلى البسالة المتمثلة في الجذور التأريخية للإنسان الآشوري، لأنها الأرضية التي يتحرك عليها المصير، وتستمر فوقها الحياة التي يدعو إلى انبثاقها ونهضتها.

ثم يقول: (أين أنا من جثامين ملايين الأموات

فإن دريت أول لم أدرِ

سأظل علامة استفهام مرئية

في أعماق بحار هائجة مطوية.

في هذا المقطع يختزل الشاعر موت جميع شهداء الأمة الآشورية عبر العصور والأزمان. ويقف على الأطلال يراقب أخيلة الماضي التليد تمضي أمام بصره كالسراب لأنه يدرك جيداً بأن التغني بمحامد الأجداد، والإغراق في ترديد المآثر والأمجاد التليدة، بمغنٍ عن النظر والتأمل في الكثير الكثير مما يجب أن نكون عليه في يومنا الحاضر. وأن نتصرف لمعالجة الكثير من مشكلات جيلنا الحاضر، اللهم إذا كان الغرض من تقليب صفحات التاريخ إثارة كوامن الهمم، وبعث روح الجد والعمل والأمل مما قد يكون حافزاً على اقتفاء آثار الأجداد الميامين، والنسج على منوالهم في الجد والدأب والعمل المتواص.

ثم يستطرد الشاعر في القصيدة ذاتها، وبلغته الآشورية المقدسة قائلا:

(ةٍحمونًأ بوة حًأروةِأ

وهِنت قِأ هِنت اٍمِرِأ

فتشِأ دلِأ مِرِأ

اٍيكِأ يلِآ اْنِشوةِأ؟

أيكِأ يلِآ كًانوةِأ؟

اٍيكِأ يلًى شرِرِأ؟

دحِفَط لطٍحطوحًأ

ىِي هِنت شلتةِأ

لحٍيوةِأ دمِوةِأ).

ومعناها بالعربية:

(أفكر بالحرية

ونفسي تخاطب ذاتي قائلة:

أصبحت بلا ولي أمر

فأين هي الإنسانية؟

وأين هي العدالة؟

وأين هي الحقيقة الدامغة؟

لتحضّ على تحطيم ذاتي

الغارقة في سبات عميق

وهي تصبو لحياة مكلّلة بالموت).

وهكذا فإن الشاعر يعتبر الشهيد الآشوري هو الإنسانية المعذّبة. وتعليل هذه الظاهرة بالظروف المتأزمة التي يمر بها الآشوريون خاصة، والعراقيون بشكل عام ما يدعونا إلى إرجاعها إلى عامل القلق الذي تستوجبه مراحل الانتقال في الأمم ذوات التاريخ والأمجاد الغابرة كالأمة الآشورية الحضارية.

وإن الانفعالات الشعرية لدى الشاعر كانت الراح الذي تذوب فيه الفلسفة والخواطر والانفعالات والعواطف، وقد انعكست هذه الانفعالات بقوة تأثر مشاعره.

إن كل بيت في القصيدة يتنفّس إحساساً، وكل صورة فيها تضج بدم الحياة، ناهيك عن هذه الموسيقى الساحرة التي تسري في عروق ألفاظه، ولصياغة هذه الألفاظ رنين هامس حلو يخلب الألباب. إنه يغترف شعره من ينبوع الحياة، من شعبه المظلوم المتألم الذي سُلبت أرضه وتاريخه ووجوده وهو يتطلع إلى مستقبل مشرق تحققه الأجيال الآشورية القادمة. والشاعر واثق بأنه لو أثبت كل فرد آشوري جدارته الإبداعية بالإمكانية، ويحققها بكل كفاءة وجدارة، وبمثل هذه الروح المؤمنة بنفسها لا المتكلة على الغير، نستطيع أن نعتز بالأجيال من الأفذاذ المبدعين القادرين على خلق حضارة جديدة.

إن في هذه الأبيات لشعوراً عميقا بهذا التناغم المبدع الذي ينبغي أن يتحقق كاملا بين الشاعر ومجتمعه، وبهذه الإشراقة التي لابد أن تغمر بضوئها نفس الشاعر ونفوس قرائه معاً.

ويقول في القصيدة ذاتها:

(الصدى الزاحف

عبر أميال الزمن الراحل

قبعة عنفوان مخنوق

لوحة إعلانات مهفهفة

رغاء متصدٍ لايصدأ

سهام تكسر جنح الغربان

الناعبة في ببدٍ تتجاهل

بأني إنسان

يُطعم الأرض

يحرث الأرض

ويهتف:

(كٍدد يٍمِأ دمتخةِأ بعومقِأ دشَليوةِأ

وهِوِآ بَرةِحِأ لٍفُأ دحٍيوةِأ

مَنشَلةِنًأ نثَع لىْون قِلُأ بمٍرتروةِأ

داتةلٍن اتةوةِأ

اتةلٍن اتةوةِأ

اتةلٍن اتةوةِأ).

ومعناها بالعربية:

(بينما البحر نائم في أعماق السكون

تضطرم في أحشائه أمواج الحياة

وعلى حين غرّة انبثقت أصوات عنيفة مسربلة بالكآبة تهتف:

لنا وجود

لنا كيان

لنا ذات إلهية سرمدية).

لقد لعبت الكلمة الشاعرة دوراً خطيراً في تهييج روح الشعب، وإيقاظه وتحريكه. كما لها المكانة الأولى في توجيهه صوب هدفه لتحقيق وجوده كإنسان. ولكن هذه الكلمة الإلهية التي لها من القوى والأسرار هي الوسيلة الكبرى في توعية الشعب.

وميخائيل ممو، إلى كونه شاعراً وأديباً، ذو عقيدة قومية راسخة. عقيدة ترمي إلى العمل الإيجابي بالقول والفعل من أجل قضية الإنسان الآشوري، وحريته وكرامته، ومن أجل تحطيم كل القيود التي تعيقه عن الحركة، وكل العقبات التي تحول دون تقدمه وازدهاره وإبداعه في الحياة لنفسه، ولأمته، وللإنسانية جمعاء.

وفي الختام لابد من التنويه بالأخ الشاعر القدير (جورج أويا أرخيوام) الذي أصر في (كلمة وفاء) على الغلاف الأخير بأن يكون عنوان الديوان هو (قصائد مهاجرة) بدلا من (قصائد مهرجانية).

فحياة الشاعر جورج أرخيوام تفتحت عن شاعرية ألفت جوقاتها عرائس الشعر وربات الفصاحة والبلاغة. ولو أن القدر كان رحيماً، ولم يتصدَ لشاعرنا الملهم، ولم يُسكت تلك القيثارة الشجية حين أصيب بالشلل، وأصبح طريح الفراش مستسلماً للذكريات.

يتسم الشاعر (جورج أرخيوام) بعمق العاطفة، وبعد النظر، وصفاء السريرة. وقد أوتي موهبة مبدعة خلاقة، والقدرة اللغوية على التحليق. وقصائده بتدفقها وعفويتها وصدق لهجتها، وعمق الرعشات التي تميز أكثرها تظهر إلى أي حد يلتصق شعره بحياة شعبه، ويستمد مشاعره وأحاسيسه من ينابيعها. فشعره أشبه بمعرض شعري متنوع الألوان والأساليب والآفاق.

 

  1. تقع الحبانية شرقي محافظة الأنبار بجانب مدينة الخالدية، وتبعد عن مدينة الرمادي 25كم، وعن الفلوجة 20كم، أما المسافة بينها وبين بغداد فتقدر بـ 68كم

2  . ألقيت في المهرجان الشعري الثالث للنادي الثقافي الآشوري ببغدا بتاريخ 24/09/1970.

3  . مجلة الشبيبة المصرية. الأربعاء (8/مارس/2017.

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.